القراءات الجديدة للمصادر الدينية في مدار النقد
الشيخ صادق لاريجاني
ترجمة: حيدر حب الله
تمهيد
موضوع هذه المقالة وفق الاقتراح الذي قدم لي هو «نقد التفاسير الحديثة، أو القراءات الجديدة للمصادر الدينية»(1). وهو عنوان يبعث على الاشتباه إلى حد معين، ذلك انه يثير استفهاما حول قابلية كافة التفاسير الجديدة للكتاب والسنة للنقد والتفنيد، فيما الأمر ليس كذلك، فهذه المقالة لا تهدف إلى أمر من هذا القبيل، فما نهدف إليه هنا انما هو نقد النسبية المطلقة في فهم النص الديني، فنحن نلاحظ اليوم كتابات عديدة لمجموعة من الكتاب في العالم الاسلامي تصب جميعها في الاتجاه النسبي هذا. وبالرغم من ان العبارات المستخدمة، أحياناً، ذات معان مختلفة الا ان الأمور في النهاية تصب في مجرى واحد، وهو الترويج والدعاية لنوع من النزعة التشكيكية والنسبية في فهم النصوص الدينية.
إما كبار المحققين المسلمين فيعارضون النسبية المطلقة في فهم النص الديني في الوقت نفسه الذي يذهبون فيه إلى الأخذ بمبدأ الاجتهاد وحيويته المتواصلة. وفي الحقيقة لن يكون لتحول الفهم معنى معقول ما لم تكن لدينا مجموعة من الاستنتاجات التي نعدها ثابتة، فهؤلاء يؤمنون بثبات بعض المفاهيم على الصعيد الديني، وهي تلك الاستنتاجات المرتكزة على النصوص القطعية للكتاب والسنة، أو المفاهيم التي تشكل الضروريات الدينية. والتحول والاجتهاد في فهم الدين يمكن الاعتراف بهما وفق هذه النتائج الثابتة، ومن دون امتلاك هذه النتائج لن يكون بأيدينا أي معيار لتقييم الفهم والاستنتاجات.
ووفقا لذلك، عندما نؤكد، في هذه المقالة، على بطلان النسبية المطلقة فاننا لا نهدف إلى القول بثبات كافة الافهام والاستنتاجات، وانما ندعي امرا أكثر معقولية وتواضعا، وهو تحقيق الاجتهاد المتواصل في بعض المقاطع من الكتاب والسنة ووجود مقدار من الثبات في بعضها الآخر.
النسبية أو المذهب النسبي
قبل الشروع في نقد المذهب النسبي، في قراءة النص الديني، لابد لنا من تقديم تصور اوضح له حتى تنجلي امامنا القضية التي يتمحور حولها الخلاف، ومن ثم النظرية التي نقوم بنقدها.
ان المطلعين على المجريات الفكرية والفلسفية في الغرب يعلمون جيدا المجالات المتنوعة التي طرحت فيها النزعة النسبية، فهناك توجهات نسبية متشددة ومتطرفة في مجال عالم المعرفة (Epistemology)، سيما فلسفة العلم (Philosoply of Science) وكذلك فلسفة اللغة (Philosoply of Language) موردا للتوجهات. وقد كانت هذه التوجهات موردا للنقد على الدوام من طرف المعارضين والمخالفين لهذه النزعة.
فعلى سبيل المثال – بالاضافة الي المذهب النسبي الموروث عن اليونانيين – كانت آراء توماس كوهن (T.Kuhn) وبول فايرابند (Paul Feyerabend) في فلسفة العلم(2) وغادامر (H.G. Gadamer) في الهرمنيوطيقا(3) وبعض آراء كواين في فلسفة اللغة(4) (لا سيما نظرية الكلية في معاني الألفاظ Holism، ونظرية عدم تعين المعني (Indeterminance)، ذات جذور نسبية واضحة، وهكذا الحال في ايمانية فيتغنشتاين (Wittgensteins Fideism) فانها تعد، وفقا لبعض التفاسير، المعنى تعين عدم ونظرية ، الحال وهكذا واضحة، نسبية جذور ذات نوعا من النسبية أيضاً(5) وذلك بالرغم من ان هذه النسبية ليست صحيحة في حدود اعتقادي، يقر يطرحها التي ففي نظرية اشكال الحياة (Forms of Life) التي يطرحها يقر بثبوت بعض المعارف في كافة انماط الحياة والعيش، وهو بحث له مجاله الخاص به.
نريد هنا ومن دون ان نلاحق فرعا فكريا لفيلسوف معين ان نعرض بصورة مختصرة ثلاث أطروحات فقط من بين الأطروحات المتعددة التي تستفاد من مطاوي كلمات النسبيين الدينيين، ومن ثم نشير إلى نقدها. والجدير بالذكر هنا انه من الواضح ان المقالة التي تبنى على الاختصار التام لا تستطيع ان تفي لا بتلك الأطروحات ولا بالانتقادات التي تتوجه إلى جزئياتها وتفاصيلها.
الأطروحات المختلفة للنسبية
الأطروحة الأولى
ان انواع الفهم البشري جميعها ومن ضمنها الفهم البشري للكتاب والسنة في حالة تحول، ومن ثم فليس لنا أي فهم ثابت على الاطلاق، ما يعني نتيجة عدم وجود معلومات قطعية الصدق بين ايدينا، أي انه ليس ثمة فهم غير قابل للنقد(6). هذه الأطروحة النسبية نفسها قابلة للنقد، كما انها من الناحية المنطقية تدمر نفسها وتنقض ذاتها.
أما النقد، فيتمثل في قضايا من قبيل «استحالة اجتماع النقيضين» و«2+2=4» وكذلك القياسات المنطقية وأمثال ذلك، إذ لا يعقل التحول في فهم هذه القضايا، بمعنى انه ليس ثمة شخص يدعي امكانية اجتماع النقيضين في ظرف واحد، وبعبارة أكثر منطقية يحكم كل انسان بعدم وجود اجتماع للنقيضين في العوالم الممكنة، أو بعدم صحة المعادلة: «2+2=5» مثلا، وهكذا الاقيسة المنطقية الخ…
وبالاضافة إلى المشكلة السابقة تنقض هذه النظرية نفسها أيضاً، أي ان شمولها لنفسها يستدعي عدم شموليتها أيضاً، فإذا كانت كافة الافهام البشرية في حالة من التحول والتبدل، فان هذا الفهم نفسه هو في حالة تحول وتبدل أيضاً، فمن الممكن ان لا تصدق هذه القضية في ظرف ما أو في عالم ما، ومن ثم لن تكون كافة الافهام في حال من التحول والتغير.
وقد اجاب بعض الباحثين عن هذه الاشكالية المعقدة، فقال:
أولا: ان مقولة «كل الافهام في حال التحول» انما هي مقولة من الدرجة الثانية، بمعنى انها ناظرة إلى قضايا الدرجة الأولى، ولذلك فليس ثمة أي تال فاسد من تعميم الحكم لقضايا الدرجة الأولى.
ثانيا: ليس تحول الفهم ذا صيغة اثباتية ابطالية دائما، بل ان ذلك يشمل ظاهرة العمق والتعمق في الفهم نفسه، فالفهم الاعمق لا يلزم منه بالضرورة ابطال الفهم السابق أو اثباته، بل ان ذاك الفهم السابق نفسه قد أصبح أكثر عمقا(7).
وفي ظني الشخصي فان هذا الجواب لا يحل مشكلة النسبية المطلقة باي وجه من الوجوه، بل انه في الواقع يعد نوعا من الفرار من المشكلة نفسها، اذ ان مجرد القيام بتقسيم القضايا إلى قضايا الدرجة الأولى وقضايا الدرجة الثانية لا يرفع المناط في التشكيك في ما سمي بالتحول والتبدل، إذ أننا نسأل: لماذا كانت قضايا الدرجة الأولى (First Order) في حال تحول فيما قضايا الدرجة الثانية (Second Order) في أمان من هذا القانون؟ ومجرد كون القضية ناظرة إلى قضايا أخرى لا يسوغ هذا التفكيك.
إن علينا أن نسأل: هل أن التشكيك الذي اثاره النسبيون، في مناطه وجوهره، شامل لمثل هذه القضايا أو لا؟ في تصوري الأمر كذلك بالتأكيد، ذلك ان القول بتحول المعارف، وفق تصريحات الكثير من القائلين به، ناشئ عن المحدودية البشرية، ففهم الإنسان يتشكل تبعا لمحدوديته البشرية، ومن ثم فلا مفر من ان تسري تلك المحدودية إلى معارفه.
ومن هنا فإذا كان هذا هو استدلال النسبيين، فان هذه الاشكالية تسري إلى معارف الدرجة الثانية، كما هو الحال في معارف الدرجة الأولى، وحصره بالاخيرة لا دليل عليه.
اما الجواب الثاني المتعلق بمسألة التعميق، فانه يحتاج إلى اثبات مقولة جديدة تسمى «التعميق»، فهل ثمة شيء اسمه التعميق غير التكامل الكمي المتبلور على شكل الاثبات والابطال؟ انني غير قادر على القبول بشيء من هذا القبيل، فالكثير من الأمور التي اطلقوا عليها اسم تعميق الفهم، والفهم المعمق، انما تؤول إلى تأسيس قضية جديدة مختلفة عن القضية الأولى، فمثلا قد يقال أحياناً: ان نظرية الاعتبارات في «الوجوب» هي نوع من تعميق الفهم لقضية «صلاة الجمعة واجبة»(8).
لكن في تصورنا لا تعمق نظرية الاعتبار فهمنا لهذه القضية، ولكنها تفسير يقع في مصاف التفاسير الاخرى التي قد لا تجتمع مع بعضها بعضا، كتفسير الوجوب على اساس ابراز ارادة الامر، أو بيان الضرورة بين الفعل والكمال المطلوب. وعلى اية حال فاصل مقولة تعميق الفهم بشكل مغاير للتكامل الكمي فيه أمر غير قابل للتصديق، فكيف بجعلها اساسا للتحول المعرفي العام(9).
الأطروحة الثانية
إن الكثير من المفردات الواردة في الكتاب والسنة تفسر على ضوء العلوم العصرية، وحيث ان العلوم العصرية في حال تحول دائم، فان فهمنا للكتاب والسنة المشتملين على هذه العلوم هو الآخر في حال تحول أيضاً.
فالشخص الذي يقرأ في القرآن الكريم، مثلا، كيف اقسم الله تعالى بالشمس يفهم إذا كان من ابناء القرن الخامس الهجري ان الله تعالى يقسم بكرة مضيئة تدور حول الأرض، ويبلغ حجمها ما يساوي المئة والستين ضعفا لحجم الأرض. اما لو كان معاصرا مطلعا على العلوم الحديثة فانه يفهم الآية على انها قسم بكم هائل من الغاز الذي تبلغ حرارته العشرين مليون درجة ليشكل كيانا من طاقة ذرية تدور الأرض نفسها حوله، وهكذا الحال في ما يتعلق بمفردات من قبيل التين والزيتون والشمس والقمر والتراب والدم… الواردة في القرآن الكريم، ومن هنا تقوم الافكار العلمية والفلسفية بالتحكم بكل مفردة من هذه المفردات لتمنحها معنى جديدا لم يكن لها من قبل(10).
هذه الأطروحة التي تختزن بشكل واضح التوجه النسبي في فهم الكتاب والسنة تنبني على مبنى غير سليم في ما يرتبط بمداليل الألفاظ، فكأنه حصل هناك تصور يقضي بان التعرف على تمام مواصفات شيء ما وعوارضه هو أمر يعد دخيلا في فهم معنى هذا الشيء، وبعبارة أخرى معاني الألفاظ ذات سعة كبيرة إلى درجة اشتمالها على هذه الاوصاف جميعها، وغايته هو ان معاني الفاظ أي شيء مرتهنة بحجم اطلاع الشخص نفسه على عوارض ذلك الشيء واوصافه وحقيقته.
وسر الخطأ والاشتباه، في هذا الرأي، هو ان اوصاف شيء ما وعوارضه خارجة عن معناه، والا تبدلت بعض القضايا الممكنة بالنسبة للاشياء إلى قضية ضرورية، فالجملتان: «الشمس تدور حول الأرض» و«الأرض تدور حول الشمس» تعدان جملتين ممكنتين، وعلى اية حال فمفهوم كل منهما خارج عن مفهوم موضوعهما، وبالطبع عن اللفظ الدال على هذا الموضوع، واذا لم يكن الأمر كذلك وكانت جملة «الأرض تدور حول الشمس» داخلة في معنى كلمة «الشمس» لكانت قضية «الأرض تدور حول الشمس» قضية ضرورية في هذه الصورة، ذلك ان معنى الشمس وفق الفرض الاول متضمن لهذه النقطة، وهي ان الأرض تدور حول الشمس، والحال ان الذي يبدو لنا هو ان هذه القضية ممكنة، وهكذا الحال في باقي المفردات.
نعم هناك بحث في فلسفة العلم والفلسفة التحليلية يحكي عن ماهية القضايا العلمية، فهل هذه القضايا ضرورية أو ممكنة؟ ومن غير البعيد ان يكون القول بضروريتها هو القول الاصح، لكن هذه المسألة لا تؤثر على البرهان المتقدم، اذ يمكن الاستفادة من التحليلية والتركيبية مكان الضرورية والممكنة، فقضية «الشمس تدور حول الأرض» هي بوضوح قضية تركيبية (Synthetic) حتى لو كانت ضرورية (Necessary)، والحال ان القول بدخول اوصاف الشمس في معنى لفظها يوجب تبديل القضية اعلاه إلى قضية تحليلية، ذلك ان المحمول يتحصل من مفهوم الموضوع، وهي نتيجة لا يمكن الموافقة عليها باي وجه من الوجوه.
وبهذا يتضح ان اوصاف الأشياء وعوارضها ليست داخلة في معنى لفظها، والمعرفة بها هي معرفة يمكن للعلم والفلسفة مثلا الوصول اليها في مورد ذاك الشيء، فلم يختزن دوران الشمس حول الأرض أو دوران الأرض حول الشمس في مفهوم لفظ الشمس نفسه.
وبناء على ذلك، فان معنى المفردات الواردة من هذا القبيل في الكتاب والسنة لا يتغير من هذه الجهة على الاقل. نعم ان معلوماتنا في ما يرجع إلى القمر عندما نقرآ آية {كلا والقمر} (المدثر/32) مغايرة للمعلومات السابقة، لكننا من لفظ «القمر» نفهم ما تم فهمه منذ عدة قرون، أو في صدر الإسلام، ومن ثم فلم يحصل تغاير في المعنى اللفظ ي للقمر، وهناك فارق اساسي وواضح بين هذين الامرين(11).
ان الأطروحة المتقدمة هي نوع بسيط من النظرية التوصيفية للاسماء الخاصة (escriptive theory of proper name) التي يعد بطلانها اليوم من مسلمات الفلسفة التحليلية. نعم، النظرية التوصيفية تملك بيانا أكثر تعقيدا من هذا يقوم على اساس تثبيت المحكي (Fixing Reference)، وعلى اساس مجال القضايا (Scope) ونطاقها، وقد قمت بشرح تفصيلات هذا الأمر في كتابي: «الفلسفة التحليلية، الدلالات والضرورات»، كما تعرضت هناك للاشكالات المتوجهة على هذه البيانات الأكثر عمقا بشيء من التفصيل أيضاً.
أما في ما يتعلق بالنظريات المبينة لماهيات الأشياء فهذا يحتاج بحثا آخر ضروريا أيضاً، فقد يقال أحياناً: ان نظرياتنا الجديدة تعطي عباراتنا ومشاهداتنا معاني جديدة، ولذلك فان المعاني مسبوقة بالنظريات التي تمثل لباسا لها، لكن لا المشاهدات ولا العبارات تعطي جميع النظريات وكافة المعاني، فبعضها أكثر تأييدا فيما بعضها الآخر لا تأييد فيه من الأساس والجذر، فثبات الألفاظ لا يصح اعتباره مساويا لثبات المعاني وموجبا له، فالمعاني تابعة للنظريات، وحيث ان النظريات متبدلة فان المعاني متبدلة أيضاً في الوقت الذي تكون فيه الألفاظ ثابتة(12). وقد اشار هذا القائل إلى النظريات المرتبطة بالماء والتراب والسماء والأرض في الماضي والحاضر كما جعل من اختلافها مؤكدا لكلامه هذا(13).
والحق ان هذه المسألة تختلف عن المسألة السابقة، فالمدعى هنا هو ان النظريات التي تعطينا مثلا البنية الماهوية للاشياء تعد أيضاً معينة لمعانيها، وهذا الادعاء أكثر وجاهة حسب الظاهر من الادعاء السابق الذي كان يقول: ان اوصاف الشيء وعوارضه دخيلة في مفهومه، فالمدافع عن المدعى المتقدم يمكنه القول: ألم توضع الألفاظ للماهيات؟ ألم يوضع لفظ الماء، مثلا، لماهية الماء؟ وعليه فإذا قالت النظرية: ان ماهية الماء عبارة عن «العنصر البسيط السيال»، فان المعنى يكون قد تحصل بذلك، وفي المقابل إذا قيل: ان ماهية الماء عبارة عن «HO2»، فان المعنى سوف يتغير. فاذن في حالة النظريات التي تشرح البنية الماهوية للاشياء يمكن القول: ان هذه النظريات تقوم بتعيين معاني الألفاظ لهذه الأشياء.
وبالرغم من الوجاهة الظاهرية لوجهة النظر هذه الا انه لا يمكن اعتبارها صحيحة، ويمكن بالمزيد من التأمل تبين النواقص الموجودة فيها، فحتى في موارد الألفاظ ذات الماهية الواقعية لا يمكن اعتبار النظرية المرتبطة بماهياتها مؤثرة في معانيها، فلو كان الوضع على هذه الحالة كان ينبغي ان تكون قضية «HO2» قضية تحليلية (Analytic Synthetic) بكل وضوح، فليس الأمر بحيث ان معنى المحمول قد تم استخراجه من معنى الموضوع، ومن ثم فصدقه انما هو بلحاظ عالم المعنى فقط، بل ان هذه القضية ذات محتوى عيني وواقعي مرتبط بالعالم الخارجي.
سول كريبكي (Saul Kripke) في كتابه: (التسمية والضرورة) (Naming and Necessity) سجل مجموعة من الادلة في رد المدعى المتقدم، وقد طرحت هذه الادلة بشكل مفصل في كتاب: «الفلسفة التحليلية، الدلالات والضرورات» ولا مجال لبحثها هنا.
واكتفي هنا بالاشارة إلى ان الشيء المعقول حتى في مورد اسماء الماهيات هو وضع اللفظ للماهية بنحو الاجمال، اما تفاصيل الماهية (اي تلك الماهية التي لا نملك المعلومات الكافية عن زواياها بالدقة) فهي خارجة عن مدلول الألفاظ، وهذا يعني ان مدلول لفظ «الماء» هو الاشارة الاجمالية للماهية المجملة التي نعرف مصاديقها البارزة، ومن ثم ففي هذا المعنى الاجمالي لا علاقة لـ «العنصر البسيط» ولا لـ«HO2» أيضاً بل ولا لأية خصوصية أخرى يمكن ان تقترح من قبل النظريات المستقبلية.
وبناء عليه، فان ما نفهمه من لفظ الماء في قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ﴾ [المؤمنون/18] وما كان يفهمه المسلمون الاوائل في صدر الإسلام نفسه، والتفاوت الوحيد هو انه من الممكن ان تكون اطلاعاتنا عن الماء غير متوافرة لدى مسلمي صدر الإسلام، وهو تفاوت لا علاقة له بمعنى اللفظ ومدلوله.
الأطروحة الثالثة
كلما كانت هناك مصادرات دخيلة في قبول الوحي فان هذا سيكون دخيلا في فهمه، وحيث ان المصادر والفرضيات القبلية الدخيلة في الاعتراف بالوحي انما تمثل في الواقع الفهم الخاص للمتدينين عن العالم والإنسان فانه لا محالة سيكون مبنيا على جملة مبان فلسفية ومعرفية خاصة(14). وحيث ان هذه المباني الفلسفية والمعرفية في حال تحول دائم فان فهم الكتاب والسنة سيكون هو الآخر في هذه الحال أيضاً.
في تصورنا فان الملازمة بين الفرضيات القبلية للاعتراف بالوحي وفهمه انما هي مجرد ادعاء، وهو ادعاء غير صحيح، ولا يمكن باي وجه من الوجوه ان تكون شروط الاعتراف بالوحي دخيلة في فهمه، ومن أفضل الأدلة على هذا الكلام التحقيقات التي قام بها المستشرقون على صعيد فهم الكتاب والسنة، فإذا بنينا على ان ما كان شرطا في قبول الوحي شرط في فهمه أيضاً فهذا يعني انه لا يمكن لأي مستشرق مسيحي ان يفهم القرآن الكريم أو يدرك الأحاديث النبوية وهكذا، وهي نتيجة لا يخفى وضوح بطلانها على أي مبتدئ.
وسر الخطأ في هذا المدعى هو الخلط الذي حصل بين عمليات «فهم النص» وقبوله، فمن الممكن ان يفهم الإنسان نصا معينا، من دون ان يكون معتقدا به، نعم لابد من ان يكون هناك نوع من التناغم والانسجام، لدى المؤمن، بين معتقداته وبين فهمه للقرآن والسنة، بيد ان هذا الانسجام لا يعني توقف واحد منهما على الآخر.
ما تقدم حتى الآن كان عبارة عن عرض ثلاث أطروحات من بين مجموعة أطروحات مختلفة متصلة بالاتجاه النسبي في فهم الدين، وهناك بيانات أخرى متعددة أيضاً تتعلق بهذه النسبية لا مجال مع الاسف لطرحها هنا ومن ثم نقدها، لكن المقدار الذي بيناه يمكنه ان يدلل على ان أطروحة الفهم الديني النسبي مقولة مبنية على اسس غير سليمة في باب الهرمنيوطيقا (Hermenutics) وفلسفة اللغة (philosophy of Language) يمكن بتنقيحها.
النسبية من المنظار الديني
كان الكلام في البحث السابق منصبا على المذهب النسبي من زاوية خارجية، أي خارج النطاق الداخلي الديني، لكن يجدر بنا الانتباه إلى أمر آخر أيضاً، وهو: هل ان هذه النسبية يمكن الاعتراف بها من جانب الكتاب والسنة أو انها منفية جزما؟ في تصورنا الاحتمال الثاني هو الاحتمال الصحيح، فما يستنتج من مجموع الآيات والروايات المتعددة يفيد بطلان الاتجاه النسبي ورده بشكل قاطع، وفي الحقيقة الدين، بفرضياته القبلية، لا يمكنه القبول بنسبية الفهم لدى مخاطبيه وبشكل مطلق، أي ذاك الفهم المتعلق بما جاء في الكتاب والسنة بحيث لا نكون قادرين على القول: ان الكتاب والسنة يدلان واقعا على هذا الامر.
من جملة الآيات التي لازمها نفي الاتجاه النسبي تلك الآيات التي تعبر عن القرآن الكريم بانه «نور» وكتاب «هداية» وتنعته بذلك: ﴿ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ﴾ [المائدة/15]، ﴿وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ﴾ (الاعراف/157)، ﴿هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران/138)، ﴿هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف/203).
إذا كانت كافة الاستنتاجات والتصورات التي نحصل عليها من فهم القرآن الكريم تخضع لإطار النقص والضعف البشري بلا استثناء، ولذلك فهي في حالة سيلان دائم، بحيث لا يمكننا أن نجزم بأي أمر نفاه القرآن أو اثبته… في هذه الحالة كيف يكون القرآن الكريم كتابا هاديا؟! فالكتاب والسنة لا يمكن أن يكونا هاديين إلا في الحالة التي يمكن الوصول فيها إلى بعض المحتويات والمضامين التي يحويانها بشكل قاطع ومطابق للواقع.
ومن جملة هذه الآيات تلك الآيات التي تفرض على المسلمين أتباع الكتاب والنور الإلهي كما تعد أتباع النبي (ص) أمراً لازماً أيضاً: ﴿اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾ (الأعراف/3)، ﴿وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ﴾ (الانعام/155).
متى يمكننا القول: اننا اتبعنا القرآن الكريم؟ إذا كانت كافة استنتاجاتنا من القرآن قابلة للتردد والتشكيك، فان الأمر باتباع القرآن سيكون في هذه الحالة بلا معنى بل فوق طاقة البشر، فوفق النظرية النسبية ما يمكن ان يتبع في كل عصر أو ما يتبع فعلا، انما هو مجرد ظنون وتخيلات يمكن ان تطابق الواقع كما يمكن ان لا تكون كذلك.
ومن جملة الآيات هنا أيضاً الآية الشريفة: ﴿يُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾، وهذه الآية تدل بصراحة على ان الله تعالى وعن طريق النبي سيقوم بتعليم المسلمين الكتاب والحكمة، فإذا ما كان الفهم البشري في الواقع ناقصا على الدوام فكيف يمكن ان نقول: ان المسلمين قد تعلموا الكتاب والحكمة من النبي (ص)؟! ومن الآيات، أيضاً، ﴿هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ﴾ (آل عمران/138)، ﴿هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ﴾ (الاعراف/203).
ومن الواضح انه لا يمكن للقرآن أن يكون بيانا للناس أو بصائر لهم إلا في الحالة التي يمكن للناس أن ينالوا فيها الفهم المطابق لهذا الكلام، فإذا كانت إفهامنا عن القرآن الكريم ناقصة بشكل دائم فكيف يمكن أن يكون القرآن بيانا لنا أو بصائر كذلك؟ ويقول الإمام علي (ع) في نهج البلاغة: «وعليكم بكتاب الله فانه الحبل المتين» (الخطبة 156)، أي ان كتاب الله هو الملجأ لمن تمسك به، فإذا كان افتراضنا عبارة عن انه لا يمكن في أي حال من الأحوال التوصل إلى يقين بمضمون هذا الكتاب المقدس ومن ثم فهمه، فهل يمكن أن يكون تمسكنا به ذا معنى من المعاني؟! بل الصحيح ان التمسك به لا يكون إلا إذا أمكن الوصول ولو إلى مرتبة من مراتب معانيه.
ويقول (ع) في موضع آخر: «وشاهدا لمن خاصم عليه» (الخطبة 198)، أي ان القرآن شاهد لمن أراد التمسك به في مقام المخاصمة، فلم يقل الإمام: ان ظنونكم أو تصوراتكم التي حصلتم عليها من الكتاب والسنة هي شاهدكم لدى المخاصمة، بل قال: ان القرآن شاهد، وهذا يعني امكانية الوصول إلى فهم القرآن ولو برتبة نازلة منه ليكون بذلك موردا للاحتجاج ومستمسكا في الخصام.
الخلاصة
لقد الهبت النسبية في فهم النص الديني بالمعنى الذي تقدم في صدر البحث في مرحلة من المراحل، الجو العام، وشملت في تأثيراتها بعضا من الكتاب المسلمين في مختلف البلدان الإسلامية، لكن خطر هذه النسبية لا يلمس بشكل جيد من دون الالتفات إلى ما يترتب على قراءتها ودرسها والاقتناع بها، فالنسبية تفضي في النهاية إلى نوع من العلمانية، كما انها تفرغ الكتاب والسنة من الهداية التي تمثل الهدف الأصلي لهما.
في تصور كاتب هذه السطور ان طرح هذا النوع من التشكيك والنسبية وترويجه يمثلان خطرا كبيرا على المجتمعات الإسلامية، لاسيما ان هذا النوع من النظريات يثار ويعرض على انه «نزعة تجديدية في فهم النص الديني» و«قراءة حديثة للكتاب والسنة» و«رفض التعصب في تفسير المصادر الدينية» و«إحياء الإسلام» وامثال هذه العناوين. نعم ليس ثمة محقق معارض للتجديد الصحيح في فهم النصوص الدينية والاجتهاد المستمر بالمعنى الواقعي للكلمة فيها، كما انه ليس ثمة محقق وباحث يقبل بالتعصب في فهم النص الديني، الأمر الذي يؤدي إلى الأضرار بمنهجه التحقيقي، لكن البحث يدور حول حدود هذا الاجتهاد والإحياء ونفي التعصب. ان النسبية في فهم النص الديني تجر إلى عدم ابقاء أي تأثير ودور جوهري للكتاب والسنة، والى ان يصبح حالهما كما في ثنايا المعارف البشرية هزيلا فارغا الا من الاسم.
وبناء عليه، فعلى المحققين المسلمين التعرف بدقة إلى هذا الخطر وزواياه وتجنب النتائج السيئة له والقيام بقراءة نقدية لأسسه النظرية والفكرية.
الهوامش:
(1) .Teh Reading of Islamic Sources – Criticism </
From aModemist Viewpoint. .
هذه المقالة، في الاصل، محاضرة القاها الشيخ صادق لاريجاني في ملتقى «الإسلام والحداثة»، الذي انعقد في 4و5/12/1375ﻫ.ش الموافق 1997م، في مدينة اسطنبول التركية.
(2) توصل توماس كوهن من خلال طرح الاطر (Paradigm) في فلسفة العلم الى عدم امكان قياس النظريات بعضها على بعض (incommensurabiliy)، وهو ما دافع عنه أيضاً فايرابند، ومن بين الكثير جدا من الكتب والرسائل في هذا المجال يبمكن الرجوع الى المصادر الآتية:
Thomas Kuhn، The Structure of. ( Chicago، 1962). @ CScientific Revolution P A Musgrave (ed)، Criticsim and The growth of 1970). @ E
Knowledge، ( CAMBRIDGE University Press @ 285 @ 1789 P 223 (Verso، 1978). @ Method، PP.142. @ UP. Feyeraband، Against
(3) لقد توصل غادامر بطرحه تاريخية الفكر البشري وتقدمه بالفرضيات القبلية وتوقعات القارئ، ومن ثم تبدل هذه المصادرات والتوقعات على مر التاريخ، وتوصل الى القول بنوع من النسبية المطلقة الكاملة في الفهم البشري، تلك النسبية التي اقر بها هو نفسه.
(4) توصل كواين بطرحه النظرية القائلة ان النظريات تعطي الألفاظ معانيها الموجودة في داخلها، وهذه النظريات لا يمكن اختبارها بمفردها بل لابد من اختبار العلم كله دفعة واحدة… توصل لنوع من الكلية (Hoslism) التي تعبر عن اساس لنسبية المعنى من الدرجة الاولى، وهذه النسبية تعد واحدة من اهم
اسس أطروحة عدم قياسية النظريات (incommensurability)، وبالرغم من ان البحث كان يدور في البداية حول الفاظ النظرية (Theoric term) الا انه، وعلى اثر التحقيقات اللاحقة على يد بوبر وفايرابند والآخرين، تم منع التمييز بين الفاظ النظرية والفاظ غيرها من حيث اتصالها بالنظرية، ومن هنا قالوا: ان مقولة المذهب الكلي إذا صحت في مورد الفاظ النظرية فانها سوف تصدق في كافة الموارد.
)5) يقول فيتغشتاين وفقا لبعض العبارات الواردة في الكتاب التحقيقي الفلسفي (Philosophical Investigation) ان معنى الكلام عند المتكلم وكذلك عند السامع تابع لنمط حياتهما (From of Life)، ومن هنا من الممكن ان يكون كلام مؤمن بالله تعالى وكلام ملحد به، ينفي احدهما وجوده فيما يثبته الآخر، كلامين غير متناقضين، وهذه النظرية المعروفة بالنظرية الايمانية إذا جرى اخذها بصورتها العامة فانها تنتج نسبية من الدرجة الاولى، الا ان الانصاف ان فيتغنشتاين يعترف في النهاية بان بعض الحقائق والمعاني متحدة في كافة اشكال الحياة. وبعبارة أخرى: هناك مشتركات في الحياة ونمطها تمثل نحوا من حياة موحدة يشترك فيها كافة البشر، وفي هذا النحو من الحياة الوحدانية ترد القضايا والمعاني على شكل واحد كما تفهم بشكل واحد، لاجل التعمق في هذا البحث يمكن الرجوع الى النماذج الآتية:
أ – (1976 ،Blackwell ) 226 ،174 ،241 ،23 ،19.L. Wittgenstein، Philosophical Investigation PP
ب – (1982 ،Routledge ) 140 63 . ،Nielson، An K. Ineroduction to Philosophy of Religion، PPConway، Wittgenstein on Foundations، 1989). @ U. G. (Humanities) Press والكتاب الأخير مخصص باكمله لدراسة نظرية انماط الحياة واشكالها.
(6) لقد تكرر هذا الادعاء بصور واشكال مختلفة وان بمضمون واحد في كلمات المثقفين المسلمين
والعلمانيين انظر:
أ – محمد اركون، من الاجتهاد الى نقد العقل الإسلامي.
ب – محمد اركون، العلمنة والدين.
ج – نصر حامد ابو زيد، نقد الخطاب الديني.
د – نصر حامد ابو زيد، النص السلطة الحقيقة.
ﻫ – عبد الكريم سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت، ص 85، 128.
و – عادل ظاهر، الاسس الفلسفية للعلمانية، ص 347 وما بعدها.
(7) عبد الكريم سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت، ص300، 302.
(8) م.ن، ص187.
(9) صادق لاريجاني، معرفت ديني، ص135، 142.
(10) عبد الكريم سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت، ص280 و281.
(11) صادق لاريجاني، معرفت ديني، ص119، 125.
(12) عبد الكريم سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت، ص190.
(13) م.ن.