ـ القسم الأوّل ـ
أ. محمد رضا الحكيمي(*)
ترجمة: حسن علي الهاشمي
فلو قبلَ مبكاها، بكيتُ صبابةً ولكن بكَتْ قبلي؛ فهيَّج ليَ البُكا |
بسُعدى، شفيتُ النفسَ قبلَ التندُّمِ بُكاها، فقلتُ: الفضلُ للمتقدّمِ |
1ـ أين هي القدوة الحسنة؟ ــــــ
إنّ من بين المسائل التي تمّ رصدها في أعمال كاتب هذه السطور إلى حدٍّ ما، وحظيت بجانبٍ من الاهتمام، هي تلك الكتابات التي تحدّثت عن العلماء الربانيّين، والمؤدِّبين المهذِّبين الكبار، والنماذج الصالحة ـ بكلّ ما للكلمة من المعاني الحقيقيّة ـ، التي يمكنها التأثير في الذين «ينشدون القدوة الحسنة»، وخاصّة بالنسبة إلى الطلاب والجامعيين، وجيل الشباب الباحث عن الحقيقة؛ فيتأسّون بأسلوبهم في الحياة، وبناء الذات، وتهذيب النفس على التديّن الواعي.
كانت الندرة الملحوظة في مَنْ يشكّلون القدوة تقضّ مضجعي، الأمر الذي كان يستحثّني إلى البحث عن أولئك الذين يمكن التأسّي بهم، ورأيت من واجبي الكتابة عن عددٍ من العلماء الذين يمكن الاقتداء بهم، وذلك طبقاً لأسلوبي الخاصّ والمعهود. وكانت أكبر غايتي تكمن في تعريف الطلاب الشباب والجامعيين بالسيرة التربويّة لهؤلاء العلماء؛ فينتفعون بها في عمليّة بناء النفس. وهذا أمرٌ ضاعف من همّتي عندما رأيت الشهيد مرتضى مطهري& يقوم به.
إنّ واقع الأمر هو أنني كنت أرى على الدوام ـ ولا زلت أرى ـ الكثير من الطلاّب الشباب في الحوزة «المؤهَّلين للتربية»، بينما هناك في المقابل نُدرة في «المربّي»، وذلك في بعض الحقول التربويّة في الإسلام، وليس في جميع الحقول المشتملة على حقائق الإسلام ومعارف القرآن، والمسائل الحيوية للإنسان والحضور الواعي في واقع الزمن. وإنّ الكثير من ذلك النادر لم يأخذ الأخلاق من أستاذ، ولا علم له بباطن الأخلاق؛ إذ «الأخلاق باطنية»، وهم قانعون ببضعة أحاديث في الأخلاق، دون تفكيك ـ أو معرفة ـ للأحاديث الرئيسة والجوهرية في الأخلاق عن سائر الأحاديث الأخلاقيّة، ودون توجيه أو تنبيه لـ «القلب» وإحيائه من خلال التربية العمليّة والطرق السلوكيّة الشرعية. وفي بعض الموارد لا ترى أثراً لتلك الأحاديث ـ التي تقال في دروس الأخلاق أو منابر الوعظ والإرشاد ـ على حياتهم أو حياة المقرَّبين منهم.
ومن جهة أخرى هناك بين صفوف الطلاب الشباب طاقات قويّة ونفوس مستعدّة، لكن قلّما نجد شخصاً ينسجم مزاجه مع مزاج الجيل والعصر، ويدرك «لغة الزمن»، ويعرف «الاستعمار الظاهر والخفي»، ويُدرك مواطن التمويه والخداع الفكريّ التي تستهدف الطلاب وجيل الشباب، والحكمة التوحيدية في قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ ( آل عمران: 140)، وتكون له القابلية على تهذيب نفسه، ومن ثمّ يعمل على تطوير طاقتها، ويعمل بعد ذلك على إنماء النفوس، بعيداً عن الانحراف في العقيدة أو السلوك، وتعهّدها بالحضور وعدم الغفلة، وصيانتها من الانحراف والانجراف والسقوط في جميع أنواع الحفر، بما فيها الحفر السلوكيّة، أو حفر اليأس وانعدام الرؤية، أو الانهيار أمام أشباه الفلسفات المفتعلة والمصطنعة، ويجعل منهم ـ من خلال تهذيب أنفسهم بالتقوى الفرديّة والسياسيّة، والزهد المعاشي، وتعزيز ثقافتهم بمعارف الأئمّة الربانيّين^ ـ دروعاً صلبة، وقلاعاً حصينة، ومناراتٍ للهداية.
وفي مثل هذه الظروف يسعى المرء في طلب القدوة، ويهتف قائلاً: أين هي القدوة الحسنة؟.
وسيعمد ـ من أجل إنقاذ الجيل المعاصر من كلّ الطبقات، وخاصّة الطلاّب الشباب، الذين ستكون الثقافة والسلوك الدينيّ للمجتمع في المستقبل رهناً بأسلوب تفكيرهم ووعيهم وتقواهم وزهدهم ـ إلى البحث عن أشخاص يمكنهم أن يكونوا قدوةً للشباب وتربيتهم، وأن تكون لهم صلاحيّة قيادة هذه القافلة نحو الصلاح والتكامل، وأن لا يتخبّطوا بهم في متاهة المقهوريّة المعرفيّة، والرهاب الذهنيّ، والانهيار أمام الثقافة الغربيّة، والانسداد الفكريّ، والتعبُّد العقليّ، وأن يعملوا على تعريفهم بعظمة «التعقّل السماويّ» و«المعرفة السماويّة» و«العلم السماويّ» و«السلوك السماويّ»، وأن يعملوا على إبعادهم عن «السلوك المصطنع».
وفي ذات الوقت الذي يتمّ فيه الحفاظ على حُرمة الكبار، يجب أن يتمّ السماح لهؤلاء المتعلِّمين ببلوغ شأوهم، وأن يسمح لهم بالتفكير بعقولهم، لا بعقول غيرهم، حتّى لو كانت تلك العقول هي عقول أولئك الكبار، وأن يسمح لهم أيضاً بأن يكون تعقّلهم تعقّلاً اجتهادياً وناقداً ومستقلاًّ، وليس مقلِّداً ومحاكياً ومنفعلاً، فيمضي مشّائيّاً لستّة قرون، وصدرائيّاً لأربعة قرون.
وكذلك يجب أن لا تعطى «المسائل الكشفيّة» ـ التي، على فرض صحّة المباني الاعتقادية للمكاشف، والثبات والاستمرار الممتدّ للسلوك، وصحّة النتاج، لا تثبت حجيّتها إلاّ على نطاق خاصّ ـ للمتعلِّمين حديثاً والسائرين في أودية الفكر بوصفها بديلاً عن «المسائل العقليّة» الصرفة.
ولابدّ أن يكون شعارهم: «ابحث من أجل الوصول إلى الحقيقة»، وليس «اقرأ وانسج على ذات المنوال».
وفي ما يتعلق بالبحث عن القدوة للطلاب الشباب وغيرهم من الشباب، لفتت انتباهي هذه العبارة لأحد الكتّاب الغربيّين التي قال فيها: «من أجل توسيع أفق الشباب ليس هناك ما هو أفضل من الاطّلاع على سيرة العظماء؛ لأن وجود العباقرة هو النموذج المجسّم لجميع الفضائل التي نريد تعليمها لأبنائنا من خلال نصائحنا وأوامرنا».
2ـ الهدف الأسمى والأشمل ــــــ
في سياق هذا الهدف المقدَّس والسامي والشامل، أي وضع الأسوة الحسنة ـ في الإيمان والعلم والإقدام والمعرفة والشجاعة والزهد ـ أمام الطلاّب الشباب وغيرهم من الذين يرومون بناء أنفسهم، عمدتُ في حدود ما تسمح لي الفرص إلى التعريف ببعض الشخصيّات التي تستحقّ أن تكون أسوة، من خلال تصوير شخصياتهم العلميّة والمعرفيّة والاعتقادية، وما تمتَّعوا به من الشجاعة والمضيّ والإقدام، بأسلوب لا يُشبه كتابة السِّيَر. وكان من بين أولئك العظام الذين أعيد إحياء ذكرهم هنا:
1ـ مير حامد حسين الهنديّ(1306هـ): المجاهد والمحقِّق الكبير، مؤلِّف كتاب «عبقات الأنوار»، والسدّ المنيع في مواجهة المتعصِّبين الذين يعملون على بثّ الفرقة.
2ـ السيد جمال الدين الأسدآبادي(1315هـ): الفيلسوف الذي دعا إلى التحرُّر والرقيّ، ونادى بـ «الوحدة الإسلاميّة»، والمصلح الكبير، وقائد صحوة أقاليم القبلة.
3ـ الميرزا محمد تقي الشيرازي (الميرزا الثاني)(1338هـ): المرجع القائم وقائد الصحوة بوجه الاستعمار، وحامل لواء اليقظة.
4ـ الشيخ محمد خياباني(1338هـ): العقل الواعي، وتجسيد الشجاعة والبطولة ومعرفة الزمان والمتغيّرات.
5ـ الشيخ محمد جواد البلاغي النجفيّ(1352هـ): حامي ثغور الإسلام، وطليعة المواجهين للغزو الاعتقاديّ، والوقوف في وجه أدعياء العلم، وأساطيل ثقافة الاستعمار والتبشير.
6ـ السيد موسى زرآبادي(1352هـ): المتألِّه القرآنيّ، والزاهد المتعبِّد، والعالم الباطني، وصاحب الفنون الفذّ، ومربّي الكبار، ومن أساتذة «التفكيك».
7ـ الميرزا مهدي الإصفهاني الخراساني(1365هـ): إبراهيم معابد التعقُّل، ومغربل المعارف القرآنيّة، ومعلِّم معارف أهل البيت^، والزاهد الكبير، والمغيِّر الجريء.
8 ـ السيد شرف الدين العامليّ(1377هـ): العلاّمة المجاهد، و«الكاتب الكبير»، والسدّ المنيع لمدرسة أهل البيت^، ومؤلِّف كتاب «المراجعات» المفحم، وكتاب «النصّ والاجتهاد» (تجسيد الحقائق)، و«الفصول المهمّة في تأليف الأمّة» (منارة الوقوف في وجه عناصر الفرقة وأقلام عملاء الاستعمار).
9ـ الشيخ مجتبى القزوينيّ الخراسانيّ(1386هـ): الخبير بالمعارف القرآنيّة، والمحقِّق في التعاليم الولائية، والجامع بين المعقول والمنقول، والعالم بغرائب الفنون، والإنسان الفذّ الذي هو بحجم نفسه وعظمته.
10ـ الشيخ آغا بزرگ الطهرانيّ(1389هـ): ناشر ميراث ثقافة التشيّع، وحارس التراث الخالد، مؤلِّف كتابَيْ «الذريعة إلى تصانيف الشيعة»، و«طبقات أعلام الشيعة»، مضافاً إلى كتبٍ أخرى.
11ـ العلاّمة الأميني(1390هـ): النموذج الكامل للمشاعر الشيعية، وتجسيد التحقيق العلميّ، وقائد ميادين الدفاع المقدّس الثقافيّ والاعتقادي، ومعمار قلعة «الغدير».
12ـ الشيخ مرتضى مطهَّري الخراسانيّ(1358هـ.ش): المفكِّر المفعم بالعلم، وشهيد الدين والفضيلة، والوعي والإيمان، وحامي حمى التكليف والإقدام.
13ـ العلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائي(1361هـ.ش): الفيلسوف الموسوعيّ والجامع، وصاحب التفكير الحرّ، ومعلم الحرّيّة في إظهار الحقيقة، مؤلِّف تفسير «الميزان» الذي أكَّد فيه بشكل شديد وصريح على الاختلاف بين «الوحي» و«الفلسفة» و«العرفان». وقد ذكرتُ في كتابي «مكتب تفكيك» هذا الرأي الصريح عنه، والذي استدلّ عليه استدلالاً رياضيّاً([1]).
وإذا بقي من العمر بقية فإنّني سأعمد في كتاب «إلهيّات إلهي وإلهيّات بشري» إلى ذكر آرائه المناهضة للفسلفة والعرفان ـ بسبب البُعد عن التقليد، وحرّيّة الرأي ـ التي أثبتها في تاريخ العلم الإسلاميّ، ومن ذلك:
1ـ الإرادة صفة الفعل دون الذات.
2ـ هناك بين الفعل والفاعل غيريّة، وليس سنخيّة.
3ـ الكشف ـ إذا صحّ ـ فحجّيّته شخصيّة، وليست عامّة.
4ـ لا أساس لمكاشفات محيي الدين ابن عربي.
5ـ ترجمة الفلسفة في الإسلام تدخل في خانة الغزو الثقافيّ.
6ـ مصادر معرفة الإسلام منحصرة بظواهر القرآن الكريم والسنّة المطهّرة.
7ـ أصيب العلم القرآنيّ بالخلل بعد ترك العمل بمضمون «حديث الثقلين».
8ـ أصبح نهج التعقُّل ـ الذي دعا إليه القرآن وشدّد عليه ـ مهجوراً.
14ـ الأستاذ محمد تقي شريعتي مزيناني(1366هـ.ش): سقراط خراسان، معلّم الدين للأجيال المنكوبة بالطوفان، المفكِّر الدينيّ الزاهد، معيد جذوة «القرآن»، و«نهج البلاغة»، ومن الطلائع المقتدرة في مواجهة الإلحاد والطغيان.
15ـ البروفسور عبد الجواد فلاطوري الإصفهاني(1375هـ.ش): الفيسلوف الموسوعي لفلسفة الإسلام وفلسفة الغرب، والمبلِّغ «الرشيد»([2])، والرسالي الغريب، وناشر الإسلام الصادق والمخلص في الغرب المظلم.
16ـ العلاّمة الجعفري(1377هـ.ش): «الأصوليّ، والفقيه، والمتكلِّم، والعلاّمة»([3])، والمدافع الفريد عن ثغور الإسلام، والمحاور الفذّ والقدير لعلماء الملل والأديان([4])، والمجاهد لنصف قرن في الصفوف الأماميّة.
3ـ حمَلَة المشاعل (1) ــــــ
ها أنتم ترون إنساناً، مثل كاتب هذه السطور، هادفاً، ومحبّاً للفضيلة، والفضلاء، والذين ينشرون الإيمان، والذين يؤمنون بالمستقبل الزاهر، وصنّاع الملاحم، وصنّاع الأفق، والداعين إلى المعرفة الصحيحة، لم يستطع أن يغفل عن كانونٍ مشعّ، وقدوة كبرى، وفجر ساطع. ولكنني كنتُ أقول على الدوام: إن تلامذة «الشهيد الصدر» يقومون بواجبهم في هذا الاتجاه، كما أنهم قاموا ببعض الأعمال القيّمة في هذا السياق، وكلّهم مأجورون ومشكورون.
واستمر الوضع على هذه الشاكلة إلى هذه اللحظة (شهر بهمن من عام 1379هـ.ش)، حيث ـ وبفضل السادة الكرام العاملين في إدارة «مجمع الفكر الإسلاميّ» في قم المقدَّسة ـ وصلني عددٌ من مجلّة «الفكر الإسلاميّ» القيّمة، وهو العدد الخاصّ بالشهيد السيد محمد باقر الصدر([5]) ـ أعلى الله درجاته ـ، مشفوعاً برسالة، وهنا تحقَّق ما قاله «عديّ بن رقاع»:
ولكن بكَتْ قبلي؛ فهيَّج ليَ البُكا | بُكاها، فقلتُ: الفضلُ للمتقدّمِ([6]) |
الأمر الذي أحيا جذوةً كانت متأجِّجة في جوانحي، لكي أعيد التفكير في السيد الشهيد الصدر ـ الذي كان ولا يزال يحتلّ مساحة كبيرة من تفكيري ـ ثانيةً.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى اضطراب الحوزات في مختلف الأبعاد، وحيرة الكثير من الطلاّب الشباب والكفوء في أمر التربية والعثور على القدوة، والتخطيط، ومطالعة الكتب، والرؤية الاعتقادية، والتعايش مع الناس، والألفة معهم وائتلافهم، والتفكير العصري، والمعرفة بالجيل المعاصر، ومعرفة العصر معرفة ثقافيّة، لا معرفة تقويمية، والمطالبة بالعدالة، ومعرفة الاقتصاد الإسلاميّ، والقسط القرآنيّ، وما إلى ذلك من مقولات العمل والفكر والنشاط والتكليف والرسالة وغيرها من المفاهيم، والحبائل والشراك المنصوبة أمام الفكر، وهو ما وقفتُ عليه في سفرتي الأخيرة إلى قم، في شتاء عام 1380هـ.ش، بعد مضي ما يقرب من اثنين وعشرين عاماً على انتصار الثورة، بعد لقائي ومحاورتي ما يقرب من خمسين شخصاً، وسماعي للواعج صدورهم، الأمر الذي آلمني كثيراً، وكلّي أملٌ في أن تكون هذه هي الحالة الغالبة، وليست الحالة الشاملة.
أجل، إنّ العدد الخاصّ بالشهيد الصدر أعاد الجذوة المشتعلة في صدري، ولعنت القتلة من البعثيين العملاء الذين أطفأوا هذا المشعل الهادي؛ جهلاً ولؤماً وتخلّفاً وقسوة، كلّ ذلك خدمة للاستعمار والاستكبار، وقبول الذلّ، في تصفية هذه الثروات الوطنيّة التي تضمن للأمّة عزّتها وإنسانيّتها، وأعادوا العراق بجريمتهم النكراء إلى بدويّته الأولى. إنّ شخصيات من أمثال: السيد الشهيد الصدر، والعلاّمة الطباطبائي، والشهيد مطهري، والعلاّمة الجعفري، والبروفسور فلاطوري، لا تختصّ بالشيعة أو العراق أو إيران، بل إنّ هذه الشخصيات الخالدة والعملاقة هي ثروة إسلاميّة، بل هي ملك للعلم والعالم والإنسانيّة والآفاق البشريّة وأركان التربية والأخلاق. إنّ قتل أمثال السيد الشهيد الصدر إنما هو جريمة بحقّ الإنسانيّة، ومحاربة لمحور قيَم الحياة، ووقوف بوجه طلوع الشمس.
ولكن هيهات أن تتمكن يدٌ أثيمة من أن تقطع الطريق على هذه القيم، أو أن تُطفئ الضياء الذي نشره هؤلاء الأفذاذ.
قد يتطاول قزمٌ على عملاق فيقذفه بالحجارة، ولكن سرعان ما سترتدّ تلك الحجارة إلى راميها وقاذفها وتفلق هامته: (ولن يُدعى كبيراً مَنْ يشتم الكبارا).
كيف يمكن محو آثار العلاّمة الجعفري، والشهيد مطهري، والسيد الشهيد محمد باقر الصدر ـ الذي أدعوه في هذا العصر «نابغة الفقهاء» ـ من حوزة العلم والفكر، والتفكير والإيمان، والحماسة والملحمة والإقدام والتربية والتأثير؟!
وعلى حدّ تعبير السيد جمال الدين الأسدآبادي: «إنّ القضاء على صاحب النيّة لا يقضي على النيّة؛ فإنّ صفحة التاريخ ستحمل كلمة صاحبها، وتسجِّل موقفه»([7]).
4ـ حمَلَة المشاعل (2) ــــــ
إنّ السيد الشهيد محمد باقر الصدر حيّ، ما دام العلم والفكر حيّاً، وما دام المنطق والاستدلال حيّاً، وما دام الزهد والتواضع حيّاً، وما دام التكامل والقيَم حيّة، وما دام تهذيب الناس حيّاً. وهو حيٌّ ما دام «القرآن» حيّاً، وهو حيٌّ ما دام «نهج البلاغة» حياً، وهو حيٌّ ما دامت «الخُطب الفاطمية» حيّة، وهو حيٌّ ما دام «الغدير» و«عاشوراء» حيّة، وهو حيٌّ ما دامت صرخة زينب الكبرى تهزّ أركان قصر يزيد وهي تقول: «أمِنَ العدل يا بن الطلقاء» حيّة، وهو حيٌّ ما دامت الرسالة والإيمان والمسؤوليّة حيّة، وهو حيٌّ ما دام الوعي واليقظة والحضور حيّاً، وهو حيٌّ ما دامت الحماسة والبطولة حيّة، وهو حيٌّ ما دامت الشمس والحياة حيّة، وهو حيٌّ ما دامت الحياة الاقتصاديّة حيّة، وهو حيّ ما دام الجهاد، من أجل تحقيق العدالة، واستعادة حقوق المحرومين، حيّاً. إنّ السيد الشهيد محمد باقر الصدر حيٌّ، ما دامت مقارعة الرجعية والتخلف حيّة، إنّ الشهيد الصدر حيٌّ ما دام الدم منتصراً على السيف…
إذاً علينا أن لا نفوّت فرصة الاستفادة من هذه الثروة، وأخذ جذوة من هذا القبس، وعلينا أن لا نعتبر الدم الذي يفور بكل هذه الفضائل والبركات والنعم، والروح التي صدرت عنها جميع هذه الأفكار السامية، والشخص الذي صدرت عنه جميع هذه المؤلَّفات والأعمال، ميتاً ومندثراً؛ إذ قال الله تعالى في محكم كتابه: ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾ (البقرة: 154). إنّ صدام المقبور أحقر وأدنى وأحطّ من أن يرقى إلى تراب نعل الماشين في أثر السيد الشهيد الصدر&.
إذاً علينا أن نبذل كلّ ما في وسعنا من أجل التعريف بهم، وتقديمهم إلى الأجيال، وتعريف آثارهم وأعمالهم، وليس مجرّد تخليد ذكرهم، وأن نقدّم هذه الجوهرة وتسويقها إلى طلاّبها من الشباب والجامعيّين، وتعريفهم بمبادئهم العقليّة، وسلوكهم العمليّ، وأن نجعلهم أحياء في آفاق العقول والأفكار، وأن نجعل من حُمرة الفجر والشفق استحضاراً لدماء الإمام عليّ× والأئمّة الشهداء^ من أبنائه الأطهار. وعندما تنشر الشمس ـ في الصباح والغروب ـ ضوءها، وترسل أشعتها عبر المروج، وتنقل دماء التاريخ إلى العالمين، علينا أن نغتنم الفرصة ونخضّب أرواحنا بهذه الأشعة الدامية.
إنّني في هذه السطور التي أقدِّمها هديّة إلى روح السيد الشهيد الصدر ـ الروح المطمئنّة إلى جوار ربها، والتي ترزق من الفيض اللامتناهي ـ أعمد طبقاً لمنهجي وهدفي في هذا النوع من الكتابات([8]) إلى تدوين مطالب وأسس مفيدة وبنّاءة على نحو الاختصار، وأرسل برسائلي إلى المجتمع. وبطبيعة الحال لا يمكن إلاّ للمؤمنين الرساليّين أن يحصل على هذه الرسائل من فكر وسيرة ومواقف هذه الشخصيّات العظيمة.
5ـ المعرفة الشفّافة ــــــ
يجب علينا القول بأنّ المقالات التي اشتمل عليها ذلك العدد الخاصّ من تلك المجلّة كانت غنية وثرّة للغاية. وإنّ هذا العدد بذاته عدد ضخم وقيِّم. أسأل الله أن يمنّ على الأقلام الفاضلة التي ساهمت في إنتاج هذا العدد بالعلم والثواب الجزيل، وكلّي أمل بأن يجعلهم الله تعالى محطّ نظر الإمام الحجّة بن الحسن المهدي#. وأنا بدوري قد استفدت أيضاً من مقالات هذا العدد الخاصّ في كتابة هذه المقالة.
وأيّاً كان يجب بذل المزيد من الجهود من أجل التعريف بهذا السيد الشهيد ـ الذي هو شهيد العقل والحماسة والإيمان والجهاد والوعي والصحوة واليقظة والحضور ـ إلى الناطقين باللغة الفارسية، وخاصّة في الحوزات العلميّة والجامعات الإيرانيّة.
وفي ما يلي أشير إلى بعض رؤوس الأقلام التي تحضرني، وأسأل الله التوفيق:
1ـ أن تترجم مقالة «مدرسة الشهيد الصدر الأخلاقيّة» إلى الفارسيّة بشكل صحيح وفصيح، وأن تنشر على شكل رسالة أنيقة ورشيقة (بحجم القطع الصغير) وتجليد جميل، وأن تنشر بأعدادٍ كبيرة، بحيث تصل إلى أكبر عدد من الطلاّب والجامعيّين، وبشكلٍ مجّاني.
2ـ أن يتمّ إصدار مجلة ـ ولو نصف سنوية ـ باسم «الشهيد الصدر»([9])، وتعنى بالأفكار العلميّة والتحقيقيّة والمباني القرآنيّة المستدلّة للسيد الشهيد، وتعكس تفوّقه العلميّ وجرأته وشجاعته في إطار المقالات والمقترحات التالية:
أـ تحليل مؤلَّفاته، وإبراز أفكاره الجديدة.
ب ـ دوره وتأثيره في إحياء النقد العلميّ والمنطقيّ والفلسفيّ في حوزة النجف الأشرف.
ج ـ الردّ العلميّ على المدارس شبه الفلسفيّة المنحرفة.
د ـ الدراسات الشموليّة.
هـ ـ المباني الاقتصاديّة.
و ـ الفلسفة الاجتماعيّة.
ز ـ الآراء المهمّة في إصلاح واقع المرجعيّة.
ح ـ حذف العرفان الهنديّ والغنوصيّ، ووحدة الوجود، من المباحث العقليّة والتعاليم القرآنيّة في التوحيد والمعاد ومعرفة النفس، والتأكيد على الإخلاص للتعاليم القرآنيّة والمعالم السماويّة.
ط ـ الاهتمام الواسع بالأفكار والفلسفات المعاصرة.
ي ـ الصمود والثبات في وجه حزب البعث العراقيّ المنحطّ، وأفكاره الإلحاديّة المنحرفة.
أجل، يجب بحث جميع هذه الأمور وتحليلها وتحقيقها، وأن يتمّ استنباط النتائج المهمّة المترتِّبة عليها بشكل علميّ. وعلى المدرِّسين في الحوزة العلميّة وأساتذة الجامعات ـ في البلدان الإسلاميّة وغيرها ـ والطلاّب الأفاضل والجامعيين أن يسهموا في إعداد مطالب هذه المجلة، وأن يفتحوا الطريق أمام الإبداعات الأخرى، وأن يدخلوا في دائرة تحقيقاتهم المسائل الضرورية والمطالب الجديدة؛ تأسِّياً بنهج السيد الشهيد الصدر، ويعملوا على إحياء روح الإبداع والتجديد والتفكير المعاصر، ويُسارعوا إلى التوجُّه نحو الفلسفة الحيويّة والحكمة الخالصة.
3ـ كتابة سيرة ومواقف السيد الشهيد الصدر بلغاتٍ أخرى، وتعريف العالمين بأفكاره.
4ـ أن تقام من حين إلى آخر مؤتمرات للتعريف بشخصيّة السيد الشهيد الصدر، وأن لا يقتصر عقد هذه المؤتمرات على مدينة قم المقدَّسة وفي داخل الحوزات العلميّة فقط، بل يجب توزيعها على الأمكنة الأخرى أيضاً.
5ـ ترجمة بعض الأعمال القيّمة والانتقادية للسيد الشهيد الصدر إلى اللغات الأخرى بشكل فصيح وصحيح.
6ـ التعريف بالماهيّة الاستعماريّة، المعادية للإنسان والحاقدة على الإسلام، لحزب البعث السفّاح، في إطار العديد من المقالات، ومن زوايا متعدِّدة، وأن يتمّ إعداد فهرست بجرائم حزب البعث وانتهاكه للمقدَّسات، والإنسان العراقيّ، والعراق نفسه، والشهداء العظام الذين سقطوا على يد الأشقياء من سلالة شمر بن ذي الجوشن وبني سنان، وأن تترجم إلى عدّة لغات.
6ـ المنطق الصوري ومنطق الصورة ــــــ
إنّ من بين المميّزات التي تمتاز بها الشخصية الفكريّة للسيد الشهيد الصدر والاستقلال العقليّ ـ الذي أُجِلُّه لدى أيّ عالم كان ـ هي نزعته الناقدة في تعاطيه مع المسائل العلميّة والمباني الفكريّة. ومن ذلك: نقده للمنطق الصوري الأرسطي.
وفي ما يلي نقترب من معرفة السيّد الشهيد الصدر على نحو أكبر. إننا نعاني في الحوزات العلميّة الراهنة ندرة في الشخصيات الباحثة، والتي تتمتع بالأفق الواسع، والتحرُّر الفكريّ، وتجاوز التقليد في العقليّات، والجرأة في العرفانيّات.
من هنا لا نرى إلا القليل ممَّنْ يرصد الصقيع الفكريّ المستورد من الإيحاءات الغربيّة، والنتاجات التي تفرزها مخيلات صنّاع الفلسفات الصهيونية والإمبريالية، في حين لا يعيش الصقيع عند ارتفاع الشمس إلاّ لماماً، غاية الأمر أننا لا نرى شمساً ساطعة في الحوزات العلميّة إلاّ في حالات نادرة، فحتى الآن لم يتمّ الاعتراف رسميّاً بالاجتهاد العقليّ والانتقاد الفلسفيّ وإعادة النظر في العرفان. من هنا فإننا سنشهد في المستقبل مزيداً من الصقيع المتراكم، وتكون أصغر التوافه المستوردة هي السائدة في الميدان.
لدينا عددٌ من المجتهدين ـ وربما مجموعة من المجتهدين المدقِّقين ـ في دائرة الفقه والفقاهة ـ هذه الفقاهة المحدودة، والمفتقرة إلى الأبواب التي لها في القرآن وفي الحديث أسانيد كثيرة وقطعية([10])، من قبيل: «القسط القرآنيّ العامّ»، و«الزكاة الباطنة»، و«الحقّ المعلوم»([11])، وتمسّ لها الحاجة الملحّة في المجتمعات الإسلاميّة المعاصرة، وخاصّة المجتمعات التي يحكمها أناسٌ باسم الإسلام ـ يقيمون وزناً للاجتهاد والعدول العلميّ من رأي إلى آخر، طبقاً لمباني الاجتهاد والانتقاد والاستقلال في النظر واستنباط الأحكام، ولكننا لا نمتلك حتّى هذا المقدار في ما يتعلق بالفلسفة، بل على العكس من ذلك، ففي التحصيلات والتفصيلات الفلسفيّة ـ بناء على نقل الكبار وفهمهم والتقليد فيها ـ نرى هناك تقليداً في اجتهادهم، ولا نرى استقلالاً في الفهم والاجتهاد العلميّ بإزاء نظريّاتهم([12]).
وفي ما يلي نُُلفت انتباهكم إلى كلام أستاذٍ كبير في الفلسفة، حيث يقول: «عندما يذكر صدر المتألهين أمراً عندها يجب على بقيّة الأفواه أن تخرس»([13]).
ما هذا التعليم والأسلوب التربويّ الخاطئ؟! لماذا نتعامل مع الأفكار وكأنها مختومة في معلّبات مغلقة؟! إنّ الذي يفوه بهذا الكلام إنّما هو فيلسوف متبحِّر، عاش في الغرب لسنوات، وهو على معرفة بالفلسفات السائدة هناك. وقد روى بنفسه قائلاً: «إنّ الغرب يشهد في كلّ عقد ظهور فلسفة جديدة». فلماذا تمضي علينا نحن المسلمون ألف سنة والفلسفة حكرٌ على ثلاث مدارس، وهي: المدرسة المشّائيّة؛ والمدرسة الإشراقيّة؛ والمدرسة الصدرائيّة؟! إذا كان مكتوباً علينا أن نتفلسف ونخرج عن الخلوص والصراحة والفطرة و«الحكمة السماويّة» فلماذا ندور حول أنفسنا مربوطين إلى فلسفة خاصّة، ونحرم أنفسنا من الانطلاق في رحاب جميع الفلسفات العقليّة؟! ألم يعمد صدر المتألهين، وهو الفيلسوف الكبير ـ بعد اعتقاده وإصراره على «أصالة الماهية» لسنوات طويلة ـ، إلى الاعتقاد بالعرفان الفلسفيّ والقول بالمسائل العرفانيّة في الفلسفة، من قبيل: «أصالة الوجود»، و«وحدة الوجود»، و«الاشتداد في الوجود»، وما إلى ذلك؟!([14]).
ما هي النتيجة المترتِّبة على إنشاء العقول على التقليد في الدنيا والآخرة؟! فقد ظلّ كبار عقلائنا، بمن فيهم الشيخ الرئيس ابن سينا، وأستاذ البشر والعقل الحادي عشر الخواجة نصير الدين الطوسي، والمعلم الثالث المير محمد باقر الداماد الحسينيّ الإسترآبادي، يعتقدون بـ «أصالة الماهيّة»، وظلّوا على هذا الاعتقاد لثمانية قرون. وكان جميع الفلاسفة يذهبون إلى الاعتقاد بعمدة المسائل القائمة على «أصالة الماهيّة»، بحيث لو ذهب شخصٌ إلى خلاف القول بـ «أصالة الماهيّة»، أو أنكر واحدة من المسائل القائمة عليها، من قبيل: عدم اتّحاد العاقل والمعقول، وعدم الحركة الجوهرية، طعن في عقله، واعتبر مخالفاً للعقل والمسائل العقليّة، وتعرّض لأنواع السخرية والتهكم. ومن جهة أخرى كان أنصار الفلسفة يلجؤون إلى «التأويل»، ولا يتبعون النهج العلميّ القائل بـ «التفكيك». وعمدوا إلى تفسير الكثير من الآيات والروايات وتأويلها على أساسٍ من «أصالة الماهيّة»، وطبقاً للمراتب العقليّة الأربعة عندهم: (العقل الهيولي، والعقل بالملكة، والعقل بالفعل، والعقل المستفاد)، والأفلاك التسعة، والعقول العشرة ـ التي مضت أعوام طويلة على إثبات بطلانها ـ. وطبقاً لتعبير العلاّمة الطباطبائي كانوا يُسقطون آراءهم التخصُّصيّة في الفلسفة والعرفان والكلام وما إلى ذلك على «القرآن الكريم»([15]).
وها نحن نعيش في نهاية المئوية الرابعة أمراً مخالفاً لما كان عليه أسلافنا، حيث يذهب القسم الأكبر ـ وليس الجميع ـ إلى القول بـ «أصالة الوجود»، و«عدم أصالة الماهيّة»، من قبيل: اتّحاد العاقل والمعقول، والحركة الجوهرية، وما إلى ذلك. والآن إذا خالف شخص أصالة الوجود ـ التي هي في ماهيّتها مسألة كشفية، كما تمّ التصريح بذلك في الكثير من مواضع «الأسفار الأربعة» ـ، ولم يرَ المسائل المتفرّعة عنها، من قبيل: «الاشتداد في الوجود»، مسائل عقليّة صرفة أو فلسفيّة بحتة، سيتعرض لذات النقمة والسخرية والتهكُّم الذي تعرَّض له المخالفون لأصالة الماهية والمسائل المتفرِّعة عليها في تلك القرون الثمانية. فهل يمكن عدّ هذا النهج نهجاً فلسفيّاً أو تعقُّلاً حقيقيّاً، أم هو مجرّد تربية وإعداد لمجموعة من المقلِّدين الذين يخدعون أنفسهم؟!
ما هو الإشكال في أن نغدو ـ مثل السيد الشهيد الصدر& ـ أحراراً في تفكيرنا، ونؤمن بإمكان النقد الفلسفيّ والمنطقيّ؟
وما هو الإشكال في أن نعمد ـ على غرار السيد علي الحكيم، والعلاّمة السمنانيّ، والعلاّمة رفيعي القزويني، والعلاّمة الجعفريّ التبريزيّ، والعلاّمة الطباطبائيّ، والميرزا النائينيّ، والآغا ميرزا أحمد الآشتياني، والشيخ محمد تقي الآمليّ، والسيد موسى الزرآبادي، والميرزا مهدي الإصفهانيّ، والشيخ مجتبى القزوينيّ الخراسانيّ، والشيخ علي أكبر إلهيان التنكابنيّ، والإمام الخميني، والشهيد مطهري ـ إلى رفض المعاد المثالي للحكمة المتعالية، رغم كلّ تقديرنا للجهد المبذول من قبل الفيلسوف الكبير صدر المتألهين لإثباتها، استناداً إلى التعاليم السماويّة والمباني العلميّة والانتقادات الفلسفيّة واللحاظات العقليّة؟([16]). والملفت للانتباه جدّاً أن صدر المتألِّهين يذكر في الكثير من عباراته أنّ «المعاد القرآنيّ» هو «المعاد الترابيّ العضويّ الجسمانيّ»، وليس «المعاد المثاليّ»([17]). ولم يستطع تعطيل وإلغاء هذا الكمّ الهائل من الآيات المَعاديّة والأحاديث النبويّة وروايات الأئمّة^ بشأن المعاد الجسمانيّ والعضويّ. وعليه إذا أصرّ شخص ـ أيّاً كان ذلك الشخص ـ على المعاد المثالي، والتطابق التامّ بين الفلسفة والعرفان وتعاليم القرآن السماويّة، فإنّ كلماته لن يكون لها سندٌ من العقل، والفلسفة الاستدلاليّة والبرهانيّة، والفلسفة العرفانيّة، كما لن يكون لها سندٌ من الوحي الربّانيّ والتعاليم الإلهيّة.
وهنا «تظهر الثمرة»، على حدّ تعبير صاحب المعالم، ومن خلال هذه المنعطفات الفكريّة يتجلّى ـ عبر التقييم المتأنّي ـ سمو مقام العقول الكبيرة والمتحرِّرة من التقليد لعدد من الكبار في البحث عن الحقائق، وفهم العقليّات، والفحص في المعارف، وكأنّه شمس ساطعة، ويتبلور الوزن العلميّ للمدرسة التفكيكيّة الخراسانيّة، وأدواتها في الاستقلال الفكريّ الإسلاميّ، و«الغيرة القرآنيّة»، وعدم مدّ يد السؤال إلى أيّ مدرسة أو مذهب أو نحلة، وتظهر الرؤية «المنهجيّة» القائمة على «الأسس التفكيكيّة».
إنّ هذا الأمر (النقد الفلسفيّ، والاجتهاد في الفلسفة) في غاية الأهمية. وقد بدأ اليوم بعض المنظِّرين يلتفتون إلى أهمّيته إلى حدٍّ ما. وقد طرح نفسه قبل ثمانين عاماً في مدرسة خراسان الساطعة. وقد أخذت هذه المدرسة منذ سنوات متمادية تمنح العقول مكانتها، وتفتح طريقاً إلى التفكير الحرّ، والتأمّل المستقلّ، ودخول النقد الجادّ (المبنائيّ) إلى حقل الفلسفة، والفلسفة العرفانيّة، والعرفان. وتمّ تمييز الفيلسوف المجتهد وصاحب الرأي المستقلّ من المتفلسف المقلِّد، وأثبتت ضرورة تكريم وتقدير جهود طلائع النقد الفلسفيّ والفلسفة النقديّة والاجتهاد العقليّ، على العقلاء الناشطين وغير الرجعيين، وكشفت القناع عن الاستعمار ودوره في إبقائنا على جمودنا طوال القرون الأربعة المنصرمة. وإنّ بعض الغرّ الفاقدين للهمّة والعزيمة والاستقلال الفكريّ لا يستطيعون فهم هذا الأمر.
7ـ الموقف النابذ للتقليد (1) ــــــ
يقع الكلام حول المقام العلميّ، والذروة الفكريّة، والتحرُّر الذهنيّ، للسيد الشهيد الصدر. إنّ هذا الشهيد ـ شهيد الفضيلة والعقل والإيمان ـ هو واحدٌ من المفكِّرين الأحرار والمؤسِّسين للنقد الفلسفيّ في هذا العصر. نعلم أن الفيلسوف الإغريقي أرسطو طاليس(322ق.م)، معلِّم الإسكندر المقدوني، ومؤسِّس المدرسة المشائية في لوكيون من أثينا، عمد ـ في مقام كشف مبادئ البرهان، وتقسيمه إلى: أوّلي؛ وثانوي ـ إلى تقسيم الاستقراء إلى قسمين: ناقص؛ وكامل، وذهب إلى اعتبار الاستقراء أساساً للوصول إلى البرهان؛ لأنّ البرهان عنده يعني اليقين بثبوت المحمول على الموضوع من خلال معرفة العلّة الواقعية، وذهب إلى الاعتقاد بأنّ هذه العلّة تحصل من خلال الاستقراء.
لقد ذهب السيد الشهيد الصدر إلى عدم كفاية «المنطق الصوري»، وعمد إلى نقد آراء أرسطو، كما صنع بعض مَنْ تقدم عليه من المفكِّرين المسلمين، من أمثال: أبي سعيد السيرافي(368 هـ). وقد التفت أنصار المدرسة التفكيكية إلى الإشكالات الواردة على المنطق. لقد مضت سنوات طويلة على فقدان أرسطو لاعتباره في التفكير البشريّ، ولكن لا يزال هناك ـ للأسف الشديد ـ بعض المولعين بالتقليد، والمفتقرين إلى الكرامة والعزّة الفكريّة في الحوزات الإسلاميّة ـ رغم امتلاكهم للقرآن وعلوم المعصومين^، والتأكيد على «التعقُّل السماويّ» ـ، يفضِّلون تقليد المتقدِّمين بشكل أعمى، ولا يلتفتون إلى المنطق الصوري (المنطق الرياضيّ، الجبريّ)، ولم يحدثوا أدنى تغيير في أساليبهم. غير أنّ «الشهيد الصدر هو أوّل فقيه مسلم وفيلسوف شيعي خاض في فلسفة العلم والأسلوب، وعمد من خلال إبداعه لكتابه العملاق (الأسس المنطقيّة للاستقراء) إلى تأسيس طريق لاحب يقوم على المنطق الاستقرائيّ. ومن خلال وضع أصابعه على نقاط الضعف في النظريّات العلميّة لمنظِّرين من أمثال: برتراند راسل، وجان استيوارت ميل، وكارل ريموند بوبر، عمد إلى إثبات منطقه الاستقرائيّ بوصفه منهجاً جديداً للتفكير»([18]).
إنّ علم المنطق ـ الذي هو في كلتا صورتيه: القديمة؛ والجديدة، وربطه بالرياضيّات والمعادلات الجبريّة، لم يُعرف حتى الآن بوصفه معياراً كاملاً لإثبات أو نفي كلّ شيء ـ كان مادة لاستفادة العلماء، بيد أنّ البعض انهار في هذا المقام وتاه في متاهة التقليد، واعتبر صورة البرهان هي الملاك، دون أن يلتفت إلى مادّة البرهان؛ لأنّ المنطق في حدّ ذاته لا يتضمّن صحّة مادّة البرهان.
أخذ علماء من الغرب، من أمثال: لايب نيتز الألمانيّ(1716م)، وبعده ألفرد نورث وايتهيد الإنجليزيّ(1947م)، وبرتراند راسل الإنجليزيّ(1970م)، يفكِّرون في إعادة النظر وتجديد بنية المنطق، وانتقدوا موضوع الاستقراء الأرسطيّ. وقد عمد الشهيد الصدر في هذا المقام إلى البحث في جذور الاستدلالات المنطقيّة، التي هي في غالبيتها استقرائية، ولكنّه وصل في الاستقراء التامّ إلى نتيجة مغايرة لنتيجة أرسطو، التي كانت موضع انتقاد بعض المفكِّرين الغربيّين. ومن هنا قام ـ على حدّ تعبيره ـ بفصل «المذهب الذاتيّ» في «الاستقراء» عن «الاستنباط الاستقرائيّ». «وألّف كتابه حول «حساب الاحتمالات»، وبيان كيفيّة وصول الاحتمالات إلى العلم».
إنّ هذه المواقف العقليّة هي التي تمضي بالفلسفة نحو الأمام، وتدعم أسس الاستدلال، وتعمل على تحريك المياه الفكريّة الراكدة، وليس تقليد الكبار وخلق حالة من الهلع والرعب في صدور الباحثين عن الفلسفة، فلا يجرؤوا حتّى على إظهار ما يعلمونه. إن النقل ذاكرة، وإن النقد فكر. وهناك فرقٌ بين الذاكرة الفلسفيّة والنقد الفلسفيّ. يجب في الفلسفة أن نقيم الأصل على النقد والتحرير، لا على مجرّد النقل والتقرير. وأن نعمل ـ مثلاً ـ على نقد أدلة «أصالة الوجود» علميّاً وفلسفيّاً وبشكل دقيق ومنهجي. وقد بيّنتُ المنهج العلميّ للنقد الفلسفيّ بالتفصيل في كتاب «مكتب تفكيك»([19]). إذاً يجب في الفلسفة أن نصل إلى «استدلال مبنائيّ»، وعدم الاكتفاء بتكرار «الاستدلالات القائمة على المباني السابقة»، التي هي بأجمعها عبارة عن تقليد وتكرار، وتكرار وتقليد. إنّ التقليد في المعارف والعقليّات يعني إلغاء التعقُّل. وإنّ مجرّد نقل الفلسفة (في الدروس والكتب) يعني أن نراوح مكاننا. وإنّ نقد الفلسفة هو تحرُّك وتقدُّم نحو الأمام.
وعليه فإنّ الكبار هم الذين أحيوا حوزة خراسان منذ ثمانين سنة، وأقاموا «النقد الفلسفيّ» منذ ذلك الحين على أساس من مباني التعقّلات العميقة والواسعة والفنّيّة، والأسس العلميّة والنظريّة، ومنحوا حوزة مشهد «العلميّة» و«المنهجيّة»، وأخرجوا البحوث من ركودها، وحوّلوا «التقليد» بعد أربعة قرون، بل بعد عشرة قرون، إلى «تحقيق»، وجعلوا من جميع علماء خراسان إما أنصاراً وأتباعاً لمنهج التفكيك، أو متفائلين بهذه الطريقة العلميّة، وأوصلوا العديد من الأفاضل إلى الاستقلال الفكريّ، والاجتهاد العقليّ، والعزّة والاستقلال الفكريّ، حتى قال أحد كبار أعمدة العلوم والمعارف الإسلاميّة، وأستاذ الأسس المعرفيّة للإسلام، العلاّمة محمد تقي الجعفري التبريزي(1377هـ.ش) في بيان علميّة وأهمّيّة مدرسة خراسان: «لم يكن واقع الرؤية إلى الفلسفة في النجف الأشرف بطبيعة الحال قابلاً للمقارنة بمشهد، لقد أصبحت مدرسة الآغا ميرزا مهدي (الإصفهانيّ) في مشهد مدرسة شاملة، وكان يتمّ البحث فيها على نطاق واسع»([20]).
وعلينا أن ندرك أنّ النقد إذا كان فنّيّاً وعلميّاً، وكان صادراً عن كفاءة ودراسة وتفكير وإنصاف، وكان الناقد شخصاً مؤهَّلاً ومطَّلعاً ومسؤولاً، وكان النقد دقيقاً وتفصيلياً، وليس عامّاً وهامشياً يُراد منه التبجُّح وإظهار المخالفة لمدرسة التفكيك؛ ليثبت ـ بزعمه ـ أنه يفهم في الفلسفة، لن يُرفَض أو يُلغى بالمطلق، بل ربما أمكن من خلال النقد البنّاء إثبات أمور قيّمة ومهمّة أيضاً، ويتمّ من خلالها التمييز بين الخبيث والطيّب، أو يتمّ في الحدّ الأدنى فتح نافذة من التفكير المستقلّ أمام المفكِّرين. وفي بعض الموارد نصل إلى نفي وردّ نظريّة، والمجيء بنظريّة جديدة، كما هو الحال بالنسبة إلى الكثير من المسائل الخلافيّة في الفلسفة. وأحياناً قد يؤدي النقد العلميّ لأدلة إحدى النظريّات إلى فتح باب جديد حول مسألة من المسائل الخلافيّة، وتكون لذلك أهمّية وقيمة كبيرة جدّاً، وتؤدي إلى ظهور تيّار أو مدرسة جديدة، كما حصل بالنسبة إلى انفصال صدر المتألِّهين عن «أصالة الماهية»، بعد سنوات طويلة من الاعتقاد بها والإصرار عليها، والمصير إلى الحكمة المتعالية([21])؛ أو ما قام به السيد علي الحكيم(1307هـ) في ما يتعلق بمسألة المعاد الجسمانيّ في هوامش «الأسفار الأربعة»، الذي أدّى إلى إبداع جديد هو في عين كونه عملاً فلسفيّاً أقرب إلى المباني السماويّة والتعاليم القرآنيّة؛ أو ما قام به العلاّمة الحائريّ السمنانيّ(1350هـ.ش) من العمل العميق في كتابه الضخم تحت عنوان «حكمت أبو علي سينا»، ومناقشاته العلميّة والمتقنة على مباني أصالة الوجود ووحدة الوجود وما إلى ذلك؛ أو الكبار والفلاسفة الذين كانوا معاصرين لصدر المتألِّهين ولإدخال المباني العرفانيّة في الفلسفة، والذين أخذوا يواجهونه وينتقدون مبانيه، وواصلوا نهج الفارابي وابن سينا والخواجة نصير الدين الطوسي والميرداماد وأمثالهم، ووجدوه أنسب بالفلسفة العقليّة([22]).
8ـ الموقف النابذ للتقليد (2) ــــــ
لقد أثبت السيد الشهيد الصدر من خلال المسائل التي ذكرها حول الاستدلال الاستقرائي (الاستدلال بالخاصّ على العام) ـ خاصّة في ما يتعلَّق بـ «الاستقراء التامّ» في كتابه القيّم «الأسس المنطقيّة للاستقراء»؛ إذ تحدّث عن السببيّة العلّية، والمنطق التجريبي، وإثبات علاقة الضرورة العقليّة في السببيّة المذكورة أو عدمها ـ أثبت بما لا غبار عليه أنه فيلسوفٌ ومفكِّرٌ مستقلٌّ، وليس فيلسوفاً منفعِلاً. وهذا ما قام به الغربيّون منذ عدّة قرون بشأن «التراث الإغريقيّ»، وبذلك حرَّروا أنفسهم من أغلال القرون الوسطى. ولا زال أصحاب الفلسفة عندنا لم يولوا هذه المسألة ما تستحقّه من الالتفات، ولذلك فإنهم لا يزالون يتخبّطون في القرون الوسطى.
حبّذا لو كان العلماء والمفكِّرون المسلمون قد عملوا على تحرير أنفسهم منذ قرون من الهيمنة المفروضة والغزو الثقافيّ والسياسيّ للفلسفة والهيئة والنجوم والمسائل الفلكية والكونية الإغريقية. وحبّذا لو أنهم لم يخرجوا عن «العينيّة العلميّة»، التي أكّد عليها «القرآن الكريم» وأحاديث الأئمّة المعصومين^، إلى «الذهنيّة اليونانيّة» وأمثالها. وحبّذا لو أنهم هبّوا لنجدة المفكِّرين الذين كانوا يرومون الوصول إلى هذه الحرّيّة، وتخلوا عن دعمهم السياسيّ للاهوت المسيحيّ والغنوصيّ والثقافة الهيلينيّة، وأثبتوا استقلالهم في الرأي، كما صنع أبو سعيد السيرافي وأنصاره وأمثالهم في مواجهة المنطق اليوناني وأسلوب الاستدلال الإغريقيّ، وعملوا على نقد المنطق الذهنيّ، وبحثوا في الملاكات اللغويّة التي ذكرها بعض المفكِّرين المسلمين في تلك القرون ـ وعمد بعض الغربيّين إلى طرحها مؤخَّراً ـ وتداولوها وتوصَّلوا إلى نتيجة مفادها: ليس كلّ برهان ـ وإنْ كان من الشكل الأوّل ـ برهاناً حقيقيّاً.
9ـ معرفة وتحديد «المغالطات» ــــــ
نجد ابن سينا في كتاب المنطق من «الشفاء» ينصح كثيراً بالتعرّف إلى «المغالطات» بدقّة وعمق([23]). بيد أنّ الخبير بموازين المنطق يدرك أنّ هذه التأكيدات والوساوس لا أساس لها.
لقد أكّد الشيخ الرئيس في «فنّ البرهان» على أنّ مبادئ «البرهان» هي «أوّلية الصدق»، وذلك إذ يقول: «قد بيّنا من قبل أنّ العلم بمبادئ البرهان ـ المقدّمتان: الصغرى؛ والكبرى ـ يجب أنّ يكون آكد من العلم بنتائج البرهان»([24]).
كما يؤكِّد شيخ الإشراق على ضرورة وصول «مبادئ البرهان» إلى «الفطريات»([25]). كما يُصرّ على ضرورة «اختبار القياس»؛ بغية إثبات صحّته من حيث الصغرى والكبرى والنتيجة([26]). وهذه أمور قلّما يتمّ الالتفات إليها في تدريس الفلسفة. من هنا يتمّ عرض «المصادرات» بديلاً عن «المبادئ اليقينية». إنّ معرفة «المغالطات» تؤدي إلى معرفة «المصادرات»، وهذا بنفسه نوعُ خروجٍ عن التقليد الفكريّ، والتعبّد المعرفيّ، والخطأ العلميّ، وهذه هي روح الفلسفة والمعرفة.
10ـ الفهم الاقتصاديّ (1) ــــــ
إذا لم يفكِّر عالم الدين بالمسائل الاقتصاديّة في المجتمع، ولم يبالِ بكيفية إدارة الناس لأمورهم المادّيّة والمعاشيّة، كيف يمكن له أن يدّعي صيانته وحمايته لسلامة أفراد المجتمع من الناحية الروحيّة والتربية الاجتماعيّة السالمة؟ وكيف يمكن لهذا النوع من العلماء أن يدَّعوا النيابة لأئمة الدين، ويعتبروا أنفسهم ملاذاً للناس كما هو شأن الأئمّة؟ إنّ العالم الذي لا يشعر بالتكليف الجادّ في هذا الخصوص، ولا يعتبر المجتمع بمنزلة أسرة كبيرة له، ولا ينتفض في وجه الظَّلَمة من الأغنياء والمافيات الاقتصاديّة، ومصّاصي دماء الشعب، لن يكون إلا كلاًّ وعالةً على المجتمع، ووصمة عار على الإسلام. لا شكّ في أنّ هذا النوع من العلماء هم خارج الدائرة التاريخيّة للأنبياء، وإنّ نهجهم مخالفٌ لنهج النبياء؛ وذلك لأنّ القرآن الكريم أقرّ أصلين بوصفهما المبدأ الأساس لدعوة جميع الأنبياء^:
1ـ التوحيد، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ ( الأعراف: 85).
2ـ العدل (إقامة العلاقات الاقتصاديّة والمعاشية السالمة بين أبناء المجتمع)، كما في قوله تعالى: ﴿فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا﴾ ( الأعراف: 85).
وقال الإمام عليّ بن أبي طالب× في وصف علماء الدين في بيانه ومنشوره العظيم: «وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى العُلَمَاءِ أَنْ لا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ، وَلا سَغَبِ مَظْلُومٍ» ([27]).
إنّ هذا البيان والمنشور القاطع، وغيره من الأحاديث المعتبرة الأخرى التي بلغتنا بشأن «العلماء الصالحين» و«العلماء الطالحين»، إنّما هو لأجل حفظ المجتمع من الإلحاد والانحراف عن الدين([28])، وشلّ حركة أعداء الدين؛ لأنّ هذه الروايات تقول: إنّ العلم وحده ليس هو المعيار، وإنّما الملاك والمعيار هو الزهد والتقوى والعمل. وإنّ الإنسان العاقل لا يفرّط في رأسمال الحياة والسعادة الأبدية ببساطة، بل قد يتخلّى من أجل ذلك عن عشرات العلماء غير الأتقياء، والوعّاظ الفاسدين، والطلاّب غير المخلصين، والمثقَّفين من ذوي العقائد الفاسدة وغير المطَّلعين على حقائق القرآن وأهل البيت^، ويبتعد عنهم، ويعمل على صيانة دينه وعقائده، والالتزام بأعماله الدينيّة.
ورد في بعض الأحاديث أنّ القابض على دينه (في آخر الزمان)([29]) كالقابض على جمر.
وهناك في هذا الكلام نقطتان:
الأولى: صعوبة وتعقيد هذا الأمر، أي القبض على الجمر.
والثانية: سرعة إلقاء الجمر وقذفه بعيداً.
وهذه النقطة الثانية في غاية الأهمّيّة؛ إذ إنه يُفهم ضرورة تحمُّل هذا العناء من أجل الحفاظ على الدين، ولا يفتح قبضته بسهولة، فتضيع منه جوهرة الدين، ولا يعمل على نقض عقائده إرضاءً لهذا الخطيب أو الكاتب الجاهل أو الذي لا تُعرف غايته، أو ذلك المتظاهر بزيّ العلماء والذي يعبد النفس والشيطان والهوى، أو العميل الفلاني الذي يعبد المال ويأكل الرشا في الحكومة الإسلاميّة.
11ـ الفهم الاقتصاديّ (2) ــــــ
لوحظ على بعض المعمَّمين([30]) ـ في مناسبة وغير مناسبة ـ أنّه ما أنْ يُطرَح بحثٌ اقتصاديّ؛ استجابةً لتأكيد «القرآن الكريم» على ضرورة العدالة المعيشيّة، والتأكيد عليها؛ انطلاقاً من قوله تعالى: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25) ـ وكان كلّ الكلام يمثّل محتوى الدين، وقائماً على النصوص القرآنيّة والروائية، والسيرة العمليّة للنبيّ الأكرم|، والأئمّة الأطهار^ ـ حتّى تراهم يفقدون توازنهم، ويتَّهمون المحقِّقين الواعين، والمؤلِّفين المخلصين، والخدّام المتواضعين لمعارف وتعاليم أهل البيت، ويرمونهم بالأباطيل. وطبعاً هناك لهذه المسألة أسباب وعلل مختلفة، نغضّ الطرف عن الدخول في تفاصيلها، ولكنّنا نكتفي بالقول: إنّ هؤلاء يجهلون ماهيّة الدين الإسلاميّ رغم ارتدائهم لزيّ علماء الدين، واجتيازهم المراحل الدراسيّة، وبلوغهم المناصب.
إنّ الدين إنما يكون جامعاً إذا توفّر على عشر فلسفات (نظريّة) قويّة وقائمة بذاتها، وليست مقتَبَسةً من هنا وهناك، ومأخوذة من هذه الحضارة أو شبه الحضارة، ومن القديم والجديد، ومن الشرق والغرب، وهي عبارة عن:
1ـ الفلسفة الإلهيّة (الاعتقاديّة).
2ـ الفلسفة الأخلاقيّة (التربويّة والسلوكيّة والعمليّة).
3ـ الفلسفة السياسيّة.
4ـ الفلسفة الاقتصاديّة.
5ـ الفلسفة الاجتماعيّة.
6ـ الفلسفة الحقوقيّة (بالمعنى العامّ).
7ـ الفلسفة القضائيّة.
8ـ الفلسفة التبليغيّة.
9ـ الفلسفة الفنّيّة.
10ـ الفلسفة الدفاعيّة.
إنّ كلّ واحدة من هذه الفلسفات بمنزلة اللبنة في بناء صرح الدين. وبطبيعة الحال هناك لكلّ واحدة من هذه الفلسفات فروع وتشعُّبات لسنا الآن في وارد الدخول في بيان تفاصيلها. ورغم اعتقادي بضرورة التخصُّص في فروع وحقول المعارف فإنّني ـ وعلى مستويات أدنى ـ أرى من الضروريّ أيضاً أن يكون كلّ مَنْ يدَّعي العلم في الدين ـ وحتّى الواعظين، على اختلاف أهمّيّة الموضوع ـ ملمّاً بشيءٍ من جميع هذه الفلسفات العشرة.
إنّ الدين الإسلاميّ ـ لحسن الحظّ ـ دين جامع وكامل، ومستغنٍ بالمعارف، ومستكفٍ بالذات. وإنّ المعارف القرآنيّة العظيمة، وبحر السنة النبويّة والعلم المحمّديّ، والتعاليم القيّمة للأئمّة المعصومين^ ـ والتي لم يتمّ التعرّف عليها للأسف الشديد إلاّ قليلاً ـ تحتوي على جميع الجهات اللازمة، وتتمتع بإلهيّات قوية وغنية للغاية. وفي الإلهيّات ـ بناءً على المبنى العلميّ لـ «المدرسة التفكيكيّة» ـ ليس هناك من حاجة إلى الأخذ من أيّ نحلة فلسفيّة أو عرفانيّة، قديمة أو جديدة، شرقيّة أو غربيّة. وبفضل وبركة المعارف القرآنيّة والمحمّديّة والإماميّة ـ بالتعقُّل التامّ، والتأمُّلات الفطريّة، والعقل النوريّ، وليس العقل الآليّ ـ ليست هناك من حاجة إلى أيّ شخص أو مكان آخر، بل في الكثير من المسائل المعرفيّة والجوهريّة، من قبيل: أصل الوجود الإلهيّ، والصفات الإلهيّة، والوحي، والتقدير، والدعاء، والبداء، وماهيّة القرآن، ومعرفة النفس، والمعاد الجسمانيّ ومسائله، والحشر، والأبديّة، نجد هناك اختلافات أساسيّة مع المدارس الفلسفيّة والاتجاهات العرفانيّة. وإنّ المباني العقليّة السماويّة القويمة راجحةٌ ـ بحكم العقل نفسه ـ على تلك المباني البشريّة النظريّة المتبدِّلة والآراء المتغيِّرة على الدوام، ترجيحاً يفوق الوصف، وإنّها توصل الإنسان الباحث إلى المعرفة الأصيلة التي لا خلاف عليها.
ذكر أستاذ البشر والعقل الحادي عشر الخواجة نصير الدين الطوسي في بداية «شرح الإشارات» كلاماً في شأن الفلسفة هو فصل الخطاب، فقال: «اعلم أنّ هذين النوعين من الحكمة النظريّة ـ أعني الطبيعيّ والإلهيّ ـ لا يخلوان عن انغلاق شديد، واشتباهٍ عظيم؛ إذ الوهم يُعارض العقل في مآخذهما، والباطل يُشاكل الحقّ في مباحثهما. ولذلك كانت مسائلهما معارك الآراء المتخالفة، ومصادم الأهواء المتقابلة، حتى لا يُرجى أن يتطابق عليها أهل زمان، ولا يكاد يتصالح عليها نوع الإنسان…».
وهذا الكلام من أحد عمالقة وأساطين الفكر والفلسفة لا يحتاج إلى ذكر دليل أو الإتيان بشاهد. يكفي في ذلك أن يحصل المرء على إلمامٍ قليل بالفلسفة وآراء الفلاسفة، ويمرّ بقائمة أسماء الفلاسفة المخالفين لابن سينا، ومن ثم قائمة أسماء الفلاسفة المخالفين لصدر المتألِّهين، ليقف على الحقيقة. وأما بالنسبة إلى الفلسفة الغربيّة فالاختلاف من ذاتيّاتها.
12ـ الفهم الاقتصاديّ (3) ــــــ
وعليه ندرك الآن جيّداً مدى أهمية التفات السيد الشهيد الصدر إلى المسائل الاقتصاديّة. فقد توصّل هذا المفكِّر الكبير والوجدان الاجتماعيّ اليقظ بوضوح إلى أنّ موضوع الاقتصاد يشكّل «أصالة قرآنيّة»، ليتمّ التأسيس للقسط والعدل داخل حياة الناس وخارجها؛ إذ يقول تعالى: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25). وإنّ هذا التعبير المذهل والموجز، والذي هو على أعلى درجات البلاغة والجمال، وذروة القوّة والمتانة، من أكثر الآيات القرآنيّة إعجازاً، وهو من أكثر التعاليم السماويّة بناءً؛ إذ تثبت بوضوح أن أصالة الاقتصاد في الإسلام ـ ونعني بذلك اقتصاد القسط والعدل، وليس الاختلاف الطبقي والتكاثر والترف، وأكل الرشا والإجحاف، والتبذير والإسراف ـ من أكثر الأصول الإسلاميّة تجذُّراً وعمقاً في الإسلام.
وبغضّ النظر عن الآيات نجد أنّ الروايات المعتبرة الكثيرة، والسيرة العمليّة للنبي الأكرم| والأئمّة المعصومين^، تحكي بأجمعها عن الدفاع التامّ والاستماتة في تطبيق العدالة، وتصحيح أسس الاقتصاد والمعيشة في المجتمع القرآنيّ، وإحقاق حقوق الطبقات المحرومة.
ومن الملفت أننا نرى الصحابيّ العلوي «حبيب بن مظاهر» والصحابيّ الجليل «سليمان بن صرد الخزاعي» يكتبان إلى الإمام الحسين× يطلبان منه القدوم إلى العراق؛ لإقامة الحقّ والعدل، وإزاحة الباطل والظلم، ويتفجّعان ممّا كان من سيطرة المتكاثرين على الناس، والتهامهم أموالهم، وإطلاق الحكم الأمويّ الغاشم ليد هؤلاء المتكاثرين، وجعل أموال الناس دولة بينهم؛ فيقولان في ما يقولان: «…وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها…». ومالُ الله ليس إلاّ مال قطاعات من الناس والمحرومين([31]).
إننا نواجه اليوم عدّة مجموعات ـ في أزياء ووظائف مختلفة ـ يصدق عليها جميعاً عنوان «الجاهل بأبعاد الدين». فهؤلاء يجهلون الاقتصاد الإسلاميّ، ولو أنّ شخصاً تحدّث عن العدالة انتقل ذهن هؤلاء إلى موائدهم وأسفارهم وحلّهم وترحالهم، خشية أن تصاب بالضرر، فيبدؤون بالحديث والتنظير لدينٍ خالٍ من الاقتصاد، كالخيمة من دون عمد، أو البيت من دون سقف، ويرتضون في الحدّ الأدنى بهذا المستوى من السقوط والأمّية، بحيث يخال السامع أنهم لم يقرؤوا القرآن ولو لمرّة واحدة؛ ليدركوا أنّ لفظ «الزكاة» ملاصق للفظ «الصلاة» في القرآن الكريم، فضلاً عن «نهج البلاغة»، و«الخطبة الفاطمية»، والأحاديث الاقتصاديّة الكثيرة الأخرى، التي نضعها برسم هؤلاء الجاهلين والرجعيين وبعض العامدين المشبوهين.
إنّ هؤلاء لا يعلمون ـ أو لا يريدون الاعتراف بجهلهم ـ بأنّ الدين الإسلاميّ قد جاء لرقيّ الإنسان، ولا يمكن حصول هذا الرقيّ في عالم المادة على المستوى العمليّ إلاّ برفع الحاجة المادّيّة. فحتى إذا أردتم تعلُّم القراءة والكتابة مسّت الحاجة لديكم إلى اقتناء كتاب القراءة للصف الأوّل الابتدائي. وبغضّ النظر عن هذه الأمور الواضحة والبديهية فإنّ العالم يضجّ بهذه الأركان الثلاثة المشؤومة لفساد الإنسان والمجتمع وسقوط القِيَم، وهي:
1ـ الاستثمار (تسخير طاقات وعمر وبنية وعلم وتخصُّص الآخرين).
2ـ الاستعمار (سرقة الشعوب، واحتلال الأوطان، ومصادرة الثروات والمعادن والعقول والطاقات الإنسانيّة).
3ـ الاستئثار (أكل الرشا، والأثرة، والأنا، واعتبار الآخرين خدماً يكدحون لصالح المستأثر).
لو أنّ ديناً لم يشتمل على فلسفة اقتصاديّة (مذهب اقتصاديّ)، وأسس جذريّة متقنة لتعديل الثروة وتصحيح معيشة الجماهير، لكان بمنزلة الدين المفتقر إلى الفلسفة الإلهيّة والاعتقاديّة والأخلاقيّة والسياسيّة وما إلى ذلك. وهذا يعني ـ بتعبير آخر ـ عدم وجود الدين. أيّها المسلم المثقَّف الذي تدَّعي الإسلام، أيّها المتخلِّف الذي تحمل أسفاراً ولا تفقه منها شيئاً، والذي لا تنفع دواءً لأيّ داء، أهذا هو الدين الإسلاميّ؟! وهل هذا هو «قرآن القسط»، و«قسط القرآن»؟! وهل هذه هي «الخطب الفاطميّة» التي تشبه صرختها صرخة الأنبياء في الانتصار «للعدالة في التوزيع»؟! وهل هذا هو ما يمثِّله «نهج البلاغة» في رفعه الصرخة الهادرة في الدفاع عن المحرومين؟! وهل هذا هو ما تمثِّله الصرخة «العاشورائيّة» التي لخَّصها الإمام الحسين بقوله: «بغير عدلٍ أفشَوْه فيكم»([32])؛ لفضح عدم تطبيق حكومة يزيد للعدالة بين الناس؟!
وهل يمكن للسيد الشهيد الصدر ـ هذا الفقيه العبقريّ، مع نبوغه ودرايته ومنطقه وحكمته ـ أن يفكِّر مثل المتخلِّفين، أو أولئك الذين يخوِّنون الإسلام من خلال وضع العراقيل في طريقه؟ كلاّ أبداً، لقد أثبت السيد الشهيد الصدر ـ من خلال اهتمامه الجادّ بالمباني والمسائل الاقتصاديّة، والسعي في إطار التحقيق في الاقتصاد الإسلاميّ ـ أنه يتمتَّع بموهبة عقليّة عملاقة، وأنه يتوفَّر أيضاً على وجدان إنسانيّ يقظ، وروح قرآنيّة وإيمانيّة ولائيّة فذّة، وبيان علميّ زاخر.
إن تجاهل الاقتصاد في اللحظة الراهنة ـ وخاصّة في ما يتعلَّق بالتبيين الخالص لـ «منهج الإسلام الاقتصاديّ»، أي الاقتصاد القائم على أسس الإسلام من (الكتاب والسنّة)، من خلال الفهم المتعقّل والاجتهاديّ ـ الناشئ عن الجهل بالإسلام، وعدم الاهتمام بالإنسان المحروم، وسقوط المجتمع أخلاقيّاً، وتشويه سمعة الإسلام من الناحية الإداريّة، أو الخبث في إظهار الإسلام ناقصاً، أو التناغم والتنسيق مع الرأسماليّين والمستعمرين في الداخل والخارج، إنّما هو لإفساح المجال أمام هيمنة المدارس الاقتصاديّة المنحرفة الأخرى، ونسف مادة القسط والعدل القرآنيّ التي هي من أهمّ جاذبيات الإسلام ومفاهيمه المشرقة، وتزويق الرأسماليّة وتأييدها، والاشتراك مع الأراذل من قطاع الطرق، وتحويل ظاهرة الفقر والطبقية الاجتماعيّة إلى جهنم حاطمة، وأن يحكم نظامَ الجمهورية الإسلاميّة بعد انتصار الثورة، ـ رغم كل التضحيات والشهداء، وبذل الأموال والأنفس، الذي ربما كان فريداً من نوعه في التاريخ ـ المذهبُ الميكافيلي، ويأخذ الجلاّدون الموكَّلون بتسعير الأقوات والكيل والميزان بطحن عظام الناس، وسلخ جلودهم، حتّى ظهرت ـ على حدّ تعبير كبار المسؤولين ـ طبقة جديدة من الرأسماليّين والمترفين من العلماء المعمَّمين وغيرهم.
وهنا يحسن بنا أن نعرض للقارئ الكريم حديثاً عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين السجّاد×. وإنّ هذا النوع من الأحاديث يثبت أنّ المعصوم هو بحقّ خليفة الله في أرضه، كما تثبت هذه الأحاديث حجم أدعياء العلم والفقاهة والذين لا يحملون من روح الإسلام شيئاً. وما أكثر المسؤولين الذين يدَّعون الإدارة الإسلاميّة وهم بعيدون كلّ البعد عن الإسلام والعمل به. يا لها من غفلة وعدم إخلاص من هؤلاء المسؤولين، الذي يخضمون مال الله، ويبذّرون ميزانية الدولة، وينهبون أموال الشعب، و…. يا لمظلومية التشيُّع على يد المنتسبين إلى التشيُّع ظلماً وعدواناً.
وأما حديث الإمام السجاد فيقول: «…الناس في زماننا على ستّ طبقات: أسد، وذئب، وثعلب، وكلب، وخنزير، وشاة… وأمّا الذئب فتجّاركم، يذمّون إذا اشتروا، ويمدحون إذا باعوا…، وأمّا الشاة فالذين تجزّ شعورهم وتؤكل لحومهم، ويُكسر عظمهم. فكيف تصنع الشاة بين أسدٍ وذئبٍ وثعلبٍ وكلبٍ وخنزير؟»([33]).
هذا هو حال الناس في عصر الإمام السجاد×، فما ظنُّك بوضع الناس في العصر الراهن، بين كلّ هذه الكائنات المفترسة في العصر الراهن؟!
ـ يتبع ـ
الهوامش:
(*) صاحب كتاب (الحياة)، أهم شخصية تفكيكية معاصرة، له كتب عدّة، منها: علم المسلمين، المدرسة التفكيكية، الاجتهاد والتقليد في الفلسفة، و…
([1]) مكتب تفكيك: 174 ـ 176، انتشارات دليل ما، الطبعة السابعة، قم، 1382هـ.ش؛ وكذلك: الميزان 5: 282 ـ 283، بيروت، 1390هـ.
([2]) إشارة إلى إشارة ابن سينا في كتابه (الإشارات والتنبيهات) 2: 112، شرح: الخواجة نصير الدين الطوسي وفخر الدين الرازي، المطبعة الخيرية، مصر، 1325هـ.
([3]) استعرتُ هذه التعبيرات عن الفيلسوف والفقيه العبقريّ والشهيد الكبير السيد محمد باقر الصدر(1359هـ.ش)، والتي قالها في حقّ (العلاّمة الجعفري) (راجع: د. عبد الله نصري، تكابو كر أنديشه ها: 440، الطبعة الثانية).
([4]) تكابو كر أنديشه ها، (سلسلة من حوارات العلاّمة الجعفري مع علماء وأساتذة مختلف جامعات العالم)، تنظيم وتدوين: علي رافعي، طبع مكتب نشر فرهنگ إسلامي، طهران، 1373هـ.ش؛ وكذلك: پيام خرد (سلسلة من المقالات والكلمات التي ألقاها العلاّمة الجعفري على المستوى الدولي)، طبع مؤسسة نشر كرامت، طهران، 1377هـ.ش.
([5]) مجلة الفكر الإسلامي (مجلة علمية تخصّصية فصلية)، العددان 24 ـ 25: 352، السنة السابعة، ربيع الثاني ـ رمضان المبارك، 1411هـ.
([6]) مقامات الحريري 1: 28، شرح: أبو العباس الشريشي، دار الفكر، بيروت، 1412هـ.
([7]) السيد محمد محيط الطباطبائي، نقش سيد جمال الدين أسدآبادي در بيداري مشرق زمين (دور السيد جمال الدين الأسدآبادي في يقظة الشرق): 282، قم المقدَّسة.
([8]) من قبيل: كتاب (بيداركران أقاليم قبله)، و(شيخ آقا بزرگ)، و(مير حامد حسين)، و(شرف الدين)، و(سپيده باوران).
([9]) بمعنى أن يكتب على صدر الغلاف وواجهة المجلة (الشهيد الصدر) بخطّ جميل وعريض، ويكون هذا هو عنوان المجلّة واسمها.
([12]) كتاب الاجتهاد والتقليد في الفلسفة.
([13]) الدكتور عبد الله نصري، نظريّه شناخت (نظريّة المعرفة) (تقريرات الأستاذ الدكتور مهدي الحائري اليزدي): 193، طبع مؤسسة فرهنگي دانش وأنديشه معاصر، طهران، 1379هـ.ش. والملفت للانتباه أنّ الأستاذ الحائري اليزدي نفسه عمد إلى نقض آراء الملا صدر المتألِّهين في عدّة مواطن من كتابه هذا.
([14]) الأسفار الأربعة 1: 49؛ وكذلك: العرشية: 45، ط2، طهوري، 1363هـ.ش.
([15]) العلاّمة محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 5: 282 ـ 283، بيروت، 1390هـ.
([16]) إنّ سبب تعبيرنا بـ (اللحاظات العقليّة) أنه طبقاً لظواهر (القرآن الكريم) والأخبار المعتبرة، وحجية هذه الظواهر، حتّى في العقائد والمعارف ـ لعصمة القرآن والمعصوم(ع)، وتصريح الكبار ـ يكون القول بـ (المعاد العضوي الجسماني) ورفض (المعاد المثالي) هو عين الحكم بالعقل والعمل به، كما يقول الملا عبد الرزاق اللاهيجي: «إنّ المقدّمات التي تؤخذ عن المعصوم من طريق التمثيل بمنـزلة الأوّليات في القياس البرهانيّ» (مختصر گوهر مراد: 23، تصحيح: صمد موحّد). ونحن نعلم أنه بالإضافة إلى آيات (القرآن الكريم) فقد تم التأكيد على (المعاد العضوي والجسماني) في (الأخبار المعتبرة) أيضاً. وفي ما يلي نلفت انتباهكم إلى كلمات الفيلسوف المتبحّر العلامة رفيعي قزويني، فقد علّق بعد بيان (المعاد المثالي) الوارد في الأسفار الأربعة، وقال: «ولكن الالتزام بهذا الكلام في غاية الصعوبة والتعقيد؛ لما فيه من المجازفة والمخالفة القطعية لظاهر الكثير من الآيات، وصريح الروايات المعتبرة» (سلسلة الرسائل والمقالات الفلسفيّة: 83، تصحيح: غلام حسين رضا نجاد، انتشارات الزهراء، طهران، 1367هـ.ش).
([17]) راجع: كتاب (المعاد الجسماني في الحكمة المتعالية).
([18]) السيد غلام رضا الجلالي، مقالة بعنوان (مباني الاستقراء من وجهة نظر السيد الشهيد محمد باقر الصدر)، مجلة حوزة (إحياء ذكرى المرجع المجدد الشهيد آية الله الصدر)، العددان 79 ـ 80: 276، فروردين ـ تير، عام 1376هـ.ش. إنّ هذا العدد من (مجلة حوزة) وثيقة تحتوي على الكثير من المقالات المفيدة، ومصدر جيّد للتعريف بالشهيد الصدر.
([19]) راجع الصفحات: 334 ـ 339. وقد ذكرنا هناك لكلّ مسألة فلسفيّة ثمانية وثلاثين رأياً ناقداً في إطار عمل مبدع وغير مسبوق.
([20]) الدكتور عبد الله نصري، (آفاق مرزباني، حوار مع العلامة الجعفري): 37، انتشارات سروش، طهران، 1377هـ.ش؛ وكذلك: سپيده باوران: 2232.
([21]) الأسفار الأربعة 1: 49؛ المشاعر: 45، طبعة طهوري، 1363هـ.ش.
([22]) مقالة (خرده گيران بر حكمت متعاليه وناقدان صدر المتألِّهين) القيّمة والغنية والموثّقة، مجلة الحوزة، العدد 93: 208 ـ 336، مرداد وشهريور، عام 1378هـ.ش.
([23]) (الشفاء)، (المنطق) 3، القسم الخامس: 320.
([25]) (المشارع والمطارحات)، (مجموعة مصنفات شيخ الإشراق) 1: 199، طبعة أنجمن فلسفة إيران، طهران، 1355هـ.ش.
([26]) (منطق التلويحات): 87، تحقيق وتقديم: الأستاذ العلامة الدكتور السيد علي أكبر فيّاض الخراساني، طبعة جامعة طهران، 1344هـ.ش.
([27]) نهج البلاغة، الخطبة الثالثة، المعروفة بـ (الشقشقية).
([28]) يمكنك الرجوع في هذا الخصوص إلى: أصول الكافي للكليني؛ منية المريد للشهيد الثاني؛ بحار الأنوار للعلاّمة المجلسي؛ معراج السعادة للملاّ أحمد النراقي؛ كتاب الحياة (لكاتب السطور) 2، الباب 8، الفصل الثالث (العالم بعمله): 282 ـ 289، والفصل الحادي عشر (العلماء الصالحون وبعض خصائصهم): 328 ـ 341، والفصل الثاني عشر (العلماء الفاسدون وبعض خصائصهم): 342 ـ 351.
([29]) إنّ آخر الزمان ـ يمكن اعتباره من زاوية ما ـ هو الزمان الذي يكون فيه الدين عبارة عن مجموعة من الكلمات الفاقدة للمضمون، فهناك درس وبحث وتأليف وطباعة للقرآن وتلاوته وهناك مدائح وتواشيح، دون أن يكون هناك تطبيق لأحكام القرآن وسيرة المعصومين^ على أرض الواقع.
([30]) ليس هناك ما هو أنسب بهذا النوع من الأشخاص وهذه الفئة من الرجال ـ خاصّة بعد الاختبار الذي خضعوا له طوال ربع قرن على انتصار الثورة الإسلامية ـ من هذا التعبير (المعمَّمين)، وإلا فإنّ مصطلح عالم الدين و(الروحاني) لا يُطلق على كلّ شخص. فعالم الدين الحقيقيّ هو الذي يحمل هذه التسمية قلباً وقالباً، ويكون اطلاق اسم (عالم الدين) عليه اسماً على مسمّى؛ فيكون عالماً وتقيّاً ونزيهاً وسماويّاً، ومتورِّعاً عن حطام الدنيا إلاّ بمقدار الحاجة، ويعمل على بناء روحه وقلبه في ضوء العمل بالقرآن وسيرة الأئمة المعصومين^. وطبعاً فإنّ الله تعالى قد أظهر على الدوام بعض الأمثلة والنماذج ـ وإنْ كانت قليلة ـ لعلماء الدين الحقيقيّين بين الخلق؛ لإتمام حجّته، وعدم ضلال عباده.