إيمان شمس الدين
إن معرفة أهمية العلم والمعرفة، والعمل على وعي المجتمعات لنهضتها، يطرح تساؤلا هو: على من تقع مسؤولية النهوض بوعي الناس؟
وبما أن المسألة متعلقة بالوعي فإنها تلقائيا تصرف الذهن إلى المثقف من حيث الماهية والوظيفة، وعلاقاته سواء مع السلطة السياسية أو المؤسسة الدينية أو الجمهور.
وهذا لا يعني حصرها بالمثقف، لكنه يعني أن المثقف محورها، لدوره الوسيط بين الجمهور والسلطة السياسية والمؤسسة الدينية، فعملية الوعي ليست أحادية المصدر والمنهج، لأن عقل الإنسان قابل للتوسع والتشعب معرفيا وعلميا، والإنسان قابل للتكيف والتطور، هذا فضلا عن التعقيدات الحياتية التي تتزايد كلما مضينا قدما في الحياة، والتي تتطلب بشكل دائم فتوحات معرفية وعلمية، وتطوير المناهج والأدوات، بل تتطلب تثاقفا بين المؤسسات الدينية والنخبة المثقفة في الشرق مع مثيلاتها في الغرب، بعيدا عن الصراعات السياسية بين الدول.
فطالما كانت الصراعات السياسية يدور قطب رحاها بين دول عظمى ولكن هذا لم يمنع المثقفين والنخب في تلك الدول المتعادية أن تستفيد من ما تقدمه بعضها في المجال العلمي والمعرفي، فالاستفادة العلمية والمعرفية هي سبق يستفيد منه حتى السياسيون في معاركهم، ولأن مصالح الناس متعلقة بشكل رئيس على وعيها وإدراكها لحقوقها وواقعها، وقدرتها على تشخيص الأصلح، لذلك الموضوع يتطلب تظافر جهود المخلصين، وخاصة من طبقة النخبة المثقفة، التي حملت على عاتقها التصدي والعمل الرسالي والإنساني، ومواجهة كل التحديات لأجل الصالح العام، والارتقاء بوعي الناس.
وفي ظل وجود أنظمة مستبدة وسلطوية أو شبه سلطوية، يصبح لزاما التعاون بين النخبة المثقفة والمؤسسة الدينية ومؤسسات المجتمع الأهلي، لمواجهة محاولات استعباد الناس وسلبهم حقوقهم و ثرواتهم، ومقدراتهم، وسرقتها وبيعها بالرخيص للقوى الكبرى، فيختل ميزان العدالة، ويصبح هناك سيد وعبد، وهو خلاف إرادة الله تعالى في تحرير الناس من كل العبوديات سواه، وتحقيق العدالة في الأرض.
“لقد أدركها التنويريين الفرنسيين الكبار، لقد حلّوا لغز التناقض الحضاري والتاريخي بين الحداثة والتنوير من جهة والهوية والانتماء من جهة ثانية. فالاقتداء الحضاري والفكري والعلمي بأمّة متقدّمة أو حضارة متقدّمة لا يلغي أبداً العداء السياسي لها والالتزام الوطني والقومي ضدها، وهذا هو بالضبط الموقف الذي اتخذه التنويريين الفرنسيون إزاء التفوق الحضاري الإنكليزي.
إنه ذلك الحل الجدلي الاستثنائي لعلاقة الحداثة والهوية، الجمع الجدلي الذي على إثره «كان النور…» فترتبت واحدة من أعظم الثورات في التاريخ الأوروبي الحديث الثورة الفرنسية. إن كل الأمم التي تمكّنت من عبور منصة الحضارة والدخول في ركب العصر الحديث لا بد لها أولاً من أن تكون قد حلت هذه الجدلية مقدَّماً. والفكر العربي المعاصر لا يزال واقفاً حائراً أمامها إلى اليوم. فعلى المستوى الفكري العربي العام نصطدم اليوم بالتيارين الكبيرين المقتسمين للساحة الفكرية والسياسية. التيار الأول هو التيار المتبنّي لقيم الحداثة الغربية من الليبراليين والعلمانيين الذين يجدون في انتمائهم إلى الغرب انتماءً كاملاً تامّاً لا يقتصر على الفكر وحسب، بل يمتد إلى التأييد السياسي الذي سيترجم في أغلب حالاته إلى الخيانة الوطنية، والولاء للمشاريع الاستعمارية والخضوع والرضوخ للمطامع الإمبريالية في عالمنا العربي والعمالة لها. إنهم أصحاب نظرية ” الصفر الاستعماري” ورواد المنظمات والجمعيات والمراكز الأميركية والأوروبية والليبراليون والحقوقيون… إلخ الذين يجدون أن كل ما يأتي من الغرب حضاري وتقدمي. خطط البنك الدولي والقواعد الأجنبية والتدخلات والإملاءات وخروقات السيادات الوطنية، بل حتى الغزو المسلّح، تقع عندهم ضمن إطار الدور الحضاري والتمديني المبارك للغرب. وتماشياً مع المنطق الضحل هذا، يكون الموقف الاستهزائي واللامبالي لانتمائنا الحضاري التاريخي العربي والإسلامي الذي عندهم يجب تنسيقه كله بوصفه إرثاً رثّاً لا يستحق أكثر من نظرة ازدراء، فتكون الخلاصة في وصفة تغريبية لا تمتّ إلى الحداثة بصلة، فاشلة وتتضمن ضياعاً مؤكداً شاملاً على المستوى الوطني والاجتماعي والثقافي قد كنا وما زلنا نختبره على أكثر من صعيد في واقعنا العربي المعاصر. التيار الثاني الكبير الذي يحتل الجزء الآخر من ساحة الفكر العربي الحديث لا يختلف عن التيار السابق في حقيقة “رميه للطفل مع الأقماط الوسخة”… فبحجّة معاداة الاستعمار ونزعته التوسعية والاحتلالية وميوله الإمبريالية والإمبراطورية، يعادى كل ما هو قادم من الغرب)وصولاً في بعض الحالات المتطرفة إلى رفض حتى منتجاته التقنية) جملة وتفصيلاً. ليس معاداة سياسية فقط، بل حضارية وفكرية عبر التفافة متطرّفة ومتقوقعة نحو الذات والهوية ثم الانغلاق والتمترس فيها لتغدو فخاً وسداً يعوق أي نوع من أنواع التقدم والتحرر.
إنها تيارات الأصولية السياسية وأحزاب الإسلام السياسي بمختلف تلويناتها وأحزابها وتشعباتها. أي فكر نقدي وأي تحرّر يغدو خيانة، وكلّ ما يجب أن يكون قد كان وانتهى، وما علينا نحن أبناء هذا العصر اليوم إلا الاستمرار في المضي على نهج السلف الصالح ومكافحة البدع وهجاء الغرب مع متابعة حملات ردح مدح الذات والإعجاب بها. وليغدُ التراث والماضي والإرث مصدر الحكمة والصلاح والعلم الوحيد ولا حاجة إلى مزيد. إنه توجه نعي الأمة بأنها قد بلغت كفافها وانتهينا. ومع ذخيرة وعتاد فكري على هذه الدرجة من الضعف والضحالة لا تكون وسائل هذا التيار في مواجهة الغرب في نزعاته الاستعمارية إلا ضعيفة عاجزة ومشوّهة تعجز، كما هو واضح، في مواجهة أي من المشاريع العسكرية والغربية في أي ساحة من الساحات عربية، لنكون قد خسرنا الحداثة والهوية في آن واحد.
تقف مسألة الحداثة والهوية اليوم في العالم العربي على مفترق طرق، والحلّ يعني أولاً التمييز بين الموقف السياسي والموقف الفكري، حيث يكون الأول ملتزماً، أما الثاني، فيكون منفتحاً نحو آفاق تتجاوز الحدود والهويات.”[2]
فكلمة مثقف عرفها الدكتور علي شريعتي[3]: “تعني بعيد النظر أو مستنير، وتعني ذلك الذي لا يتصف بالتقيد والتوقف ولا يفكر بجمود عقائدي، بل يفكر بوضوح وسعة أفق، ويميز عصره والأرض التي يقف عليها، وموقع البلد الذي ينتمي إليه والمشاكل التي تطرح في مجتمعه ويستطيع تحليلها وتقديم الحلول لها”.ومن يدرك عصره وزمانه ويتفهم ما يجري حوله من أحداث وله إطلالة على السنن التاريخية, وقدرة على تشخيص وتمييز المشاكل الحقيقية التي تؤثر في مصير المجتمع من المشاكل الوهمية التي تدخل المجتمع في مزيد من الحيرة والجهل، ويكون فاعلا في الميدان، يمتلك رؤية منصفة وموضوعية وواضحة ثقافيا وعلميا ودينيا، هو من المثقفين.
٣. وظيفة المثقف:
أنظونيو غرامشي (١٨٩١ ـ ١٩٣٧م). وهو المناضل والصحافي الذي سجنه موسيليني عامي ١٩٢٦ و ١٩٣، كتب في دفاتر السجن: أن بإمكان المرء القول “إن كل الناس مثقفون، ولكن ليس لهم كلهم أن يؤدوا دور ووظيفة المثقف في المجتمع”[4]
ويلعب المثقف دورا محوريا في حركة النهضة والتنمية الثقافية والاجتماعية على المستوى الفكري في المجتمع، ويمكن أن نلخص أهم أدوار للمثقف[5] بالتالي:
١. التنمية الثقافية والعلمية والفكرية، ولا يكون ذلك بعيدا عن قابلية المجتمع وإشكالياته العالقة، بل تكون التنمية والنهضة خارجة في هيكليتها العامة ومحتواها وأدواتها من حاجة المجتمع، بمعنى أن الاستفادة من تجارب المجتمعات الأخرى ليس ممنوعا، بل يجب أن يكون وفق أسس أهمها دراسة الفارق الاجتماعي الثقافي والمعرفي، ودراسة فارق الإشكاليات الموجودة من مجتمع إلى آخر، فلا يمكن للمثقف أن يقوم بطرح إشكالية اطلع عليها في مجتمعات أخرى، وطرحها في مجتمعه وهي لا تشكل إشكالية حقيقية في هذا المجتمع، أو أنها تقع ضمن سياقات الأسبقيات المعرفية لمجتمعات دون مجتمعات، فلا يكترث لها المجتمع، بل على المثقف أن يفهم محيطه ويدرك أهم إشكالياته المعرفية والثقافية، ويضع لها حلولا تتناسب وقابلية المجتمع الثقافية والمعرفية، دون أن يكرس ما يرغب به الجمهور، بل أن يبلور رؤيته النهضوية من واقعه الاجتماعي لينهض به.
٢. يلعب المثقف دورا هاما في عملية التغيير والاصلاح في المجتمع، وهو ما يعني انخراطه في واقع المجتمع، فهو” ليس ثمرة البناء الفوقي والفرعي الذي تبلور نتيجة لحتمية النظام الاقتصادي والبناء التحتي للإنتاج، بل المثقف عامل ومسبب يحمل على عاتقه رسالة متغيرة، بناءة وهادية في التاريخ.[6]
حيث تكون حركته في التغيير لا تقتصر على الزمن الذي يحيا به، بل تكون لديه نظرة آنية في أفق النظرة الاستراتيجية التاريخية الملهمة للأجيال.
٣. لا يقتصر عمل المثقف على البناء التحتي والفوقي الثقافي والفكري، بل يحمل هم الفقراء في مجتمعه فالفقر معيق غالبا للمعرفة، بل هو أحد أهم معوقات العلم، ويملك لهم رؤى تكافلية تنهض بهم اقتصاديا وفكريا، فهو المعنى بالتغيير في كافة أشكاله بما فيه التغيير الاقتصادي.
٤.المساهمة الفاعلة في حل المشاكل في كافة أشكالها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، مع تحمل ما يلزم ذلك من محاذير وتضحيات على المستوى الشخصي، خاصة ما سيقدمه من تضحيات شخصية قد تؤثر على وضعه النفسي والصحي والاقتصادي.
٥. مراقبة السلطة وتنوير المجتمع بخفايا سياسات السلطة، فهو لا يمارس دور المعارض مطلقا، ولا الموالي مطلقا، بل هو بمثابة المراقب الذي يكشف التقصير للمجتمع، وفي ذات الوقت يدعم مسيرة التنمية في حال بدأتها السلطة، ويشجع المجتمع على الانخراط بها. هذا إضافة لدوره في نقد أداء السلطة وتطويره، دون الانخراط في شبكة مصالح خاصة معها.
٦. التفاعل مع مؤسسات المجتمع الأهلي، والإسهام في تفعيل دورها في المجتمع، والمشاركة الفعالة في تطوير رؤاها، وتفعيل وجودها خاصة في مجال التنمية الثقافية والفكرية في المجتمع.
٧. التفاعل مع المؤسسات الدينية، ويكون ذلك بالإسهام في رسم الصورة الواقعية للمجتمع للمؤسسة، والإسهام في تطوير القراءة الدينية للنص، ورفد النص بإشكاليات الواقع، من خلال تفاعله مع الفقيه، ورفده بآخر الدراسات العلمية الحديثة خاصة في العلوم الإنسانية وفروعها، والتي تسهم في تطوير قراءة النص الديني.
٨. المراقبة الذاتية وتطوير الذات القائم على أساس العودة للذات، والخروج من كل محاولات الاغتراب عنها، ومحاولات الاستلاب لهويتها، وفهمه العميق لجوهر المعارك الثقافية والفكرية على مستوى الهوية، حتى لا يكون جسرا لسلب الهوية، ولا أداة في تكريس التطرف تحت شعار الحفاظ على الهوية، بل دوره امتلاك القدرة في الحفاظ على الأصالة من جهة، وعلى مسيرة التطور والمواكبة من جهة أخرى. فلا يفقد هويته بحجة التنمية الثقافية، ولا يكرس الجهل بحجة المحافظة على الهوية، والتي فيها ثوابت ومتغيرات تخضع في متغيراتها للزمان والمكان، دون المساس بثوابتها.
هذا ملخص لأهم الأدوار التي يقوم بها المثقف، وهنا نحن لسنا بصدد عمل فردي للمثقف في هذا العصر المتشابك والمتعشب والمتكثّر معرفيا، بل ضمن هذه الأدوار الكبيرة والمهمة والنوعية، يكون العمل هنا مؤسساتي، بمعنى أن يسير العمل الثقافي والمعرفي ضمن عمل مؤسساتي، يقوم في عمله على شبكة من المثقفين من كافة التوجهات، التي تعمل على استقراء الساحات المعرفية، والتصدي للإشكاليات الداخلية والخارجية ضمن خطة عمل مؤسساتي وليس فردى. أي هو دمج لدور المثقف مع فكرة مؤسسات المجتمع الأهلي، لأن الدور الموكل للمثقف في راهننا لا يمكن أن يقوم به منفردا، بل يتطلب جهودا جماعية ضمن عمل مؤسساتي منظم.
ولعل نظرة عابرة إلى مجتمعاتنا يجعلنا نقف لنتساءل: ما هو الدور الذي يقوم المثقف به؟ وما هي علاقته بالناس وهمومهم؟
لست في صدد الحكم والإطلاق وإنما بصدد الإنصاف من النفس, فما لدينا اليوم يمكن تقسيمه إلى عدة أقسام:
١. مثقف هيئة (صوري)، يمارس هنا الشخص دور صوري للثقافة، متلبسا بها بصورة وهيئة مثقف، وقد اتخذ من الثقافة الصورية وسيلة لتحقيق نفوذه الاجتماعي وهيمنته على عقول الناس، أو لتحصيل نفوذ في السلطة أو نيل ثقة جهات نافذة، وهذا لا يعني أنه مارس الفعل الثقافي، بل هو بالأصل ادعى الثقافة واستخدمها لتحقيق مصالحه[7].
٢. مثقف السلطة، ورغم ثقافته فعليا، إلا آنه سلوكيا بات مرتبطا بالسلطة فتخلى عن وظيفته النقدية والمتصلة بفعل الوعي، وارتباطه بالسلطة يمنعه من النقد والتقويم والتصويب، ويجعل منه مجرد تابعا منفذا للأوامر، في مقابل تحصيله لمنافع ذاتية تختلف باختلاف رتبة ارتباطه بالسلطة، وقدرته على تحقيق ما يريد مه، حتى لو خالفت قناعاته الثقافية والفكرية. فهو مدفوع الأجر[8].
“إن موضوع المثقف بدأ مع قضية الضابط الفرنسي اليهودي “الفريد دريفوس” المتهم بقضية تجسس لصالح ألمانيا (1894)، هذه القضية كانت بمثابة عود الثقاب الذي أشعل نار الكراهية الفرنسية ضد اليهود الفرنسيين، فحكمت المحكمة العسكرية بتجريده من رتبته العسكرية ونفيه، ثم شدد عليه الحكم بالسجن عشر سنوات إضافية لثبوت التهمة عليه. إلا أن بعض المثقفين الفرنسيين قادوا حملة تشكيك بالتهم المسوقة ضده، منهم المفكر الفرنسي أميل زولا الذي كتب مقالته الشهيرة “إني أتهم”، والذي أدى بدوره إلى ظهور بيان حمل توقيع “المثقفين” في فرنسا على وثيقة تطالب بإعادة محاكمة “دريفوس”، وذلك بعد ظهور أدلة تشير إلى براءته ومحاولة الحكومة اليمينية طمس الأدلة الجديدة على براءته، وأن القضية ملفقة للإساءة إلى يهود فرنسا. وتحت ضغط تلك الحملة أعيدت محاكمة “دريفوس” (1906)، وحكمت المحكمة المدنية ببراءته، وأعيد له اعتباره.
لا أريد هنا أن أبرئ “دريفوس”، خصوصاً عندما نجد أن رئيس قسم التاريخ في الجيش الفرنسي يصدر قبل بضعة سنوات تقريراً يشكك فيه بحكم البراءة وصحة حكم الإدانة، ثم يتحرك اللوبي الصهيوني الفرنسي ضده، الأمر الذي أدى إلى عزل رئيس قسم التاريخ في الجيش من منصبه، لمجرد نشره لتقرير يعبر عن وجهة نظر في قضية تاريخية. لا أريد هنا أن أبرئ “دريفوس”، وإنما أريد التركيز على التداعيات التاريخية في أوروبا لموقف مثقفين دافعوا عن قضية اعتقدوا أن السلطة تحاول فيها طمس الحقيقة.
رسمت تلك القضية صفات معينة للمثقف ترتكز على شرطين: أولهما إصراره على كشف الحقيقة، وثانيهما أن يكون شجاعاً وأن يكون مستعداً للنقد إلى أبعد مدى، وأن يحدد ويحلل ويعمل من خلال ذلك على المساهمة في تجاوز العوائق التي تقف أمام بلوغ مجتمع أكثر إنسانية……هذا هو الوجه الأول الناصع من عملة المثقف.
الوجه الثاني القبيح لعملة المثقف، نجدها في قصة فرناندو كاردوسو، التي تقف على نقيض القصة السابقة. كاردوسو هو مثقف برازيلي مشهور وعالم اجتماع يساري، اختير مفكر العام بسبب كتاباته الجريئة عن الفقر وظهور الطبقات الاجتماعية نتيجة لطغيان الرأسمالية، وحظي كاردوسو بشعبية لانتصاره لمآسي الفقر وتدني مستويات الضمان الاجتماعي. خلال تلك الفترة، وصلت ديون البرازيل إلى مستوى غير مسبوق، بسبب ضغط الدائنين على الحكومة لاعادة الهيكلة، وتنفيذ سياسات مالية تضمن عائد مالي يسدد على الأقل فوائد الديون، ويسمح بسياسة اقتصادية تقشفية لصالح الدائن الأمريكي. كان لابد من منفذ للسياسات المتشددة والموجهة ضد الإنسان الفقير. وحدث أن اختير كادوسو وزيراً للمالية، لشيوع حالة الرضى عنه وسط الشارع البرازيلي. وشعر الدائنون بتخوف من تاريخه النضالي ضد الرأسمالية المتطرفة، لكن سرعان ما اطمأنت عندما قال في اجتماع مع كبار المصرفيين والصناعيين: “انسوا كل ما كتبته.
هاتين القصتين بالغتا الدلالة، وضعت علاقة المثقف بالسلطة تحت السؤال، وأصبح هذا السؤال موضع اهتمام مفكري العالم، لأنها لفتت الانتباه إلى ظاهرة جديدة. القصة الأولى رسمت وجهاً مشرقاً للمثقف الملتزم الذي يقف مع الحق في وجه السلطة السياسية، وإن أدى موقفه إلى تقديم تضحيات جسيمة، كالنفي والسجن والتصفية الجسدية، فضلاً عن التهميش الاجتماعي والتصفية المعنوية. والثانية رسمت وجهاً بشعاً للمثقف الذي يتحدث عن المبادئ، ويرفع شعارات الدفاع عن المظلومين، ويصعد على أكتاف الجماهير، ثم يخون الأمانة ويضع يده بيد السلطة، بمجرد أن يوجه إليه عرضاً سخياً، يحقق مصالحه الضيقة على حساب المستضعفين، الذي كان ينادي يوماً بحقوقهم”[9].
وخطورة هذا النوع من المثقفين ـ كما أسلفنا ـ تكمن في ما يمتلكه من سلطة علمية تمكنه من أسر عقول الناس في ظلها، وسوق وعيهم إلى ما تريده السلطة، خاصة مع ضحالة المستوى المعرفي لأغلب الجماهير، ومع ميل الجمهور العربي والإسلامي للترميز السريع، بل لتقديس الرمز وتصديق كل ما يصدر منه، وهي عقلية تم بناءها تاريخيا ، وتضافرت في بناءها الأنظمة المستبدة، من خلال نُظُم التعليم المتبعة في المدارس، وهيمنة الجانب الديني واستغلال هذه الهيمنة وتجييرها لصالح تغييب وعي الجمهور، وتخدير قدرتهم على النقد والمراقبة.
٣. مثقف نرجسي[10]، وهو الذي يمتلك رصيدا معرفيا وعلميا عميقا، لكنه يعيش في برج عاجي، فيجعل من معارفه وعلومه سببا للتعالي المعرفي على من حوله، وتسفيه كل رأي، فهو كمن يرى أنه يسيل منه السيل ولا يرقى إليه الطير في ثقافته، فيعيش في صندوق الذات يطوف حولها، دون أن تؤثر معارفه وثقافته في تغييره هو أولا، بالتالي لن يكون قادرا على تغيير من حوله ولا تغيير واقعه.
٤. المثقف المنكفئ[11]، وهو الذي يمتلك معارف وثقافة غزيرة، لكنه يصطدم بالواقع، ويعيش في مثالية مفرطة لا توجد إلا في الكتب، ونتيجة صدمته بالواقع والفارق بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، انكفأ على ذاته واكتفى بالمشاهدة والتشخيص من بعيد.يتفاعل مع واقعه لكن لا من خلال الاحتكاك بالجمهور، بل من خلال ما يكتبه من آراء.
٥. مثقف ميداني أو مثقف مشتبك[12] ، وهو المثقف الذي يمتلك رصيد معرفي وثقافي وازن، واستطاع أن يوائم بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، محاولا إصلاح مواطن الخلل، ومتصديا لميدان المجتمع، لكنه لا يرضخ لأي ابتزاز شعبوي أو نخبوي أو سلطوي، فهدفه إصلاح الواقع، والنهوض بوعي الجماهيردون الرضوخ لإرادتها.
“إنّ مهمّةَ المثقّف الثوريّ هي أن يكون في قلب المواجهة، وأن يعيشَ متمرِّدًا على الواقع وشروطِه، من أجل تجاوزه، لا من أجل قبوله أو التكيّف معه؛ ومهما ضاقت السبلُ بكَ، واشتدّ الحصار، فسيظلّ في وسعك أن تصنع ثقافةَ الاشتباك كطريقة عيشٍ وسلوكٍ وحياة، ولو بدا الانتصارُ الآن أقربَ إلى المستحيل.
الوعي الثوريّ لا يأتي دفعةً واحدة، بل أساسُه العملُ والتجربةُ المعيشة، ومرجعيّتُه حقائقُ الواقع الماديّ، فإنّ تعميقَه وترسيخَه يقتضيان امتلاكَ أدوات البحث والمعرفة والمنهج العلميّ”[13]
فالمثقف يلازمه مفهوم النهضة المسبوقة بالمعرفة، كون الثقافة ميدانها المعارف والعلوم والفنون، وهذه كلها أدوات رصينة في مشروع النهضة، بل تشكل القاعدة التأسيسية لها.
ولكن هناك انقلابا للصورة في أغلب الساحات العربية والإسلامية وخاصة الخليجية منها، حيث دخل المثقف من بوابة المجتمع إلى السلطة وعالم السياسة، فاستخدم المجتمع لأجل الوصول لما يحقق له المكاسب السياسية والمواقع المتقدمة في السلطة[14], بدل أن يكون هو صمام أمان لوعي الناس والمشخص لحقيقة همومهم، والناهض بوعيهم والموجه لأولوياتهم، من أولويات بسيطة وبعيدة عن واقع وأسباب معاناتهم، إلى أولويات ناهضة وحقيقية تصب في صالح نهضتهم ورقي الوطن.
وتحول المثقف في هذه الحالة إلى متثاقف، ليصبح عبارة عن كم من المعلومات السياسية والعلمية الغير نافعة، ولكنها تشكل سلطة له يستضعف بها عقول الناس البسطاء[15], إذ أن المثقف الحقيقي هو من يحمل شعاع المعرفة وينير به عقول الناس، لينعكس على سلوكياتهم ووعيهم، بدل أن يصبح وعاء معلوماتي لا انعكاس له ولا نفع له في الحياة العامة والتغيير والاصلاح.
ولا ندعي خلو المجتمع من المثقفين الحقيقيين، إلا أنهم لا يشكلون قوة قادرة على تغيير الوعي[16] والنهوض به وذلك للأسباب التالية:
١. غياب المشروع الهادف، بمعنى عدم وضوح الصورة وعدم القدرة على التشخيص السليم نتيجة مستوى الوعي المحيط في بيئته، وموقعيته في تلك البيئة، مما يؤثر على مقدرته في تشخيص الأولويات، وتقديم الأصول على الفروع في مشروع الوعي والمعرفة، بالتالي تشتت الطاقات في مشاريع فرعية لا تحدث تغييرا كما يجب.
٢. الافتقار للدعم المادي والمعنوي[17]، رغم امتلاك مشاريع ناهضة ومحورية وهادفة.
٣. وجود دعم مادي ومعنوي، ولكن غياب المنهجية السليمة لتحقيق النهضة[18]، وهدر الدعم المادي وفق تشخيصات للأولويات خاطئة، نتيجة التشخيص وفق رؤية مذهبية أو طائفية أو قبلية، أو رضوخ للجهة الداعمة وأولوياتهـا لا أولويات المجتمع ومتطلباته الحضارية.
٤. التهميش لفئة المثقفين الميدانيين[19]، لتضارب حراكهم مع مصالح القوى النافذة، أو بسبب الصراعات الشخصانية على الساحة، التي ينخرط فيها الأشخاص في سباق وهمي مع الآخر، لحصد مواقع متقدمة، وأسبقية موقعية في المجتمع، رغم عدم كفاءته ومكنته، أو بسبب قدرة هذا المثقف الميداني على تشخيص مكامن الخلل في عمل المتصدين، ونقدها ورصدها والإفصاح عنها، أو نتيجة الصراعاتا لحزبية والتيارية التي تجد هذا النوع من المثقفين يقف عقبة كؤود في سبيل تحقيق أجنداتها التي تتطلب وعيا موجها للجمهور.
ففي حفلة الحراكات الجماهيرية التي تكتسح كثير من البلدان العربية اليوم (عام ٢٠١٩)، اختلفت أنماط الحراكات وطرق تعبيرها عن سخطها على الفساد وعدم تحقيق العدالة من قبل السلطات الحاكمة، بل اختلفت أيضا هذه الحراكات في طبيعة موقع المثقف في كل منها، فبينما كانت هناك حراكات يشكل المثقف طليعتها وجوهرها، بالتالي انعكس ذلك على آليات الحراك ومظاهر تعبيراته الحيوية في ساحات التظاهر، واختلفت طرق تحقيقه لما يريد، وجدنا حراكات أخرى تخلف فيها المثقف عن أداء دوره، واكتفى بالمتابعة والمشاهدة، إما لانفلات عقال الضبط الأمني، وتصدر المشهد الجماهير الغاضبة و وتسلق عليها المخربين والمتصيدين، والمترصدين والعملاء، وهنا لا يكون موقف المثقف موقف المتفرج والمراقب، بل عليه أن يشمر عن سواعد ثقافته وعقله، وينزل لعقول الجمهور في عملية كي للوعي إيجابية، يوجه من خلالها المطالب، ويكشف من خلالها المخربين حتى لو تطلب ذلك تقديم نفسه على درب الشهادة، أو أن الجماهير بلغت مبلغا من الجهل والتخلف ـ رغم أحقية غضبها على الفساد والظلم ـ إلا أن تعبيرها عن الغضب كان عشوائيا وفوضويا فتح الساحات على العنف وافتقاد الأمن، مما لا يسمح لصوت العقل بتصدر المشهد، ويصبح من الحكمة السعي لضبط الشارع أمنيا دون عنف، حتى لا تعم الفوضى وتهدر الدماء، أكثر من التصدي لعملية الوعي، لأن الانفعال والغضب الجماهيري، وتساقط أحجار الدومينو تباعا، وارتفاع صوت الغضب والنقمة على صوت العقل والحكمة، لا يسمح أبدا للمثقف بل لا يتيح له الفرصة في قيادة حركة الجماهير وتوجيهها، فتكون هنا وظيفته تتجه نحو التهدئة وتخفيف الهيجان العاطفي وامتصاص الغضب، والاستيعاب، ومن ثم بعد ذلك يرتب مساره تدريجيا نحو ضخ جرعة من الوعي لتنشيط الذاكرة الجماهيرية، وإعادة الحياة للعقل مجددا، وهو ما يتطلب حنكة وحكمة وصبر استراتيجي ومهارة عملية في التعاطي مع الجماهير الغاضبة.
وهناك جماهير عبرت عن مطالبها بطريقة إلى حد بعيد حضارية واختلطت صفوفها بين المثقفين والجمهور والأكادميين والفنانين والرسامين، والمهنيين، والنقابيين، وتنوعت حراكاتها باتجاهات عدة، إلا أن الخطر هنا يكمن في تآمر الطبقة السياسية، واندساسها بين الجماهير بصبغات ثقافية، وهيئات مثقفة ركبت موجهة الحراك إما لتحرفه عن مساره المطلبي، أو لتتكسب وتركب موجهته رغم أنها شريكة أساسية في حركة الفساد والظلم.
والمطلوب ليس أن يعمل المثقف وفق مسطرة معايير واحدة من حيث الوظيفة، بل أن تكون مسطرة المبادئ والقيم و الأخلاق واحدة، ولكن تكون الوظيفة تتمظهر وفق تشخيص الواقع ومتطلباته ، ومعطياته الميدانية والسياسية والاجتماعية، حتى لا يقع المثقف فريسة الشعبوية من جهة، أو العمالة من جهة أخرى، أو النخبوية البعيدة عن الواقع من جهة ثالثة، فيصمت في موضع الكلام، أو ينأى بنفسه بحجة عدم التلوث أو عدم الإنصات.
_________________________
[1] من كتاب المثقف وجدلية القهر والاستبداد/ إيمان شمس الدين/ دار الانتشار العربي/ ط١ / ٢٠٢٠
[2] جدلية الحداثة والهوية في المشهد العربي اليوم / يزن زريق / يوم الثلاثاء 2019/2/26 ـ /العدد 3697
/ https://al-akhbar.com/Opinion/266772
[3] في مصدر سابق ص ٢٩ من هذا الكتاب
[4] صور المثقف/ ردوارد سعيد/ محاضرات ريث سنة ١٩٩٣/ نقله إلى العربية غسان غصن/ راجعته منى أنيس/ ص ٢١
[5] تنويه: هنا حينما أعرض وظيفة المثقف لا أعني تمثيل المثقف كفرد يمثل المنقذ للأمة، بل هي وظيفة تخص كل مثقف، ومع التحديات الراهنة لم تعدالوظيفة فردية بل قد تكون مؤسساتية، بمعنى مؤسسة تضم مجموعة من النخب المثقفة تقوم بهذه الأدوار مجتمعة.
[6] الأعمال الكاملة/ دكتور علي شريعتي/مج ٥/ ص ١٦٣
[7] مثقف مستبد
[8] مثقف مستبد
[9] المثقف ودوره/ الشيخ د. مرتضى فرج/محاضرة ألقيت في ديوانية الأكاديميين في الكويت/ يوم الأحد الموافق 27/3/2005
[10] مثقف مستبد
[11] مثقف مقهور
[12] مصطلح آطلقه الشهيد الفلسطيني المثقف باسل الأعرج والذي اغتالته يد العدو الصهيوني وهو في ساحات الانتفاضة الفلسطينية في ٦/آذار ـ مارس /٢٠١٧ وكان آيقونة هذا المصطلح حيث جسدت حياته مصداق لمصطلح المثقف المشتبك.
[13] باسل الأعرج المثقف الثوري في زمن الاشتباك / خالد بركات
http://al-adab.com/article/باسل-الأعرج-المثقّف-الثوريّ-في-زمن-الاشتباك-ملفّ
[14] مثقف مستبد
[15] مثقف مستبد
[16] مثقف مستبد
[17] مثقف مقهور
[18] مثقف مقهور قهر ذاتي، أي هو من مارس القهر على نفسه ببذل جهد أكبر للتخطيط
[19] مثقف مقهور