سؤال المنهج أهمّ أسئلة الثقافة الدينية اليوم، وأصعبها، وأشقّها على الباحث الحصيف، سؤال يتخطّى الغرق في جزئيات الموضوعات، ويتجاوز إطار الجدل العقيم، ويحكم برؤاه على المعطيات المعرفية عمومها، تبعاً لدرجته وحساسيته.
والمدرسة التفكيكية جواب ــ من الأجوبة ــ عن سؤال المنهج، آمن به قوم، ورفضه قوم آخرون، لكن أهمية الجواب التفكيكي المعاصر في الوسط الشيعي تفوق غيره، لأسباب نأتي على ذكر بعضها.
1 ــ ما هي المدرسة التفكيكية؟ وماذا تعني؟ بالتأكيد لا يراد بهذا المصطلح هنا المدرسة التفكيكيّة المعروفة في الغرب، بل المراد مدرسة أخرى، عرفها الشرق الإسلامي المعاصر، وهذا المصطلح وُضِع لاتجاه حديث ومعاصر عرفه المناخ الشيعي الإيراني بالخصوص.
ظهر هذا الاتجاه منذ بدايات القرن الرابع عشر الهجري، مع شخصيات عديدة من شرق إيران (خراسان) وغربها (قزوين و..)، من أمثال السيد موسى الزرآبادي، والشيخ مجتبى القزويني، والأهم: الشيخ الميرزا محمد مهدي الإصفهاني، وقد تتالت أجيال التفكيكيّين حتى وصلت إلى عصرنا الحاضر، حيث يتزعّم حركتهم اليوم الأستاذ محمد رضا الحكيمي المعاصر، صاحب كتاب «الحياة» المعروف.
وقد كانت انطلاقة الحركة الجديدة للتفكيكيين من غرب إيران ووسطها، لكن هجرة محمد مهدي الإصفهاني إلى بلاد خراسان ــ حيث مرقد الرضا B ــ حوّل مركز التفكيك إلى ناحية الشرق، وتعتبر مدينة مشهد اليوم عاصمة الاتجاه التفكيكي، ومركز إشعاعه الأوّل، حيث ترك التفكيكيون بصماتهم على حوزاتها العلمية، ومعاهدها الدينية و..
2 ــ تقوم فكرة التفكيك على ضرورة فصل المناهج فصلاً تاماً تقريباً، واعتبار الخلط المنهجي في الدرس الديني أكبر خطأ تاريخي وقع فيه المسلمون، ويعني التفكيكيون بفصل المناهج، فصلَ المنهج الفلسفي عن المنهج الديني القائم على فهم نصوص الوحي من جهة، وفصل المنهج الديني المذكور عن المنهج العرفاني الكشفي الصوفي القائم على شهود القلب من جهة أخرى، فلا يمكن فهم الدين من العقل الفلسفي، كما لا يمكن بلوغه من قلوب الإشراقيين الشهوديين.
إنّ هذا الفصل أحرج المدرسة التفكيكية، ذلك أنّه سمح لخصومها المحدَثين بتصويرها حركةً أخبارية، سلفية، ظاهرية، متزمّتة، وهو ما أنكرته المدرسة التفكيكية بقوّة وشدّة.
ولكي تعيد رسم تصوّراتها لمصادر المعرفة الدينية، وفقاً للتفكيك المشار إليه، عمدت الحركة التفكيكية إلى دراسة العقل وحجيّته، معتبرةً أنّ العقل العملي أساس لا ينبغي الحياد عنه، وبهذا تلاقت المدرسة التفكيكية بقوّة ــ هذه المرّة ــ مع الاتجاه الكانطي في الثقافة العالمية، دون أن تنكر دور العقل النظري، بل أبقت عليه في حدود البديهيات، غير أنّها لم تسمح للقسم النظري الموغل في النظرية منه بالدخول إلى ساحة الدين، وإن قبلت به حَكَماً في مجالات الفكر، والعلم، والثقافة الأخرى، مثل الطب، والرياضيات، والنجوم و.. ومعنى ذلك، شرعيةً مطلقةً للعقل العملي، وأخرى مطلقة للعقل النظري خارج حدود النطاق الديني، والاعتراف به أيضاً في حدود البديهيات حتى داخل الدين.
وهذا ما حصل أيضاً مع تيار الكشف والشهود، فلم ينكر التفكيكّيون الكشف والشهود بقدر ما أرادوا إنكار مساهمته الموغلة في تفسير النصّ الديني.
3 ــ لكنّ القضية لم تمضِ بهذه البساطة، فالمجتمع الشيعي الإيراني أرض خصبة دائماً لجهود فلسفية كبرى، وأنشطة في التصوّف تكاد لا تضاهى، وما زالت إيران إلى اليوم ساحة حراك غاصّة بمختلف أشكال الفعل الفلسفي في الدين، وأنماط النشاط الصوفي والعرفاني، حتى كاد هذا الوضع، بل صار، جزءاً من الثقافة العامّة، ولهذا وجدنا أن الحركة الإصلاحية الدينية الإيرانية منذ بدايات القرن العشرين، كانت ــ وما تزال ــ تعتبر التصوف والمتصوّفة، وكذلك الفلاسفة والحكماء، خطاً أحمر لا يجوز تجاوزه، يؤكّد ذلك أبرز رجالات النقد الديني المعاصرين من أمثال: عبدالكريم سروش، ومصطفى ملكيان، ومحمد مجتهد شبستري…
إذن، فالخطوة التفكيكية كانت ــ وهنا حساسيتها ــ مواجَهةً ضروساً مع ثقافة مجتمع بأكمله، اعتاد على فهم الدين من خلال الفلسفة (التي لا يسمح التفكيكيون بمرادفتها للعقل)، والتصوّف (الذي لا يسمح التفكيكيون بمرادفته للأخلاق وأسس العقل العملي).
4 ــ ومعنى ثقافة فهم الدين فهماً فلسفياً وعرفانياً ازدهار حركة التأويل، تلك الحركة التي ما فتئ التفكيكيُّ يحاربها، يعتقد التفكيكيون أنّ الخطاب الديني يمكنه أن يعتمد ــ لتتميم فراغاته ــ على العقل البديهي، أي بدهيّات العقل بما فيه النظري، وهذا أمرٌ طبيعي، إلاّ أنّه غير قادرٍ على أن يعتمد في حواره العام على العقل النظري الفلسفي، بل يفترض به أن يسمح لنا بتأويله ضمن نظام تفاعلي داخل النص، أي وجود شواهد في النص ــ المتصلة أو المنفصلة ــ على إرادة معنى مجازي، ولا يمكن أن تكون قرينة المجاز برهاناً عقلياً احتاجت الإنسانية لقرون حتى تبلغه، إذن، فنظام التأويل نظام يخضع لإطار النص ولا يتجاوزه، وهذا ما رفضه المجاز الاعتزالي، كما رفضه التأويل الصوفي والفلسفي، سيما عند ابن عربي (638هـ) وصدر المتألهين الشيرازي (1050هـ).
إن تطويع النصّ تطويعاً غير عفوي، إن صحّ التعبير، لصالح المقولات الفلسفية النظرية أو كشوفات الروح أمر مرفوض عند التفكيكيين إطلاقاً، فالنص غنيّ بذاته، قادر على خلق نظام إشاري فيه يحلّ مشكلاته الداخلية بصورة دينامية نشطة.
5 ــ وتبدو عظمة الاختراق الذي أحدثته المدرسة التفكيكية في الثقافة الإيرانية جلياً عندما يتعرّض صدر الدين الشيرازي (1050هـ) لحملة ناقدة، وما أدراك ما يمثله صدر المتألهين في الثقافة الإيرانية!! حتى كاد ــ بل صار ــ صنماً يصعب تجاوز ثوابته، لكن التفكيكيين اعتبروه خليطاً من مدارس متكاثرة ومختلفة ومتباينة، إنّه وليد غير شرعي ــ إن صحّ التعبير ولاق ــ من وجهة نظرهم، لهذا يجب كسر صنميته وتحطيم الهالة المقدّسة المفتعلة حوله.
إنّ التفكيكيين ــ مهما كان تقويمنا لرؤاهم الفكرية ــ عبرّوا عن شجاعة عالية في نقد الملا صدرا ومدرسته، وهي شجاعة تبقى ضروريةً على الدوام، ليس مع الملا صدرا فحسب، بل مع كلّ رجال الفكر والمعرفة، فحسن الظنّ بالمفكرين شيء، وصواب أفكارهم شيء آخر.
6 ــ وقد لاحظنا في الاتجاه التفكيكي في الفترة المعاصرة حركةً نحو المقاصدية، لاحت سابقاً في كتاب «الحياة»، ويقود هذه الحركة الأستاذ محمد رضا الحكيمي، حيث يذهب إلى اعتبار العدالة الاجتماعية مقصداً أساسياً للتشريع الإسلامي، يجدر ملاحظته ورصده، وتقويم تمام المعطيات الفقهية على ضوئه، وهذا الاتجاه يجعلنا نشعر بوجود تطوّر ملحوظ في النشاط الفكري عند التفكيكيين، الذين يلاحظ عليهم لغتهم التبجيلية في التعامل مع التراث المدرسي أحياناً، كما يلاحظ عليهم تعظيمهم الزائد عن الحدّ بعض الشيء لرجالاتهم وشخصياتهم.
وتبقى الحركة التفكيكية ضرورة لتنويع قراءاتنا للدين، وضرورة لكسر الطوق المضروب داخل الثقافة على مشاريع النقد والتقويم.
7 ــ ومن ميزات رجال المدرسة التفكيكيّة أنّهم اهتمّوا كثيراً بالرصد التاريخي للعلوم الإسلامية، فلم يهمّهم كثيراً التحليل التجريدي الثبوتي للفلسفة والعرفان، بل عناهم الواقع التاريخي لهذين العلمين في الثقافة الإسلامية، وقد لاحظوا ـ عبر رصد الواقع التاريخي ـ أنّ هذين العلمين كانا على خصام مع النصوص الدينية.
وهذا الاهتمام التاريخي يسجّل عنصر قوّة لصالح المدرسة التفكيكية، سيّما وأن المعاهد الدينية لا تستسيغ ولا تألف هذا النوع من تناول المشكلات الفكرية، بل يعنيها التفكيك التحليلي للمعطيات، بعيداً عن اختبارها في المسار التاريخي، الذي توكل نقاط ضعفه عادةً إلى عقبات ميدانية، تحمي بُنية العلم الأساسية من النقد أو الإصابة بالرمي.
ويعود هذا المنحى في المعاهد الدينية إلى المرجعية المنطقية الأرسطية القائمة على تحليل بنية العقل في ذاته لا في تاريخه وسيرورته.
ولم تقف محاولة التفكيكيين عند حدود العرفان والفلسفة، بل سعوا ــ أيضاً ــ لرصد مجمل أعضاء الثقافة الإسلامية في العمق التاريخي لها.
8 ـ وعبر الرصد التاريخي نفسه، كشف التفكيكيون عن بعض ما اعتبروه ثغرات قاتلة في النظريات التي حملها العلماء غير التفكيكيين، فسلّطوا الضوء على نظرية المعاد التي يراها صدر الدين الشيرازي، واعتبروا (فبركةً) لنظرية المعاد الروحاني، خلاصاً من التناقض مع النصّ، كما كشفوا النقاب عن موضوعة الخلود التي طرحها بعض الفلاسفة والعرفاء، وما نسب إلى الملا صدرا من إنكار الخلود في العذاب.
وهكذا انتقد التفكيكيون، ورطة الجبر التي سقط فيها ـ حسب رأيهم ـ الآخوند الخراساني، صاحب كفاية الأصول، واعتبروها منافيةً لمبدأ الأمر بين الأمرين المنصوص عليه في الموروث الحديثي الشيعي.
وهكذا أبدى التفكيكيون، مثل هذه العثرات لتأكيد الدور التخريبي للتدخل الفلسفي والعرفاني في القضايا الدينية.
9 ـ وحينما نتحدّث عن المدرسة التفكيكية المعاصرة فلا نعني أنّها نتاج إيراني صرف، إلاّ أنّ أهميّتها الإيرانية تكمن في ظهورها وسط حشد من التراكمات الفلسفية والعرفانية في الثقافة الدينية الإيرانية بالخصوص، وإلاّ فإنّ مظاهر مدرسة التفكيك موجودة ــ بالتأكيد ــ في العالم الشيعي العربي المعاصر.
وإذا أردنا أن نقدّم نماذج لذلك كان بإمكاننا طرح اسم العلامة السيد محمد حسين فضل الله، ذلك أننا نعتبره من أبرز وجوه التفكيك، بالمعنى العام للكلمة، في العالم العربي، إنّه يؤمن بالعقل ودوره، بيد أنّه رافض تماماً لأشكال الإقحام الفلسفي أو الصوفي في الثقافة الدينية.
وهذا ما كنّا نراه أيضاً مع المغفور له العلامة الشيخ محمد مهدي شمس الدين، وبنسبة معينة مع شخصيات عديدة أخرى، تمثل وجوهاً شيعية بارزة، مثل السيد عبدالأعلى السبزواري، والشيخ عبدالهادي الفضلي، والسيد هاشم معروف الحسني و..