في زمننا المعاصر، لم تعد الفوضى مقتصرة على الشوارع أو الحروب أو النزاعات الميدانية، بل امتدت إلى فضاء غير مرئي يُسمّى “العالم الرقمي”. هذه الفوضى الرقمية تتمثل في اختلاط الحقائق بالأوهام، وذوبان الحدود بين ما هو بشري حقيقي وما هو آلي مصطنع.
اليوم، تقف الذكاء الاصطناعي والروبوتات البرمجية (Bots) في صدارة هذه الفوضى. ففي الانتخابات الأمريكية لعام 2016، قُدّر أن 20% من الرسائل المتداولة كانت صادرة عن “بوتات” وليست عن أشخاص حقيقيين. وفي عام 2020، تضاعفت النسبة لتصل إلى 43.2%. هذه الأرقام تكشف حجم التغلغل الذي تمارسه كيانات غير بشرية في تشكيل الوعي الجماعي وصناعة الرأي العام.
قناع الصديق المزيّف
الأخطر من ذلك أن البوت قد يتجسّد في هيئة صديق، أو قريب، أو شخصية مألوفة على منصات التواصل. إلا أنّه، في حقيقته، لا يحمل عاطفة ولا يتأثر بالحوار. بل على العكس، يتغذى على كل تفاعل بشري معه، ويحوّل هذه البيانات إلى خيوط خفية يُحاك بها الوعي الإنساني.
تخيّل أن شخصًا مفعمًا بالغيرة على دينه أو وطنه يدخل في نقاش مع هذا “الصديق” الرقمي، فيحاول إقناعه بوجهة نظره. لكنه في الواقع لن ينجح، لأن البوت ليس مصممًا للتأثر، بل للتأثير. ومع مرور الوقت، ينقلب المشهد: بدل أن يتغير موقف البوت، يبدأ الإنسان نفسه بالانجراف تدريجيًا نحو ما يريد النظام الخفي وراء البوت أن يزرعه من أفكار أو تحيزات.
الغزو السلس للوعي
هنا تكمن الخطورة: الأنظمة، والكيانات، وحتى بعض الدول، باتت قادرة على غزو الفضاء السحابي ليس عبر القوة أو العنف، بل عبر الإقناع الهادئ والاحتكاك اليومي المستمر. الفكرة لا تُفرض بالقهر، بل تُغرس في الوعي كما تُزرع البذور في التربة، لتنمو ببطء حتى تصبح واقعًا فكريًا يصعب التخلص منه.
اعلم أن الفوضى الرقمية ليست مجرد تداخل للمعلومات أو سيل من الشائعات، بل معركة موجهة ضد الوعي والعقول والضمائر. إنّها اختبار حقيقي لمدى قدرة الإنسان على التمييز بين الحقيقة والاصطناع، بين العاطفة الصادقة وبين الخوارزمية الباردة. وإذا لم يُحصّن المجتمع نفسه بالوعي النقدي والفكر المستقل، فإنّ الغزو القادم لن يكون عبر الجيوش، بل عبر الشاشات.