تمهيد
راقب بنو العبّاس ــ كبني أميّة ــ سلالة النّبي 2 على الدّوام، بُغية الحدّ من تنامي قدرة العلويين، ولم يكن هناك في هذا المجال من شيءٍ يمنعهم عن ارتكاب أيّة جناية بحقّ شيعتهم أهل البيت E للحدّ من نفوذهم، ومع درايتهم بأنّ ابن الإمام الحسن العسكري H هو إمام الزَّمان والمهدّي الموعود، إلا أنّهم لم يألوا جهداً في البحث عنه منـزلاً منـزلاً، وبيتاً بيتاً، وشارعاً شارعاً لإلقاء القبض عليه، وقد شكّل البحث عنه، بداية ما يسمّى: مرحلة الغيبة، والتي أطلق عليها اسم «الغيبة الصغرى».
وقد ظلّ الإمام المهدي متوارياً عن الأنظار، حافظاً ارتباطه بالشّيعة عبر نوابه الخاصّين، وسعى الشّيعة إلى تسليم لأموال الشرعيّة لنوّابه، مع علمهم بأنّ هذا العمل يهدّد حياتهم من قبل العبّاسيين، وعبر النوّاب كانوا يعرفون وظيفتهم الدينية إزاء الأوضاع الاجتماعيّة والسياسيّة التي كانت تحيط بهم.
وقد كانت ملاقاة هؤلاء النّواب البارزين في الوسط الشّيعي صعبةً جدّاً، حتى لكبار الشيعة، فكيف الحال بعامّة الناس!؟ وكان الشّيعة في هذا العصر ــ عصر الغيّبة الصغرى ــ يبحثون عن كتابٍ يستطيعون من خلاله حلّ المسائل السياسيّة والقضايا الاجتماعيّة والأخلاقيّة والفقهيّة بشكل جيّد طبقاً لمنهج أهل البيت E وما جاء على ألسنتهم، كانوا يريدون الرّجوع إلى هذا الكتاب بكل اطمئنان لا من أجل معرفة الأحكام الإسلاميّة والعمل بها فحسب، بل يمكن القول: إنهم كانوا يريدون بهذا الكتاب الاستغناء عن الرجوع إلى المراكز العلمية للتشيّع وإلى نواب الإمام المهدي الخاصّين، الأمر الذي لم يكن يتسنّى لـهم بسهولةٍ في ظلّ أجواء الاختناق التي خلقتها السّلطات العباسيّة، والملاحقات التي كانت تقوم بها.
مولد الكليني
ولد الكليني في قرية كُلَيْن التي تبعد 38كلم عن الرّي([1])، واسمه محمد بن يعقوب بن إسحاق، كان والده رجلاً صاحب فضائل وصفاء، وكان الأذان والإقامة من أوّل الأصوات التي سمعها في حياته، تلقّى دروسه الأولى في كنف أمّه، التي تنتسب إلى إحدى عائلات العلم والحديث الكبرى في ذلك الزمان، وكان خاله «علي بن محمد بن إبراهيم بن أبان» المشهور بأستاذ علماء الحديث، من نوادر ذلك الزمان، وكان صاحب قدم راسخة في العلم والتّقوى، ومحلّ ثقةٍ من قبل رواة الحديث وعامّة الناس.
يقول عنه صاحب «شهداء الفضيلة»: «شيخ المحدّثين، أبو الحسن علي بن محمد بن إبراهيم بن أبان الرازي الكليني الشهير بعلاّن، خال ثقة الإسلام الكليني، وشيخ روايته، وأكثر الرواية عنه بغير واسطة، وهو أحد العدّة الأجلاء الذين يروي بواسطتهم عن سهل بن زياد»([2]).
عرف شيعة الرّي خال الكليني باسم «علاّن»، ورغم أن علي بن محمد بن إبراهيم كان رجلاً ذا نفوذٍ كبير، إلاّ أنّ عظمة هذه الأسرة العلميّة الكبيرة على مرّ الأيّام أدّت إلى أن يطلق هذا اللقب ـ علاّن ـ على الأسرة برمّتها.
يقول العلاّمة الأميني S: «وأحسب أنّ علاّن لقب بيته الرفيع؛ فقد ذكره أئمة الرجال في ترجمة محمد بن إبراهيم الرازي الكليني، والظاهر أنّه أبو المترجم، وفي أحمد بن إبراهيم الرازي الكليني، والظاهر أنّه أخوه، وأنهما يُعرفان بعلان، ومن ذلك يظهر أنّه ليس بلقبٍ خاص بالمترجم، وإنّما يُعرف به رجال بيته وذووه»([3]).
درس الكليني عند والده وخاله، مستفيداً من الأخير في علمي الرّجال والحديث، وقد استشهد خاله المذكور في طريق الحجّ وزيارة بيت الله الحرام، وكان نبأ استشهاده مفجعاً للمجتمع الشيعي في ذلك العصر، وبالأخص محافل علم الحديث.
ورغم مرور قرون على شهادته: «ذكر المترجم بالثقة في جميع هذه الكتب وبالشهادة في كثير منها، وثقته كشهادته من المتسالم عليها بين علماء الرجال..»([4]).
ترعرع الكليني على يد هذا المحدّث الشهيد والأب الكبير، وإذا ما ذهبنا اليوم إلى كُلَينْ ــ بالقرب من «حسن آباد» في مدينة الرّي ــ فسوف نشاهد قبر والد الكليني «يعقوب بن إسحاق»، كيف غدا مزاراً للشّيعة ومكاناً لتوسّلهم هناك، رغم كلّ هذه القرون التي مضت وتصرّمت، وهذه علامة على علم الرجل وتقواه، ذلك الرجل الذي كان ربّى ابنه ــ الكليني ــ على العلم والإيمان والفضيلة أيضاً.
سافر الكليني من كُلين ـ بلد المحدّثين ـ بعدما حصّل مراحله الابتدائيّة فيها، وتعرّف على مصادر الرّجال والحديث والعلم في مدرسة أهل بيت العصمة والطّهارة E، لقد قصد الكليني مدينة «الرّي» للمضيّ قُدُماً في كسب العلم، وتنمية طاقاته الذاتيّة والارتواء من بحار علوم الوحي التي لا نهاية لـها، وطيّ منازل الكمال الإنساني.
الكليني في الريّ
لا تبعد مدينة «كلين» عن مدينة «الري» أكثر من ستة فراسخ ونصف الفرسخ، وقد كانت مدينة الري ــ قبل وصول الكليني إليها ــ تضمّ أغلبيةً شافعيّة، لكنّها كانت معروفة ــ منذ القديم ــ بمسكن الشيعة، إذ كان بعض الشيعة الموالين يعيشون في القرى المجاورة لـها ممّا أدّى إلى تأثيرهم الأخلاقي والسلوكي والالتزامي على الأغلبية السنّية التي كانت تقطنها.
كانت مدينة الري في ذلك الزمان من أكبر المدن الإيرانيّة، بل ومدن العالم الإسلامي، وكانت تخطف أنظار المسافرين الذين يمرّون بها للمرّة الأولى.
يكتب العالم الجغرافي ياقوت الحموي في وصف هذه المدينة في عهد الكليني فيقول: «وقد حكى الاصطخري أنّها كانت أكبر من أصبهان (إصفهان).. والرّي مدينة ليس بعد بغداد في المشرق أعمر منها، وإن كانت نيسابور (نيشابور) أكبر عوصةً منها.. وهي مدينة مقدارها فرسخ ونصف في مثله.. وللرّي قرى كبار كلّ واحدةٍ أكبر من مدينة..»([5]).
يتّضح من كلام الاصطخري أنّ مدينة كُلين لم تكن كما هي اليوم بعد مضي قرون، بل كانت مدينةً كبيرة وعامرةً إلى جانب المدينة الكبرى المسمّاة بالري.
وقد كانت هناك مجموعة من الفِرَق والمذاهب المختلفة في هذه المدينة التي تقع في قلب البلاد الإيرانيّة، وكانت تتعايش هذه المذاهب مع بعضها بكل هدوء واستقرار، لكنّ هذا الهدوء كان عرضةً للتغيّر بسبب التحرّكات والأنشطة السياسيّة، ذلك أن مدينة الري كانت نقطة عبورٍ أساسيّة إلى نيشابور، وخراسان، وطبرستان (مازندران حالياً)، وكانت تعدّ من أخصب المناطق الإيرانية بل والإسلامية، وأكثرها عطاءً وإنتاجاً زراعياً، مما يجعل من الاستيلاء عليها استيلاءً تاماً على المناطق الإيرانيّة برمّتها.
وقد جعلتها هذه الخصوصيّة الجغرافيّة محلاً للتنافس والتناحر بين المذاهب المختلفة والفرق الجديدة الحادثة؛ لتجد كل فرقة موطأ قدمٍ لـها في تلك الديار.
وكانت الفرقة الإسماعيلية أكثر الفرق شغفاً وحرصاً على السيطرة على مدينة الري، وذلك بدافعٍ من رغبتها في التسلّط على البلاد الإيرانيّة، فقد سعت على الدوام إلى بثّ أفكارها وآرائها هناك.
وحيث تحوّلت الريّ إلى نقطة تصادم الآراء والفرق والمذاهب المتعددة مثل الإسماعيليّة والشافعيّة والحنفية والشيعة الإثني عشرية و.. جعلت من الكليني آنذاك باحثاً مطّلعاً ــ علاوةً على درسه الخاص ــ على المذاهب والفرق المتعدّدة، بل أدّى به مناخ الريّ إلى تكوين دراية تامّة بالحركات التي حرفت التشيّع عن مسيره، لقد وضع الكليني يده على الداء مما ساعده على المعالجة واكتشاف الدواء، وقد أشار هو نفسه في مقدمة كتاب «الكافي» إلى أن مرض الناس يعود إلى انفصالهم عن كلام أهل البيت E، ومن ثم فإن دواءهم إنما يكمن في كلامهم E فقط.
ولذا صمّم الكليني في هذه الفترة ــ وبعيداً عن الصخب والضجيج ــ على عدم اختيار طريقٍ عدا طريق ضبط الأحاديث وجمعها، ومن هذا المنطلق استفاد من أساتذة عدّة أمثال أبو الحسن محمد بن الأسدي الكوفي الذي سكن مدينة الري([6])، وقد حضر الكليني عند أستاذه وباحثه بكلّ أدب واحترام، مبدياً من نفسه جدارة بارعة، كما أضفى وجود قبري: حمزة بن موسى بن جعفر L، والسيد عبدالعظيم الحسني L، جوّاً روحياً على المدينة كلّها مما بثّ روحاً جديدة نشطة للدرس والمباحثة عنده، وزاد عنده من العزم والحيوية في هذا السبيل؛ من هنا، وُلد الكليني من جديد وأصبح أكثر تصميماً على متابعة الطريق الذي اختاره.
وقد تلازم مع هذه الفترة تشكيل أوّل حكومة شيعيّة من طرف العلويين في طبرستان (مازندران)، خلافاً للرغبة العباسيّة، مما أدّى إلى تقوية الشيعة في الري وتوفير المناخ لبسط سلطتهم ونفوذهم عليها.
واستمرّ الحال على ذلك إلى أن أدّى وصول أحمد بن الحسن المادرائي([7]) إلى الريّ وسيطرته عليها إلى إحكام الشيعة قبضتهم على المدينة، يقول ياقوت الحموي: «وكان أهل الرّي أهل سُنّة وجماعة إلى أن تغلّب أحمد بن حسن المادرائي عليها، فأظهر التشيّع، وأكرم أهله، وقرّبهم، فتقرّب إليه الناس بتصنيف الكتب في ذلك، فصنّف لـه عبدالرحمن بن أبي حاتم كتاباً في فضائل أهل البيت وغيره، وكان ذلك في أيّام المعتمد، وتغلّبه عليها في سنة 275هـ، وكان قبل ذلك في خدمة كوتكين بن ساتكين التركي، وتغلب على الرّي وأظهر التشيّع بها واستمرّ إلى الآن..»([8]).
وثمة أسئلة بقيت مبهمة تلحّ على جوابها، هل كان الكليني يعيش في مدينة الري سنة 275هـ، أي في الفترة التي نمت القدرة الشيعية فيها؟ وهل كان شاهداً قريباً على ذلك أم لا؟ هل ترك مدينة الري ــ بهدف الذهاب إلى مدينة قم ــ قبل حركة المادرائي أم كان ذلك بعدها؟
أسئلةٌ تضاف إلى مجموعة الأسئلة التي تستهدف تجلية التاريخ الغامض للكليني، إلا أنّ ما نستطيع قولـه هو أن الكليني أمضى في الوقت الذي عاشه في الريّ والسنين التي أعقبت ذلك.. أمضى أغلبية أوقات حياته في مجال الحديث وعلومه، دون أن يكون بعيداً أو غافلاً عن الأحداث التي أصابت الشيعة من حولـه، فلم يكن منعزلاً عن ذلك أبداً، فحضوره ــ بكلّ شجاعة ــ في معضلة القرامطة يؤكّد على مدى حضوره عموماً في الوسط الشيعي، ففي كل مراحل حياته ــ مرحلة شبابه وشيخوخته ــ لم يكن الكليني بعيداً عن المجتمع الشيعي وهمومه واهتماماته، رغم أننا لا نعرف بالضبط كيف سعى الكليني لحماية الجماعة الشيعية من الأخطار إلى جانب عامّة الشيعة رغم انشغاله بالقضايا العلمية وعلم الحديث بالخصوص؟
عصر الحديث
لابدّ من تسمية عصر الكليني بـ«عصر الحديث»؛ وذلك لتلازمه وبداية النهضة الحديثيّة وشغف الناس بسماع الأحاديث والروايات وتدوينها على امتداد العالم الإسلامي، فقد كان عُطاشى علم الحديث يبحثون عن رواة الحديث من مدينةٍ إلى أخرى، ومن مجلس إلى آخر، غير آبهين بالمصاعب التي تواجههم، حيث سافروا إلى مناطق مختلفة بغية ملاقاة رواة الحديث للنهل من معين الأحاديث التي يعرفونها، وقد كان سلوك طلاب الحديث سلوكاً بالغ الأدب مع رواة الحديث، إذ كانوا يصغون لـهم، فمنهم من كان يحفظ ما يُقال، ومنهم من كان يكتبه على دفتره.
أما الجهود التي بذلها أهل السنّة في هذا العصر، فقد كانت مميّزةً للغاية، بما يمكّننا من القول وبجرأة: إنّ كل ما لدى أهل السنّة إنما كان نتاج هذا العصر، فقد نجحوا في أقلّ من قرنٍ من الزمن في تدوين الصحاح الستّة، وهي الكتب الحديثية الرئيسية لديهم والمرجع الحديثي الأعلى عندهم.
لقد أمضى البخاري (256هـ) ستّة عشر عاماً من عمره في السفر إلى مدن خراسان، والعراق، والشام، ومصر، من أجل جمع الأحاديث، واضعاً نتيجة ذلك «صحيح البخاري» في تصرّف أهل السنّة.
كما سافر مسلم بن الحجاج النيشابوري بعده إلى بلدانٍ مختلفةٍ، ليؤلّف بعد ذلك «صحيح مسلم»، مودّعاً الحياة في نيشابور عام 261هـ.
وهكذا دوّن أبو داوود السجستاني (275هـ) «سنن أبي داوود»، كما كتب محمد بن عيسى الترمذي (279هـ) «جامع الترمذي»، فيما دوّن محمد بن يزيد بن ماجة القزويني (273هـ) «سنن أبي ماجة»، ليختم الجهود هذه عبدُالرحمن أحمد بن علي بن شعيب النسائي بتأليف كتاب «سنن النسائي».
وبإطلالةٍ عابرةٍ على تاريخ وفاة كُتّاب الصحاح المعتمدين من قبل أهل السنة، نصل إلى هذه النتيجة وهي أنّ كل كتّاب الصحّاح الستة ــ ما عدا البخاري([9]) ــ كانوا معاصرين للكليني، بل قد دوّنت بعض الصحاح في الوقت ذاته الذي تمّ فيه تدوين كتاب الكافي مثل سنن النسائي أنموذجاً، من هنا تستبين لنا أهمية الأحاديث والروايات في هذا العصر، وحضور الثقافة الحديثيّة الفاعل في الأوساط العلمية والعامّة.
وفي الوقت الذي كان الكليني فيه مشغولاً بكسب العلم والمعرفة، كان تلامذة الإمام الهادي B والإمام الحسن العسكري B وحتى الذين سمعوا أحاديث الإمام موسى الرّضا B.. كانوا ما يزالون أحياءً منهمكين بنقل الأحاديث والروايات.
لقد دوّن هؤلاء الرواة عدداً من الكتب الصغيرة والمتفرّقة من أحاديث أهل البيتE دون أن تترك تلك الحقبات الزمنية شيئاً آخر، وإنه لأمر عُجاب أن تكون الكثير من هذه الكتب قد اختفت، نعم، لقد كان الكيان الحديثي الشيعي برمّته مهدّداً هو الآخر بالاندثار أيضاً.
حصل ذلك في عصرٍ كان الجسر الوحيد الذي يربط الناس بأهل البيت E ما يزال حيّاً يرزق، ولكن رغم ذلك، كان التشيّع بصورته الواقعية عرضةً للتحريف والتزوير([10])، والأهم من كلّ هذا اختفاء الإمام المهدي عن أعين الناس، الأمر الذي ساعد على تغيّر مسار التشيّع عامّة، وفقدان الشيعة تراثهم الثقافي.
لقد عرف الكليني عصرَه ووعاه، وفهمه بوصفه عصر عبور التشيّع من مرحلةٍ إلى أخرى، كما أدرك أنّه إذا ما بقيت الأحاديث والروايات في هذا العصر، وحفظت للعصور اللاحقة فسيسلم التشيّع ومعارفه، ويبقى بعيداً عن الانحراف، إنّه يستطيع حينئذٍ وبجدارة إكمال طريقه.
ومن أجل هذا، ترك الكليني مدينة الري بكلّ ما فيها من الروعة، مهاجراً إلى مدينة قم، مدينة المحدّثين والرواة، وطلاب علوم أهل البيت E.
الحالة العلمية في مدينة قم في عصر الكليني
«قم بلدنا وبلد شيعتنا»، هذا ما قاله سادس أئمة أهل البيت E، الإمام جعفر بن محمد الصادق B.
لم تكن قم بلداً فحسب، بل حرماً لأهل البيت E، كما قيل: «وإنّ لنا حرماً وهو بلدة قم» ([11]).
إنّ فضل قم وأهلها كالشمس في رائعة النهار، فقد صرّح الأئمة الأطهار E مرات ومرّاتٍ متعدّدة بفضائل هذه المدينة وأهلها، لأن كبار أصحاب الأئمة E أمثال يونس بن عبدالرحمن وزكريا بن آدم وغيرهما كانوا قد نهضوا من هذه المدينة، ومن بين بيوتها وأزقّتها.
كانت هذه المدينة المقدّسة أمنيةً للعيش، ليس فقط لكل شيعي محبّ لأهل البيتE، بل لأصحاب الفرق والمذاهب الأخرى أيضاً، فقد نُقل عن أحد الحكّام قولـه: لقد كنت والياً على قم لمدّة سنوات، وعاملاً للسلطان فيها، لكنّ نظري ــ طيلة هذه المدّة ــ لم يقع على امرأة قط([12])، وقد جاء في التواريخ أنّ الولاة الذين حكموا قم لم يسكنوا فيها أبداً([13]).
لقد تزامن مجيء الكليني إلى مدينة قم مع خضوعها تحت يد رجالٍ ذوي فضيلةٍ وتقوى، كانوا من مشاهير رواة الحديث، وكان في قمّة هذا الهرم أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري الذي يعود نسبه إلى مالك بن عامر الذي كان من أشراف اليمن، وقد أتى إلى مكّة وتشرّف بالحضور عند رسول الله 2 واعتنق الإسلام هناك، بعدها عاد إلى اليمن، واصطحب معه في السفينة سبعين من أفراد قبيلته المتسمّين بالأشعريين إلى مكّة المكرّمة، وقد كان من بينهم نساء أسلموا فيها([14]).
كان مالك بن عامر الأشعري من أصحاب الرسول 2 ومن الأشخاص الذين كان رسول الله 2 على ارتباط بهم، بعد وفاة الرسول الأكرم 2، هاجر مالك وأصحابه إلى الكوفة التي أصبحت فيما بعد مقرّاً لـهم، كما كان لمالك ولدان: سعد وصائب، وكانا من أشراف العراق ومن المتمسّكين بتشيّعهما.
ترك الأشعريّون الكوفة بعد مقتل محمد بن صائب بن مالك على يد الحجّاج بن يوسف الثقفي، حيث انتقل بعد هذه الحادثة أولاد سعد بن مالك بن عامر وأبناء عمّ محمد بن صائب، وهم: أحوط، وعبدالله، وعبدالرحمن، ونعيم، إلى إيران([15]).
استوطن الأشعريّون بعد مجيئهم إلى إيران القرى المجاورة لمدينة قم وساهموا في إعمارها، وقد استحدثوا قرى وقصبات عديدة اتصلت فيما بعد بعضها بالبعض الآخر، لتتحوّل برمّتها إلى مدينة اشتهرت فيما بعد باسم مدينة قم.
وقد أدرك ابن عيسى خلال أسفاره إلى الكوفة، وبغداد، وبعض المدن الأخرى أكثر من مائةٍ وخمسين شخصاً من علماء الحديث ورواته، كما التقى بالإمام الرضاB، والإمام الجواد B، والإمام الهادي B في حياتهم.
أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، وظاهرة التشدّد في نقل الروايات
كان أحمد بن محمد بن عيسى رجلاً ثاقب النظر دقيقاً، وكانت لـه تحفّظات خاصّة على نقل الحديث؛ فقد كان شديد المراقبة للمراكز العلمية والدراسية، وخصوصاً دروس نقل الحديث، وكان يضع حدّاً للأحاديث الموضوعة وكذلك أحاديث الغلو، فمن كان يغالي في نقل الأحاديث يُبْعَد من المدينة بأمره، إنّ قدرته ونفوذه وضغطه في هذا المجال أدّى إلى الإلزام بنقل الأحاديث القويّة السند، حتى أن ذلك قد طال بعض كبار المحدّثين الذين كانوا ينقلون الأخبار الضعيفة، دون أن يُستثنى أحدٌ من ذلك([16]).
وقد كوّنت رؤية أحمد بن محمّد بن عيسى وتعامله في مجال نقل الأحاديث وأسانيدها.. كوّنت جواً سليماً في هذه المجالس العلمية، وأدى هذا إلى إزالة العوائق أمام الكليني ليمضي قُدماً في طريقه الذي اختاره، وتحقيق الأهداف العليا التي كان يصبو إليها.
ولعلّ تلك المرحلة كانت تتطلّب ذلك الأسلوب المتشدّد الذي انتهجه ابن عيسى، ولعلّ أيّ شخص كان يملك تلك السلطة السياسية والدينية في قم كان يقوم بما فعله، ولو لم يكن أحمد بن محمد بن عيسى متشدّداً ومواظباً في تلك المرحلة على هذا المنهج لربّما أدّى ذلك بالكثيرين إلى عدم الاعتداد بعلم الرجال، ولعلّ تاريخ علم الحديث برمّته كان اتخذ ــ لولا ذلك ــ مسيراً آخر.
استفاد الكليني من أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، بالإضافة إلى درس أستاذٍ آخر يُلقّب بـ «المعلّم»، رجلٌ كان يُعدّ من أصحاب الإمام الحسن العسكري B، كما ينصّ على ذلك الطوسي في رجاله، رجلٌ لا يمكن أن يكون سوى أحمد بن إدريس القمّي، الذي كتب النجاشي عنه: «أحمد بن إدريس أبو علي الأشعري القمّي كان ثقةً، فقيهاً في أصحابنا، كثير الحديث، صحيح الرواية، لـه كتاب نوادر»([17]). وإذا ما ألقينا نظرةً على كتب الرجال لنفحص أسماء طلاب أحمد بن إدريس لوجدنا اسم الكليني وأستاذه علي بن إبراهيم القمّي، وتلميذه هارون بن موسى التلعُكبري في عدادهم، ممّا سيُظْهِر لنا مكانة هذا الرجل، ما يجعلنا نملك الجرأة الكافية للقول بأن أحمد بن إدريس القمّي كان يستحقّ بجدارة لقب «المعلّم» ([18]).
أساتذة الكليني وشيوخه
واصلَ الكليني درسه مع أستاذٍٍ آخر، هو عبدالله بن جعفر الحميري الذي انحنى لـه المؤرّخون والمترجمون وعلماء الرجال وطلاب الحديث هيبةً لعظمته وإجلالاً لمكانته، فقد كان الحميري من أصحاب الإمام الحسن العسكري B، وكانت لديه تأليفات كثيرة، لكن للأسف لم يصلنا أيّ ٌ من هذه الكتب سوى كتاب «قرب الإسناد»، وهو عبارة عن مجموعةٍ من الأخبار التي يعود سندها إلى الإمام المعصوم B، ولأنّه كتابٌ نادر فهو عظيمٌ وبالغ الأهمية.
ويجدر الانتباه إلى أن سبعةً من العلماء والمحدّثين لديهم كتاب اسمه «قرب الإسناد»، وعبدالله بن جعفر الحِميري واحدٌ من هؤلاء السبعة.
لم يستفد الكليني من الحميري فحسب، بل استفاد أيضاً من أحد أبنائه المعروفين، وهو محمد بن عبدالله الحميري.
إنّ عدد مشايخ الكليني الذين روى عنهم أو استفاد من كتاباتهم ومدوّناتهم قد بلغ 35 شخصاً، وإضافةً إلى من ذكرنا اسمه آنفاً، استفاد الكليني من فقهاء ومحدّثين آخرين من أمثال: «أحمد بن محمد بن عاصم الكوفي، وأحمد بن مهران، وإسحاق بن يعقوب، والحسن بن خفيف، والحسن بن فضل بن زيد اليماني، والحسين بن الحسن الحسيني الأسود، والحسين بن الحسن الهاشمي الحسيني العلوي، والحسين بن محمد بن عمران الأشعري القمّي، وحميد بن زياد النينوائي (310هـ)، وداود بن كورة القميّ، وسعد بن عبدالله الأشعري (300هـ)، وسليمان بن سفيان، وسهل بن زياد الآدمي الرازي، وعلي بن الحسين السعدآبادي، وعلي بن عبدالله الخديجي الأصغر، وعلي بن محمد بن أبي القاسم البندار، وعبدالله بن أحمد بن أبي عبدالله البرقي، وعلي بن موسى بن جعفر الكميداني، والقاسم بن علاء، ومحمّد بن إسماعيل النيشابوري الملقّب بـ«ندفر»، ومحمد بن جعفر الرازي (310هـ)، ومحمد بن الحسن الصفّار (209هـ)، ومحمد بن الحسن الطائي، ومحمد بن عقيل الكليني، ومحمد بن علي بن معمّر الكوفي، ومحمد بن يحيى العطّار، وغيرهم»([19]).
واليوم لا وجود للكثير من أساتذة الكليني، اللهم إلاّ لاسمهم في تاريخ التشيّع فقط، وما ذكرناه من أسماء سابقة أقلّ بكثير مما لم يقل ولم يُذكر.
وممّا لا شكّ فيه أنّ أساتذة الكليني كان لـهم الدور في تكوين شخصيته، إلا أنّنا نصادف من بين جميع أساتذته ومشايخه شخصيّةً مميّزة كانت تعرف بالكليني كما كان يُعرف الكليني بها، وهو الشخص نفسه الذي يعتقد الجميع بورود اسمه في ثُلُث أسانيد روايات الكافي، ألا وهو علي بن إبراهيم القمّي، الذي قال عنه السيد الخوئي صاحب كتاب معجم الرجال: «وقع في أسناد كثير من الروايات تبلغ سبعة آلاف ومائة وأربعين مورداً»([20])، كما أدرك علي بن إبراهيم حياةَ الإمام الحسن العسكري B، وكتب تفسيراً اعتبر من التفاسير الأساسية في تاريخ التشيّع، وترك أعمالاً علميّة كثيرة، إلاّ أنّه لا وجود اليوم لشيء منها، عدا تفسيره المعروف، وهذه واحدة من معضلات تاريخ التشيع، وهي ضياع الكثير من تراثه العلمي عبر التاريخ؛ بسبب الظروف القاسية التي كان يعانيها علماء الشيعة.
وفي عصر الكليني أيضاً، نواجه إلى جانب الأثر الوحيد الباقي للحميري «قرب الاسناد»، ولعلي بن إبراهيم «تفسير القرآن»، نواجه العالم الشيعي الكبير الذي لم يبق من آثاره سوى كتاب واحد من مجموعة تزيد على المائتين، وهو أيضاً غير كامل، هذا العالم هو العياشي السمرقندي، واحدٌ من كبار علماء الشيعة الذين عاصروا الكليني، وعلي بن بابويه القمّي، والشيخ أبا عمرو الكشي، كان السمرقندي ينتمي في البداية إلى المذهب السُنّي، لكن مطالعاته الكثيرة أظهرت لـه حقّانية المذهب الشيعي الذي انتمى فيما بعد إليه، ليغدو أحد كبار رجاله.
كتب الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (460هـ) عن السمرقندي يقول: «محمد بن مسعود بن عيّاش السمرقندي، يكنى أبا النصر، أكثر أهل المشرق علماً وفضلاً وأدباً وفهماً ونبلاً في زمانه، صنّف أكثر من مائتي مصنّف، ذكرناها في الفهرست، وكان لـه مجلس للخاصّ ومجلس للعام رحمه الله»([21]).
وقد كان العيّاشي من الأسخياء؛ فقد كان ينفق أمواله في سبيل الله عزّ وجلّ من أجل نشر الدين الإسلامي والترويج لـه، كما جعل بيته مركزاً إسلاميّاً علميّاً كبيراً في شمال شرق الأراضي الإسلاميّة، وقد كتب المحدّث القمّي واصفاً حياته: «إنه ذاك الذي أنفق في سبيل العلم والحديث تمام إرثه من أبيه والبالغ 300 أشرفي، وكان بيته مثل المسجد مليئاً بالعلماء والمحدّثين والكُتاب والقرّاء.. واحدٌ كان يصنّف الكتاب، وآخر يستنسخه، وواحد يقابله، وآخر يعلّق عليه»([22]).
ولم يكتب العيّاشي عشرات الكتب في الفقه والأخلاق وأدب العيش فقط، بل كتب أيضاً سبعة كتب عن روايات أهل السُنّة: كتاب سيرة أبي بكر، كتاب سيرة عمر، كتاب سيرة عثمان، كتاب سيرة معاوية، كتاب معيار الأخبار، بالإضافة إلى كتاب الموضع([23])، وفي الأحوال كافّة، فقد عدّدت لنا كتب الفهارس والرجال ما بين 200 و 217 كتاباً من نتاج العياشي، وهناك كتابان له غير تامّين، وقد حصلنا له على تفسيرٍ للقرآن لغاية سورة الكهف فقط، وهو من أول التفاسير القرآنية، وهو معتمد عند جميع مفسّري القرآن.
الهجرة الثانية للشيخ الكليني
بعد مدينة قم، بدأت هجرة الكليني الثانية، فترك قم ـ بكلّ ما فيها ـ ليتجه نحو العراق، فكانت الكوفة مدينةً من تلك المدن التي قصدها، وقد كانت في ذلك الزمان مركزاً من مراكز العلم الكبرى، ومن النادر جداً أن نرى محدّثاً أو محقّقاً لم يقصد الكوفة ولم يستفد من محضر علمائها؛ إذ كانت في الحقيقة مقرّاً لتبادل وجهات النظر ونقطة البداية للعالم الإسلامي؛ حيث كان الجميع يسعى لنشر مذاهبهم فيها، ونقل أحاديثهم.
الكوفة وابن عُقدة الزيدي
وقد ذاع صيت واحدٍ من هؤلاء الذين سكنوا هذه المدينة وعمّت شهرته جميع البلاد الإسلاميّة، وكان وجوده في هذه المدينة مدعاةً لجذب طلاب الحديث إليها، ألا وهو ابن عُقْدة، فقد كان ابن عُقْدة واحداً من أكبر حُفّاظ الأحاديث في ذلك العصر، وكان في الحفظ معجزةً من معجزاته، كان أساتذة ابن عُقْدة من أكبر فقهاء ومحدّثي المذاهب الثلاثة، كما تلمّذ عنده الكثير من كبار علماء المذاهب، وكان زهده وتقواه من الأمور الموثوق بها، رغم انتمائه إلى المذهب الزيدي الجارودي، ممّا جعله مورد اعتمادٍ وثقة في نقل الأحاديث لدى جميع المذاهب التي سعت سعياً حثيثاً لتدوين أحاديثه، كانت حافظته قويّة، حتّى نقل عنه الدارقطني أنه كان يستطيع الإجابة عن 300000 حديث عن أهل البيت G وبني هاشم، وعنده 100000 حديث مع سندها([24]).
وقد كان ذلك موجباً لكثيرٍ من المحدّثين وطلاب الشريعة للمشاركة في درسه من أجل الاستفادة من الأحاديث وتدوينها، حتى أنّ الكليني نقل لنا في كتاب الكافي أن هناك أحاديث يرجع سندها إلى هذا الرجل، ولم يستفد الكلينيّ لوحده من هذا الرجل فقط، بل استفاد تلامذته أيضاً منه، أمثال هارون بن موسى التلعكبري، ومحمد بن إبراهيم النعماني، فقد نقل محمد بن إبراهيم النعماني ــ تلميذ الكليني ــ كثيراً من الأحاديث في كتابه القيّم «الغيبة» عن ابن عُقْدة.
وكانت لابن عقدة كتبٌ كثيرة معظمها في التاريخ والحديث والأخبار، ويُعدّ كتاب «رجال ابن عُقْدة» واحداً من آثاره القيّمة، حيث ورد فيه ما يقرب من 4000 اسم من تلامذة الإمام الصادق B، كما ونقل ابن عقدة فيه أيضاً روايات كثيرة عن الإمام الصادق B، وقد كان هذا الكتاب متوفّراً حتّى زمان الشيخ الطوسي، لكن وللأسف الشديد لم يعد يُعرْف عنه شيءٌ بعد ذلك.
الكليني وظهور القرامطة في الحياة السياسية
كانت الأراضي الإسلاميّة تتمتّع تقريباً بالهدوء والاستقرار في العصر الذي بدأ فيه الكليني رحلاته وأسفاره، ممّا ساعد الفرق والمذاهب الإسلاميّة على التحقيق والتقصّي في أمر الأحاديث، ويمكننا ـ عبر الاطلاع على حياة العلماء في ذلك القرن، ومن كثرة أسفارهم ـ تشخيص الجوّ الذي كان سائداً في عصر الكليني، وهو سعي كل عالم في تقوية أفكار مذهبه وتثبيتها، فقد تكبّدوا مصاعب كثيرة وقطعوا المسافات الطويلة.
ولا نستطيع القول: إنّه كانت هناك حروب فكريّة بين المذاهب المتعدّدة، وذلك لأنّ اهتمام كل مذهب كان منصبّاً على جميع الأحاديث المتعلّقة به أكثر من تبليغ مذهبه ونشره.
وإلى جانب هذا كان هناك بعض التجاذُبات بين الفرق المختلفة، وكانت تتحرّك تقريباً في القسم الجنوبي والشمالي من الأراضي الإسلاميّة، وكان لـهذه النـزاعات إمّا طابع سياسيّ أو مذهبيّ، مثل حركة الشهيد أطروش([25]) التي ظهرت في طبرستان، وأقام على أثرها حكومةً علويّة.
أمّا في شمال أفريقيا ومصر فقد حكم الفاطميّون، كما حكم الإسماعيليّون في إيران، وهم جماعة اختاروا الابن الأكبر للإمام الصادق B للإمامة والتفّوا بعده على ابنه محمد، كما أنهم المسؤولون عن أكبر الانشقاقات التي حصلت في تاريخ الطائفة الشيعيّة، حيث كانت فرقة القرامطة واحدةً من الفرق التي انشقّت عن الإسماعيليّة.
والقرامطة فرقة انبثقت عن الإسماعيليّة تُنسب إلى رجل يُدعى حمدان القرمط الذي كان مزارعاً وراعياً للأبقار في قرية «قص بهرام»، اتّجه حمدان نحو الرئاسة لأنّه كان شديد الذكاء، فأرسل دعاةً لـه إلى الكوفة، كما أسّس مؤيدوه بأمر من رئيسهم المخفي ــ الذي كان يعرف باسم صاحب الظهور وكان مكان إقامته مجهولاً ــ دولةً في البحرين([26]) كان مركزها الأحساء([27]).
أمّا عقائد القرامطة، فكانت خليطاً من العقائد المسيحيّة، والزرادشتية، والمانويّة، والإسلاميّة، كانوا يقيمون حدّ السيف على عقائد المسلمين ومقدّساتهم، ونستطيع القول: إنّ بعض أشكال السلفية المعاصرة قد أخذت بعضاً من عقائد هذه الفرقة، فقد كفّر القرامطة كلّ من كان يَعْبدُ المراقد والقبور والحجارة وكلَّ من كان يقبّل الحجر الأسود([28])، بل بلغ الحال بهم أن شقّوا جدار الكعبة واقتلعوا منه الحجر الأسود وحملوه معهم إلى الأحساء، وقد تمكّن الخليفة العبّاسي ـ القائم أو المنصور ـ من إعادة الحجر الأسود إلى مكة المكرّمة بعد عشرين سنة على اقتلاعه. كانوا يعتقدون أن أساس الإيمان هو التخلّص من القيود الأخلاقية، كما كانوا يؤمنون بحكومة الشعب على الشعب وبسلب أموال المخالفين([29])، إنّ القرامطة يشابهون بعض السلفية المعاصرة في طبيعة العمل والسلوك وردّة الفعل تجاه مخالفيهم، فقد «هجم زكرويه ــ والذي كان من القرامطة ــ على قافلة من الحجّاج، وقيل: إنه ذهب ضحيّة هذه الفاجعة عشرون ألف شخص»([30]).
وقد سيطر القرامطة على كثيرٍ من الحركات في بلاد ما بين النهرين، وسوريّا، وخوزستان، والبحرين، واليمن، والعراق، وساعدهم في ذلك الاستفادة من خبرات عرب البادية في القتال؛ فشنّوا حملات على الكوفة استطاعوا عبرها السيطرة عليها.
في هذا الجو الذي كان سائداً وفي الزمان الذي كان فيه القرامطة لا يرحمون أحداً، استطاع الكليني ـ بكلّ شجاعةٍ وجرأة ـ أن ينقض عقائد القرامطة وأفكارهم، فقد ألّف كتاب «الردّ على القرامطة» من أجل تنبيه الشيعة وتوجيهم من انحراف هذه الفرقة، ووضَعَه تحت تصرّف الأمة الإسلاميّة.
ثقة الإسلام الكليني ومكانته عند المذاهب الإسلامية الأخرى
وصل الكليني إلى بغداد بعدما اكتسب علومه من عشرات الأساتذة والمحدّثين في مختلف المدن والقرى، لكنّ مدّة سفره في الحقيقة بقيت مجهولةً لنا، بيد أنّ ما لا شكّ فيه أن علم الكليني وفضله ترك أثراً في عقول الناس خلال سفره، فأعطى أنموذجاً للإنسان الشيعي الحقيقي، من هنا لم يكن الكليني لحظة وروده مدينة بغداد مجهولاً أبداً.
كان الشيعة يفتخرون به، أمّا السنّة فكانوا ينظرون إليه من منظار حسن، كان علمه وفضله وتقواه جلياً عند الشيعة والسنّة على السواء حتى جعله ذلك مرجعاً عتيداً لحلّ المشاكل الدينية، فقد قيل: كان العوام والخواص يرجعون إليه لمعرفة الفتاوى الشرعيّة؛ فاكتسب لقب «ثقة الإسلام»، وقد كان أوّل شخص في التاريخ الإسلامي يحظى بهذا اللقب([31]).
كان قدر الكليني وعظمته جليّين عند أهل السنّة والشيعة، حتى أن ابن الأثير ينقل روايةً عن الرسول 2 أنّه قال: «يبعث الله على رأس كلّ قرن من يجدّد هذا الدين و..»، ثم يقول عقب هذا الحديث: إنّ مجدد الدين ومحيي المذهب الشيعي في القرن الأول الهجري هو الإمام محمد بن علي الباقر B، وكان الإمام علي بن موسى الرضا محيي التراث الإسلامي في بداية القرن الثاني، أمّا محيي التراث الإسلامي في بداية القرن الثالث الهجري فهو أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني الرازي([32]).
ولكي يكون القارئ الكريم على اطلاع على الجوّ الحاكم في عصر الكليني، وعلى ملاحقات بني العباس آنذاك، نذكر هذه القصّة عن الكليني نفسه، وهي قصّة نقلها لنا العلاّمة المجلسي في «بحار الأنوار».
تقول القصّة: «الحسين بن الحسن العلوي قال: كان رجل من ندماء روز حسني وآخر معه، فقال لـه: هو ذا يجبي الأموال ولـه وكلاء، وسمّوا جميع الوكلاء في النواحي، وأنهى ذلك على عبيد الله بن سليمان الوزير، فهمّ الوزير بالقبض عليهم، فقال السلطان: أطلبوا أين هذا الرجل فإن هذا أمر غليظ، فقال عبيدالله بن سليمان: نقبض على الوكلاء؟ فقال السلطان: لا، ولكن دسّوا لهم قوماً لا يعرفون بالأموال، فمن قبض منهم شيئاً قبض عليه. قال: فخرج بأن يتقدّم إلى جميع الوكلاء أن لا يأخذوا من أحد شيئاً، وأن يمتنعوا من ذلك، ويتجاهلوا الأمر، فاندسّ بمحمد بن أحمد رجلٌ لا يعرفه، وخلا به، فقال: معي مال أريد أن أوصله، فقال له محمد: غلطت، أنا لا أعرف من هذا شيئاً، فلم يزل يتلطّفه ومحمد يتجاهل عليه، وبثّوا الجواسيس وامتنع الوكلاء كلّهم لما كان تقدّم إليهم»([33]).
النسّائي المعاصر للكليني
يُعدّ أبو عبدالرحمن النسّائي واحداً من أفضل كُتّاب الحديث عند أهل السُنّة، وهو من المعاصرين للكليني، وصاحب الكتاب السادس ــ سُنن النسّائي ــ من مجموعة كتب الصحاح الستّة لأهل السنّة، والذي تزامن تأليفه مع تأليف الكليني لكتاب «أصول الكافي».
ولد هذا المحدّث والحافظ للأحاديث في مدينة نسّاء في خراسان، وعُرف بالحافظ النسائي؛ من كثرة حفظه للآيات والأحاديث، وكان النسائي من أفقه مشايخ عصره وأزهدهم وأعبدهم، كان يصوم يوماً ويفطر في اليوم الذي يليه، كما كان عارفاً بالرجال وبالأخبار الصحيحة والخاطئة، وكان أيضاً من أعرف رجال عصره بدينه وأبصرهم به، ومرجعاً في إفادة الآخرين، والجدير بالذكر أنه كان محبّاً للمذهب الشيعي، ومن الممكن أن يكون قد تشيّع في أواخر عمره.
قضى النسائي فترةً من عمره في مصر من أجل نشر العلوم الإسلاميّة، ليذهب بعدها إلى الشام ويؤلّف كتاب «الخصائص في فضل علي بن أبي طالب B»، وكان تصنيف هذا الكتاب سبباً في سخط الناس من أهل السُنّة عليه، إذ لماذا لم يكتب شيئاً في فضائل شيوخهم؟! وقد قيل أيضاً: إنّ الناس انحرفت عنه بعد ذهابه إلى دمشق، وكان هذا الكتاب سبباً في هدايته. ويُقال: إنّه سئل في دمشق عن فضائل معاوية وعمّا جاء فيه من أحاديث، فأجاب بتفضيل علي B، وقال: ألا يكفي معاوية أن ينجو من عقاب الآخرة بصحبته النبيّ 2، وليس من حاجة لنقل حديث في هذا المجال، وبعد الإصرار عليه قال: «ما أعرف فضلاً إلا لا أشبع الله بطنك».
ومراد النسّائي من هذ الجملة ذاك الحديث النبوي الذي يحكي عن استحضار رسول الله 2 معاوية لأمرٍ مهم، فتعلّل معاوية، معتذراً بأنّه يتناول الطعام، وكرّر ذلك مرّاتٍ ثلاث، وهنا غضب رسول الله 2 وقال هذه الجملة: «لا أشبع الله بطنك»، أي أنّه دعا عليه، وقد ذهب بعض المؤرّخين إلى القول بأنّ نقل النسائي للحديث هذا حول معاوية كان سبباً في إبعاده([34]).
الكليني في بغداد، ودوافع تأليف كتاب الكافي
كانت بغداد أرض التأليف للكليني، والبقعة التي قضى فيها سنوات العذاب والمشقّة، فقد أدرك فيها نقص المجتمع الشيعي، وسعى لسدّ هذا النقص بجمع الأحاديث، في الفترة التي كان الشيعة فيها يستفيدون من رسائل وكتب صغيرة، أطلق عليها اسم «الأصول الأربعمائة»، ولم يكن قد ظهر إلى ذلك الحين شخصٌ متقن يضع أحاديث الشيعة ورواياتها في متناولهم.
من جهة ثانية، عانى الكليني من خطر تحريف الأحاديث أو فقدانها، وعلاوة على هذا لم يكن هناك من كتاب يتضمّن الأصول الإسلاميّة والأخلاقيّة في ظلّ غياب الإمام المهدي وعدم الوصول إلى نوابه الخاصّين، فالشيعة الذين سكنوا مناطق قريبة من المراكز العلميّة مثل قم، والرّي، وبغداد لم يعانوا كما عانى أولئك الذين سكنوا في مناطق بعيدة عنها، فكانوا يكتبون الرسائل من أجل معرفة المسائل الشرعيّة، وقد أدّى اشتباه الكثيرين في معرفة المسائل الشرعيّة ـــ حتّى بعض العلماء ـــ إلى طلبهم من الكليني تأليفَ كتاب يكون أساساً للتشيّع.
وقد ذكر الكليني في جوابه على الرسالة التي بعث بها إليه أحد أخوته في الدين، يشكو فيها أحوالَ عصره وأوضاع دهره.. ذكر الكليني في مقدّمة الكافي قائلاً: «أمّا بعد، فقد فهمتُ يا أخي ما شكوتَ من اصطلاح أهل دهرنا على الجهالة وتوازرهم وسعيهم في عمارة طرقها، ومباينتهم العلم وأهله، حتّى كاد العلم معهم أن يأزر كلّه وينقطع موادّه، لما قد رضوا أن يستندوا إلى الجهل، ويضيّعوا العلم وأهله.
وسألت: هل يسع الناس المقام على الجهالة والتديّن بغير علم، إذا كانوا داخلين في الدين، مقرّين بجميع أموره على جهة الاستحسان، والنشؤ عليه والتقليد للآباء والأسلاف والكبراء، والاتّكال على عقولهم في دقيق الأشياء وجليلها»([35]).
وهكذا يخاطب الكليني أجيال المستقبل في جوابه عن هذه الرسالة شاكياً فيها آلام مجتمعه التي عانى منها هو وعلماء آخرون، فيكتب قائلاً: «وذكرت أنّ أموراً قد أشكلت عليك، لا تعرف حقائقها لاختلاف الرواية فيها، وأنّك تعلم أنّ اختلاف الرواية فيها لاختلاف عللها وأسبابها، وأنّك لا تجد بحضرتك من تذاكره وتفاوضه ممّن تثق بعلمه فيها، وقلت: إنّك تحبُّ أن يكون عندك كتاب كافٍ يجمع (فيه) من جميع فنون علم الدين، ما يكتفي به المتعلّم، ويرجع إليه المسترشد، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعلم به بالآثار الصحيحة عن الصادقين H والسنن القائمة التي عليها العمل،
وبها يؤدى فرض الله عزّ وجلّ وسنّة نبيّه 2، وقلت: لو كان ذلك رجوت أن يكون ذلك سبباً يتدارك الله تعالى بمعونته وتوفيقه إخواننا وأهل ملّتنا، ويُقبل بهم إلى مراشدهم»([36]).
من جهة أخرى، كان الكليني يَعِي السبب الأساس لانحراف الناس في عصره وظهور الفرق المتعدّدة، وكان يراه ابتعاد الناس عن كلام أهل البيت G، من هنا كتب في جواب سائله المشار إليه قائلاً: «.. لأنّ المصدِّق لا يكون مصدِّقاً حتى يكون عارفاً بما صدَّق به من غير شكّ ولا شبهة؛ لأن الشاكّ لا يكون لـه من الرغبة والرهبة والخضوع والتقرُّب مثل ما يكون من العالم المستيقن، وقد قال الله عزّ وجل: >إِلا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ< (الزخرف: 86)، فصارت الشهادة مقبولةً لعلّة العلم بالشهادة، ولولا العلم بالشهادة لم تكن الشهادة مقبولة، والأمر في الشاكّ المؤدّي بغير علم وبصيرة إلى الله عزّ وجلّ ذكره، إن شاء الله تطوَّلَ عليه فَقَبِلَ عمله، وإن شاء ردّ عليه؛ لأنّ الشرط عليه من الله أن يؤدّي المفروض بعلمٍ وبصيرة ويقين، كيلا يكون ممّن وصفه الله فقال تبارك وتعالى: >وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ< (الحج: 11)؛ لأنه كان داخلاً فيه بغير علم ولا يقين، فلذلك صار خروجه بغير علم ولا يقين، وقد قال العالم B: «من دخل في الإيمان بعلم ثبت فيه، ونفعه إيمانه، ومن دخل فيه بغير علم خرج منه كما دخل فيه»، وقال B: «من أخذ دينه من كتاب الله وسنّة نبيّه صلوات الله عليه وآله زالت الجبال قبل أن يزول، ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردّته الرجال»، وقال B: «من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكّب الفتن»، ولهذه العلّة انبثقت على أهل دهرنا بثوق هذه الأديان الفاسدة، والمذاهب المستشنعة التي قد استوفت شرائط الكفر والشرك كلّها»([37]).
ومع إدراك الكليني لأوضاع عصره، ومعرفته ما يستلزمه.. أحدث تحوّلاً في تاريخ التشيّع، وعقد العزم على إيصاله لأجيال المستقبل، رعايةً منه للأمل المعقود عليه من جانب ذلك الأخ في الدين، من هنا، شرع الكليني بإعداد كتابه لإحياء أحاديث الشيعة وتدوينها، فكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله المحمود لنعمته المعبود لقدرته، المطاع في سلطانه، المرهوب لجلاله، المرغوب إليه فيما عنده، النافذ أمره في جميع خلقه، علا فاستعلى، ودنا فتعالى، وارتفع فوق كلّ منظر، الذي لا بدء لأوّليّته، ولا غاية لأزليّته، القائم قبل الأشياء، والدائم الذي به قوامها، والقاهر الذي لا يؤوده حفظها، والقادر الذي بعظمته تفرّد بالملكوت، وبقدرته توحّد بالجبروت، وبحكمته أظهر حججه على خلقه، اخترع الأشياء إنشاءً، وابتدعها ابتداءً، بقدرته وحكمته، لا من شيءٍ فيبطل الاختراع، ولا لعلّة فلا يصحّ الابتداع، خلق ما شاء كيف شاء، متوحّداً بذلك لإظهار حكمته،
وحقيقة ربوبيّته، لا تضبطه العقول، ولا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأبصار، ولا يحيط به مقدار، عجزت دونه العبارة، وكلّت دونه الأبصار، وضلّ فيه تصاريف الصفات. احتجب بغير حجاب محجوب، واستتر بغير ستر مستور، عرف بغير رؤية، ووصف بغير صورة، ونعت بغير جسم، لا إله إلاّ الله الكبير المتعال، ضلّت الأوهام عن بلوغ كنهه، وذهلت العقول أن تبلغ غاية نهايته، لا يبلغه حدُّ وهم، ولا يدركه نفاذ بصر، وهو السميع العليم..»([38]).
الكافي: المكانة، المنظومة الحديثية، الشروح
لا تُعتبر عشرون سنةً من الجدّ والسعي وقتاً طويلاً من أجل تأليف كتاب في القرن العشرين يكون أيضاً من أجمل الكتب وأحدثها ومما نَدُر مضمونه في المصنّفات الأدبيّة، والأخلاقيّة، والفلسفيّة، وآداب العيش والحياة، لكنّ هذا الوقت كان طويلاً بالنسبة للكليني في تلك الحقب الغابرة، فقد أمضى سنين عمره في السفر إلى مختلف المدن والقرى، كما حرّم على نفسه النوم في الليل الذي كان يمضيه في المطالعة والتحقيق أو كسب درسٍ ما أو متابعة فكرةٍ ما.
وممّا لا شكّ فيه أن الجهد الذي بذله الكليني في ذاك السنّ مثل بقيّة العلماء يغدو مضاعفاً، فقد أسّس على مدار عشرين سنة لمجموعة كتب اشتهرت بـ «الكافي»، الذي يشمل أصول الكافي، وفروع الكافي، وروضة الكافي، وتحتوي هذه المجموعة على
(16199) حديثاً وروايةً عن رسول الله 2 والأئمة الأطهار G.
إنّ أحاديث الكافي تزيد عن الأحاديث المودعة في الكتب الستّة المعروفة بالصحاح الستّة لأهل السنّة، فعدد الأحاديث الواردة في الكافي (16199) حديثاً كما عرفنا، أمّا عدد أحاديث صحيح البخاري مع المكرّرات فهو (7275) حديثاً، ويصبح عددها (4000) حديثاً مع حذف المكرّرات، وحسب قول ابن تيمية: إنّ مجموع أحاديث صحيح البخاري ومسلم أقلّ من (7000) حديث([39]).
أثبت الكليني وحده في هذه المجموعة فضل علماء الشيعة ليس فقط في زمانه بل على مدار التاريخ الإسلامي، وكانت المدّة التي أنجز فيها الكليني عمله هذا تجاه الشيعة عشرين سنة، أمّا المدّة التي قضاها ستة أفراد من كبار علماء السنّة لتأليف أكبر موسوعات الحديث السنّية فقد استغرقت قرناً كاملاً من الزمن حتى تمكّنوا من إنجاز عملهم تجاه مذاهبهم.
إنّ كتاب الكافي ــ الأصول والفروع ــ من أغلى الكتب وأهمّها، كما أنّه أهمّ كتاب من الكتب الأربعة وهي: «من لا يحضره الفقيه» للشيخ الصدوق، و«الاستبصار» و «التهذيب» للشيخ الطوسي، ويبقى الكافي على الدوام الكتاب الأول من بين هذه الكتب، ولا يستطيع أيّ فقيه إلاّ وأن ينهل من هذا البحر لكي يصل إلى مراقي الاجتهاد.
إنّ عظمة الكليني والكافي تكمن في أنّه ـــ وفي العصر الذي كانت فيه أوروبا تغطّ في سبات البربرية والوحشية وتعيش ظلم محاكم التفتيش في القرون الوسطى ــ عقد أوّل باب من أبواب الكافي في «العقل»، ثمّ «فضل العلم»، ومن بعد ذلك يأتي
باب «التوحيد» و «الحجّة»، أي إن الحديث عن العقل والعلم جاء عنده قبل وحدانية الله والولاية.
شرح كتاب الكافي مراتٍ عديدة، وقد اشتهرت من بين تلك الشروحات أربعة كتب، وهي:
1 ــ «مرآة العقول» للعلامة محمد باقر المجلسي (1111هـ)، وقد تركّز شرحه انطلاقاً من وجهة نظر الفقهاء والمحدّثين.
2 ــ شرح صدر المتألهين الشيرازي المعروف بالملا صدرا (1050هـ)، ويتركّز شرحه على الناحية الفلسفيّة والعرفانية، وللأسف بقي هذا الشرح ناقصاً.
3 ــ كتاب «الوافي» للملا محسن الفيض الكاشاني (1091هـ).
4 ــ شرح الملا صالح المازندراني (1080هـ).
تلامذة الكليني، واستمرار نهج مدرسة الحديث
كان الكلينيّ مهتمّاً بتدريس طلاّبه الذين سافروا إلى بغداد من أجل الاستفادة منه، وقد درس عنده خلقٌ كثير، كان منهم: أحمد بن إبراهيم المعروف بـأبي رافع الحميري، وأحمد بن أحمد الكاتب الكوفي، وأحمد بن علي بن سعيد الكوفي، وأحمد بن محمد بن علي الكوفي، وأبو غالب بن محمد الرازي، وعبدالكريم بن عبدالله بن نصر البزاز التينسي، وعلي بن موسى الدقاق، ومحمد بن أحمد السنائي الزاهري المقيم في الرّي، وأبو الفضل محمد بن عبدالله بن مطلب الشيباني، ومحمد بن علي ماجيلويه، ومحمد بن محمد عصام الكليني([40]).
وقد انشغل بعض طلاب الكليني بتدوين الأحاديث، وبرز من بينهم جماعة، كان منهم: محمد بن أحمد الصفواني، والذي قيل عنه: كان من طلاّبه البارزين الذين استنسخوا الكافي، وقد تعلّم العلم والأدب من أستاذه، كما وحصل على إجازةٍ في الحديث والرواية([41]).
وهناك أيضاً محمد بن إبراهيم النعماني المعروف بـابن أبي زينب، والذي كان مقرّباً من الكليني وعاملاً نشطاً لتدوين الأحاديث، وكان النعماني على علاقة خاصّة بالكليني إلى أن غدا كاتبه الخاص، ثمّ عُرف بالكاتب النعماني، فقد قام باستنساخ كتاب الكافي حتى عرفت بعض النسخ بـ «الكافي نسخة النعماني»([42])؛ ومن
هذا المنطلق، عُرف النعماني في أوساط كبار العلماء بـ «كاتب الكليني»، وقد ألّف كتاب «الغيبة» بعد 13 سنة من فقدانه لأستاذه وانقضاء عصر الغيبة الصغرى، ويعدُّ هذا الكتاب من أقرب الكتب لعصر الغيبة، كما يشتمل الأحاديث والروايات المتعلّقة بالإمام المهدي.
ومن التلامذة الآخرين المشهورين للكليني جعفر بن محمد بن قولويه القمّي صاحب كتاب «كامل الزيارات»، وهناك أيضاً هارون بن موسى التلعكبري، فقد أمضى التلعكبري حياته في كسب العلم عند أساتذة عظام كُثر، وهو من بلدة «تل عُكْبرا» الواقعة بالقرب من بغداد، وقد نقل وروى ـــ على ما قيل ــ عن 104 من الرواة من الرجال، كما روى عن امرأةٍ واحدة.
الكليني والكافي، المنهج والأسلوب
تميّز الكليني عن غيره في المنهج والأسلوب، ففي ترتيب أحاديث كلّ باب كان يذكر الحديث الصحيح والواضح في مقدّمة ذلك الباب، وبعد ذلك وفي نفس الترتيب يذكر الأحاديث المبهمة والعامّة ([43])، وكان يلتزم في كتاب الكافي بذكر سلسلة سند الحديث التامّة حتّى يصل بها إلى الإمام B، وأحياناً كان يحذف صدر السند([44]).
وعلاوةً على هذا، فقد ابتكر الكليني أدوات لم تكن متداولةً قبله بين العلماء والمحدّثين، فجاء بكلمة «عدّة» مكان سلسلة السند التي تختتم براوي الحديث، وكانت عدة الكليني أحياناً تروي عن أحمد بن محمد بن عيسى، وأحياناً أخرى عن سهل به زياد، وأحمد بن محمد بن خالد البرقي، والعدّة التي تروي عن كلّ واحد من الثلاثة تختلف عن العدّة التي تروي عن الآخر ([45]).
فمثلاً كان مراده من العُدّة الراوية عن أحمد بن محمد بن عيسى خمسة أشخاص هم: محمد بن يحيى العطّار، وعلي بن موسى الكميداني، وداود بن كورة، وأحمد بن إدريس، وعلي بن إبراهيم بن هاشم، فكان يحذف أسماءهم ويقول: عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى..([46]).
لقد استفاد علماء ومحدّثون كثيرون من هذه الطريقة؛ فقد قام الشيخ الطوسي برواية الأحاديث بواسطة «العدّة» في فهرسته، وكذلك النجاشي في رجاله ([47]).
فكرة اطّلاع الإمام المهدي على كتاب الكافي، احتمال محمد تقي المجلسي
وعلاوة على كلمة «عدّة»، كان الكليني يكتفي أحياناً بذكر عبارات مثل: «قد قال العالم»، أو «في حديث آخر» من دون ذكر اسم الراوي والمحدّث، وقد دفعت هذه العبارات بعض العلماء إلى الاعتقاد بوجود ارتباط بين الكليني والإمام المهدي، ومن هؤلاء عالمٌ من العلماء الزاهدين والمقدّسين، ألا وهو محمد تقي المجلسي S، والد العلامة المجلسي، فقد كتب في الشرح الفارسي للكافي: من الممكن أن يكون كلّ حديث يتضمّن عبارات مثل: قد قال العالم، أو في حديث آخر، أو عبارات مثلها، منقولاً في الحقيقة عن إمام الزمان (عج) بواسطة واحدٍ من سفرائه([48])، ويتابع المجلسي قائلاً: من الممكن جداً أن يكون الإمام المهدي (عج) قد اطّلع على كتاب الكافي([49]).
ويحتاط علماء الشيعة في موضوع ارتباط الكليني بالإمام المهدي، ومن أجل هذا يستعملون عبارة «لعلّ»، لكن في الحقيقة إنّ أخذ الكليني على عاتقه في عصر الغيبة الصغرى المسؤوليّة الثقافيّة للشيعة، ومهامّ التبليغ، ومحاربة الإلحاد، كما أنّ كونه من أشهر شخصيّات عصره.. كلّ ذلك يدفعنا ـ بحكم العقل ـ إلى الاستفهام: كيف لا يُعتقد بارتباط الكليني بإمام الزمان وهو أكبر شخصية شيعية في عصر الغيبة، بل كان أشهر من نوابه الخاصّين، كما ترك أثراً للشيعة يُعدّ من أكبر آثارهم؟!
«نُقل من شرح التهذيب للسيد نعمة الله الجزائري عن الذين بحثوا في ارتباط الكافي وإمام الزمان، أنّهم قالوا: كان يمضي سفراء الإمام معظم أوقاتهم معه خلال عصر الغيبة الصغرى، وينقلون الأحاديث الصادرة عنه (عج) إلى الشيعة، ولا يُتصوّر أبداً بأن كتاباً بعظمة الكافي، شامل لجميع المسائل يُهدف منه أن يكون مرجعاً في استنباط الأحكام الدينية أن لا يكون قد عُرض على إمام الزمان لكي يميّز الصحيح فيه من غيره»([50]).
ونستطيع أن نفهم من كلام العلماء الكبار أو تاريخ حوادث ذلك الزمان أو الأحاديث التي أوضحها لنا الكليني ونصل بفهمنا هذا إلى اليقين أن بيت الكليني كان المكان الخامس الذي كان الإمام المهدي يذهب إليه، وهذا الرجل قد نقل إلينا ما سمعه من الإمام الحجّة (عج). أمّا السرّ الذي أوجب إخفاء هذا الارتباط فهو كلام آخر، كلامٌ آخر لا تستطيع عقولنا المادية أن تدركه، وفي هذا المجال هناك حديث يُنْسب للإمام المهدي (عج) يقول فيه: «الكافي كافٍ لشيعتنا».
منهج الكليني في تقويم الأحاديث وحلّ تعارضها
أدرك الكليني جيداً أخطاء عامّة الناس في فهمهم للروايات والأحاديث حتى في الزمان الذي كان فيه أولئك المحدّثون الذين نقلوا الأحاديث مباشرةً عن الأئمة الأطهارG على قيد الحياة، ممّا أوجب سعي بعض الفرق والمذاهب المتعددة إلى الترويج لعقائدها وأفكارها بوضع الأحاديث وتزويرها، وكانت الفرقة الصوفيّة واحدةً من هذه الفرق([51]).
من هنا، حاول الكليني في كتابه: أصول الكافي، رسم معالم منهج الأخذ بالأحاديث ووضعه بين يدي قرّاء كتابه في جمل قصيرة موجزة؛ لكي لا يلتبس الأمر على القرّاء في فهم الأحاديث، ولكي يسدّ الطريق على المنتفعين الذين يسعون للحكم بتكفير الشيعة أو تضعيف التشيّع عبر مجموعةٍ من الأحاديث الملتقطة.
يقول الكليني في مقدّمة الكافي: «فاعلم يا أخي أرشدك الله أنّه لا يسع أحداً تمييز شيء ممّا اختلفت الرّواية فيه عن العلماء G برأيه، إلاّ ما أطلقه العالم بقولـه B: «اعرضوها على كتاب الله فما وافى كتاب الله عزّ وجلّ فخذوه، وما خالف كتاب الله فردُّوه» وقوله B: «دعوا ما وافق القوم فإنَّ الرشد في خلافهم»، وقولـه B: «خذوا بالمجمع عليه، فإنَّ المجمع عليه لا ريب فيه»، ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلاّ أقلّه ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم B وقبول ما وسّع من الأمر فيه بقولـه B: بأيّما أخذتم من باب التسليم وسعكم»([52]).
وبعدما فَرغ الكليني من تأليف الكافي، أرسل نسخةً منه إلى أخيه في الإسلام، لكن للأسف الشديد لم يذكر الشيخ الكليني اسمه في كتابه، كما لم يأت أيضاً على ذكر اسم أخيه هذا في الدين في أيّ مكانٍ آخر، ولكن يتّضح لنا من المسائل التي طرحها هذا الرجل في رسائله ومن أسلوب الكليني في الإجابة عليها أنَّ هذا الرجل كان من علماء الشيعة وصديق الكلينيّ الدائم وأنيسه.
يقول: «وقد يسّر الله ــ ولـه الحمد ــ تأليف ما سألت، وأرجو أن يكون بحيث توخيّت، فمهما كان فيه من تقصير فلم تقصر نيّتنا في إهداء النصيحة، إذ كانت واجبةً لإخواننا وأهل ملّتنا، مع ما رجونا أن نكون مشاركين لكلّ من اقتبس منه، وعمل بما فيه في دهرنا هذا، وفي غابره إلى انقضاء الدنيا، إذ الربّ جلّ وعزّ واحد والرسول محمّد خاتم النبيّين ــ صلوات الله وسلامه عليه وآله ــ واحد، والشريعة واحدة، وحلال محمّد حلال وحرامه حرام إلى يوم القيامة..»([53]).
مصنّفات أخرى للكليني
وعلاوة على تدوينه الكافي الشامل لـ «أصول الكافي»، و«فروع الكافي»، و «روضة الكافي»، وتأليفه كتاب «الردّ على القرامطة»، قام الكليني بتأليف كتب أخرى تضمّنتها العناوين التالية:
1 ــ تفسير الرؤيا.
2 ــ الشعر (ويشمل القصائد التي أظهرت فضائل أهل البيت ومناقبهم).
3 ــ كتاب رسائل الأئمة G.
4 ــ كتاب الرجال.
لكن يظلّ الكافي أهمّها، فالكافي ـ حسب تعبير الشهيد الأول ـ : ..لا نظير لـه في علم الحديث والإمامة، وحسب تعبير الشهيد الثاني: هو المنبع الصافي الذي لم يصله أحد من الكُتّاب غير الكليني، وحسب قول الشيخ المفيد: هو مقدّمة الكتب الشيعيّة المفيدة والجليلة، أمّا الكاشاني فيراه أشمل الكتب وأكملها وأشرفها، ويتحدّث عنه المحقق الكركي فيعتبره عديم النظير، فهو شاملٌ للأحاديث الشرعيّة والأسرار الدينيّة التي لم يظهر مثيلٌ لـها في الكتب الأخرى، وأمّا المولى محمد الاسترآبادي فيقول: كنا قد سمعنا من الأساتذة أنّه لم يكتب كتابٌ في الإسلام مساوٍ للكافي([54]).
عام تناثر النجوم، وفاة الشيخ الكليني
وبعد مضي 70 عاماً من عمره، منها 20 سنة من الجدّ من أجل تدوين الكافي،
وما فيها من عذاب وغربة وهجرة.. جاء عام 329هـ، الذي عُرف بعام تناثر النجوم،
فانتقل الكليني إلى دار القرار، وكان وداعه الأخير في شهر شعبان سنة 329هـ في بغداد([55])، وقد صلّى على الجثمان الطاهر واحدٌ من أشراف بغداد، يُدعى أبو قيراط محمد بن جعفر الحسني([56])، ووري الكلينيّ الثرى في باب الكوفة في بغداد بالقرب من الجسر.
ولم تكن هذه هي المصيبة الوحيدة التي ألمّت بالشيعة في تلك السنة، فقد وقع أبو الحسن علي بن محمد السمري، النائب الرابع للإمام المهدي (عج)، أسيراً للمرض، وبعث الإمام المهدي إليه هذه الرسالة التاريخيّة يقول له فيها: «حدّثنا أبو محمّد الحسن بن أحمد المكتّب قال: كنت بمدينة السلام في السنة التي توفّي فيها الشيخ عليّ بن محمّد السمريّ ــ قدّس الله روحه ــ فحضرته قبل وفاته بأيام، فأخرج إلى الناس توقيعاً نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، يا عليّ بن محمّد السمريّ! أعظم الله أجر إخوانك فيك، فإنك ميّت ما بينك وبين ستة أيام، فأجمع أمرك ولا توصِ إلى أحدٍ يقوم مقامك بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة الثانية، فلا ظهور إلاّ بعد إذن الله عزّ وجلّ، وذلك بعد طول الأمد وقسوة القلوب وامتلاء الأرض جوراً، وسيأتي شيعتي من يدّعي المشاهدة، ألا فمن ادّعى المشاهدة قبل خروج السفيانيّ والصيحة فهو كاذب مفتر، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم.
قال: فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده، فلمّا كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه، فقيل لـه: من وصيّك بعدك؟ فقال: لله أمرٌ هو بالغه، ومضى رضي الله عنه، فهذا آخر كلام سمع منه»([57]).
جثمان الكليني
سبّب تردّد الشيعة على قبر الإمام موسى الكاظم B انـزعاج أحد حكّام بغداد، ولأنه كان شديد التعصّب قاصداً إهانة جثمان الإمامين: الكاظم والجواد H أصدر أمراً بنبش قبرهما، فقال: يعتقد الشيعة ببقاء أجساد أئمتهم سالمة، ولا بد من نبش قبر موسى بن جعفر حتى نبيّن كذبهم للجميع وننتهي من تردّدهم على بغداد.
مانع وزيره هذا الأمر قائلاً: نعم، يعتقد الشيعة ليس فقط ببقاء أجساد أئمتهم سالمةً بل أيضاً ببقاء أجساد علمائهم، إنّ من الأفضل أن يتمّ نبش قبر الكليني، فإذا لم يواجه السلطان المشاكل إثر ذلك، يمكن عندها القيام بنبش قبر الإمام الكاظم B.
بناءً عليه، توجّه الحاكم والوزير وبعض أفراد الجند إلى قبر الكليني S، وقاموا بنبشه، وعندها أصيبوا بالذهول حينما وجدوا الجسد سالماً والكفن كذلك، لا زال موجهاً إلى القبلة، مع طفل بالقرب منه لا يزال هو الآخر سالماً ولم يطرأ عليه تغيير، عندها أصدر الحاكم أمراً بسدّ القبر ثانيةً، وبناء قبّةٍ عليه، ممّا أدى إلى إعلاء شأنه أكثر، وتزايد مكانته يوماً بعد يوم([58]).
وبعد مرور سبعة قرون على ذلك، يحدّثنا الملاّ محمد تقي المجلسي أحد أعلام العصر الصفوي بعد زيارته مرقد هذا الرجل العظيم: إن مقبرة الكليني في منطقة المولوي في بغداد، وهي معروفة بـ «شيخ المشايخ»، يقصد قبره فيها السنّة والشيعة على السواء([59]).
* * *
الهوامش
([1]) منطقة جنوب طهران حالياً.
([2]) الشيخ عبدالحسين الأميني، شهداء الفضيلة، دار الشهاب: 7.
([3]) المصدر نفسه: 9 ــ 10.
([4]) المصدر نفسه: 9.
([5]) الحموي، معجم البلدان 3: 117.
([6]) الدواني، مفاخر إسلام 3: 26.
([7]) تحدّث الكليني عن تشيّع أحمد بن الحسن المادرائي في أصول الكافي «كتاب الحجّة»، في باب مولد الصاحب B: «علي، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن الحسن والعلاء بن رزق الله عن بدر غلام أحمد بن الحسن قال: وردت الجبل وأنا لا أقول بالإمامة، أحبّهم جملة، إلى أن مات يزيد بن عبدالله، فأوصى في علّته أن يدفع الشهري السمند وسيفه ومنطقته إلى مولده، فخفت إن أنا لم أدفع الشهري إلى إذكوتكين نالني منه استخفاف، فقوّمت الدابة والسيف والمنطقة بسبعمائة دينار في نفسي ولم أطلع عليه أحداً، فإذا الكتاب قد ورد عليّ من العراق: وجّه السبعمائة دينار التي لنا قِبَلَكَ من ثمن الشهري والسيف والمنطقة»، وقد تشيّع أحمد بن الحسن المادرائي بعد هذه الحادثة واستقال من عمله، وبعد أن انتصر في منطقة الريّ نشر المذهب الشيعي فيها.
([8]) الحموي، معجم البلدان 3: 121.
([9]) ولعل البخاريّ كذلك، نظراً إلى الجهل بتاريخ ولادة الكليني.
([10]) كان عصر الشيخ المفيد (413هـ) من العصور المليئة بالفوضى والصخب اللذين حكما علاقة المذاهب والفرق بعضها ببعض، كما نمت فيه الحركات الالتقاطية وكثرت فيه المناظرات أيضاً، وجاء الشيخ المفيد بعد الكليني، وقد سعى لتثبيت الخطّ الشيعي وتكميل ما بدأه الكليني قبله، ولم يُظهر المفيد في الحقيقة الوجه الحقيقي للتشيّع في عصره فحسب، بل إنّه فعل ذلك حتى بالنسبة لتلك العصور التي أعقبت عصره، فقد استفاد العلماء اللاحقون من نتاج هذا العصر أيّما استفادة.
([11]) القمّي، سفينة البحار 2: 446.
([12]) تاريخ قم: 40.
([13]) المصدر نفسه.
([14]) المصدر نفسه: 246، نقلاً عن كتاب مفاخر إسلام 1: 383.
([15]) المصدر نفسه: 246.
([16]) أبعد ابن عيسى سنة 255هـ مجموعةً من المحدّثين الذين كانوا ينقلون أحاديث الغلو، كما وأبعد أحمد بن محمد بن خالد البرقيّ عن المدينة بتهمة نقل الأحاديث الضعيفة، إلا أنّه تمّ إرجاعه إلى المدينة بعد مدّة.
([17]) رجال النجاشي: 92، رقم: 228.
([18]) مات أحمد بن إدريس بالقرعاء سنة 306 هـ في طريق مكّة من الكوفة.
([19]) الدواني، مفاخر إسلام 3: 26.
([20]) الخوئي، معجم رجال الحديث 11: 194.
([21]) شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، رجال الطوسي: 440، رقم: 6282، تحقيق جواد القيّوميّ الإصفهاني، نشر مؤسسة النشر الإسلاميّة، قم المقدّسة، الطبعة الثانية، 1420هـ.
([22]) القمّي، تحفة الأحباب: 350.
([23]) الدواني، مفاخر الإسلام 2: 321.
([24]) المصدر نفسه 3: 55.
([25]) الإمام أبو محمد أطروش، جدّ السيد المرتضى والسيد الرضي لأمّهما، أقام حكومةً شيعيّة في طبرستان والمنطقة الشمالية من إيران من أجل نشر الإسلام وتبليغ المذهب الشيعي، وكانت كتاباته ومؤلّفاته قائمةً على العقيدة الشيعيّة، استشهد سنة 304هـ عن عمر يناهز 97 سنةً في مدينة آمُلْ في محافظة طبرستان (المعروفة اليوم بمحافظة مازندران).
([26]) يذكر أنّ البحرين القديمة كانت تشمل إلى جانب البحرين الحالية منطقتي القطيف والأحساء (المترجم).
([27]) فرهنك فرق إسلامي: 385.
([28]) المصدر نفسه: 359.
([29]) المصدر نفسه.
([30]) المصدر نفسه.
([31]) ريحانة الأدب 5: 79.
([32]) مفاخر إسلام 3: 24.
([33]) المجلسي، بحار الأنوار 51: 310.
([34]) ريحانة الأدب 6: 168
([35]) الكليني، الكافي، المقدمة 1: 4.
([36]) المصدر نفسه.
([37]) المصدر نفسه: 8.
([38]) المصدر نفسه: 2.
([39]) أصول الكافي، المقدّمة الفارسيّة 1: 9.
([40]) الدواني، مفاخر إسلام 3: 27.
([41]) المصدر نفسه: 27.
([42]) المصدر نفسه: 90.
([43]) أصول الكافي، المقدّمة الفارسيّة 1: 10.
([44]) المصدر نفسه: 10.
([45]) ريحانة الأدب 4: 113.
([46]) المصدر نفسه: 114.
([47]) المصدر نفسه: 114.
([48]) المصدر نفسه 5: 81.
([49]) المصدر نفسه: 81.
([50]) المصدر نفسه: 81.
([51]) يعتبر عصر الكليني من العصور الذهبية للحركة الصوفيّة، فقد عُرفت فيه بعض الشخصيات الصوفيّة أمثال: ذي النون المصري، وعمر بن عثمان المكي أستاذ أبي منصور الحلاج، والجنيد البغدادي، وأبي بكر الكناني.. وقد سعى تلامذة هؤلاء الشيوخ إلى الدعوة للحركة الصوفيّة في جميع الأراضي الإسلاميّة، مما أدّى بحامد وزير المقتدر العبّاسي إلى إصدار أمر بالقبض على أبي منصور الحلاج، ولمزيد من التفاصيل في قضية القبض على الحلاج سنة 308هـ يمكن الرجوع إلى كتاب «وقائع السنين والأعوام» لخاتون آبادي.
([52]) الكافي، المقدّمة 1: 9.
([53]) المصدر نفسه.
([54]) أصول الكافي، المقدّمة الفارسيّة: 8، 9.
([55]) ريحانة الأدب 5: 80.
([56]) المصدر نفسه: 80.
([57]) الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة: 542، تحقيق الأستاذ علي الغفّاري، نشر مؤسسة النشر الإسلامي، الطبعة الرابعة، قم المقدسة.
([58]) ريحانة الأدب 5: 82.
([59]) المقدّمة الفارسية لأصول الكافي 1: 8.