الفكر النابض للعصر الحاضر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين حبيب إله العالمين أبي القاسم المصطفى محمد وعلى آله الطيبين وأصحابه المنتجبين.
السيد فضل الله …الفكر النابض للعصر الحاضر يدور الحديث في هذا المساء حول شخصيةٍ طالما أثَّرت في الساحتين الإسلامية والعربية في العديد من القضايا الدينية والسياسية والاجتماعية وظلت حاضرةً فيها على مدى طويل يزيد على الخمسة عقود المنصرمة.
ألا وهو الفقيدُ الراحل آيةُ الله العظمى العلامةُ المجاهدُ السيد محمد حسين فضل الله (تغمده الله بواسع رحمته).
وفي الحديث عنه سوف أشير إلى بعض المميزات الفكرية والعلمية والعملية على مستويات عديدة مع الاختصار:
1- حديثه وكلامه عن الإسلام
همه وحديثه دائماً عن الإسلام وباسم الإسلام، عمله لأجل الإسلام، لا ترى الطائفية منهجاً في لسانه، ولا الفئوية فكراً في تصرفاته، إنه يتحرك للإسلام كان يسعى لكي يُؤَسلِمَ العالـَمَ، فكراً، وعملاً بالمحبة، والإنسانية، والعمل الصالح الذي يعود على الأمة الإنسانية بالخير والبركة والصلاح .
نعم إن الإسلام هو ما ينبغي أن نتحدث عنه، وما ينبغي أن نطبقه ليكون الفكرَ الخالدَ للأرض التي لا تُطهر إلا بالإسلام الأصيل الذي ينبثق عن الوعي الصادق، الذي يختزن في قلب وعقل المرجع الراحل الكبير (طيب الله ثراه) والذي طالما كان يردد (أنا مُوَكَّلٌ بالإسلام أَتْبَعُه).
2- القرآن منطقه:
لقد كان للقرآن مكانةً خاصةً وكبيرة في حياة السيد فضل الله (قدس سره) واهتم به من أوائل مسيرته الجهادية والعلمية بتفسيره الكبير (من وحي القرآن) الذي اتسم بمحاولة ربط القرآن الكريم في كثير من آياته بالمجتمع وكيفية حل مشاكله عن طريق استنطاقه آياتِ القرآن الكريم.
نعم كان متمسكاً بالثقل الأكبر كمنطقه الأول وملهمِه الأقرب، كان يؤطر للقرآن ليكون الأساسَ، المؤسسُ للعقيدة والفتوى، فكان يرى أن فيه ما يشفي الصدور لو عاد الفقهاء والعلماء والمفكرون إليه كمرجع فكري، وعقائدي، وفقهي.
لذا تراه قد تبنى بعض الفتاوى بكل جرأة منطلقا منه فكراً إنسانياً خالداً كما في فتواه بطهارة كلّ إنسانٍ، المستنبطة من القرآن، فالقرآن لا بد أن يكون الميزانَ لمعرفة الحقَ والباطلَ، وعلى هذا فقد واجه الخرافات والخزعبلات بفكر القرآن الحق، الذي من تمسك به هدي إلى الحق والصراط القويم، والعز الدائم الذي لا يضام.
فالسيد فضل الله – يرى مرجعية القرآن وحاكميته على السنة حيث كان يعتبر القرآن هو الأساس في الاجتهاد.. وأن السنة لا يمكن أن تحكم القرآن بل العناوين القرآنية هي التي تحكم السنة. من هنا انطلقت فتاواه ليكون فقيهاً قرآنياً بامتياز.
ومن تأمل فكره وجده المرجع القرآني العلمي والعملي الذي جسد القرآن عملاً وقولاً، استفاد منه فكرا، واستنبط منه فتاواه، اختلط فيه دمُه ولحمه وجسده فكان منطقه القرآن.
3- الوحدة الإسلامية:
لقد آمن الفقيد الراحل (قدس سره) الإيمان الحقيقي العميق بوحدة الأمة الإسلامية ووجوب العمل لأجل جمعها وتوحيد صفوفها والتأكيد على المساحات المشتركة الكثيرة بين فرقها ومذاهبها سواء أكانت تلك المساحات المشتركة عقدية أو فقهية أو سياسية أو اجتماعية.
وهذا الإيمان بضرورة العمل للوحدة الإسلامية لم يكن عملاً تكتيكياً أو هامشياً – كما هو حالُ بعض علماءِ الأمة الإسلامية الذين ينادون بالوحدة من باب تحصيل المكاسب الفئوية أو الحزبية أو ينادون بالوحدة الإسلامية وهم أبعد ما يكونون عنها، بل دائماً ما يكونون هم المؤججين للفتن المذهبية والطائفية كما شاهدنا ونشاهد اليوم ذلك في العديد من الفضائيات المثيرة للفتن من جميع الاتجاهات الإسلامية ولا أخص فئةً دون فئة أو اتجاهاً دون آخر.
بل كان إيمان السيد فضل الله (قدس سره) بالوحدة الإسلامية مساراً استراتيجياً له وعقيدةً ثابتةً لا تتغير، يشير إليه بوضوح عملُه التاريخي طيلة جهاده العملي والسياسي والثقافي والاجتماعي، بل كان يُحَرّم ويُجَرّم كلَّ أساليبِ الدعوة التي تثير الفتنة والنزاعات بين المسلمين، نظراً إلى كونها خدمة للأيادي الاستعمارية والدول الإستكبارية يقدمها أصحاب هذه التوجهات إليهم مجاناً من حيث لا يشعرون.
ولهذا نراه مسكوناً بالوحدة، بل الوحدة التي تجمع الإنسان بما هو إنسان كما كان يسعى ليؤسس علاقة مشتركة وقوية بين الأديان المختلفة، والوحدة التي تجمع المسلم بما هو مسلم فسعى ليؤسس لأصول مشتركة بين الفرق الإسلامية المختلفة لذا كان يردِّد دائماً: إنَّ ما نَتَّفِقُ عَلَيه، أكثرُ بكثيرٍ مما نَخْتَلِفُ فيه، فلماذا نترُكُه؟ حتى يَنْفَجِرَ الخلافُ في مواطنِ الاختلاف؟
وكان يحث دائماً إلى نبذ الخلاف وإظهار الاتفاق الذي يجمع الأمة كأمة واحدة تشترك في أصولها العامة والثابتة، وكان يحذر من الفرقة والسباب المتبادل الذي لا يزيد الأمة إلا تفرقاً.
كان المصداق الأجلى للوحدة الإسلامية والإنسانية قولاً والمجسد الواقعي لها عملاً، كان همه المقيم في عقله وقلبه.
4- صَدْمُ الواقع:
ومن المميزات التي قلّما توجد في غيره هو تبيانُه ما يراه من آراء سواء على المستوى العقدي أو الفقهي أو السياسي أو غيرها بكل وضوح وعدم خشيته مما يترتب على ذلك من ضجيج أو مخالفة آخرين له في ذلك، وكان يردد كلمته المعروفة (لقد تبانينا أنا والشهيد السيد محمد باقر الصدر على أن نصدم الواقع ونبين آراءنا).
وهذه الخصلة قد تميز بها سماحة السيد (رحمه الله) تميزاً فائقاً فجسَّد فيها قوله تعالى:
{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا}
وكم أفتري عليه من افتراءات وأكاذيب وتحريف لكلماته بسبب ذلك. وكان يُخَوّف بمثل هذه الأساليب الرخيصة كي يثنوه عن رسالته الإسلامية التي أراد إيصالها بالمحبة والإخاء.
لكنه بقي طوداً شامخاً لا تزلزله العواصف ولا تزيحه القواصف وكان مثلُه مثلَ {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}
5- مرجع الكل:
لقد كان سماحة السيد يمثل مرجعَ الكل، وأقصد بالكل، كان مرجعاً فقهياً، وفكرياً، وسياسياً، وأدبياً، وخطيباً، وعارفاً ؛ فكان المرجعَ الفقيهَ، والأصوليَّ المجدِّدَ، والمتكلِّمَ المفوه، والشّاعرَ المرهَف، والعارف العاشق لله الذي جسَّد الحب بأجلى معانيه ومختلف صوره للناس وبين الناس.
هو المرجع المعاصر والعصري الذي يلبي حاجات العصر ويواكب متطلبات الحياة، يستنبط الأحكام بوعي العصر وهمومه فكان لذاك مرجع الحياة والإنسانية والعصر.
والحاصل: أن فقيدنا العزيز كان عالماً عاملاً جليلاً، فقيهاً مجاهداً، نافذ البصر والبصيرة، صُلب الإيمان، لا تأخذه في الله لومة لائم، وأديباً فحلا، وشاعراً حاذقاً، كان نبراساً للعلم والجهاد، كان ملجئَا وموئلَا في الأزمات والمواقف الصعبة التي تحتاج زرافاتٍ ووحداناً من العلماء.
لقد ترك في قلوب أحبائها وأصدقائه وتلامذته والمعجبين به لوعة لا تبرأ، وجُراحاً لا تندمل، وترك فراغاً لا يسد، وثلمة لا ترأب.
ولكنه ترك للعلم نبراساً، وللجهاد متراساً، ولكلمة الحق جهاداً صالحاً، وللصبر عَلَماً مستنيراً.
وترك أجيالا رباها بفكره ومشاعره حتى هزمت أقوى طغاة العالم إن مثل هذا لما يقلل الألم والحزن.
وفي الحقيقة إن الحديث عن شخصياتٍ عاشت لعقود طويلة، في عمقِ الأمة مؤثرةً على أكثر من صعيد، ولها جوانبٌ عديدة – كالسيد فضل الله الذي حمل روحه على كفه طيلة جهاده -، لا يمكن اختزالُه في مؤتمر أو اثنين أو جلسةِ أو اثنتين، بل لا بد من تسليط الأضواءَ على جوانبها وتأثيراتِها الإيجابية، أو حتى بعضِ النقودِ والملاحظاتِ اتجاهَها – لأنه لا توجد شخصيةٌ مهما كبرت لا يمكن أن يوجه نحوَها النقدُ، على مستوى القضايا الفكرية أو العملية إلا شخصيةُ المعصوم عليه السلام.
أقول: لا بد من وضع دراساتٍ لمثل هكذا شخصياتٍ في العديد من المؤلفات والدوريات والبحوث العلمية الموضوعية ومن قبل العديد من الباحثين والمثقفين المنصفين.