نظرة مقاصدية في المادة والأسلوب
المجلس العاشورائي بين السرد التاريخي والكتابة الأدبية
1 ـ في تقديم المجلس العاشورائي، أو وقائع ثورة الإمام الحسين× للأطفال، ينبغي السُّؤال: أوَّلاً، ماذا نريد أن نقدِّم، وكيف؟ هل نريد أن نقدِّم الحدث التَّاريخي، أو نريد أن نقدِّم أدباً قصصيّاً يتّخذ هذا الحدث مرجعاً له، ويقيم، انطلاقاً منه، بناءً قصصيَّاً متخيَّلاً ينطق بدلالة تربويَّة؟ وفي صيغة أخرى للسؤال، نقول: هل نريد أن نقدِّم كتابة تاريخيَّة للأطفال، أو نريد أن نقدِّم كتابةً أدبيَّة قصصيَّة تتَّخذ التاريخ مادَّة أوليَّة لها؟
2 ـ في الإجابة عن هذا السُّؤال، يمكن القول: يمكن تقديم هذين النَّوعين، شريطة أن نعي جيِّداً أن لكلٍّ منهما طبيعته وخصائصه وشروط كتابته، ففي حين تقتضي الكتابة التاريخيَّة، وهي أقرب للعلم منها للأدب، الوقائع موثَّقة، محقَّقة، مسبَّبة ما أمكن، في سياقها التاريخي، تقتضي الكتابة الأدبيَّة تقديم الوقائع من منظور الأديب، أي من وجهة نظره وزاوية رؤيته، فيتمُّ اختيارٌ من الوقائع وعزلٌ لها، ونَظْمٌ في سياق مُتَخيَّل ينطق بالرؤية عندما يكتمل، شريطة عدم تغيير الحقائق التاريخيَّة المُثْبَتة، فصحيحٌ أن الأدب ليس تاريخاً، وصحيحٌ أيضاً أنَّه ليس تغييراً للحقائق التاريخيَّة.
خصائص الخطاب العاشورائي للأطفال
3 ـ طبيعي أن كلاًّ من النَّصَّين ينبغي أن يتّصف، على مستوى معجم الألفاظ وبنية العبارة وبنية النص، بخصائص الكتابة الموجَّهة للأطفال، فالمتلقِّي في هذا النوع من الكتابة معروف ومعيَّن، ومستواه العمري والعقلي والثقافي هو الذي يحكم طبيعة الكتابة ومستواها وخصائصها، وفي رؤية عامَّة يمكن القول:
على مستوى معجم الألفاظ، ينبغي أن تكون الألفاظ مختارة بعناية من معجم ألفاظ الطِّفل الذي توجَّه إليه الكتابة. وإن كان من ألفاظ جديدة، فينبغي أن تكون محدودة في كلِّ نصّ، وأن تُشرح.
وعلى مستوى بنية العبارة، ينبغي أن تكون بسيطة تتألَّف من عناصر محدودة تتمثَّل في أركان الجملة اسميَّة أو فعليَّة، وتتوالى مسنداً إليه ومسنداً، أو العكس، وتوابع، من دون تعقيد، وتؤدِّي معنى كاملاً أو مفيداً يُوْقَف عنده، ليسهل وضع علامات الترقيم بدقَّة، وإن كان من محسِّنات بلاغيَّة، فينبغي أن تكون محدودة وواضحة وغير متكلَّفة.
وعلى مستوى النَّص، إن كان سيُقرأ في مجلس واحد، ينبغي أن يكون قصيراً وذا موضوع واحد محدَّد، واضح التَّدرُّج، متماسكاً، مكتمل الدَّلالة.
4 ـ وفي ما يتعلَّق بالكتابة التَّاريخيَّة يبدو لي أنّه من الضَّروري إجراء ما يأتي قبل المباشرة بالكتابة:
1ـ قراءة نقديّة للنَّص التاريخي، المتوافر بين أيدينا، بعد أن يُستقى من مصادره. يجري هذه القراءة مؤرِّخون وعلماء دين محقِّقون، ينحّون ما لم تثبت صحته تاريخياً، ويبقون ما تثبت صحَّته، وما يلائم المتلقِّي الذي سيوجَّه إليه النَّص على مختلف المستويات.
2ـ اختيار وقائع تلائم المرحلة العمريَّة للطِّفل على مختلف المستويات، ويبدو لي أن الغيبيَّات والفواجـع والتَّهويل بالموت والعقاب لا تلائم هذه المرحلة من العمر.
3 ـ اختيار الوقائع ونظمها يتمَّان من منظور رؤية تربويّة تريد أن تنشئ جيلاً مُسْلماً يُعْمل عقله، يفكِّر، يكتشف الحقيقة، يتَّخذ المواقف الصحيحة، يرفض الظلم ويقاومه، يحبّ البطولة، ويقتدي بالأبطال. ومن هنا ضرورة أن تخاطب الكتابة العقل فتُقنع، والوجدان فتؤثِّر، ما يتيح تكوين شخصيَّة فاعلة في محيطها.
4 ـ يتحرَّك سياق الأحداث إلى التشكُّل في بناء مكتمل ذي دلالة، وفاقاً لمبدأ مقنع، مفهوم، واضح، وإن أثيرت أسئلة تكن الإجابة عنها موجودة في النَّص ومقنعة.
5 ـ وفي رسم الشخصيات ينبغي أن تُرسَمُ الشخصيَّة القُدْوَة شخصيَّةً إنسانيَّة، ذات قدرات إنسانيَّة مقنعة، تستمد قوّتها من الواقع المعيش القائم، كي لا يتعلَّق الطفل بكائن خارق من خارج الواقع ليحل مشكلاته، كما ينبغي أن تُقَدَّم الشخصيات الشِّريرة بوصفها شخصيات واقعيَّة، تَخْتارُ مواقفها بفعل دوافع معيَّنة…
أنموذج مؤسف ودال من واقع المجالس الحسينية
5 ـ وإن كان لي أن أقدِّم أنموذجاً وأناقشه، في ضوء ما ذكرته عن الكتابة التاريخيَّة، فليكن ما سمعته من أحد قارئي السِّيرة، في مجلسٍ ضمَّ الكبار والصِّغار. قال القارئ، في ما قال، ما مفاده باختصار:
إن أمير المؤمنين، الإمام عليّاً بن أبي طالب× مرَّ، حينما كان خليفة، في أحد طرقات الكوفة، بامرأة توهم أبناءها الجائعين، الضَّاجِّين بالبكاء، أنها تطبخ لهم… ولمّا سألها عرف أنها لا تملك شيئاً تُطْعِمُهم إيَّاه، فأسرع إلى داره، وحمل على ظهره كيس طحين وطعاماً، وعاد إليها ليعجن ويخبز ويطعم الأطفال ويُسَامرهم… وقبل قراءة هذا الحدث كان قد قرأ أبياتاً من الشِّعر، أو أنشد أبياتاً من الشعر بلهجةٍ تخلط اللَّهجات العراقية والإيرانيَّة والجنوبيَّة اللّبنانيَّة، ثم قدَّم موعظة محورها حساب القبر والبرزخ… ثم تلا رواية الحادثة وربطها بعاشوراء.
نلاحظ، أوَّلاً، عدم التَّرابط بين الأجزاء الأربعة التي تكوَّن منها هذا المجلس، وهي: المقدِّمة الشعرية، والموعظة، والحدث التاريخي الأوَّل، والحدث التاريخي الثاني، وثانياً، لم يصل من الشِّعر إلى المتلقِّين سوى الصَّوت المنغَّم، فالتواصل تمَّ على هذا المستوى فحسب، إذ إن القارئ خلط بين اللَّهجات، وغلَّب التنغيم والجهر بالصَّوت الحزين ليؤثِّر، علاوة على أنَّ ألفاظ القصيدة التي أُنشدت غريبةٌ وصعبةٌ، كما أن تركيب العباراتِ معقَّدٌ يصعُبُ فهمه إن قُرئ فكيف إن أُلقي إلقاءً منعَّماً. وثالثاً، وإن وصل شيء من هذا الشِّعر فهو غير مفهوم للجميع، إذ إنَّه قديم وبعيدٌ عن فضاء المكان الذي يُلقى فيه، ورابعاً، جاءت الموعظة مكرَّرة ومُشْبَعة بالغيبيَّات وهزيلة، ولم يراع القارئ المقام. ففي المجلس علماء كبار ومثقَّفون، فهو يقرأ كما كان يقرأ من قبل، ولم يَدُر في ذهنه أن المتلقين تغيّروا، ما يقتضي تغيير الخطاب، وخامساً، أن المجلس طال ما يزيد على السَّاعة، ما جعل الحاضرين يغادرون المكان تباعاً، ولعلَّنا نلاحظ أن الناس صاروا يغادرون الحسينية، في مناسبات ذكرى الأسبوع، قبل بدء قارئ العزاء مباشرة لعلمهم بطبيعة ما سوف يُقرأ.
تشير هذه الملاحظات إلى ضرورة إعادة النَّظر في بناء مجلس العزاء الموجَّه للكبار، وفي مكوّناته، وإن كان من إصرار على تضمّنه شعراً وموعظة وحدثاً… فليكن الرَّابط غير شكلي، وليكن الشعر شعراً جيِّداً ومفهوماً، ولتكن الموعظة جديدة وتُعْنَى بالشأن الحياتي، وليكن الحدث التاريخي كما وصفناه من قبل، وفي ما يتعلَّق بالحدث الذي قدَّمناه، بوصفه أنموذجاً، نقدِّم الملاحظات الآتية:
(1) إن قارئ السيرة يريد أن يقول: هوذا الحاكم العادل، المتواضع، المبادر…، لكنْ أيُّ حاكم عادل هذا الذي تعيش في عاصمة حكمه مثل هذه العائلة في حالتها تلك، فإن كان الفقر قد وصل بالنَّاس إلى هذا الحدّ، فأين العدل؟ ولهذا ليس من المعقول تاريخياً، وانطلاقاً من معرفة شخصيَّة الإمام علي× ونهجه عائلة تشكو الفقر إلى هذا الحدّ.
(2) ثمَّ هل وجد خليفة المسلمين، الذي كان يحكم الدولة العظمى في عصره، لديه الوقت الكافي ليقوم بكل ما قام به؟ وهل كان يجيد جميع تلك الأعمال، ثم أليس من الأفضل، أن يكلِّف من يقوم بها؟ ثم أليس من الأكثر فضلاً أن يجد حلاًّ جذرياً للمشكلة، وليس حلاًّ آنياً لا يجدي لا على المدى الطويل، ولا على مستوى الناس جميعهم؟
(3) هل يعقل أن يدخل الإمام علي× بيتاً ربَّتُه امرأة ليست من محارمه، ويجلس فيه طوال هذه المدِّة، ويتصرَّف كأنَّه صاحبه؟
(4) هل هذه هي طريقة الإمام علي× في مواجهة هذه المشكلة الاجتماعيَّة ـ الاقتصاديَّة؟ إنَّ طريقته، كما تفيد الوقائع التاريخية المحقَّقة، تنبع من رؤية إسلاميَّة شاملة للنِّظام الاقتصادي، ومن مبادئها الأسوة في العطاء، فتطبيق هذا المبدأ لا يُبْقي فقراء في المجتمع. ومبدأ «الأسوة»، كما هو معروف، هو سبب خروج الكثيرين عليه، ومنهم طلحة والزُّبير، فكيف يبقى فقير إلى هذا الحد الذي تقدِّمه الرواية إن طُبِّق هذا المبدأ؟
(5) إن ما يروى عن الإمام علي بن الحسين×، من قيامه بأعمال مشابهة مختلف، إذ إنه كان يحصي الفقراء، ويضع الأكياس أمام أبوابهم! علاوة على أنه لم يكن الحاكم، وإنما كان مواطناً رأى ما ينبغي عليه القيام به، فقام به.
(6) يبدو أنَّ قارئ السِّيرة، أو مؤلِّف أحد الكتب، عثر على هذه الرِّواية في أحد المصادر ولم يحقّقها؛ إذ إن رواية شبيهة بها تُنْسَبُ إلى الخليفة عمر بن الخطاب، فما ينبغي القيام به هو التَّحقُّق من سند الرِّواية أوَّلاً وإثباته، ثم يُناقش المتن في ضوء معرفة تاريخيَّة شاملة.
(7) النَّص الذي يقدَّم في مجالس العزاء مهمٌّ جدّاً، ولهذا ينبغي أن يُعَدَّ إعداداً جيِّداً، وأن يُعَدَّ قارئه إعداداً جيِّداً، وبخاصَّة أن المتلقِّين صاروا أكثر تنوُّعاً وأكثر معرفةً وقدرةً على النَّقد، وأكثر حاجةً إلى ما يُقْنِع… نحن بحاجة إلى نصٍّ عاشورائي يخاطب العقل والوجدان المعاصَرين بلغة العصر.
الكتابة الإبداعية في النّص العاشورائي
5 ـ أمَّا في ما يتعلَّق بالكتابة الإبداعية فينبغي أن ننظر، علاوة على ما سبق، إلى أربعة أمور هي:
1ـ أن يكون النَّص أدباً، ليس إنشاءً ولا وعظاً، ولا خليطاً من شعر ونثر بمختلف أنواعه، والأدب يتميَّز بخصائص نوعيَّة تميِّزه من أي كتابة أخرى، وأبرز هذه الخصائص: البناء اللَّغوي المتخيَّل، المتحوِّل بالمادَّة الأوَّليّة إلى كائن لغوي يجسِّد رؤية كاشفة… والرؤية، في أدب الأطفال، جماليّة تربويَّة، تنتظم في منظومة تربوية عامَّة هي منظومة الأمَّة.
2 ـ يحكم المتلقِّي، وهو الطفل، النَّص الذي يوجَّه إليه، ما يعني أن الكاتب ينبغي أن يمتلك معرفة تربويَّة نفسيَّة ـ اجتماعية بالمتلقِّي الذي يكتب له.
3 ـ ينبغي أن يمتلك الكاتب معرفة بالمنظومة التربوية ووعياً لها، وأن يكون مقتنعاً بها، لتتمثَّل في أدبه التزاماً وليس إلزاماً، معرفةً أدبيةً جـمالية، وليس تاريخاً أو وعظاً.
4 ـ إن الأدب لا يُصْنَعُ بقرار، وإنما هو بالدَّرجة الأولى نتاج إنسان متميِّز موهوب، والموهبة ينبغي أن تُنمَّى بالثقافة وتتفتَّح بالدُّربة، ولهذا فأهم ما ينبغي عمله هو البحث عن المواهب الحقيقية، وتنميتها وتوجيهها وإتاحة الفُرص لها. وهنا لا تفيد الوساطات والعلاقات والمجاملات و…
أنموذج كتابة تاريخية مستوعبة
5 ـ وفي ما يأتي نقدِّم مادَّة تاريخيَّة تمثِّل بداية السِّيرة الحسينية الكربلائية، ونرى إليها على مستوى الكتابة التاريخية والإبداعية.
* توفي معاوية بن أبي سفيان، في دمشق، في الثاني والعشرين من رجب سنة ستين للهجرة، فتولَّى الخلافة من بعده ابنه يزيد، وكانت أولى مهمَّاته الحصول على بيعة المسلمين، وبخاصَّة الحسين بن علي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير المقيمين في المدينة المنوَّرة.
كان والي المدينة، آنذاك، الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، فكتب يزيد إليه:
ـ خذ حسيناً وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذاً شديداً ليست فيه رخصة حتى يبايعوا.
لمَّا وصلت الرِّسالة إلى الوليد استعظم الأمر، فبعث إلى مروان بن الحكم ودعاه إليه، وكانا متخاصمين، لبَّى مروان دعوة الوليد، فأخبره هذا بما حدث، وسأله: كيف ترى أن نصنع؟
قال مروان: أرى أن تبعث السَّاعة إلى هؤلاء النَّفر، فتدعوهم إلى البيعة والدّخول في الطَّاعة، فإن فعلوا قبلت منهم، وكَفَفْتَ عنهم، وإن أبوا قدَّمتهم فضربت أعناقهم، قبل أن يعلموا بموت معاوية، فإنَّهم إن علموا بذلك، وثب كلُّ امرئٍ منهم في جانب وأظهر الخلاف والمنابذة ودعا إلى نفسه، ولا أرى عبد الله بن عمر يدعو إلى نفسه، فاجعل همَّك الاثنين الآخرين.
أرسل الوليد عبد الله بن عمر بن عثمان، وهو إذ ذاك غلام حدث، إلى الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير يدعوهما إليه، فوجدهما في المسجد، وهما جالسان فأتاهما في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس، ولا يأتيانه في مثلها، فقال: أجيبا الأمير يدعوكما، فقالا له: انصرف، الآن نأتيه.
ثم أقبل أحدهما على الآخر، فقال عبد الله بن الزبير للحسين: ظُنَّ في ما تراه بعث إلينا في هذه السَّاعة التي لم يكن يجلس فيها؟
فقال حسين: قد ظَنَنْتُ، أرى طاغيتهم قد هلك، فبعث إلينا ليأخذنا بالبيعة قبل أن يفشو في النَّاس الخبر. فقال عبد الله: وأنا ما أظنّ غيره، وسأل: فما تريد أن تصنع؟ قال الحسين: أجمع فتياني السَّاعة، ثم أمشي إليه، فإذا بلغت الباب احتبستهم عليه، ثم دخلت عليه.
قال عبد الله: فإني أخافه عليك إذا دخلت. قال الحسين: لا آتيه إلاَّ وأنا على الامتناع قادر. فقام فجمع إليه مواليه وأهل بيته، ثم أقبل يمشي حتى انتهى إلى باب الوليد، وقال لأصحابه: إنّي داخل، فإن دعوتكم، أو سمعتم صوته قد علا، فاقتحموا عليَّ بأجمعكم، وإلاّ فلا تبرحوا حتى أخرج إليكم، فدخل فسلَّم عليه بالإمرة، ومروان جالس عنده، فقال حسين كأنه لا يظن ما يظن من موت معاوية: الصِّلة خير من القطيعة، أصلح الله ذات بينكما. فلم يجيباه في هذا بشيء، وجاء حتى جلس، فأقرأه الوليد كتاب يزيد، ونعى له معاوية، ودعاه إلى البيعة. فقال حسين: إنّا لله وإنا إليه راجعون، ورحم الله معاوية، وعظَّم لك الأجر، أمَّا ما سألتني من البيعة، فإن مثلي لا يعطي بيعته سرَّاً، ولا أراك تجتزئ بها منِّي سرّاً، من دون أن تظهرها على رؤوس النَّاس علانية. قال الوليد: أجل. قال الحسين: فإذا خرجت إلى الناس، فدعوتهم إلى البيعة دعوتنا مع الناس، فكان أمرنا واحداً، فقال له الوليد، وكان يحبّ العافية: فانصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس، فكان أمراً واحداً، فقال له مروان: والله، لئن فارقك السَّاعة، ولم يبايع، لا قدرت منه على مثلها أبداً، حتى تكثر القتلى بينكم وبينه. إحبس الرَّجل، ولا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه، فوثب عند ذلك الحسين، فقال: يا ابن الزَّرقاء، أنت تقتلني أم هو، كذبت والله وأثمت، ثم خرج فمرَّ بأصحابه، فخرجوا معه حتى أتى منزله، فقال مروان للوليد: عصيتني، لا والله، لا يمكِّنك من مثلها من نفسه أبداً. قال الوليد: وبِّخ غيرك يا مروان، إنك اخترت لي التي فيها هلاك ديني، والله ما أحبُّ أن لي ما طلعت عليه الشمس وغربت عنه من مال الدنيا وملكها وأنِّي قتلت حسيناً. سبحان الله! أقتل حسيناً إن قال: لا أبايع، والله، إني لأظن امرأً يحاسَبُ بدم الحسين لَخَفِيفُ الميزان عند الله يوم القيامة، فقال له مروان: فإذا كان هذا رأيك فقد أصبت في ما صنعت…
قراءة للمادة التاريخية المقدّمة
في قراءة لهذه المادَّة التاريخية يتبيَّن لنا ما يأتي:
أوَّلاً: تثير هذه المادة التاريخيَّة أسئلة كثيرة يفترض أن يعرفها المتلقِّي قبل تقديم النَّص إليه، ومنها: ما هي الخلافة، ما البيعة؟ من هو معاوية؟ كيف تولَّى الخلافة؟ كيف حكم؟ كيف أوصى لابنه يزيد بولاية العهد؟ كيف تحوَّل بالخلافة إلى ملك؟ من هو يزيد؟ كيف كان يتصرَّف؟ من هو الإمام الحسين×؟ ما هي مواقفه؟ إلخ… من أسئلة علينا أن نعرف كيف نجيب عنها إجابات بسيطة وواضحة قبل أن نقدِّم هذه المادَّة، وهذا يفيد أن مقدِّمات ينبغي أن تمهِّد للنَّص العاشورائي، ومن الأفضل أن يأتي على شكل قصصي، ما يعني أن مشروعاً مكتملاً ينبغي أن يعدَّ، وأن تتوافر شروطه وإمكاناته.
ثانياً: تفيد هذه المادَّة التاريخيَّة أن الأحداث مترابطة، فالمشكلة هنا تتمثَّل في البيعة ليزيد، وهذه نشأت من قبل، وأدّت إلى اتخاذ الإمام الحسين× موقفاً يتطوَّر، وهذا ما سوف نعرفه في ما بعد، ما يعني أن السيرة ينبغي أن تعدّ كاملة، في سياقها التاريخي المتطوِّر: كلُّ مرحلةٍ تفضي إلى أخرى.
ثالثاً: تفيد هذه المادَّة، أيضاً، أن الإمام الحسين× يتَّصف بصفات منها:
1ـ إجادته استقراء الوقائع ونفاذ بصيرته والحدس التَّاريخي بما حدث وقد يحدث، فقد استنتج أنَّ معاوية قد مات، وأن الوليد يريد أخذ البيعة قبل أن يفشو الخبر.
2ـ مبادرته إلى اتخاذ القرار وشجاعته في مواجهة الموقف؛ إذ لبَّى دعوة الوليد، وردَّ على مروان في مجلسه.
3 ـ إعداده ما استطاع من قوَّة للمواجهة، فقد ذهب مع فتيانه، وأعدَّ خطَّة…
4 ـ معرفته شخصيات الخصوم وما بينها من تباين، والتصرّف على هذا الأساس، فهو يعرف حقيقة خصام الوليد ومروان وشخصية كلٍّ منهما، ويعرف حبَّ الوليد للمسالمة وعدم رغبته في ارتكاب عمل فظيع كالذي يدعوه إليه مروان، فلم يحرجه، وإنما أقنعه بحجة مقبولة عرفاً وعقلاً.
5 ـ إدراكه أن النَّاس يعترضون على تولِّي يزيد الحكم وإفهام الوليد ومروان ذلك.
6 ـ خُلُقُه الرفيع، فعلى الرّغم مما فعله معاوية بأهل البيت^ طلب له الرحمة وعزَّى ابن أخيه به، وطلب من الله سبحانه أن يعظِّم أجره، وفي الوقت نفسه أغلظ لمروان عندما قال هذا ما يَسْتَوجبُ ذلك.
إن هذه الصِّفات، علاوة على ما سوف تبيِّنه الأحداث التالية، هي ما ينبغي بيانه في السِّيرة، ومناقشة الأخبار التي قد تفيد سوى ذلك.
رابعاً: يتبيّن من هذه المادَّة التاريخيّة أن هناك اتجاهين في السلطان الأموي: أوَّلهما يمثِّله الوليد، وثانيهما يمثله مروان، وهذا الأخير يراعي المصلحة السياسيَّة، ولا يعنيه أمر الدين في شيء، فقد أقرَّ مروان للوليد بصواب صنيعه إن كان يؤمن بصحَّة ما يقوله عن تديّنه، ما يعني أن مروان لا يؤمن بهذا. ورأيه، أو اتجاهه، هو الذي مضى فيه يزيد وعبيد الله بن زياد ومن معهما في ما بعد. هذه الرؤية يمكن التركيز عليها منذ البداية وبلورتها بوضوح في ما يلي من أحداث تحتِّم بلورة طبيعة الصراع.
خامساً: كيف تكتب هذه المادَّة؟ تنتظم هذه المادَّة في سياق كان قد عرَّف بما تنبغي معرفته، تُسْتَخدم ألفاظ سهلة، متداولة، من لغة الحياة اليوميَّة، وعبارات بسيطة واضحة، تتدرَّج الأحداث خطِّية في سياق مسبَّب مقنع، ويتم التركيز على ما يكشف صفات شخصية الإمام الحسين× وهدفه، وعلى صفات الآخرين، وعلى طبيعة الصراع الذي يدور بين طرفين لكل منهما رؤيته وأساليبه الخ…
أما إذا أردنا كتابة نصٍّ إبداعي، قصَّة قصيرة مثلاً، تتخذ هذه المادَّة التاريخيَّة مرجعاً، فيمكن اختيار لحظة مهمَّة تكشف واقعاً وموقفاً منه، ومن هذه اللَّحظات المهمَّة، في تقديري:
1ـ نفاذ بصيرة الإمام الحسين× وحدسه بموت معاوية وبرغبة الوليد في الحصول على البيعة قبل أن يفشو الخبر، وطرح السؤال: ماذا نصنع في هذا اليوم التَّاريخي؟
2 ـ إتخاذ الإمام الحسين× قرار المواجهة والإعداد له.
3 ـ المواجهة، وكشف شجاعة الإمام الحسين× وخُلُقه الرَّفيع وطبيعة الصَّراع المتمثِّل باتبَّاع تعاليم الدِّين من نحو أوَّل ووضعها جانباً (هلاك الدين) من نحو ثان.
4 ـ حقيقة السُّلطان الأموي الذي مضى في الاتجاه الذي يهلك فيه الدِّين.
وفي ما يأتي نقدِّم أنموذجاً للنِّقاش يتخذ اللَّحظة الأولى مرجعاً له.
السُّؤال المهم، أنموذج أدبي متناسق
كانَتِ الشَّمسُ، عصرَ ذلك اليوم، تبتعد، كأَنَّها تَمْشي نَحْو الرِّمالِ البَعيدةِ لتَغيبَ فيها.
بَدَتْ صَفْراءَ شَاحِبةً، كأنَّها تُلَمْلِمُ أشعَّتها، وتَسْتَعِدُّ للرَّحيل.
طالَتْ ظِلالُ أشجارِ النَّخيل، في باحة المَسْجدِ النَّبَويِّ الشَّريفِ، وحليَ الجلوسُ في فَيْئِها.
خَرَجَ المصَلُّون من المَسْجِد، توجَّه اثنان مِنْهُم إلى ظِلِّ نخلةٍ، وجلسا يَتَحدَّثان.
بدا، في الطَّريقِ الموصلِ إلى المَسْجدِ، فتىً يتَّجهُ نحوهما.
كانَ ينقُلُ خُطُواتِه على مَهل. يَقِفُ لَحْظَةً…، ينظرُ إلى الأمامِ، ثمَّ يتلفَّت حَوَاليْه، ثم يَمْشِي من جديدٍ كأنَّه يفتِّشُ عن شيءٍ يُريدُه.
إقتربَ. رأى الرَّجُلَين. اقتربَ أكثر، تأمَّلَهُما جيِّداً، ثمَّ ركضَ، وهو يصيح:
ـ الحسينُ بن علي وعبدُ الله بن الزُّبير، وأخيراً وَجَدْتُكما!
إبْتَسَمَ ابنُ الزُّبير، وقال:
ـ إنْ كان عبدُ الله بن عمر بن عثمان لا يعرفُ أين يجدُ المؤمنين، فلِمَ لم يُخْبره من أَرْسَلَه بذلك!؟
ضَحِكَ، ثم أضاف: ولعلَّه لا يعرفُ هو أيضاً!
وتَمْتَمَ الحسين: أمر خطيرٌ قاد هذا الفتى الأُموي إلينا، في هذا الوقت!
وصلَ الفتى، قال، وهو يَلْهَثُ، ويَمْسَحُ حُبَيْبات العَرَقِ عن جَبِيْنِه:
– أَجِيْبا الأميرَ…، الأَميرُ الوليدُ بنُ عُتْبَة يدعوكما إليه.
قال ابنُ الزُّبير: ماذا يريدُ الوليدُ في هذا الوقت!؟
قال الفتى: لا أَدري، قالَ أن تأتيا إلى دار الإمارةِ على عَجَل.
قال ابن الزبير: إنصَرِفْ، واخبره أنَّنا سَنُلَبِّي دَعْوَته.
عاد الفتى من حيثُ أتى، وتطلَّع إلى البعيد، وقد اتَّسعت عيناه، وانفرَجَتْ شفتاه كأنَّه يهمُّ بقول:
سَأَلَه: في رأيك، ما سببُ دَعْوةِ الوليد لَنَا في هذا الوَقْت؟
قال الحسين: ما اعتادَ الوليدُ أن يَجلُسَ للنَّاس في هذا الوقت…، وما اعتادَ أن يُرْسلَ فتىً من بني أميَّة، من وُلْدِ عثمان، على عَجَل…،
صَمَتَ لحْظَةً، وأضاف: ثمَّ لمَ خَصَّنا نَحْنُ بهذه الدَّعْوَة؟
قالَ ابنُ الزُّبير: لِـمَ أَقْلَقْتَني؟
قال الحسين: يبدُو أنَّ أمراً خطيراً قد حَدَثَ، ويريدُ والي المدينة المنوَّرة أن يأْمَن مَوْقِفَنا قبلَ أن يعرفَه النَّاس…
سأل ابنُ الزُّبير: ما هو هذا الأمرُ في رأيك؟
صَمَتَ الحسينُ لحظاتٍ، وقال:
أَرَى أنَّ طاغيَتَهم، معاويةَ، قد هَلَكَ…، فبعثَ إلينا واليُهم، الوليدُ، ليأخُذَ منَّا البيعة لفَاسِقهم، يزيد…، قبل أن ينتشرَ الخبرُ بين النَّاس…
قالَ ابنُ الزُّبير: وأنا ما أظنُّ غَيْرَه، فما تريدُ أن تَصْنَع؟
صَمَتَ الحُسينُ، وتوجَّه بِوَجْهِه نَحْو قَبْرِ جدِّه، وبدا كأنَّه يقُول:
هذا هو السُّؤالُ المهمُّ الآن، وعلى المسلمين جميعهم أن يُجيبُوا عنه، فَبَعْدَ أن هَلَك الطَّاغيةُ، ماذا نَصْنَعُ؟ هل نبايعُ الفاسقَ بخلافةِ المسلمين، أو نخرجُ في طلب الإصلاح…؟
ماذا نصنع؟
هذا هو السُّؤال الذي طُرحَ في عَصْرِ ذلك اليوم من رجب سنة ستِّين للهجرة في فضاء المسْجدِ النَّبويّ الشَّريف، وكان على الإمام الحسين× أن يجيب عنه، فماذا تراه صنع؟