د. أبو القاسم فنائي(*)
و ـ ارتباط «الوجوب» و«الكينونة» والتوصيات المعرفية
ذكرنا أن أحد الأركان الثلاثة لنظرية القبض والبسط هو ركن «التوصية». ولهذا الركن أهمّيةٌ كبيرة؛ إذ من دون هذا الركن لا تصل نظريّة القبض والبسط إلى هدفها وغايتها المنشودة، والمتمثِّلة بإصلاح الفكر الديني. إن القول بالركنين الآخرين لهذه النظرية، أي ركن «التوصيف» وركن «التفسير»، إنما سيؤدّي إلى الفائدة العملية المرجوّة منهما، إذا أمكن على أساسهما تقديم توصية إلى علماء الدين. وفي غير هذه الحالة فإن فائدة نظرية القبض والبسط سوف يتمّ اختزالها في الفائدة العلمية والنظرية، ولن يكون لها أيّ تأثيرٍ في إصلاح الفكر الديني على المستوى العملي. إلا أن ركن التوصية لم يتمّ شرحه وبسطه في نظرية القبض والبسط بالمقدار الكافي، وهناك إبهامٌ في هذا الشأن لا بُدَّ من العمل على إزالته. وفي هذا السياق يمكن طرح الأسئلة التالية:
1ـ هل يمكن على أساس نظرية القبض والبسط التوصية بشيءٍ ما؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب
2ـ ما هي تلك التوصية؟
3ـ كيف يمكن إثبات تلك التوصية؟
إن الإبهام والغموض في ما يتعلق بالسؤال الأوّل يأتي من جهتين: الأولى: إنه يبدو أن شأن النظرية المعرفية هو «التوصيف» و«التفسير»، دون «التوصية»؛ والثانية: إن استنتاج «التوصية» من صُلْب «التوصيف» و«التفسير» يبدو أنه موردٌ من موارد استنتاج «الوجوب» من «الكينونة»، وهي تُعَدّ نوعاً من المغالطة، بمعنى أنه يبدو أن هناك حاجزاً منطقياً يقوم بين الركنين الأوّلين من نظرية القبض والبسط والركن الثالث منها، وإن هذا الحاجز يحول دون استنتاج أيّ توصيةٍ من ركنَيْ التوصيف والتفسير لهذه النظرية. ولسنا بحاجةٍ إلى التذكير بأن آراء الدكتور سروش في مجال «الوجوب» و«الكينونة» تفاقم من هذه الإبهامات، وتزيد الأمر غموضاً.
في ما يتعلَّق بالإبهام والغموض الأوّل تحدَّثنا فيما سبق بالتفصيل، وأثبتنا هناك أن كلاًّ من الفلسفة والمعرفة من العلوم «المعيارية»، وأن خوض فلاسفة العلم وعلماء المعرفة في التوصيف والتفسير يأتي في إطار توفير المقدِّمات والمباني الضرورية للتوصية. وفي الحقيقة إن ما يحصل في هذين الفرعين العلميين عبارةٌ عن اكتشاف «قِيَم» و«معايير» أخلاق التفكير والتحقيق، وإن الرجوع إلى التاريخ والسنّة لكشف هذه المعايير والواجبات والمحظورات أمرٌ في غاية الأهمّية والضرورة.
ولكنْ ما الذي يمكن قوله بشأن الإبهام والغموض الثاني؟ كما رأينا فإن الربط المنطقي بين ركن التوصية وركنَيْ التوصيف والتفسير في نظرية القبض والبسط ليس واضحاً، وقال بعض المنتقدين لنظرية القبض والبسط: إن هذا الأمر يُعتَبَر مصداقاً لاستنتاج «الوجوب» من «الكينونة»، وهو باعتراف الدكتور سروش نفسه نوعٌ من المغالطة المنطقية. وقد أجاب الدكتور سروش عن هذا الإشكال قائلاً: «إن التوصية بتنقيح مباني المعرفة الإنسانية… ليس هناك وجوبٌ منبثقٌ عن الكينونة، كما تصوَّر بعض الذين لا يُحْسِنون القراءة. إن هذا الوجوب منطقيٌّ، وهو ـ بطبيعة الحال ـ قابلٌ لأن ينبثق ويُستَنْتَج عن الكينونة الحقيقية. هناك بعض الوجوبات القِيَمية التي لا تستنتج من الكينونات الحقيقية. إن الذي يريد أن يكوِّن فهماً صحيحاً عن الشريعة، والذي يُدرك أن الفهم الصحيح رهنٌ بامتلاك المبادئ الخارجية الصحيحة، عليه أن يجدّ في تصحيح وتنقيح الركن الخارجي من معرفته الدينية. والذي يُدرك أن هذا الركن الخارجي من المعرفة الدينية (أو في الحدّ الأدنى تلك التي أضحَتْ قواعد ومباني له لقبول الدِّين وتنظيم توقُّعاته من الدِّين، والتي تشمل جزءاً كبيراً من المعارف البشرية) يتعرَّض بعضها أو جميعها للتحوُّل، ألا يجب أن يستخبر عنها في كلّ عصرٍ، وأن يطّلع بشأنها على أمّهات الآراء البشرية الجديدة؟»([1]).
وعليه فإننا من وجهة نظر الدكتور سروش نتعاطى مع نوعين مختلفين من «الواجبات»: الأوّل: الواجبات المنطقية؛ والآخر: الواجبات القِيَميّة. وإن «الواجب» المنطقي يُستَنْتَج من «الكينونة» الحقيقية، وإن هذا الاستنتاج ليس مغالطةً، في حين أن «الواجب» القِيَميّ ليس كذلك. إن الدكتور سروش في نظرية القبض والبسط لا يزيد على ذلك، ولا يبيِّن الفرق بين هذين النوعين من «الوجوب»، ولماذا يكون الاستنتاج في أحدهما من «الكينونة» مغالطةً، ولا يكون كذلك في المورد الآخر؟ إن الصيغة المنطقية لاستدلاله كما يلي:
1ـ يريد (أ) أن يكون له فهمٌ صحيح للشريعة.
2ـ إن الفهم الصحيح للشريعة رهنٌ بتحصيل المبادئ الخارجية الصحيحة.
ـ «يجب» على (أ) أن يجدّ في تصحيح وتنقيح الركن الخارجي من معرفته الدينية.
إن مضمون هذا الاستدلال هو أن لـ (أ) هدفاً وغاية منشودة، وأنه للوصول إليها مضطرٌّ لتوظيف الوسائل والأدوات المناسبة. إن نظرية القبض والبسط لا تقول لـ (أ): «يجب» عليك أن تختار هذا الهدف، وإنما تُريه الطريق الموصِل إلى ذلك الهدف. وفي الحقيقة إن اختيار الهدف ليس محكوماً لقواعد العقلانية الآلية. وعليه فإن «الوجوب» الذي نتعاطى معه هنا هو «وجوبٌ» قِيَميٌّ؛ وفي الوقت نفسه آليٌّ([2]). إن هذا الاستدلال ليس مغالطةً؛ إذ لم يُستَنْتَج منه أيّ «وجوب» من أيّ «كينونة» بَحْتة وخالصة، بل إن «الوجوب» الموجود في نتيجة الاستدلال إنما يُستَنْتَج من انضمام مقدّمة توصيفية (فلسفية) إلى مقدّمة قِيَميّة مشتملة على «وجوب». يمكن من الناحية المنطقية إثبات واستنتاج نتيجة قِيَميّة ومعيارية (وجوب قِيَمي ناظر إلى الوسيلة) من خلال التركيب بين وجوبٍ قِيَميّ ناظرٍ إلى «الهدف» وبين «كينونة»، بمعنى أن هذا الاستنتاج لا يُعَدّ مغالطةً من الناحية المنطقية. فمثلاً: لو أردنا الوصول إلى فهمٍ صحيح للشريعة يمكن لنا من طريق إضافة الوجوب الناظر لهذا الهدف إلى التفسير الذي تضعه نظرية القبض والبسط بين أيدينا للوصول إلى هذا الهدف أن نستنتج «وجوب» تنقيح وتصحيح الركن الخارجي من المعرفة الدينية.
وبعبارةٍ أخرى: إن هذا «الوجوب» يبيِّن واحداً من معايير العقلانية العملية، وإحدى قواعد أخلاق التحقيق والتفكير في المعرفة الدينية، أو يوصي بها. ومن هذه الناحية لا فرق بينه وبين سائر «الوجوبات» القِيَميّة. وبطبيعة الحال إن «الوجوبات» القِيَميّة تنقسم إلى قسمين: «وجوبات» آلية (ناظرة إلى الوسيلة)؛ و«وجوبات» غير آلية (ناظرة إلى الهدف)، إلاّ أن تسمية «الوجوبات» الآلية بـ «الوجوبات» المنطقية والحقيقية ينطوي على نوعٍ من التسامح في التعبير؛ فإن هذه «الوجوبات» لا تختلف عن سائر «الوجوبات» القِيَميّة. فلو كانت جميع «الوجوبات» اعتباريّةً كانت هذه «الوجوبات» اعتباريةً أيضاً، وإذا كانت حقيقية كانت هذه «الوجوبات» حقيقيةً أيضاً. وإن علم المنطق ـ كما سبق أن ذكرنا ـ علمٌ معياريّ وقِيَميّ.
وعليه لو أريد لاستدلال الدكتور سروش أن يكون معتَبَراً من الناحية المنطقية فلا بُدَّ من تنسيقه على النحو التالي:
1ـ «يجب» أن يكون لـ (أ) فهمٌ صحيح للشريعة.
2ـ إن الفهم الصحيح للشريعة رهنٌ بامتلاك المبادئ الخارجية الصحيحة.
ـ «يجب» على (أ) أن تجدّ في تصحيح وتنقيح الركن الخارجي من معرفتها الدينية.
بَيْدَ أننا نعلم أن مجرّد «إرادة» الهدف لا يبرِّر وجوب وضرورة «الوسيلة» الموصلة إلى ذلك الهدف، إلاّ على أساس المنطق القائل بأن «الغاية تبرِّر الوسيلة». وعليه فإن الاستدلال مورد البحث بحاجةٍ إلى مقدّمةٍ أخرى تقول:
3ـ للوصول إلى أيّ هدفٍ «يجب» اختيار أفضل الوسائل المناسبة والمسموح بها للوصول إليها.
يمكن تتبُّع اختلاف هذين النوعين من «الوجوب» في المؤلَّفات الأخرى للدكتور سروش. فقد اعتبر استنتاج «الوجوب» من «الكينونة» ـ في كتابه (دانش وأرزش) ـ نوعاً من المغالطة المنطقية الناظرة إلى «صورة» الاستدلال. إلاّ أن الدليل الذي يُذْكَر لإثبات كون هذا الاستنتاج مغالطةً يُثْبِت أن هذه المغالطة ناظرةٌ إلى «مادّة» الاستدلال، لا إلى «صورته». طبقاً لهذا الدليل إنما يُعَدّ هذا الاستنتاج مغالطةً من حيث نقضه لهذه القاعدة المنطقية القائلة: «لا يجب أن تشتمل نتيجة الاستدلال على شيءٍ لا يوجد ضمن مقدّماته»، أو «إن نتيجة الاستدلال المعتبر تابعةٌ دائماً لأخسّ المقدّمات، أو مساويةٌ لأخسّ المقدّمات».
إلاّ أنه لو أراد شخصٌ أن يستفيد من نقض هذه القاعدة المنطقية، بوصفه دليلاً لصالح اعتبار استنتاج «الوجوب» من «الكينونة» مغالطةً، لن يتمكَّن في مثل هذه الحالة من التفريق بين «الوجوب» المنطقي و«الوجوب» القِيَميّ؛ إذ لن يخرج الأمر من إحدى حالتين: إما إن يكون «الوجوب» الموجود في النتيجة حاضراً في إحدى مقدّمات الاستدلال، ففي مثل هذه الحالة لا تنقض القاعدة المنطقية المذكورة، ولا يكون الاستدلال مورد البحث مغالطةً، سواء كان ذلك «الوجوب» منطقياً أو قِيَميّاً؛ أو أن لا يكون «الوجوب» الموجود في نتيجة الاستدلال موجوداً في أيّ واحدٍ من مقدّمات الاستدلال، فعندها يتمّ نقض القاعدة المنطقية المذكورة، ويكون الاستدلال مغالطةً، سواء كان ذلك «الوجوب» منطقياً أو قِيَميّاً.
طبقاً لهذه الرؤية «لا يمكن» استنتاج القضايا المشتملة على «الوجوب» من القضايا المشتملة على «الكينونة». ولكنْ «يمكن» من الناحية المنطقية استنتاج هذه القضايا من تركيب القضايا المشتملة على «الكينونة» والقضايا المشتملة على «الوجوب»، شريطة مراعاة سائر الضوابط الحاكمة على الاستدلال بطبيعة الحال. فاستنتاج النوع الأوّل ممنوعٌ من الناحية المنطقية، بينما الاستنتاج من النوع الثاني مسموحٌ به من الناحية المنطقية. وعلى هذا الأساس إذا كان هناك من فرقٍ فيجب أن يكون بين الوجوبات «الفرعية» أو «الاشتقاقية»([3]) والوجوبات «الأصلية» أو «الابتدائية»([4])، وليس بين «الوجوبات» المنطقية و«الوجوبات» القِيَميّة. إن «الوجوب» أو «الوجوبات» الابتدائية، سواء أكانت منطقيةً أم قِيَميّةً، لا تُستَنْتَج ـ من الناحية المنطقية ـ من «الكينونة» (أو مجموعة من الكينونات) الخالصة والبَحْتة، إلاّ أن «الوجوبات» الاشتقاقية ـ سواء أكانت منطقيةً أو قِيَميّةً ـ هي من الناحية المنطقية قابلةٌ للاستنتاج من «الكينونة» بالإضافة إلى «الوجوب». ومن الجدير بالذكر هنا أيضاً أنه لا يوجد أيّ فرقٍ بين «الوجوب» و«عدم الوجوب» من هذه الناحية.
وبعبارةٍ أخرى: إن الاعتبار المنطقي للأدلة التي يكون لـ «الوجوب» حضورٌ في نتائجها رَهْنٌ بأن يكون هناك «وجوبٌ» من سنخ ذلك «الوجوب» المذكور في النتيجة، حاضرٌ في إحدى مقدّمات الاستدلال أيضاً، سواء أكان «الوجوب» مورد البحث منطقياً أم قِيَميّاً. إن المقدّمات المشتملة على «الوجوب» إما أن تكون قابلةً للتأييد والإثبات من خلال استدلالٍ آخر تكون إحدى مقدّماته مشتملةً على «الوجوب» أم لا. وفي الحالة الأولى يكون ذلك «الوجوب» «وجوباً» فرعياً واشتقاقياً، يُستَنْتَج بمساعدةٍ من «الكينونة» من «وجوبٍ» آخر، وهذا الاستدلال يُعَدّ معتبراً من الناحية المنطقية، ولا يكون مغالطةً. وأما في الحالة الثانية فإن تلك المقدّمة تشتمل على«وجوبٍ» أصلي أو «وجوبٍ» ابتدائي لا يقبل أن يُستَنْتَج من أيّ «وجوبٍ» آخر. وعليه لا يوجد بين «الوجوبات» المنطقية و«الوجوبات» القِيَميّة أيّ فرقٍ من هذه الناحية أيضاً، بمعنى أن هناك في المنطق وفي الأخلاق والفقه والحقوق وسائر العلوم القِيَميّة والمعيارية «وجوبات» و«محظورات» لا تقبل الاستنتاج من «الكينونات» و«المعدومات»، وإن الذين يستنتجون هذه «الوجوبات» و«المحظورات» من «الكينونات» و«المعدومات» إنما يرتكبون مغالطةً. ومن جهةٍ أخرى هناك في جميع العلوم المعيارية «وجوباتٌ» و«محظورات» قابلةٌ للاستنتاج من «الكينونة» أو «العدم» مضافاً إلى «الوجوب» أو «الحَظْر»، دون أن يكون في استنتاجها مغالطةٌ. إن «الوجوبات» و«المحظورات» البديهية وغير الاستنتاجية إنما تقبل الكشف والإثبات من طريق المشاهدة، بمعنى أنها تكتسب إثباتها الأوّلي وفي بادئ النظر من هذا الطريق.
وبعبارة أدقّ: إن جميع «الوجوبات» قِيَميّةٌ، وكلّ «وجوب» يقوم على أكتاف «كينونة»، ولكنْ ليس كلّ «وجوب» ينبثق عن أيّ «كينونة»، وإنما بعض «الوجوبات» تنبثق عن بعض «الكينونات»، بمعنى:
1ـ لا يوجد بين «الوجوبات» و«الكينونات» ارتباطٌ «منطقي ـ إنتاجي»، ولكنّ
2ـ «الكينونات» تنقسم إلى: «ذات صلة»؛ و«غير ذات صلة». وعليه
3ـ إن لبعض «الكينونات» ارتباطاً «وجودياً» و«معرفياً» ببعض «الوجوبات».
4ـ يمكن اكتشاف أيّ «وجوب» يقوم على أكتاف أيّ «كينونة» من طريقين، وهما:
أـ المشاهدة العقلانية.
ب ـ الاستدلال الذي تكون إحدى مقدّماته قضيةً شهوديّة تبيِّن أيّ «وجوب» يرتبط بأيّ «كينونة»، أو يقوم على أكتاف أيّ كينونة.
وعليه فإن تقسيم «الوجوبات» إلى: حقيقية؛ واعتبارية، أو منطقية؛ وقِيَميّة، غير مبرَّر.
لا يخفى أن تلك القاعدة المنطقية التي يُعَدّ استنتاج «الوجوب» من «الكينونة» على طبقها مغالطةً هي قاعدةٌ عامّة بشكلٍ كامل، ولا تختصّ أبداً بالعلاقة القائمة بين «الوجوب» و«الكينونة». كما أن استنتاج «الكينونة» من «الوجوب» الخالص أو مجموعة من «الوجوبات» البَحْتة يُعَدّ مغالطةً أيضاً. وإن استنتاج النتائج العلمية من المقدّمات الفلسفية البَحْتة، وبالعكس، واستنتاج «المحظور» من «الكينونة»، يُعَدّ ـ استناداً إلى هذه القاعدة المنطقية ـ من المغالطة أيضاً. وعلى هذا الأساس لا خصوصية لـ «الوجوب»، ولا لـ «الكينونة»، ولا لاستنتاج «الوجوب» القِيَميّ من «الكينونة» الحقيقية، ولا حتّى لاستنتاج «الوجوب» من «الكينونة». إن الذي يحظى بالأهمّية من الناحية المنطقية هو حضور نتيجة الاستدلال ضمن المقدّمات أم لا. وإذا كان هناك في نتيجة الاستدلال شيءٌ لا يوجد ضمن مقدّمات ذلك الاستدلال كان ذلك الاستدلال مغالطةً، أيّاً كان ذلك الشيء.
وعليه لا يمكن استنتاج أيّ «كينونة» من أيّ «كينونة» أيضاً، بمعنى أن بين مختلف فروع المعرفة «حاجزاً منطقياً»، وهذا ما يعترف به الدكتور سروش أيضاً([5]). وإن الحاجز المنطقي بين مختلف فروع المعرفة ـ أي بين العلم والفلسفة، والعلم والأخلاق، والفيزياء والكيمياء، وما إلى ذلك ـ يقتضي أن يكون إمكان قيام الارتباط المنطقي بين فرعين معرفيين مختلفين من خلال تركيب قضايا تلكما المعرفتين فقط. بَيْدَ أن هذا يستلزم في الحدّ الأدنى أن تكون هناك قضية بديهية (غير استنتاجية) في كلّ واحدٍ من تلك الفروع يمكن اكتشافها من طريق غير الاستدلال والاستنتاج؛ كي يمكن استنتاج نتائج جديدة ومعتبرة على المستوى المنطقي من خلال تركيب تلك القضية بالقضايا الأخرى التي يتمّ الحصول عليها من الفروع المعرفية الأخرى. إن هذه القضية أو القضايا البديهية تعمل في الحقيقة على تقسيم «الكينونات إلى قسمين: كينونات «ذات صلة»؛ وكينونات «غير ذات صلة».
وعليه فإن عدم صوابية بعض الاستنتاجات الأخلاقية والقِيَميّة من «الكينونات» لا يعود إلى عدم وجود أيّ صلةٍ أنطولوجية أو معرفية بين «الكينونة» و«الوجوب»، وكون هذا الارتباط اعتبارياً، بل يعود إلى أن «الكينونة» المذكورة في مقدّمات ذلك الاستدلال «غير ذات صلة من الناحية الأخلاقية». خُذْ مثلاً هذا الاستدلال المطروح لتبرير وإثبات إحدى القواعد الأخلاقية للنازية:
1ـ إن العِرْق الآري أذكى من سائر الأعراق الأخرى «الكينونة».
2ـ العِرْق الأقوى هو الذي «يجب» أن يتولّى حكم العالم.
ـ إذن «يجب» على العِرْق الآري أن يحكم العالم.
إن نتيجة هذا الاستدلال من الناحية الأخلاقية غير صائبةٍ؛ لأنها لا تنسجم مع مشاهداتنا الأخلاقية. وعليه يكون هذا الاستدلال مشتملاً على مغالطةٍ. فلا نستطيع من خلال المقدّمة العلمية القائلة بأن «العِرْق الآري أذكى من سائر الأعراق» ـ لو سلَّمنا أنها صادقةٌ ـ أن نستنتج «وجوب أن يتولّى العِرْق الآري حكم العالم». إلاّ أن الإشكال في هذا الاستدلال لا يعود إلى عدم وجود صلة بين «الكينونة» و«الوجوب»، بل يعود إلى أنه من الناحية الأخلاقية لا صلة لمستوى ذكاء عِرْقٍ خاصّ بامتلاكه الحقّ في حكم العالم، فهو من المعايير «غير ذات الصلة من الناحية الأخلاقية»، بمعنى أنه من الناحية الأخلاقية لا وجود لأصلٍ يقول: «كلّ عِرْقٍ أذكى هو الذي «يجب» أن يحكم العالم».
لو كان مثل هذا الأصل موجوداً، وكان قابلاً للكشف والتأييد من طريق المشاهدات الأخلاقية، لم يكن الاستدلال المذكور مغالطةً. ومضافاً إلى ذلك هناك الكثير من الواقعيات («الكينونات») الموجودة التي تعتبر حياديةً من الناحية الأخلاقية، ولا تقتضي أيَّ شيءٍ في حدّ ذاتها. فإن الواقعية القائلة: «إن السيانور سمٌّ قاتل» ـ على سبيل المثال ـ لا تقتضي في حدّ ذاتها أيّ حكمٍ أخلاقي، ولا يقوم على أكتاف هذه «الكينونة» أيّ «وجوب» أو «حَظْر» أخلاقيّ، بمعنى أنه لا يمكن من هذه القضية الحقيقية القائلة بأن «السيانور قاتلٌ» لوحدها أن نستنتج «وجوب تناوله»، ولا يمكن أن نستنتج منها «وجوب عدم تناوله». فإن كلاًّ من هاتين النتيجتين إنما تكون معتبرةً إذا كان هناك مقدّمةٌ أخلاقية تشتمل على «وجوب» أو «حَظْر» يقول: «يجب الانتحار» أو «يحرم الانتحار». فلو كانت هذه المقدّمات موجودةً أمكن من خلال ضمّها إلى تلك المقدّمة العلمية ـ التجريبية أن نصل إلى نتيجةٍ أخلاقية معتبرة بشكلٍ مطلق.
وبعبارةٍ أخرى: إن الحكم الأخلاقي القائل: «يحرم تناول السيانور» حكمٌ فرعيّ واشتقاقيّ، أما الحكم الأخلاقيّ القائل: «يحرم الانتحار» فيبدو أنه من الأحكام الأخلاقية الأصلية. وإن الاختلاف بين هذين الحكمين يكمن في أن كون السيانور قاتلاً لا يقتضي في حدّ ذاته أيّ «وجوبٍ» أو «حَظْرٍ» أخلاقيّ، في حين أن «الانتحار» يقتضي في حدّ ذاته «حَظْراً» أخلاقياً، بمعنى أن هناك بين «الانتحار» و«الحَظْر» ارتباطاً وجودياً، لا نراه موجوداً بين «الانتحار» و«الوجوب»؛ فالانتحار في حدّ ذاته يقتضي «الحَظْر». وعليه فإن القضية القائلة: «إن تناول السيانور انتحارٌ» إنما نستنتج منها «حَظْر تناول السيانور من الناحية الأخلاقية» و«أنه يحرم تناوله»، ويكون مثل هذا الاستنتاج معتبراً من الناحية المنطقية، ولا ينطوي على أيّ مغالطةٍ، إذا ضمَمْناها إلى مقدّمة تقول: «الانتحار محرَّمٌ من الناحية الأخلاقية» أو «يحرم الانتحار». إن ارتباط الانتحار بالحَظْر الأخلاقي (أو الحرمة الأخلاقية) ارتباطٌ وجودي وميتافيزيقي لا يمكن اكتشافه إلاّ من طريق المشاهدة والتجربة الأخلاقية، وإن الاعتقاد بمثل هذا الحكم الأخلاقي يكتسب تبريره الأوّلي وفي بادئ النظر من هذه المشاهدة. وعليه في ما يتعلَّق بالأحكام الأخلاقية الأصلية والأساسية والابتدائية لا يوجد هناك أيُّ استنتاجٍ، فضلاً عن أن تكون هناك مغالطةٌ في البين.
وعلى هذا الأساس إذا أرَدْنا إثبات نتيجةٍ فلسفية من خلال مقدّمة علمية منطقياً فإن ذلك إنما يكون ممكناً إذا ضمَمْنا تلك المقدّمة العلمية إلى مقدّمةٍ فلسفية، وإذا كانت تلك المقدّمة الفلسفية بحاجةٍ إلى إثباتٍ وجب علينا التمسُّك بأدلّةٍ أخرى تشتمل على مقدّمةٍ أو مقدّماتٍ فلسفية، وبالتالي لا بُدَّ من الوصول إلى مقدّمةٍ أو مقدّماتٍ تقبل التبرير والإثبات أو التأييد من غير طريق الاستدلال المنطقي([6]). أرى أن هذه المقدّمة أو المقدّمات يتمّ «اكتشافها» و«إثباتها» في العلوم التجريبية من طريق التجربة الحسّية، وفي الفلسفة يتمّ اكتشافها وإثباتها من طريق التجربة أو المشاهدة الفلسفية والعقلانية، وفي الأخلاق من طريق التجربة والمشاهدة الأخلاقية، وفي العرفان من طريق التجربة والمشاهدة العرفانية، وفي مجال الدين من طريق المشاهدة أو التجربة الدينية، وهكذا.
وعليه فإن دفاع الدكتور سروش عن «الوجوب» المذكور في نظرية القبض والبسط إنما يكون مقبولاً في إحدى حالتين، وهما:
1ـ أن يكون «الوجوب» مورد البحث «وجوباً» فرعيّاً واشتقاقيّاً يتمّ استنتاجه من خلال ضمّ «وجوب ابتدائيّ وأصليّ».
2ـ إن هذا «الوجوب» «وجوبٌ» ابتدائيّ وأصليّ، لا يكون إدراكه ومعرفته وتصديقه وإثباته استنتاجياً، وعليه فإن الاعتبار المنطقي للاستنتاج مورد البحث لا يعود إلى أن ذلك «الوجوب» منطقيٌّ أو حقيقيّ، وإنما لأن ذلك «الوجوب» إما أن يكون «وجوباً» فرعيّاً واشتقاقيّاً قد تمّ استنتاجه من «وجوبٍ» أصليّ، وإما أن يكون سببه أن ذلك «الوجوب» «وجوبٌ» أصليّ وغير اشتقاقيّ. وإن «الوجوبات» المنطقية، مثل سائر «الوجوبات» القِيَميّة، تنقسم إلى قسمين، وهي: «وجوبات» أصليّة ورئيسة أو غير استنتاجية؛ و«وجوبات» فرعيّة أو استنتاجيّة. وإن علم المنطق في الأساس ليس شيئاً غير أخلاق التفكير. ولكنْ يبقى هذا السؤال عالقاً: «إذا لم يكن «الوجوب» مورد البحث بديهياً فمن أيّ «وجوبٍ» يمكن استنتاجه؟ وإذا كان بديهياً فما هو الدليل على بداهته؟»([7]).
من الواضح عندنا أن «الوجوب» يدلّ دائماً على مفهومٍ أو رابطة «معيارية» أو «قِيَميّة»، وإن «الوجوبات» المنطقية «معيارية» و«قِيَميّة» أيضاً. وإن علم المنطق من العلوم المعيارية والقِيَميّة أيضاً. ولذلك لا يوجد أيّ فرقٍ بين «الوجوب» الأخلاقي و«الوجوب» المنطقي؛ فإن لهذين الأمرين أحكاماً واحدة، فإذا كان استنتاج أحدهما من «الكينونة» مغالطةً كان الأمر كذلك بالنسبة إلى استنتاج الآخر، وإذا لم يكن استنتاج أحدهما من «الكينونة» مغالطةً لم يكن الأمر كذلك بالنسبة إلى استنتاج الآخر أيضاً.
أما الدليل الثاني الذي يمكن العثور عليه في سائر كتابات الدكتور سروش لصالح هذا الادّعاء فيقوم على الفصل بين الأفكار الحقيقية والأفكار الاعتبارية أو التصوُّرية. ويمكن تبويب هذا الدليل على النحو التالي:
1ـ إن «الوجوب» المنطقي «وجوبٌ» «حقيقي»، وإن «الوجوب» القِيَمي «وجوبٌ» «اعتباريّ». و
2ـ إن استنتاج «الوجوب» الحقيقي من «الكينونة» الحقيقية ليس مغالطةً، في حين أن استنتاج «الوجوب» الاعتباري عن «الكينونة» الحقيقة مغالطةٌ([8]).
وفي مورد هذا الفصل والتفكيك والآثار والنتائج المترتِّبة عليه هناك الكثير ممّا قيل، وهناك الكثير ممّا يمكن أن يُقال. إلاّ أن الخوض في هذا الموضوع هنا يُخْرِجنا عن غايتنا الرئيسة. ومع ذلك فإن ذكر بعض المسائل المرتبطة ببحثنا مباشرةً لا يخلو من الفائدة.
المسألة الأولى: إن مجرّد كون «الوجوب» حقيقياً لا يُثبت إمكان استنتاجه من «الكينونات» الحقيقية من الناحية المنطقية؛ إذ إن مفهوم «الوجوب» على كلّ حالٍ ـ سواء أكان حقيقياً أم اعتبارياً ـ يختلف عن مفهوم «الكينونة». إن مثل هذا الاستنتاج يبتلي بذات المحذور المنطقي الذي يبتلي به استنتاج «الوجوب» الاعتباري من «الكينونة» الحقيقية. لا موضوعية لحقيقية أو اعتبارية «الوجوب» هنا، ولن يكون له تأثيرٌ في القيمة والمنزلة المنطقية للاستنتاج.
قد يُقال: إن «الوجوب» الحقيقي بحَسَب التعريف هو نوعٌ من «الكينونة»، وعليه لو استنتج شخص «وجوباً» حقيقياً من «كينونةٍ» حقيقية يكون في الواقع قد استنتج «كينونةً» حقيقية من «كينونةٍ» حقيقية أخرى. وإن استنتاج «كينونة» حقيقية من «كينونة» حقيقية ممكنٌ وجائز من الناحية المنطقية.
إلاّ أن هذا الكلام لا يخلو من التسامح أيضاً. صحيحٌ أن «الوجوب» الحقيقي يدلّ على نوعٍ خاصّ من العلاقة العينية والتكوينية، إلاّ أن هذه العلاقة غير تلك العلاقة التي تدلّ عليها «الكينونة» الحقيقية. وعليه فإن «الوجوب» الحقيقي و«الكينونة» الحقيقية ليسا مترادفين، ولا يمكن استبدال أحدهما بالآخر، أو استعمال أحدهما في موضع الآخر([9]). ومضافاً إلى ذلك فإنه طبقاً لتلك القاعدة المنطقية العامة لا يجوز استنتاج أيّ «كينونةٍ» حقيقية من أيّ «كينونةٍ» حقيقية.
المسألة الثانية: إن «الخلط بين الأمور الحقيقية والاعتبارية» أو «مغالطة الحقيقة والاعتبار» هي غير «مغالطة الوجوب والكينونة»، وغير «مغالطة أصحاب النزعة الطبيعية». إن هذه ثلاثة مُدَّعيات مختلفة، وإن الخلط بينها واعتبارها أمراً واحداً يُعَدّ في حدّ ذاته نوعاً من المغالطة. إن هذه المغالطات الثلاثة، لو سلَّمنا بكونها مغالطات، هي من الناحية المفهومية متخالفةٌ، ولكنّ النسبة بينهما من حيث المصداق هي العموم والخصوص من وجهٍ؛ وذلك لأن نسبة المفاهيم أو القضايا الاعتبارية إلى المفاهيم والقضايا القِيَميّة، ونسبة هذين الأمرين إلى مفهوم «الوجوب» أو القضايا المشتملة على «الوجوب» هي العموم والخصوص من وجهٍ([10]).
إن مغالطة الحقيقة والاعتبار ناظرةٌ إلى استنتاج القضايا الاعتبارية من القضايا الحقيقية، وبالعكس، وتقول بعدم صحّة وصوابية هذا الاستنتاج. إن المهمّ في هذا المورد ليس هو «الموضوع» أو «المحمول» في القضية مورد البحث، بل «ارتباط» الموضوع والمحمول؛ لأن هذا الارتباط في القضية هو الذي يكون إمّا حقيقياً (بمعنى أنه يقوم بين الموضوع والمحمول حقيقة وبغضّ النظر عن اعتبار الفرد أو الجماعة)؛ أو اعتبارياً (بمعنى أنه غير موجودٍ حقيقة، ولكنه يكون من قِبَل اعتبار الفرد أو الجماعة، حيث يفترضان وجوده)([11]). تقول هذه المغالطة: لو كان الارتباط القائم بين الموضوع والمحمول في قضيةٍ اعتبارياً لما أمكن من ـ الناحية المنطقية ـ استنتاج تلك القضية من القضايا التي يكون الارتباط بين موضوعها ومحمولها حقيقيّاً، والعكس صحيحٌ أيضاً. وفي هذه الحالة لن يكون لخصوصية الموضوع والمحمول، وكذلك لـ «وجوب» أو «كينونة» هذه العلاقة، أيّ تأثير في صحّة أو عدم صحّة الاستنتاج. إن استنتاج «الوجوبات» الاعتبارية من «الوجوبات» و«الكينونات» الحقيقية ينطوي على ذات المغالطة التي تكون في استنتاج «الكينونات» الاعتبارية من «الوجوبات» و«الكينونات» الحقيقية. وعلى هذا الأساس فإن الذين يقسِّمون «الوجوبات» إلى قسمين: حقيقي؛ واعتباري، لا مندوحة لهم من تقسيم «الكينونات» أيضاً إلى: حقيقية؛ واعتبارية؛ إذ بالإمكان اعتبار كلٍّ من: «الوجوب» و«الكينونة» في الموضع الذي لا يكون لهما وجود فيه بحَسَب الواقع، ويحصلان بذلك على وجودٍ اعتباري.
إلاّ أن مغالطة «الوجوب» و«الكينونة» تنظر إلى استنتاج القضايا المشتملة على «الوجوب» من القضايا المشتملة على «الكينونة». إن هذه المغالطة وإنْ كانت ناظرةً إلى ارتباط القضايا، ولكنْ لا شأن لها بكون هذا الارتباط حقيقياً أو اعتبارياً، وكما سبق أن رأينا فإن هذه المغالطة تبيِّن في الحقيقة مصداقاً خاصّاً من قاعدةٍ منطقية عامّة، والتي على طبقها لا يمكن أن تشتمل نتيجة الاستدلال على شيءٍ ليس له حضورٌ في مقدّمات ذلك الاستدلال. وإن هذه القاعدة المنطقية العامّة تصدق في مورد كلّ استنتاجٍ، سواء كان من قبيل: استنتاج القضايا الحقيقية من القضايا الحقيقية، أو من قبيل: استنتاج القضايا الاعتبارية من القضايا الاعتبارية، أو من قبيل: استنتاج القضايا الحقيقية من القضايا الاعتبارية، أو من قبيل: استنتاج القضايا الاعتبارية من القضايا الحقيقية، ففي جميع هذه الموارد إذا كانت النتيجة أقوى من المقدّمات، وكانت مشتملةً على شيءٍ ليس له حضورٌ في مقدّماتها، فإن الأمر فيها سينطوي على مغالطةٍ([12]).
ولكنْ خلافاً لهاتين المغالطتين، اللتين تتعلَّقان بـ «التصديق» و«الاستدلال»، فإن مغالطة أصحاب النزعة الطبيعية تتعلَّق بـ «التعريف» و«التصوُّر». إن الذين يدَّعون وجود هذه المغالطة يقولون: إن «تعريف» المفاهيم المعيارية والقِيَميّة بالمفاهيم غير المعيارية وغير القِيَميّة ينطوي على مغالطةٍ؛ لأن المفاهيم القِيَميّة إما «بسيطة» وغير قابلة للتعريف مطلقاً؛ أو أنها قابلةٌ للتعريف طبقاً للمفاهيم القِيَميّة فقط. في الحالة الأولى يكون تعريف المفاهيم القِيَميّة غير صحيحٍ مطلقاً (مغالطة)، في حين أنه في الحالة الثانية ينحصر عدم صوابية تعريفها في إطار المفاهيم غير القِيَميّة (مغالطة) فقط([13]). وبطبيعة الحال إذا كان التعريف مغالطةً فإن الاستدلال القائم على ذلك التعريف سيفقد بدَوْره تبريره واعتباره المنطقيّ، إلاّ أن المغالطة في مقام التصوُّر والتعريف يختلف عن المغالطة في مقام التصديق والاستدلال. يرى (جورج إدوارد مور) ـ فيلسوف الأخلاق الإنجليزي، الذي سجل اكتشاف هذه المغالطة باسمه ـ أن المفاهيم القِيَميّة، من قبيل: مفهوم الحُسْن، مفاهيم «عينيّة» و«حقيقية»، و«ناظرةٌ إلى العالم الواقع في خارج الذهن» و«معبِّرةٌ عن الأوصاف الواقعية». وهو يرى أن القضايا المشتملة على هذه المفاهيم قضايا حقيقية ومعرفية، وقابلة للصدق والكذب. يقول (مور) في الوقت نفسه: إن «تعريف» هذه المفاهيم بالمفاهيم الطبيعية أو ما وراء الطبيعية مغالطةٌ؛ إذ يرى أن هذه المفاهيم «بسيطة» وغير قابلة للتعريف([14]).
يتمّ تقسيم العلوم والمُدْرَكات البشرية من قِبَل بعض الفلاسفة المسلمين إلى قسمين: حقيقية؛ واعتبارية([15]). فإن العلوم التجريبية والمنطق والرياضات والفلسفة والميتافيزيقا ونظائرها من وجهة نظر هؤلاء تتعلَّق بالمدركات الحقيقية، وإن علوماً من قبيل: الأخلاق والحقوق والفقه تتعلَّق بالمدركات الاعتبارية. وفي المدركات الحقيقية تكون «النسبة» بين الموضوع والمحمول «حقيقية»، وأما في ما يتعلَّق بالمدركات الاعتبارية فإن هذه النسبة ستكون «اعتباريةً»، أي تابعةً للاعتبار. يرى هؤلاء الفلاسفة أن المدركات الاعتبارية تعتبر في الحقيقة أكاذيب نافعة، بمعنى أنها كاذبةٌ دائماً، إلاّ أن قبولها بوصفها قضايا واقعية وصادقة يشتمل على منافع وفوائد تبرِّر القول بها من الناحية العملية.
وبعبارةٍ أخرى: إن الإدراك الاعتباري عبارةٌ عن: نسبة «حدّ» (ماهية) شيءٍ إلى شيءٍ آخر فاقد لذلك الحدّ وتلك الماهية، أو حمل مفهومٍ على مصداقٍ هو في الحقيقة ليس مصداقاً لذلك المفهوم. فعلى سبيل المثال: لو شبّهنا عليّاً؛ لشجاعته، بالأسد، وقلنا: «عليٌّ أسدٌ»، نكون قد نسبنا إليه ماهيةً، وحملنا عليه مفهوماً هو في الحقيقة ليس مصداقاً له. إن قضية «عليٌّ شجاعٌ»، سواء أكانت صادقةً أم كاذبة، قضية حقيقية، وأما قضية «عليٌّ أسدٌ» فهي قضيّةٌ مجازية واعتبارية وكاذبة بحَسَب الواقع؛ إذ إن علياً من الناحية الواقعية إنسانٌ، وليس بأسدٍ، وإن مجرّد شجاعة الفرد الاستثنائية والخارقة لا تجعل منه أسداً حقيقياً. ولكنْ في الثقافة واللغة التي يعتبر فيها الأسد رمزاً ومثالاً للشجاعة يمكن تسمية عليّ في مقام المدح والثناء أسداً.
طبقاً لهذا التعريف يكون المَقْسَم «الحقيقي» و«الاعتباري» هو القضية، بمعنى أن القضايا تنقسم إلى قسمين: حقيقية؛ واعتبارية، وإن المعيار الذي يحدِّد تعلق القضية بأيٍّ منهما هو «النسبة» القائمة بين الموضوع والمحمول. ولكنْ مع قليلٍ من التسامح يمكن أن ننسب الحقيقة والاعتبار إلى المفاهيم (أو المحمولات) أيضاً، بأن يُقال: إن المفاهيم الاعتبارية مفاهيم قد تمّ انتزاعها من مصداقها الحقيقي، وحُمِلَت على مصداقٍ هو في الحقيقة ليس مصداقها. ففي المثال السابق يكون لمفهوم «الأسد» مصاديق حقيقية، هي أسودٌ حقيقة، وبغضّ النظر عن اعتبارنا، إلاّ أننا عندما ننتزع ذلك المفهوم من مصداقه الحقيقي ـ أي الأسد الحقيقي ـ، ونطلقه على «عليٍّ»، نكون قد استعملنا ذلك المفهوم في موردٍ هو في الحقيقة ليس مصداقاً للأسد، وإن تسميته بالأسد يرتبط باعتبارنا. وقد عمد السكّاكي إلى توضيح حقيقة الاستعارة ـ التي هي أحد الفنون الأدبية ـ من خلال توظيف هذه الآلية. إن الاستعارة طبقاً لتعريف السكاكي تعني أخذ «المفهوم» عاريةً، واستعماله في غير مصداقه الواقعي. وطبقاً لهذه الرؤية تكون الاستعارة شيئاً أكثر من تبديل مواقع الألفاظ. إن الذين يفصلون المدركات الاعتبارية عن المُدْرَكات الحقيقية يسعَوْن في ظلّ هذا التقسيم إلى إثبات الاختلافات المنطقية والمعرفية القائمة من وجهة نظرهم بين هاتين المجموعتين من الإدراكات. طبقاً لهذه الرؤية:
1ـ إن بين الإدراكات الحقيقية والإدراكات الاعتبارية حاجزاً منطقياً يؤدّي إلى المنع من الاستدلال بأحدهما على الآخر؛ باعتباره نوعاً من المغالطة.
2ـ إن المنطق وأسلوب التحقيق في العلوم الحقيقية والعلوم الاعتبارية مختلفٌ.
لو قبل شخصٌ بهذا التقسيم لن تكون له مندوحةٌ من القول بعدم وجود ارتباطٍ «إنتاجي» و«منطقي» بين الحقائق والاعتبارات، وإن إقامة مثل هذا الارتباط بينهما يُعَدّ مغالطةً، بمعنى أنه لا يمكن من تركيب المقدّمات الحقيقية البَحْتة والخالصة الحصول من الناحية المنطقية على نتيجةٍ اعتبارية أو إثباتها، والعكس صحيحٌ أيضاً، وإنْ أمكن من الناحية المنطقية الحصول على نتائج حقيقية واعتبارية جديدة من خلال تركيب المقدّمات الحقيقية والاعتبارية. يرى هؤلاء الفلاسفة أن أسلوب الاستدلال الوحيد في الإدراكات والأفكار الاعتبارية هو التمسُّك بـ «اللَّغْوية» أو «الواقعية»([16])، بمعنى أنه لو كان الاعتبار لَغْواً وغير واقعيٍّ كان باطلاً وغير مبرَّرٍ، ليس إلاّ. وعليه فإن جميع الاعتبارات التي لا تكون لَغْوية وغير واقعية في عرض بعضها، وتحظى بقيمةٍ واعتبار واحد من الناحية المنطقية (وإن فصل الحقائق ذات الصلة عن الحقائق غير ذات الصلة لن يكون منضبطاً، وسيكون اعتباطياً، أو تابعاً لذَوْق ومزاج المعتبر).
وكما سبق أن ذكرنا فإن المكتشفين أو المبدعين لهذا التقسيم يعتبرون علوماً من قبيل: الأخلاق والفقه والحقوق (العلوم المعيارية) جزءاً من العلوم التي تتعلَّق بالأفكار الاعتبارية. طبقاً للتحليل الذي يقدِّمه الفلاسفة عن منشأ الأفكار (التصوُّرات) الاعتبارية فإنهم يعتبرون هذه الأفكار متَّخذةً من الأفكار الحقيقية. في هذه الرؤية تعتبر مفاهيم من قبيل: الحُسْن والقُبْح، والوجوب والحَظْر، والقضايا الأخلاقية المشتملة على هذه المفاهيم، أموراً اعتبارية.
ولكنْ كما رأينا فإن كون المفهوم أو القضية أمراً حقيقياً أو اعتبارياً ليس له خصوصيةٌ أو موضوعية، وإن «الوجوبات» الحقيقية بحَسَب المصطلح يمكن أن تُستَنْتَج من «الكينونات» الحقيقية أيضاً. إن المنطق يقول: إن الاستدلال والاستنتاج يتبع أصولاً وقواعد تعبِّر عن المعايير المنطقية، ولا يمكن استنتاج كلّ شيءٍ من أيّ شيءٍ. ومن هذه الناحية لا فرق بين المُدْرَكات الحقيقية والمُدْرَكات الاعتبارية.
وبالإضافة إلى ذلك فإن «الاعتبار» شيءٌ، و«اكتشاف» و«معرفة» اعتبار العقل أو العقلاء أو الله شيءٌ آخر. يمكن التعرُّف على الاعتباريات، وإن الجُمَل المستعملة لبيان الأمور الاعتبارية يمكن أن تكون حقيقيةً وخَبَرية ومعبِّرة عن واقعيةٍ، ولذلك تحتمل الصدق والكذب «معرفية». من هنا فإن علوماً من قبيل: علم الأخلاق، وعلم الفقه، وعلم الحقوق، هي علومٌ بحَسَب الواقع؛ لأنها بصدد الكشف عن الحقائق والواقعيات، وليست بصدد جعل واعتبار الأشياء التي لا وجود لها بحَسَب الواقع. إن هذه العلوم تتعلَّق بالقضايا الحقيقية، دون القضايا الاعتبارية. وبطبيعة الحال فإن الحقائق التي تسعى هذه العلوم للكشف عنها وتحقيقها هي الحقائق التي يكتب لها التحقُّق بفعل الاعتبار، ولكنْ لا يمكن الشكّ والترديد في واقعية تلك الحقائق، وفي كون القضايا الحاكية والمعبِّرة عن هذه الواقعيات قابلةً للصدق والكذب.
وبعبارةٍ أخرى: إن القضايا الاعتبارية (القضايا المشتملة على الأمر والنهي والأحكام والدساتير) ليست أموراً معرفية تقبل الصدق والكذب، إلاّ أن القضايا التي «تخبر» و«تحكي» عن القضايا الاعتبارية قضايا خبرية ومعرفية، وتقبل الصدق والكذب. وعلى هذا الأساس فإن العلوم التي تتكفَّل بالمُدْرَكات الاعتبارية تُعَدّ «علماً». فلو قال شخصٌ: «أقيموا الصلاة» كان كلامه إبرازاً لحكمٍ ودستور لا يقبل الصدق والكذب، وأما لو قال: «إن الله يأمر بإقامة الصلاة» فإن كلامه هذا سيكون قابلاً للاتّصاف بالصدق والكذب؛ لأنه يخبر عن واقعيةٍ عينية. يمكن تصديق أو تكذيب الادّعاء القائل: «إن لدى الله أو العقل أو العقلاء مثل هذا الاعتبار»، كما يمكن إخضاعه للنقد والتقييم المنطقي، والعمل على إثباته أو إبطاله من الناحية المعرفية، والاستدلال لصالحه أو ضدّه.
وعليه عندما يقول فقيهٌ: «الصلاة واجبةٌ» فإنه «يُخْبِر» عن اعتبارٍ شرعي، ويكون كلامه قابلاً للصدق والكذب. وبالاستناد إلى الأدلة والشواهد المتوفِّرة يمكن تبرير كلامه أو إثبات بطلانه وعدم صحّته. وإذا كانت الواقعية التي يُخبر عنها هذا الكلام مرتبطةً من الناحية الأنطولوجية بواقعياتٍ أخرى يمكن الاستدلال من طريق وجود وعدم تلك الواقعيات على وجود وعدم الواقعية التي يُخبر عنها، والعمل من هذا الطريق على تكذيب أو تأييد كلامه. وعليه ليس هناك أيُّ فرقٍ بين العلوم المعيارية وسائر العلوم الأخرى، وإن الربط القائم بين سائر فروع المعرفة قائمٌ بين العلوم المعيارية والعلوم الوصفية البَحْتة أيضاً. ومن جهةٍ أخرى إن الحاجز المنطقي القائم بين العلوم المعيارية والعلوم الوصفية قائمٌ بين العلوم الوصفية أيضاً؛ لأن العلوم التي تتعلَّق بالمعايير هي في الحقيقة علومٌ وصفيّة تتعلّق بالحقائق والواقعيات المعيارية، وتستخبر وتخبر عن حقيقة وواقعية وراء الميول والرغبات الشخصية للعلماء. إن الارتباط «الأنطولوجي» القائم بين هذه الواقعيات وسائر الواقعيات الأخرى يستتبع الارتباط «المعرفي» القائم بين العلوم الناظرة إلى الواقعيات المعيارية وغير المعيارية. إن هذا الارتباط يوفِّر إمكانية «المعرفة» و«الإثبات» المعرفي للمتبنَّيات المعيارية، وكذلك إمكان الاستدلال المنطقي في هذه العلوم أيضاً. ورغم أن اعتبار هذه الاستدلالات ـ كما ذكرنا ـ رَهْنٌ بوجود المقدّمات المعيارية البديهية والشهودية، غير أن البديهيات لا تُخْتَزَل في البديهيات المنطقية، وإنّ لكلّ علمٍ بديهياته الخاصّة.
وبعبارةٍ أخرى: إن العلوم المعيارية علومٌ «توصيفية»، حتّى إذا كانت المعايير اعتباريةً من الناحية الميتافيزيقية والأنطولوجية. وعليه فإن تقسيم العلوم إلى قسمين: توصيفية؛ ومعيارية، يقوم على التسامح؛ لأن العلم ليس شيئاً آخر غير توصيف وتفسير الواقع. ولذلك فإن الصواب هو أن نقول: إن العلوم تنقسم إلى قسمين: علوم توصيفية بَحْتة؛ وعلوم معيارية (توصيفية غير بَحْتة). وإن العلوم التوصيفية البَحْتة تعمل على «توصيف» الموضوعات «الموجودة»؛ فإن موضوعها هو الإنسان الموجود، والمجتمع الموجود، والمدير الموجود، والدولة الموجودة، والمواطن الموجود، والعلم الموجود، والفلسفة الموجودة، والأخلاق الموجودة، وهكذا. أما العلوم المعيارية فتصف أو توصي بالموضوعات «المثالية» (وكذلك طريق الوصول إلى هذه الموضوعات أو إيجادها)، وإن موضوع هذه العلوم هو الإنسان المثالي، والمجتمع المثالي، والمدير المثالي، والدولة المثالية، والمواطن المثالي، والعلم المثالي، والفلسفة المثالية، والأخلاق المثالية، وهكذا. إن لبعض الجُمَل قابلية الاستعمال المتعدِّد للقيام بـ «الأفعال القولية» المتعدّدة. فإن الجُمَل التي تبدو بحَسَب الظاهر توصيفيةً ـ على سبيل المثال ـ يمكن أن تستعمل للتوصية.
إن القضايا الأخلاقية والفقهية هي بحَسَب الحقيقة والواقع من القضايا، بمعنى أنها حقيقية، وليست اعتبارية؛ لأن الإخبار عن الاعتبار هو غير الاعتبار. فعندما يقول الفقيه: «الصلاة واجبةٌ» يُخْبِر عن وجوب الصلاة في نفس الأمر، ويكون كلامُه ناظراً إلى «عالم التشريع» أو «الشريعة في عالم الثبوت»، لا أنه يُنْشِئ ذلك الوجوب أو يعتبره. إن الأمور الاعتبارية قائمةٌ باعتبار المعتبر، وأما «فعل» الاعتبار نفسه فهو حادثةٌ عينية تتحقَّق في العالم الواقع في خارج ذهن المعرِّف، ويمكن الاستخبار والإخبار عنه ومعرفته وتصديقه. وعليه فإن علوماً من قبيل: علم الفقه وعلم الأخلاق وعلم الحقوق حتّى إذا تعلّقت بالاعتباريات لن يكون بينها وبين العلوم المتعلِّقة بالأنواع الأخرى من الحقائق فَرْقٌ فارق؛ فإن هذه العلوم تتَّبع أسلوباً ونطقاً مشابهاً؛ لأن الاعتبار في حدّ ذاته حقيقةٌ من حقائق العالم التي يمكن معرفتها، كسائر الحقائق.
إذا أراد شخصٌ أن يعتبر حكماً، كأنْ يوجب أمراً من خلال توظيف اللغة مثلاً، فإن المدلول الصريح للجُمَل التي يستعملها لا يقبل الصدق والكذب، ولا يُخْبِر عن شيءٍ. إن المتكلِّم فيما نحن فيه يقوم من خلال توظيف اللغة بفعلٍ قوليّ آخر (من قبيل: الاعتبار أو الإنشاء). أما الذي يتحدَّث عن اعتباره السابق أو اعتبار العقل والعقلاء أو اعتبار الشارع فإنما «يُخْبِر» عن واقعيةٍ وحقيقة مستقلّة موجودة قبل كلامه، وبغضّ النظر عنه، ويكون كلامه معرفيّاً وقابلاً للصدق والكذب. فلو لم يكن له أو للعقل والعقلاء أو الله سبحانه مثل هذا الاعتبار كان كلام ذلك الشخص كاذباً. وعليه إذا كان الاعتبار مورد البحث مضبوطاً ومنهجياً أمكن من خلال كشف الضوابط الحاكمة عليه اكتشاف وجود وعدم ذلك الاعتبار، وإثبات المعتقد الناظر إلى ذلك الاعتبار([17]).
وعليه فإن تقسيم «العلوم» إلى: حقيقية؛ واعتبارية، وترتيب الآثار والأحكام المنطقية على أساس هذا التقسيم، ينطوي على شيءٍ من المسامحة. إن الجُمَل التي تدلّ على الأسس والقواعد القِيَميّة والمعيارية، ويتمّ بحثها في العلوم المعيارية ـ من قبيل: علم الأخلاق وعلم الحقوق وعلم الفقه ـ إنما تبيِّن في الحقيقة القضايا الخَبَرية، والتي تقبل الصدق والكذب. إن هذه الجُمَل ليست من سنخ الأكاذيب المفيدة. فحتّى إذا كان مدلول ومضمون هذه الجُمَل أمراً اعتبارياً مع ذلك فإن الإخبار عن أن الشخص (أ) (من قبيل: الشارع) أو غيره من الأفراد الخاصّين (من قبيل: العقلاء) لديه مثل هذا الاعتبار غير اعتبار ذلك الشيء من قِبَل المُخْبِر نفسه.
وبالإضافة إلى ذلك لا يمكن لنا من خلال التفكيك والفصل بين الحقائق والاعتباريات أن نستنتج أن الأمور خارجةٌ عن مَقْسَم العقلانية، ولا تقع في معرض النقد والتقييم العقلاني. بل الأمر على العكس من ذلك تماماً؛ فإن الأمور الاعتبارية تنقسم من الناحية العقلانية إلى: «حَسَن» و«قبيح»، أو «صائب» و«خاطئ»، أو «معقول» و«غير معقول». كما أن القضايا المعبِّرة عن الاعتباريات، وكذلك متبنَّياتنا في مجال الأمور الاعتبارية، تنقسم من الناحية المعرفية إلى: «مبرَّرة» و«غير مبرَّرة» أيضاً. فلدينا اعتبار حَسَن واعتبار قبيح، واعتبار عقلي أو عقلائي واعتبار خيالي أو غير عقلائي، واعتبار مبرَّر واعتبار غير مبرَّر. إن الاعتباريات العقلية أو العقلائية ليست اعتباطيةً أو خالية من الملاك والمعيار، إن هذه الاعتباريات مرتبطةٌ بالواقعيات، ولا تتبع العواطف والمشاعر والميول «الراهنة» و«الفعلية» للمُعْتَبِر، ولذلك فإنها تقبل النقد والتقييم العقلاني. وحتّى لو افترضنا أن هذه الاعتباريات أمورٌ اعتباطية وخالية من الملاك والمعيار مع ذلك لا يمكن القول: إن المتبنَّيات والقضايا الناظرة إلى الأمور الاعتبارية لا تقبل الصدق والكذب.
وبعبارةٍ أخرى: إن الاعتباريّات تقوم على أكتاف الحقائق، وتمور في صُلْبها، وتنبثق عنها، بمعنى أنها «عارضٌ مع الواسطة». إن هذا الارتباط الميتافيزيقي لا ينقض الحاجز «المنطقي» بين الحقائق والاعتباريّات، بل هي منسجمةٌ معها، ويمكن الجمع بينهما؛ إذ إن إدراك أيّ وصفٍ اعتباريّ يتناسب مع أيّ وصفٍ حقيقي إنما يمكن من طريق «الشهود العقلاني»، وليس من طريق «الاستنتاج» و«الاستدلال» القياسي. إلاّ أن الحاجز «المنطقي» هو غير الحاجز «المعرفي». إن الارتبط الميتافيزيقي بين الحقائق والاعتباريات يستلزم وجود الارتباط «المعرفي» بينهما؛ وذلك لأن التبرير الشهودي وغير الاستنتاجي للقضايا يُعَدّ بنفسه واحداً من أقسام التبرير المعرفي. وعليه إذا كان الارتباط بين الموضوع والمحمول قضيةً اعتبارية فإن مجرَّد اعتبارية هذا الارتباط لا يستوجب أن تكون تلك القضية اعتباطيةً، رغم أن بعض القضايا الاعتبارية اعتباطيةٌ، إلاّ أنه لا توجد ملازمةٌ بين «الاعتبارية» و«الاعتباطية». في الاعتبارات العقلية والعُقَلائية هناك خصوصيةٌ في الموضوع هي التي تحمل العقلاء على القيام بذلك الاعتبار وقبوله أو عدم القيام به وعدم قبوله، بمعنى أن الاعتبارات العقلائية ليست اعتباطيةً، وإنما هي منضبطةٌ وتقوم على المعايير. وعليه فمن خلال إدراك وتشخيص ذلك المعيار ـ الذي هو ليس شيئاً مغايراً للخصوصية الموجودة في موضوع الاعتبار ـ يمكن كشف اعتبار العقلاء وتصديقه. إن هذا المعيار لا يُخْتَزَل في «عدم اللَّغْوية» و«الرؤية الواقعية»، بل إن عدم اللَّغْوية والرؤية الواقعية تُعَدّ واحدة من مجموعةٍ من الموازين والعناصر ذات الصلة.
إن الاعتباريات الخيالية والشِّعْرية تنبثق عن ذَوْقٍ ورغبة وعاطفة ومشاعر المُعْتَبِر الإيجابية والسلبية، كما تكون تابعةً لها أيضاً. فإن الشاعر الذي لمس الوفاء والعطف والحنان من محبوبته يصفها بـ «القمر» و«غصن البان»، ويقول: «ليس للسماء قمرٌ مثلك…، ولم تشهد الروضة الغنّاء غصن بان كغصنك». أما الشاعر الذي لم يشهد من حبيبته غير الصدود والإعراض فيصف قلبها بالصخر الأصمّ، ويقول: «أنا في حيرة ذلك القلب الذي لا يقلّ في قسوته عن الصخرة الصمّاء»([18]).
إلاّ أن الاعتباريات العقلية والعقلائية ليست كذلك؛ فإن هذه الاعتباريات إما أن لا تتبع الأذواق والأمزجة والعواطف والمشاعر؛ أو تتبع الأذواق والأمزجة والرغبات والعواطف والمشاعر العقلانية أو المعقولة. إن الأذواق والأمزجة والعواطف والمشاعر التي هي منشأ الاعتبارات العقلية والعُقَلائية هي في حدِّ ذاتها عقلانيةٌ أو معقولة. إن الشخص العاقل بما هو عاقلٌ عندما يقف في مقام الاعتبار لا يعتبر كلّ وصفٍ لكلّ موضوعٍ، ولا يطلق أيّ مفهوم على كلّ مصداقٍ، ولا يحمل أيّ محمولٍ على كلّ موضوع. وهذا يعني أن الاعتبارات العقلية أو العقلائية تحتاج إلى مصحِّحٍ ومسوِّغ عقلي وعقلائي، كما تحتاج الاعتبارات الشعرية إلى مصحِّحٍ ومسوِّغ فنّي وجمالي.
لنفترض أن القضايا الأخلاقية اعتباريةٌ عندها يمكن التساؤل: هل هناك عاقلٌ يمكن له القول: «إن العدل قبيحٌ» و«إن الظلم حَسَنٌ»؟ هذا يُثبت أن بين العدل والحُسْن من جهةٍ وبين الظلم والقُبْح من جهةٍ أخرى ارتباطاً ونسبةً أو تناسباً لا وجود له بين العدل والقُبْح وبين الظلم والحُسْن. إن هذا الارتباط والنسبة أو التناسب واقعيةٌ عينية ومستقلّة عن بناء العقلاء وتواضعهم، واقعيةٌ يمكن إدراكها ومعرفتها من طريق الشهود العقلاني، رغم أن أحد الطرفين في هذا الارتباط ـ بحَسَب الفرض ـ وهو الحُسْن والقُبْح وصفٌ أو مفهومٌ أو محمولٌ اعتباريّ. وبعبارةٍ أخرى: هناك خصوصيةٌ أو خصائص خاصّة في العدل والظلم مستقلّة عن عواطفنا ومشاعرنا وأذواقنا وأمزجتنا، وهي التي تدعونا إلى اعتبار وإطلاق الحُسْن على العدل، والقُبْح على الظلم. إن العواطف والمشاعر الإيجابية والسلبية التي نحملها تجاه العدل والظلم، وردود الأفعال التي تصدر عنا في مقابل السلوك العادل والظالم، إنما تكون بتأثير تلك الخصوصية أو الخصائص العينية، دون العكس. فليس الأمر بأن العدل والظلم عين بعضهما من جميع الجهات، وأنهما إنما يختلفان في وصفَيْ الحُسْن والقُبْح ـ اللذين هما بحَسَب الفرض أوصافٌ اعتبارية ـ وفي المشاعر والعواطف التي نمتلكها تجاههما فقط. إن هذه الخصوصية موجودةٌ في العدل من حيث هو عدلٌ، وفي الظلم من حيث هو ظلمٌ. وهذا هو المراد من ذاتية الحُسْن والقُبْح. إن التعبير بـ «الذاتي» هنا لا بمعنى أن للعدل والظلم ذاتاً وماهية (essense)، بل بمعنى أن الموضوع الذي يُحكم بحُسْنه وقُبْحه هو «العدل بما هو عدلٌ، والظلم بما هو ظلمٌ».
وبعبارةٍ أخرى: إن الخصائص العينية والحقيقية الموجودة في موضوع التقييم الأخلاقي تنقسم إلى قسمين: «ذات صلة من الناحية الأخلاقية»؛ و«غير ذات صلة من الناحية الأخلاقية». وتُسمّى الخصائص ذات الصلة من الناحية الأخلاقية بالخصائص «الصانعة للحُسْن» أو «الصانعة للقُبْح» أو «الصانعة للصواب» أو «الصانعة للخطأ» أو «الصانعة للتكليف». وعليه هناك بين الأوصاف الأخلاقية وسائر الأوصاف ذات الموضوعات الأخلاقية ارتباطٌ «وجودي» و«ميتافيزيقي»([19]). ويمكن اكتشاف هذا الارتباط من طريق المشاهدة الأخلاقية. وإن النظريات الأخلاقية في الحقيقة تبيِّن هذا الارتباط. إن هذه النظريات تبيِّن لنا ما هي الأوصاف ذات الصلة من الناحية الأخلاقية؟ وما هي الأوصاف غير ذات الصلة من الناحية الأخلاقية؟
فإن لون بشرة الأشخاص ـ على سبيل المثال ـ أو أعراقهم أو هويّاتهم وجنسياتهم، وكذلك مناصبهم ومواقعهم السياسية والاجتماعية، تعتبر من الخصائص غير ذات الصلة من الناحية الأخلاقية، ولا دَوْر لها في قُبْح الكذب وحُسْن الصدق، ولا تغيِّر من حكمهما. وأما إنقاذ حياة شخصٍ بريء من مجرمٍ يُضْمِر له الشرّ ويروم قتله فهو من المعايير الأخلاقية ذات الصلة، وهو يغيِّر حكم الصدق والكذب. فلو أنني أمارس الخداع والكذب على الآخرين من أجل الحفاظ على مصالحي الشخصية أكون قد اقترفْتُ قبيحاً من الناحية الأخلاقية، وكلُّ شخصٍ يقوم بذات الشيء يكون مرتكباً للقبيح من الناحية الأخلاقية؛ وأما إذا مارَسْتُ الكذب لإنقاذ حياة شخصٍ بريء أكون قد قُمْتُ بفعلٍ حَسَنٍ، حتّى إذا كان ذلك البريء هو أنا([20])، ويجري هذا الاستثناء بحق الآخرين أيضاً. إن حفظ المصالح الشخصيّة في هذا المثال من الأمور غير ذات الصلة من الناحية الأخلاقية، ولا تغيِّر حكم الكذب، في حين أن إنقاذ حياة شخصٍ بريء من المعايير ذات الصلة من الناحية الأخلاقية، والتي لا بُدَّ من أخذها بنظر الاعتبار في الحسابات الأخلاقية.
إن العناصر التي تعتبر من الناحية الأخلاقية ذات صلةٍ والتي تؤثِّر في الحكم الأخلاقي والعناصر غير ذات الصلة ولا تؤثِّر في الحكم الأخلاقي إنما يمكن اكتشافها من طريق المشاهدة والتجربة الأخلاقية. وبطبيعة الحال فإن المشاهدات الأخلاقية تنقسم إلى: مشاهدات خام؛ ومشاهدات ناضجة. وإن البلوغ الأخلاقي يلعب دَوْراً هامّاً في قيمة واعتبار التجربة والشهود الأخلاقي. إن المشاهدات الأخلاقية في نوعها متعارضةٌ، وإن اعتبارها المعرفي رَهْنٌ بالتنظير في مجال الأخلاق، وإن حاجتنا إلى فلسفة الأخلاق تنشأ من هذه الناحية([21]).
يذهب الدكتور سروش إلى الاعتقاد بأن القِيَم والواجبات والمحظورات الأخلاقية من اعتبار العقلاء، وحصيلة نشاط قوّة الخيال. إلاّ أنه لا يقدِّم تفسيراً واضحاً عن «سبب امتلاك قوّة الخيال لمثل هذه الاعتبارات»؟ ولا يقدِّم تبريراً مقنعاً لـ «السبب الذي يدعونا أو يفرض علينا اتّباع اعتبارات العقلاء»؟ أو «لماذا يجب علينا المشاركة والتواطؤ مع العقلاء في هذا الاتجاه»؟.
نرى أن ذلك التفسير وهذا التبرير إنما يمكن الإعداد له من خلال الالتزام بأن هذه الخصائص العينية والواقعية والمستقلّة عن العواطف والمشاعر والرغبات وقوّة خيال العقلاء الموجودة في الموضوع مورد البحث هي التي تضطرّهم إلى اعتبار مثل هذه الأوصاف وإصدار مثل هذه الأحكام. وإن هذه الخصائص إما تكمن في ذات العمل؛ أو في نتائجه؛ أو في موقع وقصد ونيّة الفاعل ومَلَكاته النفسيّة. وعلى كلّ حالٍ فإن هذه الخصائص واقعياتٌ موجودة وثابتة، بغضّ النظر عن اعتبار العقلاء، وقبله، ومستقلاًّ عنه. إن هذه الخصائص تبدو من وجهة نظر العقل ومن الزاوية الأخلاقية هامّة وذات صلةٍ، وإن أهمّيتها وصلتها هي التي تضطرّ العقلاء إلى اعتبار ذلك المورد بشكلٍ خاصّ، وإننا إنما نشارك العقلاء في بنائهم وتواطؤهم أو نلتزم باعتبارهم ونوافقهم الرأي بسبب إدراكنا لذات تلك الخصائص أيضاً. ولو أن المقتضيات الأخلاقية لم تكن كامنةً في ذات العمل أو نتائجه أو موقع ونيّة وقصد الفاعل لما أبدى عقل العقلاء تجاه ذلك العمل أيّ حساسيةٍ، إيجابية أو سلبية، ولما قام باعتبار وإنشاء الحكم. وإن ردود الأفعال العاطفية الصادرة عن العقلاء تجاه الأفعال الحَسَنة والقبيحة والصائبة والخاطئة الأخلاقية متأثِّرةٌ ومعلولة ـ بدَوْرها ـ بإدراك هذه المقتضيات والخصائص. وبذلك يمكن من طريق معرفة هذه الخصائص العينية اكتشاف وإثبات سيرة العقلاء، أو العمل على نقد الدعاوى والنظريات الناظرة إلى هذه السيرة، وتقييمها من الناحية العقلانية.
وعليه فإن القِيَم والمعايير الأخلاقية حتّى إذا كانت اعتباريةً وناشئة عن قوّة الخيال، إلاّ أنها تنبثق عن قوّة خيال العقلاء، وبذلك فهي تختلف عن الاعتبارات المنبثقة عن قوّة خيال «الشعراء»([22]). إن الاعتبارات العقلائية تنشأ عن إدراك مقتضيات العقلاء أو العقلانية الأخلاقية. وهذه الرؤية تمثِّل في حدّ ذاتها قراءةً عن الواقعية الأخلاقية([23])، بمعنى أننا إذا أردنا أن نكون من القائلين بالواقعية في مجال الأخلاق ليس من اللازم أن نقول بالوجود العيني للأوصاف والروابط الأخلاقية؛ إذ إن الواقعية الأخلاقية ليست رَهْناً بعينية الأوصاف والروابط الأخلاقية. إنما المهمّ هو السؤال القائل: هل القضايا المشتملة على الأوصاف والروابط الأخلاقية تقبل النقد والتقييم العقلاني أم لا؟
خلاصة القول: إن العقلاء في قولهم: «الصدق حَسَنٌ» و«الكذب قبيحٌ» إنما يتبعون الخصائص العينية والواقعية الموجودة في ذات الصدق والكذب، أو في النتائج المترتِّبة عليهما. إن هذه الخصائص هي التي تبرِّر وتفسِّر اعتبار العقلاء بما هم عقلاء. وبعبارةٍ أخرى: إن التواضع العقلائي تواضعٌ ينبثق بنحوٍ من الأنحاء عن العقلانية، بمعنى أن هناك خصوصية في الموضوع مورد البحث، تُعَدّ هامّةً من وجهة نظر العقل، وتدفع العقلاء إلى التوافق بشأن حكمٍ خاصّ في مورد ذلك الموضوع. إن العقود العقلائية تنشأ إما من العقلانية النظرية؛ أو العقلانية العملية. عندما يتّفق عُرْف أصحاب علمٍ على نظريّةٍ علمية فهذا يعني أن هناك شواهد لصالح تلك النظرية تعتبر مقنعةً من ناحية العقلانية العلمية (التي هي نوعٌ من العقلانية النظرية). من هنا لو اتّفق العقلاء ـ بما هم عقلاء ـ على حكمٍ ما من الممكن أن يكون اتّفاقهم هذا قائماً على وجود شواهد تكفي من ناحية العقل النظري للقول بذلك الحكم. فلو توافق العقلاء من حيث هم عقلاء على حُسْن العدالة ـ مثلاً ـ رُبَما كان سبب توافقهم هذا يعود إلى وجود إدراكٍ مشترك لوجود الخصائص «الصانعة للحُسْن» في العدالة، وتَبَعاً لذلك وجود «الحُسْن» في هذا المورد.
كما يمكن لمعايير العقلانية العملية أن تسمح للعقلاء بما هم عقلاء أو تلزمهم بالتوافق حول موضوعٍ معيَّن. فعلى سبيل المثال: قد يتوافق العقلاء على حُسْن العدل أو وجوبه؛ بسبب وجود مصلحة وفائدة يرَوْنها في العدل، أو أنهم يتّفقون على اعتبار الحُسْن في العدل؛ بسبب الاتّفاق حول اشتمال العدل على الخصائص «الصانعة للحُسْن». وعليه يمكن لنا أن نستنتج أن معيار نقد الأفكار الاعتبارية لا يُخْتَزَل في «الرؤية الواقعية» و«عدم اللَّغْوية»([24]).
لو التزمنا في مسألة الربط ونسبة الحقائق والاعتباريات بالرؤية التي تمّ شرحها هنا أمكن لنا إزالة بعض الغموض والإبهام الموجود في نظرية القبض والبسط. إن الطرح الرئيس لنظرية القبض والبسط هو كالتالي: «إن الأجزاء المختلفة للمعارف البشرية في تعاطٍ مستمرّ؛ حيث هناك ارتباطٌ وثيق فيما بينها، حتّى إذا حدثَتْ مسألةٌ جديدة في علمٍ ما تأثَّر بها علم المعرفة أو الفلسفة. وإن تحوُّل الفهم الفلسفي يغيِّر من فهم الفرد بشأن الإنسان والعالم، وعندما يتغيَّر شكل الإنسان والعالم تكتسب المعرفة الدينية مفهوماً جديداً، بمعنى أن الحقيقة البسيطة والحديثة التي تتبلور في زاويةٍ ما تتقدَّم ببطءٍ وثبات وإصرار حتّى تستوعب جميع الجغرافيا المعرفية، وتفتح لنفسها موضعاً بحيث تثير جميع المعارف الأخرى… فكلُّ مسألةٍ مُستَحْدَثة تدعو جميع المعارف الأخرى للحكم بشأنها، وبيان نسبتهم إليها»([25]).
إلاّ أن هذا الطرح يشتمل على غموضٍ من جهتين: فأوّلاً: إن ارتباط «العلم» و«الفلسفة» هنا غيرُ واضحٍ؛ إذ إن الدكتور سروش نفسه يرى وجود حاجزٍ منطقيّ بين «العلم» و«الفلسفة» أيضاً. وثانياً: إن الارتباط بين العلم والأخلاق هنا أو المعرفة والقيمة أو العلوم الحقيقية (من قبيل: الفلسفة والعلوم التجريبية) والعلوم الاعتبارية (من قبيل: الأخلاق والفقه) ليس واضحاً؛ إذ يرى الدكتور سروش أن هذا الحاجز المنطقي المذكور موجودٌ بين هذه العلوم أيضاً. وبالمناسبة فإن هذين الأمرين والإبهامين لم يغيبا عن نظر الدكتور سروش؛ إذ قال في هامش الصفحة التي نقلنا عنها النصّ المتقدّم: «إن انسجام الأجزاء المعرفية المختلفة لا يعني ارتفاع الحواجز المنطقية القائمة بينها، فليس هناك بين العلم التجريبي والفلسفة والأخلاق علاقةٌ إنتاجية، ولا يولد أحدها من الآخر. وإن انسجامها يعني مجرّد انضوائها تحت نظريةٍ معرفية ومنهجيةٍ واحدة»([26]).
بَيْدَ أن هذا التوضيح وإنْ كان يزيح شيئاً من الغموض الذي يكتنف الطرح الرئيس لنظرية القبض والبسط، إلاّ أنه لا يزيله بشكلٍ كامل، وخاصّة أن مراد الدكتور سروش من «علم المعرفة» هو «فلسفة العلم»، وهذا ما يؤيِّده عطف «المنهج المعرفي» في الهامش المذكور على «المعرفة». فإن غاية ما يُثْبته هذا التوضيح هو أن المراد من انسجام أجزاء المعرفة البشرية المختلفة وارتباطها وتعاطيها فيما بينها ليس ارتباطاً «إنتاجياً» و«منطقياً»، بل المراد هو الارتباط «المعرفي». وعليه فإن رأي الدكتور سروش في نظرية القبض والبسط القائم على ارتباط العلم التجريبي والفلسفة والأخلاق لا يتعارض مع آرائه السابقة في مسألة عدم ارتباط العلم التجريبي والفلسفة والأخلاق؛ لأنه يؤيِّد الارتباط «المعرفي»، وينفي الارتباط «الإنتاجي ـ المنطقي»، رغم أنه لا يبيِّن الفرق والاختلاف بين هذين النوعين من الارتباط بشكلٍ واضح.
بَيْدَ أني أرى أن الإبهام والغموض المذكور لا يزول، وإنما ينتقل من موضوعٍ إلى موضوع آخر؛ لأن مراد الدكتور سروش من الانضواء تحت نظريةٍ معرفية ومنهجية واحدة هو أن ميزان ومعيار الحكم في هذه العلوم واحدٌ. في حين أن الأمر ليس كذلك، فقد أقرّ الدكتور سروش في مواضع أخرى صراحةً بأن أسلوب النقد والتحقيق في العلوم الحقيقية والاعتبارية مختلفٌ.
إن الطريق الوحيد لإزالة هذا الإبهام في تصوُّر كاتبنا هو تصحيح الرؤية الخاطئة بشأن العلم والقيمة أو العلوم الحقيقية والاعتبارية، والعمل على نفي هذه الثنائية. وعندها يمكن القول بعدم وجود الارتباط الإنتاجي ـ المنطقي بين هذه العلوم، وإنْ كان بينها ارتباطٌ معرفي. إن الارتباط المعرفي بين هذه العلوم يقوم عبر القضايا الشهودية وغير الاستنتاجية، وليس عبر استنتاج قضايا أحد هذه العلوم من قضايا الآخر. على هذا الأساس يمكن تركيب القضايا المرتبطة بفرعٍ علميّ بالقضايا الشهودية المرتبطة بفرعٍ علميّ آخر. في هذا الاستنتاج تكون جميع المفاهيم الموجودة في نتيجة الاستدلال حاضرةً ضمن مقدّماته أيضاً. وعليه يكون هذا الاستنتاج معتبراً من الناحية المنطقية، ولا يكون مغالطةً.
وهنا يجدر بنا الخوض في السؤال القائل: ما هي التوصية المحدَّدة التي يمكن لنظرية القبض والبسط أن تحملها للباحثين في الشأن الديني؟ يتّضح من كلام الدكتور سروش أنه يرى أن ارتباط المعرفة الدينية بسائر فروع المعرفة البشرية أمرٌ «غير» إراديٍّ. فهو يرى أن أصل هذا الارتباط غيرُ اختياريٍّ، بَيْدَ أن تجديد الأفكار غير الدينية أمرٌ اختياريّ. وعليه فإن إقامة الارتباط بين المعرفة الدينية وسائر المعارف لا يمكنه أن يقع مورداً للتوصية. بل إن التوصية الوحيدة التي يمكن تقديمها لعلماء الدين، طبقاً لـ «البيان» المعروض في نظرية القبض والبسط، هو أن يعملوا على تجديد وتنقيح معلوماتهم غير الدينية، وجعلها عصريّةً، بمعنى أن النتيجة التي يمكن الحصول عليها من الركنين الأوّل والثاني من نظرية القبض والبسط هي أن على علماء الدِّين أن يغيِّروا ويجدِّدوا الركن الخارجي من معرفتهم الدينية، أي مبادئ وفرضيات هذه المعرفة التي تُستعار من خارج الدِّين؛ إذ لو تغيَّرت هذه المبادئ والفرضيات فإن المعرفة الدينية بدَوْرها ستشهد تحوُّلاً أيضاً، وتغدو عصريةً تَبَعاً لذلك.
ولكنْ سبق أن رأَيْنا أن ارتباط المعرفة الدينية بسائر فروع المعرفة البشرية الأخرى على نوعين، بمعنى أن هذا الارتباط يكون إراديّاً تارةً؛ وغير إراديٍّ تارةً أخرى. إذا كان الارتباط بين المعرفة البشرية والمعرفة الدينية غير إراديٍّ وخارجاً عن السيطرة فإن التوصية المعرفية التي يمكن تقديمها للباحثين في الشأن الدينيّ على أساس نظرية القبض والبسط هي دعوتهم إلى تجديد معرفتهم غير الدينية. وفي هذه الحالة فإن مجرَّد تجديدهم للمعرفة غير الدينية سيؤدِّي إلى تجديد معرفتهم الدينية، شاؤوا ذلك أم لم يشاؤوا. وحيث يرى الدكتور النزاع بين الفقه الحديث والفقه التقليدي بنائياً إنما يكون في الحقيقة ناظراً إلى هذا النوع من الارتباط.
إن هذه التوصية بطبيعة الحال صحيحةٌ ومتينة، ولكنّها ليست كاملةً، ولا جامعةً، ولا تشمل الارتباط «الإرادي» بين المعرفة الدينية والمعارف غير الدينية؛ إذ لا يكفي مجرَّد تجديد المعارف غير الدينية في هذا النوع من الارتباط. ففي مثل هذه الحالة حتّى إذا كانت المتبنَّيات الدينية والعلمية والتاريخية والفلسفية وما إليها لدى الشخص متعارضةً لن يرى نفسه ملزماً بالسعي إلى رفع هذا التعارض وإقامة الانسجام بين مجموع متبنَّياته، فضلاً عن أن يرى نفسه مُلْزَماً بالتصرُّف والعمل على إزالة هذا التعارض القائم في متبنَّياته الدينية، والعمل على إصلاحها. لو التزم شخصٌ بالفرضية المعرفية القائلة: «في مقام فهم الدِّين تكون الظنون العقلية والتجريبية فاقدةً للقيمة والاعتبار، ولا يمكن الاستناد إلى هذه الظنون في رفع اليد عن ظهور الآيات والروايات»، ففي مثل هذه الحالة إنما تقتضي منه مسؤوليته المعرفية أن يتصرَّف في متبنَّياته الدينية إذا بلغ المتبنّى الفلسفي أو العلمي غير المنسجم مع ذلك المعتقد الديني حدّ القطع واليقين، وهو أمرٌ مستحيل التحقُّق أبداً.
وعليه ففي الموارد التي يكون فيها الارتباط بين مختلف فروع المعرفة إرادياً وتحت السيطرة فإن التوصية المعرفية التي يتعيَّن على الباحثين في الشأن الديني اتباعها عبارةٌ عن:
1ـ تجديد معرفتهم غير الدينية.
2ـ توظيف هذه المعرفة في فهم الدين، بمعنى العمل على المواءمة والتناغم بين معرفتهم الدينية ومعارفهم غير الدينية.
إذا كان تأثير المعرفة غير الدينية على المعرفة الدينية إرادياً فإن صِرْف تجدُّد أو تجديد المعرفة غير الدينية (التوصية) لن يكون كافياً لتجدُّد المعرفة الدينية، بمعنى أن العمل بهذه التوصية لن يؤدّي إلى تجدُّد المعرفة الدينية. وهناك شواهد أخرى في القبض والبسط تثبت أن الدكتور سروش يتحدَّث منطلقاً من هذه الفرضية، وهي أن تأثير المعرفة البشرية على المعرفة الدينية تأثيرٌ قهريّ وغير إراديّ. فهو يقول مثلاً: «لا تأتي عَصْرنة الدين بأمرٍ أو فرمان من أحدٍ، وإنما الدين يغدو عَصْريّاً من تلقائه، [وبطبيعة الحال] فإن العَصْرنة ليست وصفاً للدين، وإنما هي وصفٌ للمعرفة الدينية»([27]). وكأن المانع الوحيد الذي يحول دون عَصْرنة المعرفة الدينية هو عدم الاطّلاع على المعارف غير الدينية في العصر الراهن. في حين أن الأمر ليس كذلك دائماً. إن هذا المانع إنما يوجد في الموضع والمورد الذي تؤثِّر فيه مختلف فروع المعرفة على بعضها بشكلٍ قهريّ وغير إراديّ، وأما في الموارد التي يكون هذا التأثير واعياً واختيارياً سيكون مانعاً رئيساً للنظرية، أو معياراً معرفياً قائماً في عمق ذهن الباحثين في الشأن الديني، وسوف يحذِّرهم من مغبّة إدخال معارفهم البشرية في المعرفة الدينية. أرى أن الأمر كذلك بشكلٍ رئيس. من هنا فمن دون نقد المباني الأخلاقية والمعرفية للاتجاه التقليدي في المعرفة الدينية لن تكون نظرية القبض والبسط مكتملةً، ولن تبلغ غايتها، ولن يتحقَّق إصلاح المعرفة الدينية.
طبقاً للنظرية المعرفية التي يلتزم بها أكثر الفقهاء الشيعة فإن العلوم التي تدخل في فهم واستنباط الحكم الشرعيّ عبارةٌ عن: علم الأصول، والصرف والنحو، والرجال والدراية. حتّى أن هناك من الفقهاء مَنْ يتردّد حتّى في إدخال علم المنطق ضمن العلوم التي تدخل في استنباط الحكم الشرعيّ. ومن الواضح أن هذا المبنى المعرفي يحظر على الحوزويين الاستعانة بالعلوم الطبيعية والإنسانية، وكذلك معطيات الفلسفة الحديثة، في استنباط الحكم الشرعي، حتّى إذا كانوا من المتخصِّصين في هذه العلوم.
نرى أن المانع الرئيس والأساس الماثل في طريق تحوُّل المعرفة الدينية وصيرورتها عصريّة هو الأصل والقاعدة القائلة: «إن الظنون العقلية والتجريبية في مقام معرفة الدين وإثبات الأحكام الدينية فاقدةٌ للاعتبار والحجِّية». ولكنّنا انتقدنا هذا الادّعاء في محلّه، وأثبتنا بطلانه؛ حيث رأينا هناك كيف أدّى هذا المبنى المعرفي إلى تعطيل العقل الشهودي والتجريبي، وانحساره أمام العقل المسموع (العقل المستند إلى النقل) في الإسلام، وتقدُّم النقل على العقل والتجربة، وإحلال الفقه محلّ الأخلاق الاجتماعية، ورسَّخ المنهج الفكري للأخباريين والأشاعرة في عمق وجدان وذهنية الأصوليّين وأصحاب المنهج العقلي.
وعلى هذا الأساس فإن بيان دَوْر وتأثير العلوم والمعارف غير الدينية في تحوُّل وتكامل المعرفة الدينية لن يترتَّب عليه تلك الفائدة الملحوظة والمعتبرة ما لم تُضَمّ إليه القيمة المعرفية التي تجيز الاستفادة من تلك العلوم في فهم الشريعة أو توجبها. علينا هنا أن نثبت أن «العقلانية» و«المسؤولية المعرفية» للمجتهدين وعلماء الدين تقتضي منهم الاستفادة من العلوم البشرية في فهم الشريعة، وإن تجاهل هذه العلوم في مقام فهم الشريعة يُعَدّ تخلِّياً عن المسؤولية، وارتكاباً لخطأٍ وجريرةٍ أخلاقية، وإن الذي يرتكب مثل هذه الخطيئة يستحقّ اللَّوْم والذَّمّ من قِبَل العقلاء، والمساءلة الإلهية. وبعبارةٍ أخرى: على المصلحين الدينيين أن يوضِّحوا هذه المسألة، وهي أن الفهم التقليدي للعقلانية ومقتضياته، التي يتمّ التعبير عنها في الثقافة الإسلامية بـ «بناء العقلاء»، غيرُ صحيحٍ. وعلى كلّ حالٍ فمن دون تصحيح المبادئ المعرفية للمعرفة الدينية تبدو نظرية القبض والبسط غيرَ تامّةٍ. إن المشكلة التي تعاني منها الحوزات التقليدية للعلوم الدينية لا تكمن في أن المتخرِّجين منها غير مطّلعين على العلوم الجديدة، وإنما المشكلة الرئيسة تنشأ عن «العقلانية» القائمة في ذهن هؤلاء، والتي تحكم طريقة الارتباط بين العلوم الجديدة والعلوم القديمة، كما أن هذه العقلانية التي سبق لنا أن أشَرْنا إليها في الفصول السابقة، تحت عنوان: «العقلانية التقليدية» و«العقلانية الفقهية»، تأمر الحوزويين بتجاهل العلوم الجديدة، وأن لا يحملوها على محمل الجدّ، وأن يجتنبوا التعرُّف عليها، وإذا صدف أن اطّلعوا عليها أن لا يُدخلوها أو يستفيدوا منها في فهم الشريعة. وبهذا يمكن لنا أن نستنتج أن النزاع الأصلي والرئيس بين المجدِّدين الدينيين وأصحاب النزعة الأصولية يدور حول فهمين للعقلانية، وأما سائز النزاعات الأخرى فهي متفرِّعةٌ عن هذين الفهمين.
وعلى كلّ حالٍ إن نوع ومضمون التوصيات المعرفية رَهْنٌ بنوع الربط والدليل الذي نتمسَّك به لإثبات هذا الربط. وعلى هذا الأساس نجد أنفسنا مضطرّين إلى بحث الأدلة والشواهد المؤيِّدة لنظرية القبض والبسط بشكلٍ مستقلّ؛ لنرى ما هي التوصيات التي يمكن لنا أن نستخرجها من صُلْب تلك الأدلة والشواهد؟
نبدأ من مفارقة التأييد. إن هذه المفارقة هي من بين الأدلّة التي يتمسَّك بها الدكتور سروش؛ لإثبات ارتباط جميع القضايا التجريبية ببعضها. والسؤال هنا: إذا كان مثل هذا الارتباط موجوداً بين القضايا التجريبية ما هي التوصية التي يمكن إثباتها على أساسها؟ يوجد هنا في الحدّ الأدنى احتمالان. وطبقاً لأحد هذين الاحتمالين تكون تلك التوصية عبارة عن: (1) الحالة التي ترتبط فيها كلّ قضية تجريبية بأيّ قضيةٍ تجريبية أخرى؛ و(2) القبض والبسط في بعض القضايا التجريبية يؤدّي في نهاية المطاف إلى القبض والبسط في المعرفة الدينية. إذن يجب على علماء الدين في مقام إثبات آحاد القضايا والمتبنَّيات الدينية من الناحية المعرفية أن يعملوا على تنقيح جميع القضايا التجريبية وغير الدينية أيضاً؛ لأن كلّ قضيةٍ تجريبية مهما كانت تبدو غير ذات صلةٍ ترتبط بالمتبنَّيات الدينية، طبقاً لمفارقة التأييد، وترتبط بحَسَب الواقع بقضيةٍ تجريبيّةٍ أخرى من طريق النظريات المعرفية الموحِّدة.
إلاّ أن هذه التوصية غيرُ قابلةٍ للاتّباع على المستوى العملي، ولذلك لا تكون معقولةً. هذا إذا تجاوزنا القول بأنه على أساس هذه التوصية يكون التفكيك والفصل بين القضايا «ذات الصلة» و«القضايا غير ذات الصلة» فاقداً للمعنى، ولا محلّ له من الإعراب؛ لأن القضية «غير ذات الصلة» ستكون مفهوماً بلا مصداق.
الاحتمال الثاني: أن نوصي علماء الدين والمتديِّنين أن لا يتسرَّعوا في إنكار الارتباط. إن هذه التوصية في الحقيقة تنهى عن الجمود والحَتْمية الجازمة والإنكار القاطع والسابق والأَبَديّ للربط بين الأمور التي تبدو في ظاهرها غير ذات صلةٍ، وخلافاً للتوصية الأولى هي توصيةٌ عملية ومعقولة ومقبولة تماماً.
ولكنْ ما الذي يمكن قوله في مورد الشواهد التاريخية ـ الاستقرائية والتوصية المترتِّبة عليها؟ نرى أن هذه الشواهد تدلّ على أنواعٍ مختلفة من الارتباط، وكلّ واحدٍ منها يقوم بما يتناسب وإقامة الارتباط الخاصّ بالتوصية. فعلى سبيل المثال: إن الشواهد التي تثبت الارتباط بين العلوم المستهلكة والعلوم المنتجة توصي العلماء الذين يحقِّقون في مجال العلوم المستهلكة أن يحملوا التحوُّل والتقدُّم الحاصل في العلوم المنتجة على محمل الجدّ. وإن الشواهد التي تدلّ على الارتباط الحواري بين بعض فروع المعرفة تشجِّع العلماء وتحثّهم على إقامة مثل هذه العلاقة. وإن الشواهد التي تؤيِّد تأثير مبادئ المعرفة الكونية والمعرفة الإنسانية على المعرفة الدينية، وتثبت استناد المعرفة الدينية على الركن الخارجي، تدعو الباحثين في الشأن الديني إلى تنقيح المبادئ والمباني الخارجية من المعرفة الدينية، وهكذا.
وعليه، حيث إن ركن التبيين في نظرية القبض والبسط مزيجٌ من مختلف النظريات المعرفية فإن التوصية التي يمكن تحصيلها على أساس هذه النظرية لن تكون توصيةً واحدة، بل إن كلّ واحدةٍ من هذه النظريات سوف تأتي بالتوصية المتناسبة والمتناظرة معها. إن الكثير من تلك النظريات تثبت مجرَّد علاقة أجزاء وفروع خاصّة من المعرفة، وليس علاقة جميع فروع المعرفة. طبقاً لهذه النظريات نكون في مقام التحقيق مُلْزَمين بالفصل بين القضايا والعلوم ذات الصلة عن القضايا والعلوم غير ذات الصلة؛ كي نوفِّر الطاقة والإمكانية في تحقيق القضايا والعلوم التي تبدو ذات صلةٍ، ويكون احتمال تأثيرها المباشر وغير المباشر على المعرفة الدينية كبيراً وجديراً بالاهتمام. إن القضايا والعلوم ذات الصلة تحظى بالأهمّية من مختلف الدرجات والمراتب، ولا بُدَّ من أخذ هذه المسألة في مقام التحقيق بنظر الاعتبار.
في قراءة الدكتور سروش لنظرية القبض والبسط لا يمكن فصل العلوم ذات الصلة عن العلوم غير ذات الصلة؛ إذ في إطار هذه القراءة يعتبر هذا الفصل من قبيل: السالبة بانتفاء الموضوع. في حين أن هذا التفكيك والفصل مهمٌّ من الناحية العقلانية؛ لأن العقل لا يريد منا أن نوجِّه اهتمامنا إلى الاحتمالات البعيدة. وكما رأينا في الفصول السابقة فإن أهمّ الأمور التي يتمّ تجاهلها في مقام كسب المعرفة الدينية أحدها: العقلانية الحديثة؛ والأخرى: الأخلاق الحديثة، وكلا الأمرين ما فوق ديني (علماني)([28]). نرى أن تأثير معايير العقلانية والمعايير الأخلاقية في المعرفة الدينية تأثيرٌ عامّ وشامل، ولكنْ يبدو أن تدخُّل سائر العلوم غير الدينية في المعرفة الدينيّ تدخُّلٌ خاصّ، وفي موردٍ محدَّد، وليس تدخُّلاً عاماً وشاملاً. وعلى هذا الأساس ليس من اللازم التحقيق بشأن جميع العلوم غير الدينية من أجل إثبات عقيدةٍ أو حكمٍ دينيّ، بل اللازم هو مجرَّد التحقيق بشأن جزءٍ مرتبط من العلوم ذات الصلة، بمعنى أن الحجّية والاعتبار المعرفي لمعتقدٍ أو حكمٍ ديني رَهْنٌ بتنقيح المبادئ والفرضيات غير الدينية التي تتغذّى عليها تلك العقيدة أو ذلك الحكم الخاصّ، ويتمّ إثباتها على أساسها، رغم أن العلوم ذات الصلة لا تختزل بالصرف والنحو واللغة والرجال والأصول والدراية، وكما أثبت الدكتور سروش بوضوحٍ فإن للمعرفة الدينية مبادئ وفرضيات كثيرة ومتنوِّعة تندرج ضمن مسائل سائر العلوم ما فوق الدينيّة وغير الدينيّة، ولا وجود لها في العلوم السائدة في الحوزات العلمية.
ز ـ بنية المعرفة والإثبات
إن من بين الموضوعات التي تلعب دَوْراً حيويّاً في نظرية القبض والبسط بنية المعرفة والإثبات. وإن الإبهام والغموض الموجود في نظرية القبض والبسط في هذا المجال ينشأ من جهتين: الجهة الأولى: عدم فصل نظرية المعرفة (epistemology) عن فلسفة العلم (philosophy of science)؛ والجهة الثانية: استعمال التعابير المُبْهَمة والمُجْمَلة لبيان المراد. إن بنية المعرفة والإثبات واحدةٌ من الأبحاث المعرفية الهامّة. إن علماء المعرفة الذين يرَوْن في «المتبنّى» موضوعاً للتحليلات المعرفية ينقسمون بشأن هذا الموضوع إلى مجموعتين: «أصولية»؛ و«تسويغية». تقول المجموعة الأصولية: إن بنية المعرفة والإثبات تتألف من طبقتين، بمعنى أن متبنَّياتنا تنقسم إلى: متبنَّيات تحتية أساسية؛ ومتبنَّيات فوقية غير أساسية، أو: بديهية؛ ونظرية. يرى علماء المعرفة أن الأمور البديهية ثابتة ومعلومة من تلقاء ذاتها، في حين أن المتبنَّيات النظرية مجهولة وغير ثابتة من تلقاء ذاتها، وإن هذه المتبنَّيات يتمّ التعرف عليها وإثباتها من خلال الارتباط المنطقي مع متبنَّيات القسم الأوّل بشكلٍ استنتاجي. أما المجموعة التسويغية فتقول: إن بنية الإثبات والمعرفة تتألَّف من طبقةٍ واحدة، وإن جميع المتبنَّيات يتمّ التعرُّف عليها وإثباتها من خلال الارتباط المُتَبادَل فيما بينها.
يبدو من آراء الدكتور سروش في مختلف مؤلَّفاته أنه يميل إلى النزعة التسويغية. إلاّ أن التسويغ الذي يرمي إليه في الغالب تسويغٌ «سلبيّ» أو «في الحدّ الأدنى» (الاحتراس من التناقض أو تنزيه مجموع الآراء المقبولة عنده من التعارض). إن هذا النوع من التسويغ يقبل الانسجام والجمع مع الأصولية؛ إذ يرى الأصوليّون في التناقض مانعاً يحول دون الإثبات والمعرفة. وبالإضافة إلى ذلك فإن الدكتور سروش يصرِّح بـ (النزعة الشمولية) في مجال المعنى([29])، وكما قال بعض علماء المعرفة: إن النزعة الشمولية في مجال المعنى تؤدّي إلى التسويغ. طبقاً للشمولية المفهومية يتمّ رفع الحدود القائمة بين القضايا «التحليلية» و«التركيبية»، أو «السابقة» و«اللاحقة»، وحيث إن مفهوم مفردات القضايا التحليلية يتأثَّر بارتباط هذه القضايا بالقضايا «التركيبية» و«اللاحقة» فإن تصديق هذه القضايا وفهمها، وكذلك إثباتها، سوف يتأثَّر بهذا الارتباط.
إن رفع الحدود والحواجز بين القضايا «التحليلية» و«التركيبية» لا يعني إنكار كلا شقَّيْ هذا التقسيم، بل بمعنى أن جميع القضايا «تركيبيةٌ» و«لاحقة»، ولا وجود للقضايا «التحليلية» و«السابقة» بالمعنى الحقيقي للكلمة. وفي ظلّ هذه النظرية يكون تقسيم القضايا إلى: بديهية؛ ونظرية فاقداً للمعنى، وإن القضايا المقبولة للفرد إنما تكون مبرَّرة إذا تمّ تشكيل منظومةٍ متناغمة من المسوِّغات والتبريرات. طبقاً لهذه الرؤية يكون تبرير وإثبات القضايا متبادلاً ومن طرفين، ويحصل من خلال التناغم المتبادل فيما بينهما. وفي مقام تسويغ ومناغمة القضايا ليس هناك قضيّةٌ بمنأىً عن التغيير والتحوُّل، بمعنى أن مسؤولية الفرد قد تقتضي منه في بعض الموارد ـ لرفع التعارض وإيجاد التناغم في القضايا الموجودة في ذهنه ـ أن يُعيد النظر في قضيةٍ أو عدد من القضايا التحليلية والسابقة، رغم أن إعادة النظر في هذا المقام لا يعني الإثبات والإبطال دائماً، بل يشمل عرض تفسيرٍ وتعبيرٍ جديد عن مضامين القضايا أيضاً.
بالالتفات إلى هذه التوضيحات يمكن القول: إن بعض التفكيكات ورسم الحدود القاطعة التي يقول بها الدكتور سروش في نظرية القبض والبسط بين مختلف فروع المعرفة، ويرى على أساسها تقدُّماً وتأخُّراً بين مختلف فروع العلوم، لا تخلو من المسامحة. ومن بين هذه التفكيكات هو التفكيك بين المعرفة من الدرجة الأولى والمعرفة من الدرجة الثانية؛ فإن فلسفة العلم تعتبر ـ مثلاً ـ معرفةً من الدرجة الثانية، وناظرةً إلى المعرفة من الدرجة الأولى، وأما إذا قبلنا بالتسويغ المعرفي فلا نستطيع القول بأن فيلسوف العلم لا يستطيع الاستفادة من الأدلّة والشواهد المتعلِّقة بالمعارف من الدرجة الأولى؛ لإثبات أو تأييد مُدَّعاه أو نقد وإبطال المُدَّعى المخالف. فعلى سبيل المثال: ليس هناك دليلٌ يقول: لا يحقّ للفلاسفة وعلماء المعرفة الدينية التمسُّك بالأدلة والشواهد الدينية لصالح مدَّعياتهم. فإذا كان هناك في النصوص الدينية شاهدٌ وتأييد أو تضعيف لنظريةٍ خاصّة في مجال المعرفة الدينية فما هو المانع من التمسُّك به؟ هناك الكثير من الآيات والروايات التي تؤيِّد نظرية القبض والبسط بنحوٍ من الأنحاء. بل إن الدكتور سروش نفسه يشير إلى بعض هذه الشواهد، ولكنّ هذا الأمر لا يبدو منسجماً مع مدَّعاه العامّ في التفكيك بين المعرفة من الدرجة الأولى والمعرفة من الدرجة الثانية.
وبذلك ففي فضاء نظرية القبض والبسط يضمحلّ التفكيك والفصل بين المعرفة «اللاحقة» و«السابقة»، وبين العلوم «المستهلكة» والعلوم «المنتجة»، وبين المسائل «ما وراء الدينية» والمسائل «الدينية». وبشكلٍ عامّ يغدو التفكيك بين مختلف فروع المعارف البشرية ولحاظ التقدُّم والتأخُّر فيما بينها باهتاً؛ وذلك لأن الارتباط بين المعارف طبقاً لهذه النظرية متبادلٌ، وليس من طرفٍ واحد. وعليه تكون نظرية القبض والبسط نظريةً في تكامل المعرفة بشكلٍ عامّ، ولا تعني خصوص تكامل المعرفة الدينية فقط. وإذا اشتملت هذه النظرية على توصيةٍ ـ وهي كذلك ـ فإن تلك التوصية لن تخصّ علماء الدين فقط، وإنما تشمل العلماء الآخرين في مختلف العلوم البشرية الأخرى، حيث يجب عليهم أن يقارنوا ويقيسوا معارفهم غير الدينية بمعارفهم الدينية ويناغموا بينهما، وفي هذا الشأن لا يوجد أيُّ تقدُّمٍ وتأخُّر في البين. إن هذه التفكيكات وأنواع التقدُّم والتأخُّر لا يكون لها مصداقٌ إلاّ في إطار النزعة المفهومية والمعرفية. وبطبيعة الحال إذا كان توظيف هذه التفكيكات يأتي بقصد التوضيح والتمهيد للوصول إلى المشاهدات المعنية فلا بأس في ذلك، بَيْدَ أنه لا بُدَّ من الالتفات ـ على كلّ حالٍ ـ إلى أن هذه التفكيكات تضمحلّ في مقام إثبات القضايا والمتبنَّيات، وتكون الحركة في هذا المقام متبادَلةً وذات طرفين.
فعلى سبيل المثال: إذا كان ظنّنا المعرفي بالقضية (أ) المتعلّقة بواحد من العلوم المستهلكة أقوى من ظنّنا المعرفي بالقضية (ب) المتعلّقة بأحد العلوم المنتجة، وكانت هاتان القضيتان متعارضتين، واضطررنا إلى رفع اليد عن أحدهما في سياق تحقيق الانسجام بينهما، فإننا سنضطرّ إلى رفع اليد عن القضية (ب)؛ لأن ظنّنا بها هو الأضعف من ظنّنا بالقضية (أ) بحَسَب الفرض. وفي الحقيقة يمكن القول: إن نسبة الإنتاج والاستهلاك هنا ستكون معكوسةً، وإن تحوُّل العلوم المستهلكة والفوقية قد تغيِّر العلوم المنتجة والتحتية. وعليه لو أننا أبدلنا عبارة «الربط» أو «الارتباط» بـ «الترابط»، الذي يعكس العلاقة الطرفينية المتبادلة، كان ذلك أفضل في بيان جوهر المراد.
أما الغموض الآخر الموجود في نظرية القبض والبسط فيكمن في ماهية الفقه والأحكام الفقهية. فالدكتور سروش صريحٌ في تقسيم الأحكام الفقهية إلى: «إنشائية»؛ و«اعتبارية»، حيث يرسم حدّاً قاطعاً بين العلوم الحقيقية والاعتبارية، ويرى أن تأثير تحوُّل العلوم الحقيقية في العلوم الاعتبارية إنما يكون من طريق المبادئ الحقيقية للعلوم الاعتبارية. فقد قال في بعض كتبه: إن التنسيق بين مختلف فروع المعرفة يعني جمعها تحت مظلّةٍ نظريّةٍ معرفيّة واحدة. ولكنه لا يقول كيف تجتمع العلوم الحقيقية والعلوم الاعتبارية تحت مظلّةٍ معرفيّة واحدة؟ وإذا كانت علومٌ من قبيل: علم الفقه مشتملةً على قضايا اعتبارية وإنشائية فهل يمكن تسميتها «علماً» في الأساس؟ وهل يمكن اعتبارها بوصفها فرعاً من «المعرفة»؟ فإذا كان الدكتور سروش يقول: إن معيار الاستدلال الوحيد في الأفكار الاعتبارية يقتصر على «اللَّغْوية» و«الرؤية الواقعية» ففي مثل هذه الحالة سيقتصر تأثير العلوم الحقيقية في الفقه على إبطال الأحكام التي تفوق قدرة المكلَّف واستطاعته.
ولكنْ كما سبق أن رأينا فإن الحقّ هو أن العلوم المعيارية علمٌ حقيقةً، وإن القضايا التي تقع مورداً للبحث والتحقيق في هذه العلوم «خَبَرية»، وليست «اعتباريةً» و«إنشائيةً»؛ فإن الإخبار عن «الاعتبار» و«الإنشاء» هو غير الاعتبار والإنشاء. لو التزمنا بهذا المبنى في مجال ماهية العلوم المعيارية ففي مثل هذه الحالة يمكن لنا أن نقول بأن الفصل والتفكيك بين الأفكار أو المُدْرَكات الاعتبارية والأفكار أو المُدْرَكات الحقيقية لا يستلزم تقسيم العلوم إلى: علوم حقيقية؛ وعلوم اعتبارية، بل ستكون جميع العلوم حقيقيةً، وإن كلّ علمٍ يخبر أو يكشف عن جزءٍ خاصّ من الحقيقة أو الواقعية. وعلم الفقه ليس استثناءً من هذه القاعدة، فهو ينظر إلى الحقائق التي توجد في عالم التشريع بالوجود الاعتباري. وبطبيعة الحال إن وجود هذه الحقائق تابعٌ للإرادة التشريعية للمقنِّن، إلاّ أن الفرع العلمي الذي يبحث عن هذه الحقائق ليس تابعاً لإرادته. وعليه فإن ذات الارتباط الموجود بين فروع المعرفة البشرية الأخرى موجودٌ بين علم الفقه وسائر العلوم أيضاً. وإن هذا الارتباط لا يقوم من خلال مبادئ علم الفقه فقط، ولا يكون محدوداً بالقابلية على الإبطال فحَسْب، بل إن الارتباط من طريق المبادئ ـ كما أثبت الدكتور سروش نفسه في نظرية القبض والبسط ـ مجرَّد نوعٍ من أنواع الارتباط.
4ـ كلمةٌ أخيرة
إن الحلَّ الصحيح الذي تضعه نظرية القبض والبسط أمام الفقه لمواجهة تحدِّيات العصر الجديد عبارةٌ عن عَصْرنة المعارف البشرية وغير الدينية للمجتهدين والفقهاء. تدَّعي هذه النظرية بحقٍّ أن «الشريعة صامتةٌ»([30])، وأن الفقهاء والمجتهدين في مقام فهم واستنباط الأحكام الشرعية لا يستندون إلى القرآن والسنّة فقط، بل يوظِّفون الكثير من المفروضات الظاهرة والكامنة، وإن الكثير من تلك المفروضات تتمّ دراستها بشكلٍ مباشر وغير مباشر من فرعٍ أو عدّة فروعٍ من العلوم ما فوق الدينية. من هنا يجب البحث عن سرّ إخفاق الفقه في مواجهة تحدّيات العصر الجديد في النظريات والفرضيات الموجودة في ذهن علماء الدِّين بشكلٍ خام وغير منقَّح وما قبل العلمي.
ونحن ضمن تأييدنا لهذا الادّعاء أكَّدنا على أن مجرّد معرفة العلوم غير الدينية أو ما فوق الدينية لا تستوجب تحوُّلاً في العلوم الدينية؛ إذ إن التأثير الذي يتركه تحوُّل المعارف غير الدينية أو ما فوق الدينية على العلوم الدينية يمكن تقسيمه إلى: إراديّ؛ وغير إراديّ، ويجب البحث عن السرّ الجوهري لتجاهل واستهانة الحوزات العلمية بالعلوم غير الدينية أو ما فوق الدينية في «العقلانية الفقهية». إن جزءاً من هذه العقلانية أو أحد أركانها الأساسية عبارةٌ عن نظريةٍ معرفية تعمل في مقام كسب وتحصيل المعرفة الدينية، تمنع وتحرِّم التوظيف الواعي والإرادي للعلوم البشرية ما وراء الدينية (العلمانية)؛ بسبب ظنّية النتائج المترتِّبة على هذه العلوم. وقد عمدنا في الفصول السابقة إلى نقد هذه العقلانية من مختلف الزوايا. ونرى أنه من دون إصلاح هذه العقلانية، وتناغمها مع «العقلانية العُرْفية» أو «شريعة العقل» أو معايير «العقل السليم»، لن تؤدّي جهود المصلحين والمخلصين لإصلاح المعرفة الدينية والمجتمع الديني إلى نتيجةٍ مُثْمِرة. وإن هذا الإصلاح مقدَّمٌ على جميع الإصلاحات الأخرى بما فيها إصلاح المعرفة الدينية، التي تؤكِّد عليها نظرية القبض والبسط. وبطبيعة الحال فإن الإصلاح الذي يطمح إليه الدكتور سروش يشمل إصلاح معايير العقلانية أيضاً، ولكنْ في الوقت نفسه يمكن القول: إن إصلاح معايير العقلانية مقدَّمٌ على إصلاح سائر مبادئ وفرضيات المعرفة الدينية؛ لأن هذا الإصلاح مقدّمة لسائر الإصلاحات، ويعمل على تبريرها وإثباتها وإيجابها.
الهوامش
(*) أستاذٌ في جامعة المفيد، وأحد الباحثين البارزين في مجال الدين وفلسفة الأخلاق، ومن المساهمين في إطلاق عجلة علم الكلام الجديد وفلسفة الدين.
([1]) سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت «نظرية تكامل المعرفة الدينية»: 363 ـ 364، طهران، مؤسّسه فرهنگي صراط.
([2]) ذكرنا في محلّه أن «الوجوب» يدلّ أبداً على مفهوم معياريّ، وأن جميع «الإلزامات» قِيَميّة، رغم انقسامها إلى قسمين: «آلية» (ناظرة إلى الأداة والوسيلة)؛ و«غير آلية» (ناظرة إلى الهدف).
([5]) سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت «نظرية تكامل المعرفة الدينية»: 165.
([6]) من هنا ندرك أنه لا يمكن بناء فلسفة من خلال ضمّ البديهيات المنطقية إلى بعضها، أو من خلال تركيب القضايا المنطقة الخالصة إلى بعضها، بمعنى أن الاستدلال المنطقي المعتبر في مجال الفلسفة يتوقَّف على التزامنا في الحدّ الأدنى بوجود قضية فلسفية بديهية قابلة للكشف والتبرير والإثبات من طريق المشاهدة والتجربة الفلسفية (أي من طريق غير الاستدلال المنطقي). يرى العلاّمة الطباطبائي أن القضية الفلسفية التي تنطلق الفلسفة منها، والتي لا يمكن من دونها إثبات أيّ استدلالٍ منطقي في مجال الفلسفة، ولا يمكن إثبات أيّ قضيةٍ فلسفية من الناحية المنطقية، عبارةٌ عن القضية القائلة: «هناك واقعيةٌ»، وإن تلك القضية من وجهة نظر ديكارت عبارةٌ عن: «أنا أفكِّر». وعليه، خلافاً للتصوُّر الشائع، لا يكفي مجرَّد القول بالبديهيات المنطقية التأسيس لفلسفة، والبديهيات لا تختزل في البديهيات المنطقية، بل إن كلّ فرعٍ علميّ يحتاج إلى قضيةٍ أو مجموعة من القضايا البديهية الخاصّة بها. وإن هذه القضايا في العلوم التجريبية يتمّ اكتشافها (وإثباتها) من طريق التجربة والمشاهدة الحسّية، وفي العلوم العقلية يتمّ إثباتها وتبريرها من طريق التجربة والمشاهدة العقلانية.
([7]) مرادنا من الدليل هنا هو الأعمّ من الدليل الشهودي.
([8]) ولو قبلنا هذا الكلام أمكن القول على القاعدة بإمكان استنتاج «الوجوبات» الاعتبارية من «الكينونات» الاعتبارية من الناحية المنطقية، في حين أن هذا الاستنتاج داخلٌ في المغالطة.
([9]) إن مثل هذا الأمر هو في الحقيقة ارتكابٌ لـ «مغالطة أصحاب النـزعة الطبيعية»، على حدّ تعبير (مور). انظر في هذا الشأن:
– Moore, G. E. (1993) Principia Ethica, (Cambridge: Cambridge University Press.
([10]) إن من بين الأخطاء الشائعة بين بعض المفكِّرين والمستنيرين في قطرنا أنهم يستنتجون من امتناع الاستنتاج المنطقي لـ «الوجوبات» الأخلاقية من «الكينونة أن «الوجوب» الأخلاقي اعتباريٌّ، وأن الجُمَل الأخلاقية لا تفيد معرفةً، في حين لا يوجد أيُّ تلازمٍ منطقي بين هذه المدَّعيات.
([11]) وعليه فإن تقسيم المفاهيم إلى: حقيقية؛ واعتبارية ينطوي على نوعٍ من المسامحة في التعبير. والصحيح هو القول بأن للمفاهيم نوعين من المصاديق، وهما: المصاديق الحقيقية؛ والمصاديق الاعتبارية. والاعتبار يعني حمل مفهومٍ وإطلاقه على شيء هو في الحقيقة والواقع وبغضّ النظر عن الاعتبار ليس مصداقاً له. وعلى هذا الأساس فإن «الحقيقة» و»الاعتبار» وصفٌ لـ «العلاقة» القائمة بين المفهوم والمصداق، أو وصفٌ لـ «المصداق»، وليس وصفاً لـ «المفهوم».
([12]) لقد تمّ اكتشاف مغالطة «الوجوب» و»الكينونة» من قبل ديفيد هْيُوم، بَيْدَ أن بعض المفسِّرين يذهب إلى القول بأن المقطع الشهير الذي يبحث فيه هْيُوم هذه المغالطة يمكن تفسيره وقراءته على نحوين: التفسير الأوّل: الذي هو التفسير المشهور، يقول: إن قيام مثل هذا الارتباط ممنوعٌ مطلقاً؛ أما التفسير الثاني فيقول: إن قيام هذا الارتباط ليس ممنوعاً مطلقاً، وإنما يحتاج الأمر فيه إلى «بيان». وعليه لو عمد شخصٌ إلى تقديم تفسيرٍ مقنع يذكر فيه سبب استخراج «الكينونة» المنشودة من «الوجوب» مورد البحث لن يكون مرتكباً لأيّ مغالطةٍ، ولم ينقض أيّ قاعدةٍ منطقية. إن المصدر أدناه يحتوي على مجموعة من المقالات بشأن العلاقة بين «الوجوب» و«الكينونة»، انظر:
– Hudson, W. D. (ed.) (1969) The is-ought question: A Collection Papers on the Central Problem in Moral Philosophy (London: The Macmillan Press Ltd).
([13]) مع الشكر الجزيل لسماحة الأستاذ مصطفى ملكيان على تذكيره بهذا الفصل، والتفكيك بين هذين الموردين. كما ذكر أن وصف التعريف بالمغالطة لا يبدو صحيحاً، إلاّ إذا كان المراد من «المغالطة» الخطأ وعدم الصواب.
([14]) لقد تعرّضنا بالشرح والنقد التفصيلي لآراء (جورج إدوارد مور) في كتابنا (أخلاق تفكُّر أخلاقي). وللمزيد من الاطلاع على آراء (مور) انظر:
– Moore, G. E. (1993) Principia Ethica, (Cambridge: Cambridge University Press).
([15]) انظر في هذا الشأن: الطباطبائي، أصول فلسفه وروش رئاليسم، «أسس الفلسفة والمذهب الواقعي»، المقالة السادسة.
([16]) انظر في هذا الشأن: الطباطبائي، أصول فلسفه وروش رئاليسم، «أسس الفلسفة والمذهب الواقعي»، المقالة السادسة؛ سروش، دانش وأرزش، پژوهشي در باب ارتباط علم وأخلاق، انتشارات آسمان، طهران.
([17]) بعبارةٍ أخرى: كما رأينا في كتاب «دين در ترازوي أخلاق» (الدين في ميزان الأخلاق) فإن التشريع والتقنين فعلٌ إراديّ واختياري، ويتبع أخلاقاً خاصّة أو يجب أن يتَّبعها. من هنا لا بُدَّ من التعرُّف على أسس وقواعد أخلاق التشريع؛ من أجل معرفة القوانين الشرعية، التي هي عبارةٌ عن تشريعات الإله الشارع.
([18]) وبطبيعة الحال فإن الاعتباريات الخيالية لا تخلو من الضابطة تماماً، رغم أن هذه الضابطة ليست عقلانيةً أو عقلائية. فإن معيار الشعر الجيِّد في مجال الشعر ـ مثلاً ـ هو «الذَّوْق» الفنّي والتجربة أو الشهود الشاعري أو الجمالي، ولذلك عندما يتمّ وصف الشخص بالشجاعة يتمّ تشبيهه بالأسد، ولا يتمّ تشبيهه بالفأر. كما أن تشبيه المحبوبة بالقمر وغصن البان، أو تشبيه قلبها القاسي بالصخرة الصمّاء، ينسجم تماماً مع المعايير الذَّوْقية والفنّية.
([19]) يُسمَّى هذا الارتباط في فلسفة الأخلاق وفلسفة الذهن بـ (supervening relation).
([20]) مع الشكر الجزيل لسماحة الأستاذ مصطفى ملكيان على تذكيره بأن جواز أو وجوب الكذب من الناحية الأخلاقية يشمل حتّى مورد إنقاذ الشخص لنفسه إذا كان بريئاً.
([21]) انظر في هذا الشأن: الفصل السادس من كتابنا (دين در ترازوي أخلاق) «الدين في ميزان الأخلاق»، العنوان (4 / 6).
([22]) هذا، رغم رؤيتنا بأن الصحيح هو عدم اختزال شأن وآلية القوّة العاقلة في إدراك الحقائق، وأن نعتبر الاعتبارات الأخلاقية اعتبارات القوّة العاقلة، وليس اعتبارات القوّة المتخيّلة. ويمكن أن يكون سبب امتلاك القوّة العاقلة لمثل هذه الآلية هو أن التفسير الصحيح لهذه الاعتبارات يتوقّف على افتراض مثل هذه الآلية. وإذا كانت الاعتبارات الأخلاقية هي اعتبارات العقلاء بما هم عقلاء، وكانت تختلف عن الاعتبارات الاعتباطية، وكذلك عن الاعتبارات الفنّية والشعرية، فإن التفسير المعقول الوحيد الذي يمكن تقديمه لبيان هذا الاختلاف ومصدره هو القول بأن الاعتبارات الأخلاقية تنشأ من القوّة العاقلة. وإن افتراض أن هذه الاعتبارات من نتائج نشاط قوّة خيال العقلاء لا يقدِّم تفسيراً مقنعاً لهذا الاختلاف، مضافاً إلى أن إضافة قيد العقلاء هنا بمنـزلة ضمّ الحجر إلى الإنسان.
([24]) تقدَّم الشرح المُسْهَب لهذا الادّعاء في الفصل السادس من كتابنا (دين در ترازوي أخلاق) «الدين في ميزان الأخلاق»، العنوان (1 / 4 / 6)، فراجِعْ.
([25]) سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت «نظرية تكامل المعرفة الدينية»: 165.
([27]) المصدر السابق: 55 ـ 56.
([28]) بطبيعة الحال نحن لا ننكر أن ازدهار العلوم التجريبية في مجتمعٍ سوف يساعد على بسط العقلانية العلمية بشكلٍ مباشر، كما تساعد على بسط سائر أنواع العقلانية في ذلك المجتمع بشكلٍ غير مباشر. وإن أحد أسباب انحطاط الحضارة الإسلامي ـ أو على حدّ تعبير الدكتور سروش: (الإخفاق التاريخي للمسلمين) ـ يعود إلى تجاهل العلوم التجريبية. إلاّ أن الارتباط الاجتماعي للعلوم التجريبية والمعرفة الدينية غير الارتباط المعرفي بين هذين الأمرين. وإن تأكيدنا على أهمّية العقلانية يجب أن لا يُفْهَم بوصفه جواباً بديلاً للعلم التجريبي في معرض الإجابة عن السؤال بشأن أسباب انحطاط الحضارة الإسلامية. وكما هو واضحٌ فإن نظرية القبض والبسط نظريةٌ معرفية، وليست نظريةً اجتماعية.
([29]) انظر: المصدر السابق: 179.
([30]) في ما يتعلَّق بمعنى صمت الشريعة، أو مصطلح «الشريعة الصامتة»، انظر: مقدّمة الكتاب.