أسبابٌ ودوافع، نتائج وحلول
أ. نبيل علي صالح(*)
تمهيد
لماذا كانت القوة؟ ولماذا احتاجها البشر في مسيرة تطورهم منذ فجر التاريخ؟ وهل العنف حالة أصيلة ثابتة في النفس البشرية أم هو حالة طارئة على ساحة الحياة الإنسانية والمجتمعية؟ أي هل الإنسان ـ مطلق إنسان ـ عنيف بذاته أم لدوافع خارجية طارئة، تتمثل في ضغط وتأثير الظروف والعوامل المحيطة به؟ ثم كيف تمكّن الإنسان من بناء معايير وضوابط ونواظم فكرية وعملية قانونية لاستخدام وإباحة القوة والعنف في حركة المجتمعات بعد أن عاش أطواراً زمنية طويلة، استمرّت حتّى عصور حديثة، كان فيها العنف البدائي الواسع هو القاعدة، وهو القانون الحاكم والمهيمن على حياته، والمسيِّر لوجوده؟
في الواقع يمكن القول بأن العنف كمفهومٍ فكري سياسي ـ على صعيدنا الاجتماعي العربي ـ هو ظاهرة تاريخية، ذات امتدادات اجتماعية وسياسية عميقة الجذور في داخل تربة مجتمعاتنا العربية والإسلامية، التي لا تزال تعيش أزمات متواصلة ومستمرة، تؤدّي بين وقت وآخر إلى توليد مسببات ودوافع واسعة لنشوء العنف والقوة، وخاصّة على صعيد انهيار شرعية الاجتماع الديني والسياسي العربي والإسلامي، وهيمنة ثقافة الأصولية والسلفية والتكفيرية والإلغائية، وما تفرزه من عنف مادّي لا تزال تزدهر مناخاته ومنابعه بقوّة في داخل تلك التربة الخصبة.
أما من حيث تعريف العنف فيمكن القول بأنه «الاستخدام غير المشروع للقوّة المادية ضد الآخر، من خلال استعمال أساليب متعدّدة؛ لإلحاق الأذى بهذا الآخر، سواء كان فرداً أم مجموعة أفراد أم جماعات؛ بهدف تدمير الممتلكات الخاصّة أو العامة». ويتضمَّن ذلك استعمال مختلف أساليب العقاب والاغتصاب والاعتداءات المختلفة وشنّ الحروب والتدخّل في حرّيات الآخرين. كما ينطوي هذا السلوك على الاستخدام غير المشروع وغير المعقلن للقوة المادّية العمياء.
أي إنه هو هذه القدرة الذاتية أو طاقة القوّة الكامنة في الفرد البشري التي يقوم صاحبها بتركيزها واستخدامها في إيذاء الفرد الآخر، جزئياً أو كلياً، أو التأثير على وجوده وحركته، وإضعاف قدرته على العمل والعطاء (سلباً أم إيجاباً)، أو ربما قتله وإنهاء حياته بقرارٍ ذاتي، فردي أو عمومي مجتمعي، عن طريق أو تحت ضغط وتأثير جملة عوامل ذاتية أو مجتمعية، أو من خلال سنّ قوانين ونظم وعادات وتقاليد سائدة في المجتمع، بقطع النظر عن بدائيتها أو مدنيتها.
بهذا المعنى يكون العنف في جوهره ـ كما يقول الدكتور إبراهيم الحيدري ـ نفياً للأساس القائم على العقل والحكمة واستخدام البصيرة، التي تغرس في الإنسان النزعة الإنسانية الرشيدة، التي تحاول الوقوف أمام انتصار الغريزة غير المهذَّبة على العقل. وإذا سلَّمنا بأن العنف هو الاستخدام غير القانوني وغير المشروع للقوّة فعلينا إذن التمييز بين أنماط وأساليب العنف، أي محاولة تحديد العنف بالذات، بدقّةٍ وموضوعية، وبالحدود التي تفصل معنى العنف عن باقي أشكال الضغط والإكراه.
وقد أشار فرنسيسكو هيريثير، في كتابه «في العنف»، إلى أن الفئات الحاكمة المستبدّة طوَّرت شكلاً جديداً ومتطرِّفاً من العنف يمكن وصفه بالقسوة. وبهذا المعيار تمثّل القسوة حالة نوعية، حتّى بالقياس إلى عنف الحروب. وكمثال على ذلك: في الحرب قد يكتفي الجيش أو القائد المحارب بتدمير دفاعات العدوّ؛ لتسهيل إلحاق الهزيمة به، أما في حالة القسوة فلا يكتفي الجيش أو القائد المحارب بهزيمة العدوّ، بل يتطلع إلى تدميره وإفنائه. وكثيراً ما لا يكتفي المستبدّ الجائر باعتقال أو محاكمة المعارضين السياسيين، والاكتفاء بسجنهم، وإنّما يوغل في قتلهم والتمثيل بضحاياه وتحطيمهم ذاتياً. وتبين سجلات أقبية السجون ومعتقلات التعذيب، وكذلك شهادات الناجين منهم، وقائع رهيبةً في فظاعتها وبشاعتها. كما تكشف سجلات دوائر الأمن والمخابرات الطبيعة القاسية للحكام المستبدّين وعالمهم المخيف، بحيث تصبح القسوة جزءاً من المشروع السلطوي التي تهدف إلى إذلال الآخرين، وسحقهم؛ ليكونوا عبرة للمعارضين للحكم المستبدّ، كما يحدث اليوم من استخدام أبشع الوسائل والأساليب وأقساها ضدّ مَنْ يشارك في ربيع الثورات العربية السلمية.
ولا شَكَّ أن العنف والقوّة، وادّعاء الفرد أو المجتمع امتلاكه لـمعيار وميزان «الحقّ»؛ لتبرير حيازة واستعمال شتّى وسائل العنف ضدّ الآخر، أو الحدّ من إمكانياته وتأثيراته، هو أمر مشترك بين كلّ الكيانات والجماعات والقوى والمراكز الحضارية، القديمة والحديثة. ولكن الاختلاف بالطبع عائدٌ إلى نوعية وطبيعة القوانين العنفية، وآليات وإمكانيات تحقُّقها، ومدى مصداقيتها وأثرها الإيجابي على تطوّر الفرد والمجتمع على مستوى العنف المقبول والعنف غير المقبول… وأيضاً عائدٌ إلى التطوُّر الإنساني اللاحق الذي طرأ على حركة العنف والقوة، من خلال تقييد وتقنين استعماله، إلاّ في نطاقات محدودة وضيقة، وبإشراف مؤسَّسات الدولة ذاتها التي ظهرت على مسرح الحياة كظاهرةٍ تاريخية في حركة المجتمعات البشرية، احتكرت أدوات العنف ووسائلها، وقامت تدريجياً بقوننتها؛ حفاظاً بالطبع على تماسك الدولة وتضامن ووحدة واستقرار المجتمعات التي تحكمها؛ لأن الاستقرار والأمن هما مقدّمة ضرورية وقاعدة صلبة للعمل والإنتاج والفعل والإبداع الحضاري. والاستقرار المعنيّ هنا هو استقرار الحرّية والطواعية والتوافق المجتمعي، وليس استقرار القوة والبطش والتخويف.
وبالنتيجة فقد توصَّل البشر ـ عبر تجارب ومخاضات عسيرة صعبة ـ إلى ضرورة إيجاد آليات وقنوات ونصوص تفاهمية؛ لتقنين حركة استخدام القوة والعنف ضد الآخر، فرداً كان أم جماعة، نظاماً كان أم محوراً. وهذا التقنين لم يأْتِ هكذا فجأة بلا مقدّمات ومسببات، وإنما جاء عبر ممارسات وسلوكيات ومراكمات حضارية إنسانية طويلة، عانت فيها البشرية ما عانته من ويلات الاستخدام الجائر والواسع للعنف العاري والقوّة الباطشة، أدَّت إلى حدوث حروب ومنازعات وصراعات دموية طويلة كثيرة، كلَّفت البشرية أنهاراً من الدماء والدموع. وكان عماد وأسّ تلك التجارب المرة والصعبة هو التوافق على تنظيم الخلاف والتناقض والتعدُّد والخصومات بين الناس، من خلال بناء عقد اجتماعي بشريّ يعطي مجموعةً من الناس من المجتمع الحقّ في الحكم وإصدار القوانين وسنّ النظم والإشراف على سير المجتمعات، ومنها: حقهم في إصدار الأمر، واستخدام القوّة والعنف بصورةٍ جزئية مقوننة.
وقد أدّى هذا التقنين لحركة القوّة والعنف في حركة المجتمع الإنساني إلى تقليص حجم مساحة القوّة والعنف، وضبط مساراته العشوائية السابقة، وكبح جماحه لدى معتنقيه من الساسة والنخب والقادة، من خلال تنظيم مفرداته، وتحديد آلياته ومعاييره عبر نصوص دستورية قانونية متَّفق عليها بين أبناء المجتمعات الحديثة جميعاً؛ ليكون العنف استثناءً، والتوافق القانوني قاعدة للعمل البشري بكلّ اتجاهاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ولهذا أنشئت المحاكم، ورفعت أعمدة القضاء، كمؤسَّسات ضابطة ومعيارية لموضوع العنف بالذات (تقييد وتقنين على مستوى الاستخدام السلبي أو الإيجابي)، بما يمنع ظهور أشخاص ورموز وساسة يتبنّون منهج العنف الأعمى والقوة العارية الساحقة، على طريقة الحجّاج أو هتلر أو موسوليني أو ستالين أو ماوتسي تونغ، أو غيرهم من جبابرة الاستبداد والعنف الأعمى في التاريخ الإنساني.
وكما أسلفنا لم يتمكَّن بنو البشر ـ وخاصّة على صعيد الفكر الأيديولوجي والعقائد الاصطفائية ـ من التوصُّل إلى تنظيم صراعاتهم الدموية، وتقييد حركة العنف في مجتمعاتها، وبين بعضهم البعض، ومع غيرهم، إلاّ بعد أن مرّوا وخبروا تجارب صعبة ومؤلمة، خاضوا خلالها حروباً وصراعات كونية مدمّرة، كلفتهم مئات الملايين من الأرواح والضحايا، والعيش لقرون طويلة في جحيم التخلُّف والانقسام والظلمات.
بين العنف السياسي العضوي والعنف المفاهيمي الرمزي
لا بُدَّ في حديثنا عن العنف من التمييز المنهجي العملي بين العنف العضوي المادي (السياسي) وبين العنف الرمزي (المعنوي) الذي تمارسه الحكومات غير الشرعية بحقّ شعوبها، حيث درجت العادة في الحديث عن العنف عموماً عدم تحديد آليّة الفصل بين النوعين، باعتبار أن النظام المستبدّ الشمولي المركزي يمارس الاثنين معاً (سياسياً ونفسياً وإعلامياً)، من دون محددات وضوابط وآليات فاصلة. فمثلاً: نجد أن العنف السياسي، أيّاً كان شكله ومصدره، هو نوعٌ من الإرهاب المادّي العضوي الذي تستخدمه الدولة المستبدّة بحقّ الفرد والجماعة؛ بهدف تطويعها وقسرها وكسر إرادتها المادية. وهو نوع من العنف الذي تستخدم فيه شتّى أنواع الأدوات العنيفة، من فنون التعذيب في السجون والمعتقلات التي تصل إلى حدّ التصفية والقتل بلا رادع ولا قانون ولا مساءلة. وهذا نوعٌ من الإرهاب والعنف المادّي يخرج عن القيم والمعايير الإنسانية، مثلما يخرج عن وسائل الضبط الاجتماعية، العُرْفية والوضعية؛ لأنه غير مشروع، ويهدف إلى التخلُّص من الطرف المقابل باستخدام جميع أدوات الإبادة والتدمير. وهناك جملةٌ من الأسباب التي تدفع إلى نشوء العنف السياسي (سنفصِّل الحديث فيها لاحقاً، وهي تتمحور حول هيمنة حالة الاحتقان والشعور بالإحباط بين الناس؛ نتيجة الصدمة بعدم تحقيق الآمال والتطلُّعات والأهداف الكبرى والصغرى التي دفع الناس الأثمان الباهظة في سبيلها، وكذلك التناقضات والصراعات الاجتماعية، واستبداد السلطات، والقمع المفرط في العقاب، دون الرجوع إلى الأسباب الحقيقية والكامنة وراء فعل العنف، والتي تنشأ عن عدم ممارسة الديمقراطية والتعدُّدية واحترام الرأي الآخر).
أما العنف الرمزي الذي قامت وتقوم به النخب والنظم ومختلف الجماعات السياسية الحاكمة فله جذورٌ مجتمعية، يمارسها الأفراد بوعيٍ أو بدون وعي منهم. وهو ما يطلق عليه العنف الاجتماعي المقنَّع أو المخفيّ. وهو نوعٌ من أنواع العنف الرمزي غير المباشر في أغلب الأحيان، والذي يسكت عنه الناس. وتتحكَّم به وتسيِّره ثقافة تقليدية، ونصوص وتفسيرات وتأويلات دينيّة، تقدِّس الأضحية والعنف.
ولكنّ الشكل الواضح منه هو ما تقوم به الدول المستبدّة من عنفٍ رمزي يظهر منه العنف الإعلامي والفكري والثقافي الذي نشاهده في مختلف وسائل الإعلام التابعة لتلك النظم، حيث تضخ كميات كبيرة من مشاهد العنف الإعلامي؛ بهدف قلب الحقائق، والتأثير في نفوس وقرار وقناعات الناس المتحكِّمة بهم، وجعلهم يتحرَّكون في مسارب وطرق خاصّة بها.
إن تسمية الأمور بغير مسمَّياتها الحقيقية المعروفة والبديهية هي أيضاً نوعٌ من العنف الرمزي المستخدم ضدّ الناس؛ للتأثير على قرارهم وسلوكياتهم. وهذا ما اشتغلت عليه نظم الحكم العربية، وكذلك معظم التيارات السياسية الدينية الأصولية، حيث يرى عالم النفس الاجتماعي الفرنسي «بيار بورديو» أن هذا الخطاب الديني المتطرِّف (الأصولي) هو خطاب رمزي يؤوِّل النصوص الدينية، ويشوِّهها عبر خطاب عاطفي، لا عقلاني. فهو يمتلك سلطة رمزية (عنف رمزي) تكتسب شرعيتها من مقولاتها الخاصة، ومن منطقها الداخلي، ومن مفاهيمها الذاتية. كما يستمد شرعيته من استعدادات مؤيِّديه بشكلٍ غيبي وانفعالي يدغدغ الغرائز الحسِّية والجسدية، وينتج تأويلات خاطئة لمفهوم الحوار الثقافي؛ لأنه مستمدٌّ من خطاب ديني أسير الصورة الأولى البدائية، وتتحكَّم فيه ثنائيات ساذجة، كالخير والشر، والإيمان والكفر، والحقّ والباطل، والعقل والنقل، حيث ينتقل الخطاب الديني إلى خطاب إلهيّ يتماثل مع النصّ الديني المقدَّس، أو يتماهى معه، أو يخلق صورةً لخطاب يقترب من المقدَّس، ويتعالى على الواقع، ولا يعترف بالمتغيِّرات التي تحدث فيه.
أسباب ومولِّدات العنف في مجتمعاتنا
حتّى تمكَّنت الدول والشعوب البشرية من قوننة عنفها وفوائض قوّتها كان لا بُدَّ من معرفة عوامل ومسبّبات العنف والقوة. وعلى صعيدنا نحن في عالمنا العربي يمكن القول بكل تأكيدٍ: إنّ مناخ العنف السياسي وغير السياسي، بنوعَيْه: العضوي؛ والرمزي، لا زال حاضراً بقوّة، ولا تزال له بيئة حاضنة، وتربة مناسبة لنموّه وتصاعده. ولهذا جذوره ومولداته، وعوامل لنشوئه، وهي بالإجمال العامّ:
ـ وجود نظم أمنية عنيفة مغلقة، تتبنّى العنف منهجاً وطريقاً وحيداً للعمل السياسي وغير السياسي. وهي تتستَّر بالشعارات الكبيرة والضخمة التي هي فوق إمكانياتها وقدراتها؛ كي تبرِّر وجودها اللاشرعي، وامتلاكها لوسائل العنف والقوة العارية غير المقوننة، واستخدامها الكثيف والعاري لأفظع تلك الأدوات؛ لتطويع وكسر إرادة شعوبها ومعارضيها ومجتمعاتها عموماً، وخاصّة عندما يرفع أفرادها ـ أو بعض معارضيها ـ الصوت عالياً، مطالبين بالحرّية والكرامة والعدالة والعيش الحرّ الآمن. وترتكز تلك النظم على عنفٍ عارٍ أعمى بدائي؛ من أجل استمرارية وجودها، وتحقيق مكاسبها ومصالحها الخاصة في بقائها متفرّدة بالسلطة والثروة والقرار. ويمكن إيراد كلّ أو معظم ما كان يسمى بــ «حركات التحرُّر العربي» القومية واليسارية عموماً كمثالٍ بارز وصارخ على تيارات العنف، وأيديولوجيا الاصطفاء العقائدي والعنصري، التي كانت بمعظمها ـ كما عبَّرت في منطلقاتها النظرية ـ حركات انقلابية، أيّ ثورية عنيفة، تمتلك مخزوناً تراثيّاً عنفيّاً كبيراً، تتبنّى فيه العنف والانقلاب الثوري كأسلوب عملٍ وحيد للعمل السياسي والاجتماعي، وربما الاقتصادي. وهذا التراث السياسي العنفي لاحظناه لدى كلّ تلك النظم القومية والاشتراكية والإسلامية، التي اختلفت في كلّ شيءٍ، واتَّفقت ـ بالرغم من تناقضاتها الذاتية والموضوعية ـ على تبنّي فكر ومنهج العنف والقوّة والبطش؛ للوصول إلى السلطة، والبقاء في الحكم بالقوّة، بعد فرض أيديولوجيّاتها وأفكارها العبثية المدمرة على الآخرين، مستنيرين في ذلك بتجارب الشيوعية الستالينية والناصرية المخابراتية، وغيرها من مواريث دول القمع والاستبداد العربي والعالمي، الحديثة أو التاريخية.
ـ وجود وهيمنة تراث ثقافي وعقائدي تديُّني (غير ديني) إقصائي غير تسامحي، يبرِّر العنف ويمجِّد القوة، ويعتبره نوعاً من العبادة والتقرُّب إلى الخالق، وأيضاً يجعله طريقاً وحيداً لحلّ القضايا والخلافات والخصومات بين المتصارعين والمختلفين وأصحاب الخصومات والعداوات السياسية وغير السياسية. ولا نعدم في تاريخنا كثرة الأمثلة عن تلك الجماعات، التي تتبنّى نظرية وأيديولوجيا العنف (من منهج عنف الصحابة الأوائل بين بعضهم البعض، إلى الحروب والفتوحات الدينية، إلى سلفية فتاوى ابن تيمية، وطروحات وفتاوى السيد الخميني، إلى غيرهم من مشايخ ورجالات الدين الإسلامي وغير الإسلامي، وغيرهم من أتباع منهاج وعقائد الأصوليات الاصطفائية الدينية وغير الدينية). ومجمل أصحاب هذه الاتجاهات الفكرية يؤمنون بعقلية «عقيدتي حقٌّ ويقين، وعقيدة غيري باطلٌ وتشكيك. وهم بذلك يدَّعون حالة من التطهُّرية الفكرية والسياسية، وامتلاك الحقيقة المقدّسة، وأنهم يمثِّلون «الخير المطلق»، في مواجهة الآخرين الذي هم «الشرّ المطلق». هذه العقلية الإلغائية هي أساس وقاعدة العنف العضوي في مجتمعاتنا عموماً.
ـ تصاعد وتزايد معدّلات الفقر والبطالة بين صفوف الشباب على وجه الخصوص، ممّا تسبّب بانهيار تدريجي للطبقة الوسطى، حاملة مشروع التغيير والنهوض والتقدُّم والعدالة الاجتماعية في أيّ مجتمع. فعدم حصول الناس، وخاصة من هؤلاء الشباب العاطل عن العمل، والذي يريد تأمين فرص عيش صحّية ملائمة له، ويرغب بتأسيس شبكة أمانٍ مجتمعية أساسها وقوامها العمل الصالح المنتج والنافع القائم على الحرّية والكرامة والاستقرار، ليؤسِّس بيتاً وعائلة ودخلاً مناسباً، هو أكبر عامل مساعد، وربما أكبر دافعٍ، لخلق بيئة ومناخ العنف في بلداننا الشرقية؛ حيث إن الشاب العاطل أو المعطَّل عن استثمار طاقته وشهادته ومهارته التي تعلَّمها في الجامعات أو المعاهد سيجد نفسه تنزلق بالضرورة في تيّارات سياسية أو ثقافية أو معتقدية أخرى، قد تستثمر حاجته لتوظيف قدراته بما يلائم قناعاتها ومصالحها هي، مقابل أن تضمن له كلّ ما يرنو إليه من مطالب حيوية أساسية، كان يفترض بدولته ومؤسّسات مجتمعه أن توفِّرها له بصورةٍ طبيعية على الصورة الأمثل والأفضل، بدلاً من أن يجد نفسه في أتون محرقة أيديولوجيا العنف والقوة. وكثير من شبابنا العربي والمسلم ضاعوا في هذا الطريق. إذن عدم تأمين مطالب الناس السياسية وغير السياسية هو أوّل خطوةٍ على طريق العنف والقوة.
ـ العلاقة الفوقانية الجائرة بين النخب الحاكمة والجماهير المحكومة، وعدم وجود جسور وقنوات تفاهم أو توسُّطات مدنية حقيقية مهيكلة بينهما، من تنظيمات ومؤسّسات مدنية وأحزاب ومنظمات أهلية، يمكن أن تكون محطة تواصل وتفاعل بين أهل الحكم وعموم الجمهور. الأمر الذي باعد ويباعد المسافة ويزيد الشرخ بين مؤسَّسات الدولة النخبوية وباقي أفراد المجتمع، الذين هم مَنْ تقع وتترتَّب عليهم نتائج أعمال وممارسات حكوماتهم، باعتبارهم موضوع الفعل السياسي وغير السياسي. وخاصّة بعد أن عمدت تلك النخب، التي شكَّلت نظماً أمنية وعسكرية مصمتة ومغلقة بالكامل، إلى بناء جدران عالية فاصلة بينها وبين مجتمعاتها، جعلتها لا ترى حقائق الأرض، وتعقيدات ومشاكل الحياة لشعوبها وجماهيرها، أو أنها تراها فقط من منظورها الأمني فقط، ومن زاوية مَنْ معي؟ ومَنْ ضدي؟، بحيث هناك حالة قطيعة شبه كاملة بين الدولة والمجتمع، الأمر الذي حوّل الدولة العربية إلى دولة خاصّة بالنخبة السياسية الحاكمة. ولم تتمكَّن الدولة من التحوُّل إلى دولة مواطنيها الأحرار الشرفاء أصحاب الكرامة والعزّة، أي إنها دولة منفصلة كلّياً عن المجتمع المهمَّش والمدمَّر، والأمة المقصيّة والمستبعدة كلّياً عن ساحة الفعل والإبداع الحضاري، أي عن تقرير مصيرها بيدها.
ـ عجز الدولة العربية عن إقامة علاقات قانونية متوازنة بالنسبة إلى الشعب المدني المهمش والموجود خارج دائرة السلطة أو الحكم، باعتبارها دولة قهريّة غير قانونية في كلّ مواقعها، حيال أكثرية مواطنيها.
وقد قاد هذا النزوع السلطوي المجنون للنخبة الحاكمة ـ في استمراريّتها على رأس الحكم، وتحكّمها بمفاصل القرار ـ إلى تزايد الرغبة الشعبية في تدمير النظم القائمة المتشكِّلة على هذا النحو الفوقي، وخاصة مع تلاشي أيّ أملٍ في وجود ولو نافذة بسيطة لإصلاحها، أو العمل على إيجاد حلولٍ ناجعة (لأزماتها) من داخلها. كلّ ذلك كان نتيجة تفاقم حالة الاستبعاد والتهميش المنظَّم لمختلف قطاعات الشعب، وانعدام الوزن للعديد من الفئات والشرائح الاجتماعية الشعبية وغير الشعبية.
ـ فشل التكوين الوطني الديمقراطي للدولة العربية الحديثة في شكلها ولبوسها السياسي ـ الاجتماعي والاقتصادي حتّى الآن؛ حيث إن نموذج الدولة المدنية الديمقراطية الحقيقية يحتمل الاختلاف والتعدُّد في الرؤى والأفكار، وكذلك يحتمل النزاع والتخاصم والسجال السياسي، ويكفل حلّ تلك المنازعات والخصومات بالطريقة السلمية الحضارية، البعيدة عن العنف والقوّة، رمزياً ومعنوياً كان هذا العنف أم مادياً عضوياً. كما يكفل ويضمن ـ بالقانون والدستور ـ إيجاد مخارج طبيعية لمواقع وأماكن الاحتقانات والتناقضات المجتمعية ذات الأبعاد الطائفية والإثنية والقومية، تحت مظلّة وفضاء الحكم الصالح الديمقراطي التعدُّدي، بما يمنع اشتعال بذور العنف الموجودة أساساً، ويضمن عدم الانجرار وراء الاقتتالات الطائفية والنزاعات الأهلية، التي لا تزال ناراً تحت رماد أزمات مجتمعاتنا العربية حتّى الآن.
ـ وجود إسرائيل في قلب منطقتنا العربية كعامل باعث على العنف، مع أنه كان يجب أن يكون دافعاً للعلم والتنمية والديمقراطية والحرية، بدلاً من كونه محرِّضاً على القمع والاستبداد والعنف؛ حيث إن هذا الوجود ساعد كثيراً في خلق مناخ العنف السياسي الدائم في بيئتنا السياسية والحركية، وخاصة مع وجود مناخ ثقافي مؤهّل ومستعدّ دائماً لتقبُّل أفكار العنف والقوّة. وأدى ذلك لاحقاً إلى اجتياح منظّمات وتنظيمات وتيارات وجماعات العنف لمجتمعاتنا العربية، وخاصة أن تلك التنظيمات بمعظمها قد دخلت وأدخلت في صراعات العرب الداخلية بين بعضهم البعض، ما فاقم المشكلة، وراكم تجارب ومنهجيات العنف العضوي الدموي في بلداننا العربيّة. فكل نظام سياسي عربي كان يريد تعليق مشاكله وأزماته الذاتيّة الداخلية على شمّاعة «العدوّ»، واستغلال واستثمار قضية الصراع مع إسرائيل؛ لتنفيذ أجندته السياسية داخل بلده، فيقتل المعارضين، ويلغي الحياة السياسية بالكامل، ويوسِّع من السجون والمعتقلات والمنافي الصحراوية، وينفق على أجهزة الأمن والعسكر بصورةٍ مفتوحة لا حدود لها، ويؤجِّل خطط التنمية البشرية، ويخصِّص الجزء الأكبر من الميزانية العامة لبلده لشراء وتكديس السلاح للمواجهة الشاملة (المرتقبة!) مع العدو الإسرائيلي، وتحرم الناس من أبسط حقوقها المدنية والحياتية، وتعلن حالة الطوارئ على الدوام وإلى الأبد، ويجعل من القادة آلهةً أو أشباه آلهة. كلّ ذلك فقط كرمى لعيون الصراع ضدّ العدو الأبديّ إسرائيل. طبعاً وجود إسرائيل كعاملٍ مساعد لإنتاج مناخ العنف في واقعنا العربي لا يلغي ـ كما قلنا ـ وجود عوامل أخرى ذاتية تولد باستمرار مناخات العنف، وخاصةً مع استمرار وجود أزمة هويّة ضائعة حتّى الآن؛ جراء حالة الإحباط التاريخي الناجم عن فشلنا كشعوب وأنظمة في تكوين وبناء كيان أو كيانات سياسية حقيقية مستقلّة تماماً وقوية، يمكن أن تتوافر لها مقوِّمات الدفاع عن حقوقها، وسيادتها على أرضها وثرواتها، وإغناء ثقافتها وبلورة شخصيتها الحضارية المستقلّة وغير التابعة.
ـ استشراء وتفشّي الفساد والإفساد السياسي والاقتصادي؛ نتيجة حكم القوة والاستبداد. وهذا يدفع باستمرارٍ إلى خلق مناخات لانعدام أو لنقل غياب ثقافة القيم المدنية، وتغييب للقيم والأخلاقيات المجتمعية السليمة، التي ترعى وتحضن السلوك القويم، والاستقامة العملية والنزاهة والشرف وغيرها، بما يؤدّي إلى خلق قيم وأخلاقيات سلوكية أخرى مستحدثة جديدة طارئة، تناسب عقلية ومناخ القوة والاستبداد، تبرِّر استخدام العنف بكلّ أشكاله ضدّ الآخر؛ للوصول إلى المصلحة والمكسب والمنفعة الخاصة، بقطع النظر عن أخلاقيات الوصول وشرعيَّته الأخلاقية والقانونية، أي بما يؤدي إلى إباحة الاستيلاء على حقوق الآخرين من جانب السلطة ومن جانب الشعب والأمّة. ولو راجعنا يوميات وسلوكيات بعض مجتمعات الاستبداد العربي لرأينا العجب العجاب من هيمنة المصلحي والنفعي والذاتي على الإنساني والوطني والقانوني والإنساني.
من هنا عندما تعجز أيّ سلطة أو أيّ نظام سياسي ـ متحكّم ومسيِّر لمؤسّسات دولة، بناءً على صيغة سياسية تعاقدية معينة ـ عن تأمين حقوق ومطالب شعوبها العادلة والمحقّة، وتتخفّى وراء نظريات التآمر العاجزة، ومقولات التآمر القديمة، الفاقدة للمصداقية على الفهم والتحليل والتشخيص السليم (التي أضحَتْ أداة للحجب والتضليل والتزييف)، فإن هذا التناقض الصارخ والتمايز البائن هو الذي يفتح الطريق واسعاً لاستخدام وسائل القوّة والعنف، وخاصة مع وجود نخب حكم مستبدّة ومفسدة، لا همَّ لها سوى ديمومة حكمها، واستمرارية بقائها على كراسي الحكم، حتّى لو لم يَبْقَ شيءٌ تحكمه، سوى الأشلاء والجماجم.
في هذا الجوّ بالذات تتناقض مصالح النخبة السياسية الحاكمة العاملة على أهداف ذاتية معاكسة تماماً لأهداف الجماهير مع مصالح الكتلة الأكبر من الناس أصحاب الحقوق الأساسية غير المتحقِّقة حتّى الآن في أيّ اجتماع عربي. وهذا حوَّل ويحوِّل مختلف مواقع الدولة العليا النخبوية عندنا ـ عندما تعمل على ترسيخ شعاراتها ومقولاتها الذاتية المقدّسة الفارغة من أيّ مضامين عملية مثمرة ومفيدة؛ كونها تدعو لتأليه وتأبيد الحكم الاستبدادي ـ إلى مجموعة إقطاعات ومافيات حقيقية، لها أفرادها وأزلامها الدائرين في فلكها، وعندئذٍ تطفو على السطح ظاهرة جديدة هي ظاهرة «التشبيح» السياسي والاجتماعي، التي لها دعائمها ورموزها، الذين يعملون على تحويل الدولة إلى مجموعة مزارع وإقطاعات واستثمارات ربحية نفعية خاصة.
وطالما تجري في ظلّ دولة الاستبداد العربية القائمة مثل هذه المظالم المتراكمة، على مستوى انتهاك حقوق، ومصادرة حرّيات، وعدم تحقيق مطالب الناس، فإنه سيجري دوماً إعادة توليد وتخصيب مستمرّ لثقافة وعقلية العنف، بما يؤدّي إلى بروز وظهور أشكال نافرة مقزِّزة من أعمال «العنف الانتحاري الإلغائي»، كما شاهدنا في سوريا والجزائر واليمن والسودان وغيرها. وهذه الدول والمجتمعات المقهورة التي حدثت وتحدث فيها موجات من العنف الانتحاري المتعاظم نلحظ فيها وجود حجم غير مقبول، وكبير للغاية، من التمايزات والفوارق الاجتماعية بين مختلف مكوّناتها الإثنية والدينية والقومية.
من هنا لا يمكن إزالة العنف واستئصال جذوره من نفوس نخبنا وبلداننا ومجتمعاتنا إلاّ عبر السيطرة الكاملة على مواقع وجوده، وقابليات اشتعاله في بيئة مجتمعاتنا العربية، أي بإزالة أسبابه ومقدّماته وجذوره في داخل تربة مجتمعاتنا، على مستوى الفكر والأخلاق والطبائع والسلوك.
ولهذا تكون الدولة الديمقراطية ذات البنية المؤسّساتية القانونية الراسخة والقوية؛ بحكم العراقة والضمانات الدستورية والوعي العقلي الشعبي، هي الوحيدة القادرة على إضفاء طابع الشرعية القانونية على مناخ العنف، عبر التحكُّم بمختلف آليّات ووسائل الضبط والردع لطرق استخدام القوّة ومختلف أدوات العنف، مع حصر احتكار سلطة إصدار الأمر بها بيد أقلّية سياسية منتخبة إرادياً من الناس، وهي التي تتحمَّل مسؤوليات العمل السياسي وغير السياسي، وبناء مناخ عامّ لها مناسب لذلك.
إننا نعتقد أن إشادة هيكل المدنية الراسخ والمتين، من خلال بناء قواعد الديمقراطية المنتجة ضمن سياقاتها الحضارية العربية والإسلامية، مع تحقيق القيم العملية للتنظيم الديمقراطي المدني الحرّ، المرتكز بدوره على تحقيق التوازن المجتمعي، الذي يجعل الإنسان مركز وجوهر وقاعدة عملية التنمية، يبقى هو أفضل مناخ مناسب للتعايش السلمي المتين بين مختلف المكوّنات المجتمعية في بلداننا، وخاصة أن أحد أسباب نشوء العنف قد يكون نتيجة وجود فوارق وتمايزات بين تلك المكوّنات، عبر عدم مراعاة أوضاعها وحقوقها. لهذا في ظلّ النظام المدني الديمقراطي يمكن لتلك المكوّنات أن تشعر بحقوقها العملية، وتنخرط بعد ذلك للمساهمة الإيجابية في بناء وتطوير الحياة المجتمعية المشتركة.
(*) كاتبٌ وباحثٌ في الفكر العربي والإسلامي. من سوريا.