ترجمة: منال عيسى باقر
كتب الأستاذ محمد رضا الحكيمي في العدد الذي خصّصته مجلّة كيهان فرهنكي([1]) للمدرسة التفكيكيّة وعالمها الرباني mالسيد موسى الزرآباديn قائلاً: mكنت قد اقترحت استخدام مصطلح المدرسة التفكيكيّة في كتاباتي حول الأسس المعرفيّة للمدرسة العقديّة الخراسانيّة، ووعدت بتأليف كتاب يحمل اسم: mالشيخ مجتبى القزويني والمدرسة التفكيكيّةn، وقد أصرّ عليّ ـ في هذا الصدد ـ عدد من طلاب الحوزة الأفاضل، والجامعيّين، والعلماء، والأساتذة، والمحققينn.
إنّني من أولئك الذين يعتقدون بضرورة تنظيم هذا الكتاب وترتيبه، حتّى أنّني صرّحت للحكيمي بهذا مراتٍ عديدة، وقلت ذلك في غيابه أيضاً، بل اعتبرت هذا العمل ضرورة عاجلة ملحّة، ربما لا يمكن لغير الحكيمي القيام بها،ومن غير المناسب تأخيره، فكما قيل ـ وهو صحيح ـ : mفي التأخير آفاتn.
ومنذ أشهرٍ عشرة من نشر العدد الخاص المشار إليه، لم يتسنّ لي رؤية الحكيمي لأشكره على عمله القيّم هذا، وأتمنّى عليه من كل قلبي أن يتابع أمر ذلك الكتاب، ولا يكتفي بذلك العدد الخاص، رغم ما قدّمه فيه من نقاط هامّة، وعناوين رئيسيّة، وأفكار أساسيّة.
وقد غمرني في هذه الأيام شعور بضرورة إثارة هذا الطلب، مع إلحاحٍ من الحوزويين والجامعين ـ وأنا واحد منهم ـ بأن أكتب ما قلته مرّات عديدة هنا وهناك في الدرس ومن على المنبر، لعلّني أؤدي وظيفتي الشرعيّة، ويكون مفيداً للقرّاء، يفتح أمامهم الطريق.
الفكر بين الشخصانيّة والمنهج ــــــــــ
يُعدّ الملاّ صدرا والملاّ محمّد تقي المجلسي من كبار علماء الشيعة، كما ينظر إلى العلامة محمد باقر المجلسي والملاّ عبدالرزّاق اللاهيجي نظرة تقدير واحترام، أمّا المير داماد والشيخ البهائي فيصنّفان من دعائم الإسلام والتشيّع.
إنّ تعاملنا مع مقولات الملاّ صدرا الشيرازي والفيض الكاشاني والفيّاض اللاهيجي والميرداماد الاسترآبادي، في الأخذ ببعضها ورفض البعض الآخر، لا يختلف عن تعاملنا مع مثل الشيخ البهائي والمجلسي الأوّل والثاني، في الأخذ ببعض آرائهم ورفض بعضها الآخر، فالجميع معرَضون على الأدلّة والقرآن والروايات، ليُعرف ما نقبله منها وما نرفضه.
لا يفترض جعل الملاّ صدرا صنماً أو إلهاً لا يتجرّأ أحد على الاعتراض على أفكاره ومعتقداته، بل يُتّهم المعترض بالجهل وعدم الفهم، كما يفترض ـ في المقابل ـ أن لا نعتقد بعصمة المجلسي، بحيث يكفّر كل منتقدٍ له.
وبهذا نصل إلى لبّ البحث، إن علينا دراسة المناهج كافّة دراسة معمّقة ودقيقة؛ لنتوصّل ـ عبر ذلك ـ إلى المنهج الصحيح أو الأصحّ، حتى نتّبعه ونقتدي به.
أعود وأكرّر: إنّ الكلام لا يتعلّق بالأشخاص، ولا يدور حول إيمان هذا وكفر ذاك، بل يتركّز على المناهج، فما هي مناهج الإسلام الحقيقيّة؟ وما هي تلك التي أحضرها القرآن والوحي لننشره بالشكل السليم؟.
فداحة منطق التكفير والتسخيف والتجهيل ــــــــــ
لقد قرأت كلاماً بليغاً ورائعاً لأحد الأساتذة المتأخّرين الكبار، مفاده: لا تسعوا وراء تكفير ابن سينا، والملاّ صدرا، والفارابي، والسبزواري؛ إنّ هذا لا يصبّ في خدمة الإسلام ونشره، ممّا يجبرنا على فصل الفلاسفة وأهل العقل والمنطق عن الإسلام، وتقديمهم منكرين للدين، فعلى العكس تماماً، كلّما كانوا مؤمنين بالإسلام ومعتقدين به، دلّ هذا على قوّة الإسلام ومتانته ومحتواه، بل في هذا نشر للإسلام ودعاية وترويج.
أقول تعقيباً على هذا الكلام: نعم، فلا تحاولوا نعت من يأنس بالقرآن وكلام أهل البيت بالأمّي، فيستلزم ذلك الفساد، أفهل الأنس بالقرآن وكلام أهل الوحي معارضٍ أو منافٍ للعلم والمعرفة واللاأميّة؟!
إذا اعتبرنا السيد أبو الحسن الرفيعي القزويني عالماً متعلّماً مثقّفاً محترماً، فلا يجدر اعتبار الشيخ مجتبى القزويني غير ذلك، لماذا إذا قلنا: إنّ الملاّ صدرا عالمٌ كان لزاماً علينا اعتبار المجلسي سطحياً جاهلاً ضحلاً في ثقافته وعلمه؟! إذا قدرنا الملاّ هادي السبزواري فعلينا تقدير الميرزا مهدي الإصفهاني واحترامه وعدم رفضه.
علينا دراسة عصارة ما تعطيه الكلمات، والسعي وراء منهجٍ أكثر طمأنينة، لا أن نعتبر ما سمعناه عن آية الله السيد محمد هادي الميلاني من امتداحه درس المعقول لآية الله الشيخ مجتبى القزويني… لا أن نعتبره نقلاً غير موثق ولا صحيح! لماذا نبدي من أنفسنا حساسيةً في غير موقعها؟!
النزعة الإطلاقية في تبنّي المدارس الفكرية ــــــــــ
كنت سمعت كثيراً منذ دخولي الحوزة العلمية وقرأت أنّ من الأفضل للطالب أن يدرس أصل قاعدة mالخبر الواحدn مثلاً عند أستاذٍ ماهر متخصّص، بدلاً من أن يكتب موضوعاً أو بحثاً عنها، وممّا سمعناه كثيراً أيضاً: إنّ عيب المتصدّين للفلسفة والحكمة المتعالية عدم درسهم لها ولا فهمهم إيّاها.
سؤالي هنا: هل يمكن لأيّ إنسان منصفٍ القول بأنّ صاحب mبدائع الحكمn لم يكن فيلسوفاً دارساً للفلسفة فاهماً لها؟! إذاً فكيف تمكّن من الاعتراض على آراء الملاّ صدرا ونقدها؟ ومثله في هذه الحال العلاّمة السمناني مؤلّف كتاب mحكمة أبو علي سيناn، وغيرهما أيضاً، أفهل يصحّ هذا المنطق في التعاطي مع المسائل وتقييمها؟! هل يجوز الاعتقاد الإطلاقي بطرفٍ ما والأخذ به، بحيث يُكفّر كل من يعترض عليه أو يُتّهم بالجهل والسذاجة وعدم الفهم؟!
نعم، إنّ الأخذ بالقرآن أخذاً مطلقاً أمرٌ لا يقاس بما تقدّم، إذ يجب على المسلمين فهم القرآن وعدم الاعتراض عليه، ولست مغالياً بقولي هذا، لأن الوحي له مصدر لا يمكن تطرّق احتمال الالتباس إليه أو الخطأ([2]).
الجرأة المعرفية وشجاعة النقد ــــــــــ
طُرحت منذ سنين عديدة، بل ـ إذا جاز القول ـ قرون، بعضاً من المسائل الفلسفيّة الهامة والبنيويّة، وقد عُدّ قسم منها أصولاً مسلّمةً، واعتبرت صحيحة مبرهناً عليها، ويا ليت المسألة توقّفت عند هذا الحد، بل استمرّت، وظهرت مجموعة من الفلاسفة أنفسهم وأهل العقل والمعقول فأقامت براهين ناقدة للنظريّة الثانية معتبرين الأُولى هي النظريّة الصائبة.
وإذا أردت أن أتكلّم بصراحة عمّا يختلج في صدري أقول: إذا أراد الطلاّب في الحوزة منذ مئات السنين أن يتفوّهوا بمصطلح mأصالة الوجودn، فسوف يظنّونه مساوياً للقول بأنّ 2 × 2 = 5، لكنّ زماناً آخر جاء اختلف الوضع فيه كثيراً، فإذا ما أرادوا اليوم أن يقولوا لأستاذٍ يرى ضعف أصالة الماهيّة: إنّ أصالة الماهيّة صحيحة، فإنّهم يتصوّرون أنّ هذا الكلام مساوي لقولهم: 2 × 2 = 6.
لماذا نرتعب ونخاف إلى هذا الحد؟ هذا الرعب والاعتقاد بالصحّة المطلقة للفكر السائد يجب أن يكون أمام المعصوم، لا غيره، إننا لا نريد هنا أن نطيح بالمنطق والبرهان، بل هذا ـ أي المنطق والبرهان ـ ما نطلبه، نحن نعتقد بالبحث والاستدلال، لكننا نرى أن مخالفة القرآن تضع الأصالة له؛ إذ لا يشوبه الخطأ والالتباس، بيد أنّ هذا لا يسري على أفكار الآخرين.
نصوص أهل البيت Eمعيار نهائي ــــــــــ
تحتمل آراء كلّ شخص واعتقاداته في غير المسائل البديهيّة الأوّلية والمستقلاّت العقليّة الخطأ والاشتباه، بمن في ذلك أولئك الكمّلين من الفلاسفة والعرفاء، ما عدا المعصومين E؛ فمعتقدات الأنبياء ـ بمن فيهم الرسول الأكرم 2 والأئمّة
الأطهار E وعلومهم ـ مطابقةٌ للواقع وصحيحة مائة بالمائة؛ ذلك أنّها تستند إلى الوحي.
لقد ركّزت النصوص الدينية على مكانة أهل البيت E وموقعيّتهم مراتٍ عديدةٍ، فقيل: mشرّقا أو غرّبا، لن تجدا علماً صحيحاً إلاّ ما خرج من هذا البيتn. أضف إلى هذا عشرات الروايات التي تحوي المضمون نفسه في الموسوعات الحديثيّة([3]).
مبدأ الاعتراف بالجهل في القضايا الدينية ــــــــــ
العلماء الحقيقيون الحائزون على العلم الحقيقي في الميادين كافّة ـ لا سيمّا المعارف الدينيّة ـ هم الرسول الأكرم 2 والأئمّة الأطهار E بحيث لا يوجد في قاموسهم كلمة: mلا أعلمn، أمّا الآخرون فإن لم تكن مجهولاتهم أكثر من معلوماتهم فليست بالأقل، بل لابدّ من القول: لا مجال للمقارنة بينهما؛ لأنّ القرآن المجيد يقول: >وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً< الإسراء: 85، وإذا دقّقنا وجدنا أنّ هذه الضآلة المعرفية عند الإنسان غير المعصوم ساريةً حتى في دائرة المعارف الدينيّة، إنّ اعتماد العلماء على قواعد أصوليّة مثل البراءة والاستصحاب والاحتياط في استنباط الأحكام الإلهيّة دليل على عدم علمهم بالحكم الواقعي وجهلهم به.
لابدّ لنا من الاعتراف بأنّنا mلا نعلمn، وذلك في عموم المسائل الدينيّة الغامضة، خاصةً تلك التي ترتبط بالقيامة وما يسبقها ويلحقها من تفاصيل وملحقات إذا لم توضّح لنا عن طريق الوحي، وممّا يلفت في هذا السياق تصريح الملاّ صدرا في تفسير سورة يس، بضرورة تجنّب أن تريد بالعقل العاجز والدليل المزيّف إدراك حقائق المعاد وأحوال القيامة، لأنّ إدراك مثل هذه المسائل لا يتيسّر إلاّ عن طريق الإخبار من الشارع فقط([4]).
العرفاء غير الشيعة ومعضلة التوفيق بين الكشف والعقيدة الفاسدة
إنّ بعضاً ممن يسمّونهم العرفاء الكمّلين لا يرون عليّاً A محوراً للحق والباطل([5])، مدّعين في الوقت عينه أحوالاً من الكشف والشهود، والسؤال المثير دائماً هو: كيف نستطيع الاعتماد على هذا الكشف والشهود؟! وكيف يمكن اعتبارهم عارفين حقيقيين بالله تعالى بما للكلمة من معنى؟!
هل المفترض السعي والتفتيش هنا وهناك عن شيءٍ يدل ـ ولو بالقوّة والتأويل ـ على تشيّعهم حتى تَثبت إماميّتهم فيكون ذلك جواباً عن سؤالنا الآنف أم أنّ ذلك تبريراً تعسفياً ابتلينا به؟! تماماً كما نفعل إذا لم تنسجم فكرة ما مع آية قرآنية، حيث نقوم بتأويل الآية! وإذا لم ينسجم عرفان أهل البيت مع مقولات شخصٍ ما فإن هذا العرفان نفسه يخضع للتأويل أيضاً! وإذا قام شاهدٌ صادقٌ على عدم اعتبار بعض المشاهدات والمكاشفات أو كانت هناك بعض المكاشفات الادعائيّة غير الثابتة، فإنّنا نتغافل عن ذلك الشاهد!… هل هذا هو المنهج السليم؟!
سلامة العقيدة ونقائها ــــــــــ
يعلم جميعنا أنّ لا تفاوت واختلاف في أسس الأديان السماويّة وأصولها، فما قاله آدم A أتى به النبي 2، وما ذكره خاتم الأنبياء 2 عين ما أشار إليه
آدم A. إذاً، ما هو سبب وجود هذه التحريفات كلّها في الفترة الفاصلة بين
آدم A والرسول الأكرم 2؟
إنّ اختلاط أفكار الآخرين ودمجها برسالات الأنبياء E هو علّة العلل والسبب الأكثر تأثيراً في هذا المضمار، من هذا المنطلق، أكّد أهل البيت E تأكيداً شديداً على المحافظة على حدود الدين وعدم تجاوزها أو التراجع عنها، فلم يكونوا حياديين أبداً إزاء التلاعب أو التصرّف أو الدسّ في البناءات الدينيّة، بل كانوا يبدون ـ على العكس تماماً ـ حساسيّة عالية، فكانوا يقولون: mالمعصية مع الاستقامة في العقائد تغفر، والطاعة مع الانحراف في العقائد لا تقبلn([6]).
ومع نصوص من هذا النوع كانوا يرون العمل الحسن ساقطاً عن القيمة والاعتبار نتيجة وجود انحرافٍ في العقيدة، وذلك بغية بيان أهميّة الحفاظ على الحدود والعقائد، فلم يكونوا مستعدّين أبداً لوضع أي أساسٍ معوجٍّ في بناء البيت الديني؛ حتّى لا يغدو الإسلام ومدرسة التشيّع أنموذجاً آخراً شبيهاً بالأديان السماويّة السابقة في اعوجاجها وانحرافها، كانوا يريدون بذلك حفظ الدين وصيانته عن الانحراف والتحريف.
وإذا سألتم: ما هو السبيل للبقاء في أمانٍ عن الانحراف والاعوجاج؟ كان الجواب في عدم الانفصال عن أهل البيت E، فقد قال الرسول الأكرم 2: mأنا مدينة العلم وعليّ بابهاn.
الخلاف في الرأي بين القرآن والفلسفة ــــــــــ
ونرى في بعض الموارد كيف يظهر القرآن بشكل صريح رأيه في مسألة ما([7])، فيما تذهب الفلسفة والعرفان والحكمة المتعالية إلى خلاف هذا الرأي، ومع ذلك نجد من يقول بوحدة القرآن والبرهان والعرفان. ومن باب المثال، المعاد الذي طرحه القرآن، حيث نجده صريحاً في المعاد الجسماني، أمّا المعاد الذي نظّرت له الحكمة المتعالية فهو مثاليّ برزخي لا علاقة له بالمعاد العنصري القرآني، حتّى لو أطلقنا عليه اسم المعاد الجسماني.
جاء في حاشيةٍ لأحد الأساتذة المتأخرين على mشرح منظومة السبزواريn ـ وهي حاشية اعتبرت من أفضل الحواشي على هذا الكتاب، تظهر مهارة المؤلّف وتبحّره في الفلسفة ـ جاء في بحث المعاد بعد شرحه لما قاله الملاّ صدرا أو الحاج السبزواري حول المعاد: mيخالف هذا المعاد ما أتى به القرآن، وأعتقد بما جاء به القرآنn فهل هناك عدم انسجام أوضح من ذلك؟ أليس تكويننا لعقائدنا عبر هذا السبيل دون أن نقع في اشتباه أو خطأ توقّع لا معنى له ولا مجال؟!
الاعتقاد التسليمي ــــــــــ
المقصود من التسليم الذي ورد في الروايات والآيات ـ من باب المثال ما نقرأ في نهج البلاغة: mالإسلام هو التسليمn ـ اعتقاد المسلمين بكلّ ما جاء الرسول 2 به، وقبولهم إيّاه، والانصياع لما أتى به من العقائد والأحكام، سواء عثرنا عليه في الفلسفة والحكمة أم لا، وهو أيضاً الإقرار بمنهجه في التزكية والنموّ الأخلاقي، سواء طابق هذا المنهج مناهج الآخرين أم خالفه.
فيجب الإيمان والتسليم بالحقائق التي بيّنها الرسول 2، سواء أمكن إقامة البرهان عليها بمعناه الفلسفي أم لا، وسواء قبلتها المدارس الأخرى أو ردّتها.
وربّ شخص غافل يقول: إنّكم دعوتم إلى إيمان بسيط ساذج ومنعتم عن التعقّل، إلاّ أننّا نرى الأخذ بقول المعصوم ـ وهو معلّم حقائق الوحي ـ عين التحقيق لا البساطة والتقليد. ونرى علي المدرس الزنوزي الذي اعتبر المؤسّس بعد الملاّ صدرا قائلاً في بدائع الحكم: إنّ هذه الأبحاث العقلية نوع من اللعب بالحبال، فعلى كلّ إنسان ـ كائناً من كان عاديّاً كان أم فيلسوفاً فاضلاً ـ أن يزن عقائده ويعرضها على المعصوم، فيبني منظومته العقائديّة بعد عرض كل مفردة من مفرداتها على اعتقادات الأئمّة المعصومين E، فما طابقها اعتقد به وما لم يطابقها أنكره ورفضه.
النفاق العلمي أو التوفيق المزيف بين العقل والنص ــــــــــ
ويأخذ النفاق مكاناً في مقابل التسليم بهذا المعنى، فمن باب المثال قد يعلم الإنسان حكماً قاله الرسول 2، لكنّه لا يعتقد به ولا يستسيغه، بل يقوم بتطبيق المنهج التربوي الإسلامي على المناهج الأخرى، وربما قام بمقارنة وتحليل ليقول أحياناً: إنّ هذا المنج هو الأفضل، أو لعلّه يكون الأفضل.
فهناك حقائق جاء بها القرآن مثل الخلود في العذاب لم يقبلها عقله، لكن مع ذلك نجده يحاول التفكير والقول: في البداية هناك عذاب، إلاّ أنّه يتحوّل إلى عذب سائغٍ شيئاً فشيئاً، يقول ذلك لكي يقنع عقله به. إنّ هذا نوع من النفاق، فكما قيل: mللنفاق درجات ومراتبn. وعلينا أن نسأل الله عزّ وجلّ أن يحفظنا من نقاط الضعف هذه، إذ لربمّا نتورّط فيها ونحن لا نشعر([8]).
بين القرآن والفلسفة والعرفان ــــــــــ
يرغب الكثير من الطلاّب والجامعيين معرفة رأي القرآن والروايات في العقائد الإسلاميّة، بغض النظر عمّا قاله الفلاسفة والعرفاء قبل الإسلام وبعده، فما هي المسائل التي أعطى فيها القرآن والروايات الموقف الواضح؟ وما هي المسائل التي تشابه القول فيها؟ وما هي تلك التي سكت عنها ولم يبد رأياً فيها؟
كما ويرغبون بمعرفة كيفيّة توضيح المسائل في الفلسفة والعرفان وشرحها بغض النظر أيضاً عن الروايات والآيات القرآنية أو مع أخذها بعين الاعتبار؟ وذلك بغية معرفة ما إذا كانت المسائل الأولى ـ تلك التي طرحت في الفلسفة والعرفان ـ قد طابقت ما جاء به الاسلام من الناحية العقليّة والفكريّة فيمتدحونها ويأخذون بها، أو لم تطابق فلا يقبلوها؛ لأن الإسلام ورسوله هما الأصل، وكل ما أتوا به فهو الصحيح الصائب.
ويقبل هؤلاء المجموعة الثانية والثالثة من المسائل، إذا كان ما أتت به الفلسفة والعرفان جزءاً من البديهيّات أو المستقلاّت العقليّة، أمّا في غير هذه الحالة فيجري التعامل مع الأمور باحتياط شديد.
بشكل عام يلزم الاعتقاد بتلك الحقائق التي قبلها الرسول 2 وأهل
بيته E، لا خلط تلك الموضوعات المذكورة في القرآن والروايات مع تلك المقتبسة من الخارج دون وضع حدود دقيقة في البين.
الحاجة إلى الاجتهاد في الروايات الكلامية ــــــــــ
مع الأسف لقد تُصوّر أنّ الكلام والفلسفة يكفيان الإسلام على الصعيد العقائدي، ولهذا لم تُبذل جهود كافية وضروريّة في استنباط النظام العقدي من القرآن والروايات، فعندما نرى في البحوث الفقهيّة والأصوليّة إخضاع بعض الآيات والروايات لأعلى حدّ ممكن من التدبر والتدقيق، مثل حديث الرفع، وحديث على اليد، وحديث لا ضرر ولا ضرار مما شاهدنا على إثر البحث المعمّق الدقيق فيه حصول استنباطات ممتازة أخضعت للنقد والدراسة.. عندما نرى ذلك ينتابنا شعور بالأسف: لماذا لم يحصل مثل هذا العمل في مجال الآيات والروايات العقائدية؟!
نم، إذا كان عندنا مائة من أمثال الشيخ الأنصاري والآخوند الخراساني([9]) وصاحب العروة والإمام الخميني، ممن يُخضعون خطب أمير المؤمنين A للتدبّر والتدقيق، تماماً كما يحصل في التعامل مع روايات الفقه والأصول… فأيّ بركات يمكن أن تعمّ بعدئذ الجميع؟!
إننا نأمل أن يتمّ هذا العمل وينجز، وفي حوزة قم اليوم ثمّة فريقٌ منشغلٌ بجمع وتقميش وتنظيم المصادر الأولى لمعارف الإسلام والتشيّع في المجال العقدي، ممّا نأمل أن يقع بإذن الله تعالى في المستقبل موقع التحقيق والتدقيق والاستنباط والاجتهاد.
هل الرجوع إلى النص قبل تكوين الاستنتاج الفلسفي أم بعده ــــ
لقد تمّ الاعتماد في الفلسفة الإسلاميّة والحكمة المتعالية على مجموعة من الآيات والروايات، لكن إن لم يخطّؤنا أحد نقول: إنّ أغلبهم يرجع إلى القرآن والروايات عقب امتلاء ذهنه بالمسائل الفلسفيّة، إنّنا نراهم خرجوا بنتائج في بعض الحالات لاحظنا معها أنّهم يقومون بتطبيق الفلسفة وإسقاطها على القرآن والأحاديث، لكن مع ذلك لاحظنا أيضاً عدم توصّلهم في بعض الحالات الأخرى بعد التفكير المركّز إلى هذا الانسجام والتناغم، ورغم ذلك شاهدناهم يمارسون التأويل للآيات والروايات ويقومون بتطويعها، وعندما لا يكون في القرآن والحديث نصّ صريح وواضح يتعلّق بالموضوع الفلسفي، نشاهدهم أحياناً ـ إذا لم يكن في كلامنا جسارة ـ ينتجون آياتٍ ورواياتٍ تخدم موضوعاتهم.
ولإيضاح فكرتنا ـ على سبيل المثال ـ نقول: إذا سأل شخص: أيّ علاقةٍ بين الآية الشريفة: >أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ< الأعراف: 54 واصطلاح mعالم الأمر والخلقn المطروح في الفلسفة، حتّى يقوم بعضهم بالربط بينهما؟ فماذا يمكننا أن نجيب عن التساؤل القائل: هل فسّر الإمام المعصوم ـ وهو المفسّر الحقيقي للقرآن ـ الآية بهذا الشكل؟ وهل كان هذا المعنى ومناخه الفكري لينقدح في ذهن شخص في زمان نزول الآية بل حتّى في زماننا هذا، هل يأتي إلى ذهن شخص تفسير الآية بعالم الخلق إذا لم يكن هذا المصطلح عينه ظاهراً بعد أو متبلوراً([10])؟
لابدّ لنا ـ بدايةً ـ من معرفة معنى >لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ< ثمّ ننظر بعد ذلك هل جاء في الفلسفة والعلوم الأخرى ما يطابق هذا المعنى أو لا؟ لا أن نمارس عمليةً عكسيّة.
التفكيك بين الاعتراف بالمنهج والانفتاح على النقد ــــــــــ
عندما يرحّب أشخاصٌ من أمثالي بالمدرسة التفكيكيّة أو بالتفكيك نفسه فإن هذا لا يعني أخذهم بكلّ ما ذكرته وتذكره هذه المدرسة العقديّة الخراسانيّة دون سؤالٍ أو استفهام أو اعتراض، بل يعني اعتبار هذا المنهج مسيراً صحيحاً وصائباً ينبغي متابعته وإجلاء حدوده ومعالمه، فالمنهج مقبولٌ، ومحتواه بحاجة إلى دراسة أعمق، إن [الحكيمي] مؤلّف كتاب: المدرسة التفكيكيّة يدعو هو نفسه دائماً إلى التحلّي باستقلال فكري وممارسة جادّة للأفكار.
أعتقد أنّ التفقّه في القرآن والروايات يمكن إنجازه طبقاً لمنهج التفكيك هذا، وإلاّ فلن يغدو تفقّهاً بل قد يصبح أحياناً تحريفاً للحقائق القرآنيّة، فالفقه يعني الفهم، والتفقّه في الدين يعني فهم ما أتى به النبي 2 دون خلطٍ بينه وبين مقولات الآخرين ومعطياتهم، فإذا ما استخرجنا من القرآن تصوّرات عقديّة عبر إقحام مقولات الآخرين فإن ذلك لن يغدو تفقّهاً في الدين وفهماً للقرآن، وسنسقط شئنا أم أبينا من حيث نشعر أو لا نشعر في ورطة تحريف الحقائق، فكما ينبغي التعرّف على معالم وحدود التسليم والنفاق كي نغدو مسلّمين لا منافقين، كذلك ينبغي أن نحدّد التفقّه والتحريف لنكون فقهاء لا محرّفين.
وفي النهاية، أكررّ دعوتي للعالم الحصيف والكاتب المقتدر الأستاذ محمد رضا الحكيمي، وأقول: إنّ تأليف كتاب: mالشيخ مجتبى القزويني والمدرسة التفكيكيةn سيكون منعطفاً في الدرس العقائدي، وحيث كان مجال البحث والمناظرة والحوار مشرّعاً على الدوام، فمن الضروري أن تتخّذ الموضوعات المثارة في ذلك الكتاب مسيراً تصاعديّاً بمرور الأيام، على صعيد تشريح الأفكار وإجلائها([11]).
* * *
الهوامش
[1] ــ مجلّة كيهان فرهنكَي، السنة التاسعة، العدد الثاني عشر.
[2] ــ راجع: رضا أستادي، مجلة كَل چرخ، مقالة آزاد انديشي ديوار به ديوار كفر.
[3] ــ راجع: رضا أستادي، مقالة من كتاب ياد نامه ى مرحوم دكتر سعيد جواد مصطفوي.
[4] ــ ملا صدرا، تفسير سورة يس: 150، قم: انتشارات بيدار.
[5] ــ راجع: فقيه ايماني، mحق با على استn.
[6] ــ نقلنا مضمون الأحاديث لا عينها.
[7] ــ مثل المعاد الجسماني.
[8] ــ راجع: رضا أستادي، مجلّة نور علم، مقالة: الأربعون حديثاً، عشر روايات من روايات التسليم.
[9] ــ لعلّ للآخوند الخراساني شرحاً للخطبة الأولى من نهج البلاغة.
[10] ــ كتب آية الله الشهيد الدكتور السيد محمد حسين بهشتي بحثاً في هذا المجال، وقد طبع تحت عنوان: mعالم أمر وخلقn.
[11] ــ كنت قد سمعت ـ ومنذ مدّة ـ أنّ كتاب mبيان الفرقانn للشيخ مجتبى القزويني يجري تحقيقه وطباعته، وإذا كان هذا الكلام صحيحاً وكانت هذه الطبعة مشتملةً على توضيحات وهوامش موضحة، فسوف يكون هذا العمل مفيداً بالطبع، بل سيكون خطوةً مؤثرة في هذا المجال، إذ سيشكّل أرضيّة جيدة ومهمة للبحث والحوار. وخلاصة القول: يجب أن تكون موضوعاته محل نقد وبحث وتحليل، لا أن يتمّ التعاطي معها بمجرد القراءة العامّة السطحيّة. وقد كنّا أشرنا أن فهرس كتاب: مكتب تفكيك أو المدرسة التفكيكية، يحتوي على تسعمائة مسألة هامّة، تشكّل مفتاحاً رئيسيّاً للباحثين والمنقبين في الحاضر والمستقبل.