مناقشة هويّة المرأة في القرآن وفقاً لمنهج د. الشيخ الصادقي الطهراني
السيد محمد عقيقي(*)
رؤية
الإنسان إما رجلٌ أو امرأة. لكنّ هذا الرجل تلده امرأةٌ، ولا يمكن للرجال التناسل من دون النساء. المرأة كائنٌ غير مجابهٍ للرجل، بل له حقوقٌ في عرضه وإلى جانبه. لقد تصوّرنا دوماً المرأة في مواجهة الرجل، لكنّ علينا القول: إن المرأة كائن في عرض الرجل، فما من علاقة طولية بينهما، إنها علاقة عرضية فحَسْب. ولهذا الكائن حقوقٌ ظلّت مجهولة دائماً في ميدان الفقه الإسلامي، أو فُسِّرت خلافاً للقرآن الكريم؛ لما تمّ التمسّك به من أصول منافية للعقل وغير موثقة.
ونودّ في هذا المقال بيان موجز من حقوق المرأة في الرؤية القرآنية، بأسلوب الدكتور محمد صادقي الطهراني.
الأساس في حقوق المرأة، الاستحقاق أم المساواة؟
قد فسّرت حقوق المرأة في الفكر الإسلامي التقليدي على أساس عدالة الاستحقاق. لكنْ واجهت عدالة الاستحقاق إشكالات كثيرة في الحقبة المعاصرة. هنا يطرح السؤال نفسه: هل بإمكاننا إعادة قراءة الكتاب والسنّة بناء على عدالة المساواة المبتنية على المساواة الأساسية والأوّلية؟
مقدّمات
1ـ قد دافع القرآن والسنّة بقوّةٍ عن أصل العدالة في أحكام المرأة.
2ـ قد تمّ بيان أحكام المرأة في القرآن والسنّة باعتماد الاستدلال، وتمّت البرهنة عليها بالبيِّنات (بوضوح وعلى أساس البراهين).
3ـ العدالة أساسٌ سابق للدين، ويتمّ تعريفه وبيان مختلف وجهاته على أساس العقل.
4ـ تدلّ بعض الآيات والروايات في شأن المرأة على العدالة التامّة وعدم التمييز، وتتبنّى أخرى عدالة الاستحقاق والمساواة النسبية.
5ـ لا يمكن إنكار الاختلاف البيولوجي والسايكولوجي بين الرجل والمرأة. والجدل يدور حول أحكام المرأة التي تميّزها في الحقوق؛ لكونها امرأة، أي تمنحها حقوقاً أقلّ أو أكثر من الرجل. ونجد هذه الأحكام غالباً في دائرة الحقوق المدنية والجزائية، لذلك تخرج أحكام العبادات والحقوق التجارية ومعظم المعتقدات والأخلاق، التي ليس فيها ما يميِّز المرأة عن الرجل، من دائرة المناقشة.
وفرضيتنا في هذا الموضوع تتشكّل من جزءين:
الأوّل: إن العدالة المبتنية على المساواة، والمساواة الأساسية، أكثر ملاءمةً لروح القرآن وتعاليم الإسلام.
الثاني: الآيات والروايات التي يستند إليها في اختلاف الحقوق بين الرجل والمرأة لا تنافي عدالة المساواة، والمساواة الأساسية.
كما أننا نجد نوعين من الأدلة في مجال حقوق المرأة في الكتاب والسنّة: الأوّل: أدلة تتعامل مع الرجل والمرأة بمساواةٍ دون أيّ تبعيض في الحقوق، وتجعل لهما حقوقاً إنسانية واحدة؛ والثاني: أدلة تعتمد أفضلية الرجل على المرأة، ولذلك تعطيه حقوقاً أكثر، وتجعله مسؤولاً عن حماية المرأة. ونجد في الأدلة العقلية أيضاً دليلاً عقلياً مستقلاًّ على الحسن الذاتي للعدل والقبح الذاتي للظلم واللامساواة.
وسنتطرّق إلى نصِّ أهمّ هذه الآيات والروايات، ونصٍّ من الدليل العقلي، كمثالٍ قبل الخوض في التفسير:
المجموعة الأولى من الآيات: تبيِّن هذه الآيات أن الرجل والمرأة خُلقا من أصل واحد، وتنفي أيّ أفضليةٍ على أساس الجنس. فالجنس لا يحقِّق كرامةً أو قرباً، فهل يمكن أن يكون سبباً للأفضلية؟ تقول الآية 13 من سورة الحجرات: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾([1]).
المجموعة الثانية من الآيات: تدلّ على المساواة في العقاب والثواب في الدنيا والآخرة. الآيات 5 ـ 6، 25 من سورة الفتح، والآيتان 12 ـ 13 من سورة الحديد، تعدّ المرأة والرجل متناظرين، ومتساويين في استحقاقهما الثواب أو العقاب. فقد صرحت الآية 38 من سورة المائدة، والآيات 2، 26، 31 من سورة النور، بتناظر العقاب الدنيوي للرجل والمرأة السارقين والزانيين والخبيثين، ومساواته.
المجموعة الثالثة من الآيات: تدلّ على المساواة في الحياة الزوجية. فما تصوّره هذه الآية هو النصيب المتساوي لكلٍّ من الرجل والمرأة في الحياة الزوجية: ﴿هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ﴾ (البقرة: 187). وقد تكرّرت هذه الرؤية في الآية 21 من سورة الروم، فقد ورد فيها أن خلق المرأة والرجل من آيات الله وبيناته، وكلٌّ منهما سكن ومودة ورحمة للآخر. ألا يجب أن يكون هذا الأساس المنطقي قرينةً لفهم آيات القرآن الأخرى في خصوص العائلة؟
لكنْ ما هي الأدلة التي يقدِّمها مخالفو هذه المساواة؟
هناك أربع آيات، وحديثان عن النبيّ| والإمام عليّ×، تُعَدّ أهمّ الأدلة المتوفِّرة في أفضلية الرجل على المرأة في الحقوق لدى العلماء التقليديين:
الدليل الأول: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ (البقرة: 228)([2]).
الدليل الثاني: ﴿وَلاَ تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾ (النساء: 32).
الدليل الثالث: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ (النساء: 34)([3]).
الدليل الرابع: ﴿أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ﴾ (الزخرف: 18)([4]).
الدليل الخامس: الحديث المنقول عن النبيّ|، في صحيح البخاري: «لقد نفعني الله بكلمةٍ سمعتُها من رسول اللهﷺ، أيّام الجمل، بعدما كدتُ أن ألحق بأصحاب الجمل، فأقاتل معهم، قال: لما بلغ رسول اللهﷺ أن أهل فارس قد ملَّكوا عليهم بنت كسرى قال: لن يفلح قومٌ ولَّوْا أمرهم امرأةً».
الدليل السادس: خطبة للإمام عليّ×، في نهج البلاغة، عن نقص المرأة وقصورها، قال أمير المؤمنين×، في خطبةٍ له بعد حرب الجمل: «معاشر الناس، إن النساء نواقص الإيمان، نواقص الحظوظ، نواقص العقول؛ فأما نقصان إيمانهنّ فقعودهنّ عن الصلاة والصيام أيّام حيضهنّ؛ وأما نقصان عقولهنّ فشهادةُ امرأتين كشهادة رجلٍ واحد؛ وأما نقصان حظوظهنّ فمواريثهنّ على الأنصاف من مواريث الرجال، فاتَّقوا شرار النساء، وكونوا من خيارهنّ على حَذَرٍ، ولا تطيعوهنّ في المعروف حتّى لا يطمعْنَ في المنكر».
أبرز نقاط مبنى عدالة الاستحقاق (مبنى الفقهاء التقليديين)
1ـ إن الأساس في حقوق المرأة وواجباتها المساواة مع الرجل، عدا ما تقتضي فيه طبيعتها عدم التناظر. فالفطرة تستوجب هذه المساواة([5]).
2ـ ما اختلفت فيه حقوق المرأة وواجباتها عن حقوق الرجل وواجباته هو ما استدعَتْه خصالهما الذاتية، واقتضته طبيعة كلا الجنسين. ولا يمكن تغيير ذلك، فلا يمكن ردّ تلك الخصال إلى سوء التربية وظلم المجتمع([6]).
3ـ الخصال الذاتية التي تجعل المرأة تمتاز عن الرجل في خلقتها تتجسّد في أمرين:
الأوّل: الإنجاب. فهي حَرْث نشوء نوع الإنسان وتكوُّنه. وبقاء نوع الإنسان رهينٌ في الدرجة الأولى بوجود المرأة. ويتطلب الإنجاب أحكاماً خاصّة.
الثاني: طبعت المرأة على نعومة الجسد، وحرارة العاطفة، ورقّة الإحساس والعقل. ولهذه الخصال أثرٌ بالغ في وضع المرأة وواجباتها وحقوقها([7]).
4ـ طبع المرأة يجعلها من ناحيةٍ تستهوي الجمال والزينة والتبرُّج؛ ومن ناحيةٍ أخرى يؤدّي إلى قصورها في الأمور العقلية والإدراك والاستدلال والإتيان بالحجج والبراهين. فالعاطفة والأحاسيس تسود حياة المرأة، بينما يسود العقل حياة الرجل([8]).
5ـ الخصلتان المذكورتان تجعلان المرأة في حاجةٍ دائمة إلى ولاية الرجل على أمرها، ووصايته عليها، فيكون هذا الوليّ قبل الزواج الأب، وبعده الزوج. ومَنْ يحتاج إلى وليٍّ ووصيّ في شؤونه العائلية لا يمكنه أن يكون قيِّماً ووليّاً في الأمور السياسية أو القضائية أو الدينية في المجتمع. كما أسقط عن المرأة خوض الحروب؛ بسبب ضعفها الجسدي([9]).
6ـ يتشارك المرأة والرجل الفضائل الدينية العامة، كالإيمان والعلم والتقوى. وما للرجل الأفضلية فيه هو: الإرث والشهادة والدية وتعدُّد الزوجات والولاية والقضاء والقتال. وأفضلية المرأة في الحقوق تكمن في أخذها النفقة والمَهْر من الرجل. كما يجب على المرأة الحجاب وستر موضع الزينة، وطاعة الزوج في ما يخصّ استمتاعه الجنسيّ بها، وتربية الأبناء ورعايتهم. وعلى الرجل حماية زوجته مطلقاً. ويتقدَّم حقّ وصاية الرجل على المرأة على جميع حقوق المرأة وواجباتها، في ما ليس فيه معصيةٌ، مطلقاً([10]).
7ـ جنس المرأة أضعف من جنس الرجل خَلْقاً وطينةً. وقد تمّ تحديد حقوق المرأة الشرعية وواجباتها بما يتناسب واستحقاقها الذاتي، وذلك في منتهى العدل. فلا يُراد بالعدل التشابه والتطابق في الحقوق، فالمساواة تكون في الحقوق التي تتساوى فيها قابلية المرأة والرجل، وتختلف الحقوق في ما تختلف فيه قابلياتهما([11]).
ويقول السيد محمد حسين الطباطبائي: المرأة بطبعها أرهف إحساساً، وأرقّ عاطفة، لكنها أضعف عقلاً، قياساً بالرجل. فمن أبرز مظاهر شدّة عاطفتها كثرة تعلُّقها بالزينة والتبرُّج، وقصورها في البرهنة والاستدلال الذي يعتمد العقل([12]).
ويقول الشيخ مرتضى مطهري: «لا يعارض الإسلام تساوي حقوق المرأة والرجل، بل ينفي تشابه حقوقهما… فاختلاف حقوق المرأة والرجل في ما جعلتهما طبيعتَيْهما في مواقع غير متشابهة يوافق العدل، ويؤمِّن الحقوق الفطرية، ويدعم سعادة الأسرة، ويمضي بالمجتمع قدماً بنحوٍ أفضل»([13]).
ويقول الشيخ حسين علي منتظري، في آخر ما أدلى به من رؤىً: «كلّ حقٍّ وواجب للمرأة والرجل يجب أن يبتني على العدل. ولا يعني العدل تساوي المرأة والرجل في كلّ الأمور، بل يعني أن يُعطى كلّ شخصٍ ما يستحقّه، ويُكلَّف بما هو قادر عليه»([14]).
استطلعنا في ما مضى الأدلّة التي تبتني عليها حقوق المرأة في رؤية عدالة الاستحقاق. وعلينا الآن بحث نظرية عدالة المساواة:
1ـ من عدالة الاستحقاق إلى عدالة المساواة([15])
تقتضي عدالة الاستحقاق التعامل مع كلّ فردٍ حَسْب قدراته، وأن التعامل بالتساوي مع الجميع منافٍ للعدل.
وأول مَنْ تحدث عن عدالة الاستحقاق هو «أرسطو». وقد ذكر ذلك في بيانه لمفهوم «عدالة التوزيع».
فعدالة التوزيع أقدم وأوسع أسس العدالة انتشاراً. وقد تلقّى المسلمون هذا الأصل كأصلٍ يؤيِّده القرآن والإسلام.
لكنْ منذ إعلان استقلال أمريكا (1776م)، وإعلان حقوق الإنسان والمواطن من قبل ثورة فرنسا الكبرى (1789م)، أخذت «المساواة النسبية» تنحسر، لتحلّ محلّها مساواة جميع الناس كحقٍّ إلهي وطبيعي، وهي «المساواة الأساسية» بين جميع الناس في مجموعةٍ من الحقوق الأساسية. وقد أدّى هذا الاتجاه إلى رؤيةٍ جديدة لعدالة التوزيع، تقضي بأنه «على الرغم من اختلاف الناس في القابليات والقدرات، إلاّ أن جميعهم إنسان، ولذلك هم سواء في القدر والمكانة». وبعبارةٍ أخرى: جميع الناس سواسية في الحقوق. وقد ابتنَتْ هذه القاعدة الحقوقية على أصلين: الأوّل: هو أن تتعامل بمساواة مع المختلفين؛ والآخر: هو أن الأساس في عدالة التوزيع تساوي الحقوق، إلاّ أن يقام دليلٌ كافٍ على التعامل بتبعيضٍ. وقد تمّ إطلاق «عدالة التوزيع» على هذه الوجهة من العدالة أيضاً. وأبرز المفكرين المعاصرين الداعين إلى عدالة التوزيع هو جون رولس.
تبيِّن مقارنة الأصول القديمة والجديدة لعدالة التوزيع في مجال حقوق المرأة:
أوّلاً: ليس هناك أدنى شكّ في الاختلاف البيولوجي والسايكولوجي بين المرأة والرجل.
ثانياً: لا تستوجب خصال المرأة البيولوجية والسايكولوجية استحقاقاً أدنى لها من الحقوق، بناءً على الأصول القديمة.
ثالثاً: كون المرأة إنساناً يقتضي تمتُّعها بحقوق متناظرة ومتساوية مع حقوق الرجل، على أساس المساواة الأساسية.
رابعاً: لا يمكن العدول عن هذه الحقوق المساوية إلاّ إذا توفّرت براهين كافية بأن التبعيض هو الذي يحقِّق العدالة، كالحقوق التي تُمْنَح للمرأة لتأمين الحماية لها.
2ـ الأدلة العقلية في فضل عدالة المساواة على عدالة الاستحقاق([16])
السؤال: لِمَ عدالة المساواة والمساواة الأساسية أفضل عقلاً من عدالة الاستحقاق والمساواة النسبية؟
التفسير الأوّل: العدالة مفهومٌ سابق للدين([17])؛ إذ يفهم الإنسان العدل بعقله. فالجميع يمكنه إدراك العدل والظلم في إطارهما العامّ. ويفسِّر الإنسان العدل على أساس العقل الجمعي، وحكمة مجتمعه، وتجاربه التاريخية. فقد كانت عدالة الاستحقاق والمساواة النسبية الرأي السائد لأَمَدٍ طويل، ولذلك كان للنساء والعبيد وذوي البشرة السوداء مكانة أدنى من الرجال والأحرار وذوي البشرة البيضاء. وقد عُدَّ هذا البخس في الحقوق لقرونٍ عديدة عدلاً، وتمّ تبريره عقلياً.
لكنْ وُجِّه لهذا الأساس نقدٌ صارم منذ أَمَدٍ بعيد. فلا يجد عقل الإنسان الحديث أن عدالة الاستحقاق والمساواة النسبية مبرّرتان ومقبولتان. فقد تغيَّر فهم الإنسان عن الإنسانية وحقوق الإنسان. فللإنسان حقوق لكونه إنساناً فحَسْب، ولا يتغيَّر هذا الحق للإنسان المؤنث والإنسان العبد والإنسان الأسود. فالإنسانية تكمن في روح الإنسان وسجاياه، وذلك ما يشترك فيه جميع البشر، وهو ما يستوجب التكريم والاحترام: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾. فروح الإنسان وسجاياه لا تصطبغ بالجنس أو العرق أو اللون أو الدين أو العقيدة أو السياسة أو المكانة الاجتماعية أو أيّ لونٍ آخر، وبعبارة أخرى: يتغير «ذو الحقّ» (أي صاحب الحقّ)، فالإنسان صاحب حقٍّ بما هو إنسان. لكنْ قديماً كان الحقّ يصنف للإنسان المؤنث والإنسان العبد والإنسان الأسود. فإنْ كانت المساواة النسبية مقبولة عقلاً للإنسان المؤنث والإنسان العبد والإنسان الأسود فالمساواة الأساسية تصدق على الإنسان بما هو إنسانٌ قطعاً، فتصبح المساواة النسبية، التي تعني التبعيض في الحقوق، غير مبرّرة حتماً.
التفسير الثاني: يفهم الإنسان المعاصر اليوم العدالة على أنها عدالة مساواة. وبعبارةٍ أخرى: العدالة تعني أن يعامل كافّة البشر على حدٍّ سواء، دون أن تستدعي أيّ خصلة وسجية فيهم التبعيض أو اللامساواة في الحقوق. فالأساس هو المساواة في الحقوق. ولا يمكن الغضّ عن هذه المساواة في الحقوق إلاّ بحجّةٍ قاطعة. فكما أن لون البشرة الأسود لا يستوجب تدنّي مستوى الحقوق، لا يستلزم كون الإنسان أنثى التبعيض في الحقوق.
التفسير الثالث: المساواة النسبية هي ركيزة عدالة الاستحقاق([18]). ويتمّ هذا الاستناد «باستنتاج الوجوب من الكون»، أي بما أن المرأة تختلف عن الرجل بيولوجياً وسايكولوجياً فيجب أن تحظى بحقوقٍ أدنى من الرجل. ويحتدم الجَدَل حول هذا الاستنتاج. فالاستناد على هذا الأصل يستوجب إثباته فلسفياً، ولم يتحقَّق ذلك بَعْدُ. ويجب التركيز هنا على أن الاختلاف بين المرأة والرجل لم يتمّ إنكاره، بل تمّ تأكيده. فما يستنكر ويرفض هنا هو أن هذا الاختلاف يكون مدعاةً للتبعيض في الحقوق. فبأيّ دليلٍ فلسفي يدلّ «الكون» على «الوجوب»؟ وبأيّ دليلٍ عقلي تستوجب الأنوثة (المرأة) حقوقاً أدنى؟ لِمَ يُعَدّ الضعف الجسدي أو حرارة العاطفة ورهافة الإحساس سبباً لبخس الحقوق أو تدنّيها؟
التفسير الرابع: إن المساواة في الحقوق عدلٌ، والتبعيض في الحقوق ظلمٌ. وليس هناك أيّ خلافٍ في الحسن الذاتي للعدل والقبح الذاتي للظلم. فلِمَ تكون المساواة عدلاً والتبعيض ظلماً؟ لا يجد المفكِّرون التقليديون للمساواة حسناً ذاتياً، ولا يعدّونها مصداقاً للعدل، فهم يعتقدون بأن العدل يتبع الاستحقاق، وليس المساواة. فاستحقاق الأشخاص لا يؤدّي لزوماً إلى المساواة. والاستحقاق يعني بأن يُعطى كلّ فردٍ من الحقوق بقدر لياقته، لا أقلّ ولا أكثر. فاستحقاق العبد والمرأة وغير المسلم هو تلك الحقوق التي مُنِحَها. ومساواة المرأة والرجل، والعبد والحرّ، والمسلم وغير المسلم، تنقض العدل. في حين أن عقل الإنسان لا يدرك تلك الاستحقاقات، ويعدّ العدل المبتني عليها ظلماً. وقد برّرت عدالة الاستحقاق لقرونٍ نظام العبودية والتبعيض الجنسي وغيره. لكنْ كيف يتمّ الكشف عن هذا الاستحقاق؟ كيف وبأيّ دليل قاطع اكتشفنا أن هذا هو استحقاق المرأة وذاك استحقاق الرجل؟ وهل لهذه الأنثروبولوجيا التي استند إليها لقرونٍ في الرأي بالاستحقاق والتبعيض في الحقوق دليلٌ عقلي لما تدّعيه؟ ملخّص القول: إن الاستحقاق يبتني على مقدّمات لم يتم إثباتها بعْدُ.
إن التبعيض في الحقوق عين الظلم؛ لأن البشر سواءٌ في الروح والكرامة الإنسانية وقابلية النموّ والسموّ إنْ قُدِّمت لهم ظروفٌ مماثلة. فالمساواة في الحقوق تقوم على جوهر الإنسانية الموحّد بين جميع البشر. البشر متساوون في الحقوق؛ لأنهم يتشاركون هذا الجوهر بالتساوي (فكلٌّ من المرأة والرجل إنسانٌ). وكرامة الإنسان تأتي من تمتُّعه بهذا الجوهر المشترك (الإنسانية)، وهو ما يستوجب تساوي الحقوق. البشر سواسية في ما يستحقّونه من حقوق؛ لأن لجميعهم الجوهر نفسه. ويكمن التناظر في قابليات هذا الجوهر لا بتنوُّع ظهوره (قدراته). وحتى من حيث المعنى اللغوي يدلّ لفظ العدل على المساواة في القسمة([19])، فيقول ابن منظور: «ما قام في النفوس أنه مستقيمٌ، وهو ضدّ الجَوْر»([20]). ويعدّ الشهيد الصدر العدل شرطاً يتقدَّم سموّ جميع الفضائل([21]).
التفسير الخامس: كرامة الإنسان تتفق مع مساواة الحقوق؛ فإنْ كان للإنسان كرامة بما هو إنسانٌ يعني ذلك كرامة جوهر الإنسانية، الذي يتشاركه الرجل والمرأة (أي إن الإنسان كريمٌ لإنسانيته، ولا اختلاف في ذلك بين المرأة والرجل). والتبعيض في الحقوق نفيٌ لأساس الكرامة. فإنْ لم تُبْقِ في ما مضى المعاييرُ والعلاقات التي تسودها سلطة الرجل محلاًّ لأصل الكرامة، لم يُبْقِ اليوم أصلُ الكرامة محلاًّ لسلطة الرجل وما يتأتّى معها. ففي رؤية العقلانية المعاصرة لا معنى للكرامة، ولا للعدل، دون المساواة في الحقوق، أي إن الكرامة تستوجب عدالة المساواة.
التفسير السادس: تقتضي الحكمة دوماً اختيار الأرجح، وترك المستبعد. فجعل المستبعد محلّ الأرجح منافٍ للحكمة. وبتعبير أبسط: إنْ كانت عقلانية الأمس تجد التبعيض في حقوق المرأة والرجل تحقيقاً للاستحقاق وعدلاً، فعقلانية اليوم تجد ذلك التبعيض الظلم بعينه، وبخساً للحقوق الإنسانية المؤكَّدة. وتبيّن دراسة الأحكام الشرعية في الفقه التقليدي، التي تنطلق من التبعيض في حقوق المرأة والرجل، أنها مستبعدة تماماً مقابل الأرجحية التي تحظى بها المساواة في حقوق المرأة والرجل. فإنْ تركنا إنساناً منصفاً ووجدانه سيفضِّل قطعاً عدالة المساواة والمساواة الأساسية على الأحكام التقليدية التي تتبنّى التبعيض. ولا شَكَّ في هذا الرجحان العقلي.
3ـ التأكيد على الانسجام بين روح القرآن والتعاليم الإسلامية مع عدالة المساواة والمساواة في الأصل
إنْ كان العدل مفهوماً سابقاً للدين فمن البديهي أن لا يعيِّن المتأخّر (الدين) واجباً للمتقدِّم (العدل). ويلزم كون أمرٍ ما سابقاً للدين أن يكون عقليّاً. فيعرف العدل بالعقل، ويتبع العدل في تغيير مفهومه وخطابه ومقاييسه الغالبة نهج العقل ومعاييره. ولا جدال في أن للعدل دوراً بارزاً في الإسلام والقرآن والسنّة، و هذا الدور محوريّ في علم الكلام لدى الشيعة والمعتزلة، ويعني ذلك أن الإنسان يختار دينه بمعايير العدل. فالله عادلٌ، وبُني العالم على أساس العدل، وتشريعات الله عادلةٌ. ويتبيّن الإنسان إجمالاً مصاديق العدل، مع أن فهم معايير العدل معقولٌ ويسير له.
ولم يتمّ تعريف العدل أو القسط أو الإنصاف في القرآن أو السنّة. لكنْ تمَّتْ الدعوة إليه والترغيب به والتأكيد عليه. ويدلّ ذلك بوضوحٍ على أن الله ظهيرٌ لعدلٍ يدركه الإنسان بعقله الذي وهبه الله إيّاه. ولو أراد الله بالعدل غير المفهوم المتعارف عليه بين الناس للزم ذلك أن يبيِّن للمسلمين المعنى الذي يريده. وهذه هي الطريقة المتَّبعة لمعرفة تأييد القرآن للغة المتعارف عليها والمنطق المتَّبع. وقد ورد في القرآن([22]) والروايات([23]) الأمر بالعدل مراراً.
إن عدالة المساواة والمساواة الأساسية أكثر انسجاماً مع روح القرآن ومعايير الإسلام؛ إذ إن نفس الإنسان وروحه في تعاليم الإسلام هي المقصودة بخطاب الله، وهي التي تحمل الأمانة الإلهية، وتلتزم بعهد عالم الذرّ.
ونفس الإنسان هي التي تحدّد هويته وذاته، فخلايا جسمه تتغيَّر خلال سنوات معدودة بشكلٍ طبيعي. وإنْ كان كلامٌ في معاد الأجساد فلا شَكَّ ولا جدال في معاد الروح وثوابها وعقابها. فما يجعل من الإنسان إنساناً، وما يمتاز به الإنسان عن الحيوانات الأخرى، هو النفس الإنسانية، التي هي نفحةٌ من الروح الإلهية. وهبة الله هذه للإنسان جعلت الملائكة تسجد؛ بأمر الله، للإنسان. ومما لا شَكَّ فيه أن كرامة الإنسان هي لروحه الإلهية، وليست لجسمه المخلوق من الأديم. فهذه النفس هي التي تستحق الاحترام، ومن دونها لا يكون الجسم إلاً هيكلاً وجسداً نتناً. وهذه النفس الواحدة هي التي خُلق منها الإنسان، ذكراً وأنثى. وتتوجَّه الواجبات إلى هذه النفس الإنسانية، كما تعود الحقوق إليها. ولا يطرأ على هذه النفس التذكير والتأنيث. فالأساس في الواجبات والحقوق الإنسانية هو المساواة. ويستوجب الحقّ أو الواجب الذي لا يأتي على قاعدة المساواة إقامة دليلٍ قاطع. وهذا ما يتطلَّبه روح القرآن والمعايير الإسلامية.
4ـ إعادة تقييم براهين اختلاف حقوق المرأة والرجل وفق مبدأ عدالة المساواة
إن في بعض الأحكام الشرعية المستنبطة على أساس عدالة الاستحقاق وهناً للإسلام. فهي غير عادلةٍ، ومنافيةٌ للأخلاق، ومستبعدةٌ، ومرفوضةٌ من قبل العقلانية المعاصرة على الأقلّ. وبعبارةٍ أخرى: تُعَدّ ظالمةً، وبخساً للحقوق، من زاوية عدالة المساواة.
ولدينا مراجعةٌ خاصة لقاعدة «العلّية». فـ «العلّة» هي الأسباب التي تؤدّي إلى أمرٍ ما، و«المعلول» هو النتيجة الحاصلة من تلك العلة. وبناءً على قاعدة العلية إنْ نُفيت «علة» حكم (شرعي) سينتفي «معلولها» أيضاً. فعلى سبيل المثال: «العدّة» واجبةٌ على المرأة، وسبب وجوبها هو إتاحة المجال لمعرفة صاحب النطفة في رحم المرأة. فإنْ كانت المرأة عاقراً نفيت العلّة، وهي «الإنجاب»، وينتفي بتبعها «المعلول»، وهو وجوب العدّة، فلا تكون المرأة ملزمة بالعدّة في هذه الحالة. ويتمّ الالتزام بهذه القاعدة في الأحكام السياسية، والحجاب، والنكاح، والقضاء، وغيرها.
وقد تقدَّم الإسلام خطوةً واسعة في مجال حقوق المرأة في عهد الوحي، وسما بمقام المرأة في العالم بما يتناسب ووضعها في تلك الحقبة.
ويمكننا تقسيم هذه الخطوة إلى قسمين: الأوّل: المساواة الكاملة في الحقوق بين المرأة والرجل؛ والثاني: الارتقاء بمستوى حقوق المرأة، لكن دون المساواة. فهل هذه الأحكام التي تستند على عدم المساواة أحكامٌ نهائية في الإسلام؟ وبعبارةٍ أخرى: هل هذه الأحكام من الأحكام الدائمة الثابتة، أو أنها مرحلية ومؤقتة وقابلة للتغيير؟ فإن اعتبرناها أحكاماً شرعية ثابتة دائمة لا بُدَّ لنا من عدّها متناسبةً مع استحقاق المرأة الذاتي، وننتهي بذلك إلى عدالة الاستحقاق.
لكنْ إنْ توصلنا إلى الاعتقاد بأن العالم آنذاك لم يتفهَّم عدالة المساواة لقرونٍ، كما لم يتقبَّلْ نفي العبودية إطلاقاً، ولذلك اتخذ الشارع خطواتٍ تدريجية نحو الحالة المنشودة؛ فبيَّن أوّلاً نهج المساواة ووجهته في الحقوق بشكلٍ عام، وتقدَّم في بعض المجالات التي كانت تفتقر إلى التقبُّل العام بخطىً تدريجية، حتّى يتم للرأي العامّ تقبل الخطوة كاملةً. فعدالة الاستحقاق كانت الخطوة التدريجية، وعدالة المساواة هي الخطوة الكاملة([24]).
وقد اتَّخذ أصحاب الرأي التقليديون جميع تشريعات صدر الإسلام أو معظمها أحكاماً ثابتة دائمة. فإنْ كانت كذلك لا بُدَّ لها من ضمان العدل والأخلاق اليوم أيضاً، كما أن عليها التفوُّق على الحلول الأخرى، ولا يمجّها عقل الإنسان المعاصر.
لكنّها ليست كذلك. وهذه قرينةٌ قاطعة على أن هذه التشريعات ليست أحكاماً ثابتة. فأفضلية الرجل على المرأة، وقيمومة الرجل على المرأة، والعقاب الجسدي للمرأة الناشزة، وجواز تزويج الصغيرة من قبل وليِّها، وإبرام الطلاق من قبل الرجل وحده، واعتبار شهادة امرأتين كشهادة رجلٍ واحد، وكون دية المرأة نصف دية الرجل، وحقّ المرأة في الميراث نصف حقّ الرجل، ووجوب النفقة والمَهْر على الرجل، كلّها أحكامٌ موضع جَدَل.
فهل فضل الرجل على المرأة دائمٌ باقٍ، ودليلٌ على استحقاقٍ أدنى للمرأة؟
وللجواب نتمعَّن في النقاط الثلاث التالية:
1ـ قد فضَّل الله في القرآن بني إسرائيل على العالمين: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ (البقرة: 47 ، 122). وقد صرحت الآية 16 من سورة الجاثية، والآية 140 من سورة الأعراف، بفضل بني إسرائيل على العالمين. وممّا لا شَكَّ فيه أن بني إسرائيل ليسوا أفضل من أتباع عيسى×، ولا أمة محمد|، أي إن المقصود بالعالمين مَنْ عاشوا قبل هذين النبيّين. وهذه الآيات تتحدَّث عن أمور راهنة، لا أمور حقيقية، أي إنها تشير إلى فضيلةٍ في زمانٍ ومكان محدَّدين، ولا تتحدَّث عن فضيلةٍ ذاتية وسجية وخصال في بني إسرائيل.
وبنفس هذا المنطق بالتحديد من الممكن إرجاع موضوع فضل الرجل على المرأة إلى حقبةٍ معينة، وإلى قضيةٍ راهنة، أي من الممكن ردّها إلى زمان ومكان منصرمين، كان فيهما معظم النساء محروماتٍ من التربية والتعليم؛ بسبب النظرة الدونية لهنّ، ولا يصدق ذلك على زمانٍ تُعَدّ المرأة فيه إنساناً يتمتَّع بحقوق متساوية، على الرغم من اختلافها الجنسي.
2ـ لقد تحدَّث القرآن الكريم عن فضيلة السيدة مريم على نساء العالمين ـ ﴿وَإِذْ قَالَتْ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾ (آل عمران: 42) ـ، فهل يريد بذلك فضلها على نساء العالمين في زمانها كقضيةٍ راهنة، أو يقصد بذلك جميع النساء منذ بدء الخلق حتّى نهاية العالم، كموضوعٍ حقيقي؟([25]).
إن ظاهر الآيتين يدلّ على الفضل الدائم والأبدي، لكنْ مع قرينةٍ قاطعة خارجية تمّ تحديد فضل السيدة مريم وبني إسرائيل في زمنٍ خاص.
وفي نفس السياق تحدّد قرينة قاطعة خارجية ما يدلّ عليه ظاهر الآيات من فضل الرجل على المرأة في زمنٍ معين، وهو زمن كان ذوو العقل فيه يجدون الرجل مستحقّاً لحقوق أكثر؛ لتفوّقه في قواه العقلية والجسدية، ولم تكن المرأة فيه قادرةً على الاستمرار في الحياة دون دعم الرجل ورعايته الجَسَدية والمالية. ومن الطبيعي أن تقرّ المرأة في ظرفٍ كهذا بفضل الرجل في الحقوق، ويعدّ ذوو العقل هذا التفضيل عدلاً وإنصافاً. لكنْ في ظروفٍ يرفض فيها ذوو العقل الاختلافات البيولوجية والجسدية والسايكولوجية بين المرأة والرجل كدليلٍ على أفضلية الرجل في الحقوق، ولا يعدّ فيها المنصفون هذا التبعيض عدلاً، بل يجدونه بَخْساً؛ إذ لكلٍّ من المرأة والرجل مشاركةٌ فاعلة في الوضع الاقتصادي والمعيشي للمجتمع والعائلة، لا يبقى أدنى شكٍّ أن هذه الآيات، كالآيات التي تتحدَّث عن العبودية والرقّ، تبين أحكاماً مؤقّتة ومتغيرة.
3ـ قد تحدَّث القرآن الكريم عن عدم المساواة في الإمكانيات المادّية الموهوبة للبشر، وتفضيل بعض الناس على بعضهم، كحقيقةٍ في الحياة الاجتماعية، فنقرأ: ﴿وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ﴾ (النحل: 71). كذلك: ﴿انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً﴾ (الاسراء: 21).
ومما لا شَكَّ فيه أن التمييزات الاجتماعية والمادّية قد نسبت في هذه الآيات إلى الله. كما أن اختلاف الناس في القابليات والقدرات أمرٌ لا يمكن إنكاره. والسؤال الأساسي هو: هل هذه الاختلافات الاجتماعية والمادية الواضحة، والتي تنشأ من سجايا الناس المختلفة، تؤدّي إلى عدم تساوي حقوق الناس المختلفين؟ ويأتي جواب القرآن والإسلام بنفيٍ قاطع. فإنْ كان الأمر كذلك لِمَ نرى اختلاف الجنس دليلاً على التبعيض في الحقوق الشرعية؟! وذلك في زمنٍ تشارك فيه المرأة الرجل في توفير المعاش، وقد أثبتت مؤهّلاتها الإنسانية في الميادين العلمية. كما أثبتت المرأة في العقود الأخيرة عدم وجود أيّ اختلافٍ في جدارتها العلمية والعقلية عن الرجل إنْ توفَّرت لها الفرص والإمكانيات التي تتوفَّر له، فلا مبرِّر لأيّ تمييز حقوقي من وجهة نظر العقلانية المعاصرة.
بيان رؤية القرآن الكريم للمرأة
1ـ موضوع الرضاعة
في كتاب الله المجيد ذكرت الرضاعة حين الحديث عن المحارم والنساء اللائي يحرم الزواج بهنّ، وقال تعالى: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ﴾ (النساء: 23)، ولم يضِفْ شيئاً. إن الموضوع كما يعبِّر عنه الفقهاء هو تأخير البيان عن موضع الحديث والضرورة. فمثلاً: لو قال: إن أحكام الرضاعة كأحكام النَّسَب لتقبَّل المسلمون ـ ونحن منهم ـ ذلك.
أما حديث «الرضاع لحمةٌ كلحمة النسب» فليس بالمعنى الذي قيل، بل يعني أن الطفل إذا رضع من امرأةٍ تكون العلاقة بينهما كنسبه إلى أمّه. وبذلك يكون هناك أمٌّ واحدة بالرضاعة، وأختٌ واحدة، تصبحان من محارم الصبيّ الذي يرضع، وينتهي إليهما الأمر. وقد وردت في الرضاعة أخبارٌ مختلفة، لكنّ معظمها خبر آحاد، والاختلاف بينهما يُنْشئ عقداً عسيرة لم يتمّ التوصُّل إلى حلِّها.
فأوّلاً: هذه الأخبار لا تولد العلم القطعي؛ لكونها أخبار آحاد، والتكليف ينشأ من العلم، لا من الجهل أو الاحتمال.
وثانياً: كلّ خبر، حكماً كان أو في موضوعاتٍ أخرى، يحتاج دليلاً من القرآن؛ ليتمّ الاستناد إليه، ولم يَرِدْ أيّ دليلٍ في القرآن عن أيٍّ من أخبار الرضاعة. وفي المقابل وردت أخبارٌ متواترة عن النبيّ| والأئمّة^ يؤكِّدون فيها على وجوب عرض ما يَرِدُ عنهم من أخبارٍ على كتاب الله([26]).
وثالثاً: إن آية الرضاعة تحصي المحارم. فبعد أن تعدّها جميعاً لم تذكر إلاّ الأم والأخت ممَّنْ يحرم نكاحهنّ؛ بسبب الإرضاع، ولم تعتبر أحداً غيرهما محرماً للصبيّ الذي رضع مع هذه البنت من أمّها، أو العكس.
ورابعاً: يحصي القرآن المحارم مهما بعدت الوشائج. وإنْ كان الإرضاع سبباً في حرمة أحدٍ آخر غير الذي ذُكر، وكان الناس بحاجةٍ إلى معرفته، لذكره هنا أو في موضعٍ آخر من القرآن الكريم. وبما أنه لم يبيِّن ذلك في وقت الضرورة تمَّ تأخير البيان عن موضع الحديث والضرورة، وإهمال ما كان من الضروري بيانه بوضوحٍ وصراحة، ومن المحال نسبة ذلك إلى الله ورسوله. فإرجاء البيان عن المقام ومحلّ الضرورة يمتنع حصوله من أيّ عاقلٍ حكيم، فما بالنا ونحن نتحدَّث عن الله ورسوله، وقد أكَّد تعالى في كتابه الحكيم: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً﴾ (الإسراء: 12).
وخامساً: توسيع دائرة المحارم بسبب الإرضاع الذي قام به الفقهاء يؤدّي إلى الارتباك والحيرة في كثيرٍ من الأمور الأخرى، وينتهي إلى تكليف الناس بما لا يطيقونه. وينافي ذلك الآيات التالية: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ﴾ (البقرة: 185)، و﴿مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ﴾ (المائدة: 6)، و﴿كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (الأعراف: 2)، والرواية الواردة عن النبيّ| حيث قال: «بُعثت بالحنيفية السهلة السمحة».
وسادساً: لو أراد الشرع المنير هذه الدائرة الواسعة من المحارم بسبب الرضاعة لصرَّح النبيّ| (بدليلٍ من القرآن) أن أحكام الرضاع كأحكام النسب. لكنْ لم يذكر في حديثه غير ما ورد في القرآن، وهما: الأمّ والأخت. وهذه حجّةٌ قاطعة وبرهانٌ بيِّن على أن حرمة النكاح بسبب الرضاعة تنحصر في الأمّ والأخت. فعلى الفقهاء الاحتياط في إصدار الفتوى وتبيين أحكام الله، وأن يدقِّقوا النظر في جميع زوايا الأمر وجوانبه؛ كي لا يقعوا مصاديق للآية الكريمة القائلة: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ﴾، أي يشاركون الله في وضع الدين والتشريعات الإلهية. كما أن آياتٍ عديدةً رأَتْ في نسبة أمرٍ إلى القرآن أو الله دون برهانٍ افتراءً على الله، ومَنْ يفعل ذلك فهو أكثر البشر ظلماً: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ﴾ (المائدة: 45).
وسابعاً: إن الحديث القائل: «لحمةٌ كلحمة النسب»، مضافاً إلى أنه خبر آحاد، يتّفق كلّ الفقهاء بأنه ليس في شأن الحرمة والوجوب. في حين أن كون الذين رضعوا من صدرٍ واحد محارم، ويحرم النكاح بينهم، من المحرَّمات التي لم يُفْتِ أيٌّ من الفقهاء باتّساع دائرتهم على أساس خبر آحاد، وكما يقولون هم: «كأنهم نسوا في الفروع ما بنوا عليه في الأصول». فإنْ قلنا: إن هذا الخبر ليس ملفَّقاً فيجب أن نبيّن كيف كانت الأمة تتعامل في أيام النبيّ|، وحتّى أيام الإمام الصادق×، في هذا الشأن. وإنْ اعتبرنا الحديث صحيحاً يعني ذلك أن للرضاعة أثراً كأثر النسب، وذلك ينافي ما ورد في كتاب الله.
وإنْ قال بعض الفقهاء التقليديين بأن القرآن اختصر في بيان الحرمة الناتجة عن الرضاعة، وأرجأ تفصيلها إلى الروايات، سنردّ: أوّلاً: إن النموذج الأدنى يدلّ على الشخص الأعلى بطريق الأولوية. ثانياً: إنْ كان الأمر هو الاختصار لِمَ لم يتمّ اختصار القول المبسوط المشتمل على عشر كلمات، ويعدّ جميع المحارم السبعة بفعل النسب المذكورة في الآية، بقولٍ يتألّف من ثلاث كلمات: (وهُنَّ من الرَّضاعة)، ليدلّ على المحارم السبعة بالنسب جميعاً؟!
لكنْ، مع الأسف، نجد أن هؤلاء الفقهاء وسَّعوا من دائرة المحارم، من اثنين إلى اثني عشر، ومن ثم جعل فقهاء السنّة المحارم أربعة عشر، وألحقوا بها العلاقات السببية، حَسْب ما اصطلح عليه الفقهاء: «المصاهرة»، وأضافوها إلى العلاقات النسبية. فإنْ أردنا افتراضاً أن نعمل بإطلاق الحديث، خلافاً للقرآن، فالعلاقات التي يحرم النكاح فيها بفعل الرضاعة هي فقط تلك العلاقات التي يمكنها أن تحلّ محلّ علاقات النسب السبعة، أي ـ كما أفتى الآخرون ـ، مضافاً إلى الأمّ والأخت بالرضاعة، بنت تلك الأمّ من زوجها الآخر، العمّة، والخالة، وبنت الأخ، وبنت الأخت أيضاً يكنّ من عداد المحارم بالرضاعة. وقد أضاف هؤلاء المفتون زوجة الابن بالرضاعة وأمثاله من الذين تربطهم روابط السبب أيضاً، في حين أن الحرمة بالرضاعة تخصّ النكاح، وهل يمكن نكاح الذكرين أو الأنثيين؟! إذن لا معنى لحرمة الابن بالرضاعة على الرجل، والبنت بالرضاعة على المرأة!!
يقول الدكتور الصادقي في ذلك: غالب فقهاء الشيعة والسنّة وسَّعوا دائرة المحارم بالرضاعة من شخصين (الأمّ والأخت بالرضاعة) إلى اثني عشر، ثم أربعة عشر شخصاً، من النساء والرجال، متجاهلين حكم القرآن. لكنْ إذا تمعَّنا في القرآن الكريم نجد أن الله سبحانه، بعد أن عدّ المحارم السبعة بالنسب، ذكر شخصين فقط كمحارم بسبب الرضاعة، وألحق الأمّ والأخت بالرضاعة بالأمّ والأخت بالنسب في حكم حرمة النكاح. إذن نصُّ الآية الكريمة: ﴿وَأُمَّهَاتُكُمْ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ﴾ هو برهانٌ على الحكم الصريح بحرمة نكاح الشخصين الخاصين المذكورين بالرضاعة، دون الآخرين. ولا يصحّ إطلاقاً الاستناد إلى الحديث القائل: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»؛ لأن إطلاق الحديث لا يجعل نصّ الآية المقيَّد مطلقاً، ولا يؤثِّر فيه. مضافاً إلى أن لدينا حديثاً عن المعصومين يوافق نصّ الآية. إذن المحارم بالرضاعة هم: 1ـ المرضعة التي أرضعت صبيّاً. 2ـ أختك من الرضاعة التي رضعت معك من نفس المرضعة. 3ـ البنت التي رضعت من أمّك، أرضعتك أمك أو لا([27]).
2ـ العلاقات الاجتماعية بين المرأة والرجل
من القضايا التي تشغل الناس والمتشرِّعين دوماً موضوع «كيفية العلاقة الاجتماعية بالأجنبيّ أو الأجنبية». ويبدي المتشرِّعون حساسيةً بالغة إزاء هذا الموضوع.
أـ موضوع النظر
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾ (النور: 30).
1ـ في اللغة العربية العين هي عضو النظر، والبصر هو النظر. والأبصار جمع البصر، والبصر هو عمل العين.
2ـ «الغضّ» و«الغمض» كلمتان مختلفتان، وفي نفس الوقت متقاربتان. «الغمض» هو غلق العينين وطبق الجفنين، في حين أن «الغضّ» هو تقليص فتحة الجفنين وحدّة النظر، أو النظر بهدوءٍ وتمعُّن. وبالطبع حدّة النظر غير البصبصة والتفرُّج.
3ـ ليس في الآية ما يدلّ على حرمة مطلق النظر. وبعبارةٍ مبسَّطة: لا تقول الآية لا تنظر أبداً، وإنْ نظرْتَ أثمْتَ؛ فقد قال الله تعالى في الآية: لا تدقِّق النظر، ولم يقُلْ: «أغمض»، أي لا تنظر أبداً. فالآية تقول: انظر، ولا تدقِّق النظر وتتفرَّج.
4ـ ويقول تعالى: ﴿أَبْصَارِهِمْ﴾، ولم يقُلْ: «أعينهم»، أي انظروا نظرةً قصيرة فاترة، ولا تنظروا للنساء نظرة تمعُّن حادّة. وبذلك لا يجب على النساء والرجال عند مصادفة بعضهم أن يغمضوا أعينهم، أو يشيحوا بوجوههم، وعدم النظر إلى بعضهم، أو عدم الحديث مع بعضهم، بل عليهم التزام العفّة والطهر في النظر بوقارٍ، وعدم التدقيق والتمعُّن في النظر. وبعبارةٍ مبسّطة: أن تكون نظرتهم اعتياديةً، وأن يتجنَّبوا البصبصة والتفرُّج والتدقيق في النظر. فلا ينبغي أن يغمض النساء والرجال أعينهم في الطريق، أو أن يخفضوا رؤوسهم حتّى لا يرَوْا طريقهم، بحيث يجد العُرْف ذلك مضحكاً ومدعاةً للسخرية. كما ينبغي أن يتجنَّبوا النظرات المسمومة بالأهواء.
وبعبارةٍ أخرى: «البصر» اصطلاحاً يدلّ على عضو العين، لكنّ «العين» أيضاً تدلّ على هذا العضو، كما تدلّ على الرؤية الباطنية (الإدراك). وبهذا المعنى كلمة «البصر» تدلّ على ذات الرؤية، و«العين» تدلّ على إدراك الرؤية. والمثال على ذلك: الجملة المعروفة «أنت نور العين»، ولا يقال: «أنت نور البصر». ففي الجملة الأولى تدلّ على إدراك المحبة، ومعناها (أني أحبك)، لكن معنى الجملة الثانية هو أنك تنير عيني (كالمصباح)، والمراد هنا النور المادّي، في حين أن المراد في الجملة الأولى هو الحبّ والتعلّق. إذن «البصر» يدلّ على العين كعضوٍ، و«العين» تدلّ على الرؤية الباطنة، وهو الإدراك.
5ـ قد أغفلت كلمة «من» في هذه الآية (غفلوا عنها). وقد وردت «من» في موضعين من هذه الآية: 1ـ ﴿مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾، 2ـ ﴿مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾. وتدلّ «من» هنا على التبعيض، وتسمّى «من» التبعيضية. وبهذا المعنى تقول الآية: غضّوا بعضاً من بصركم، وهو النظر بريبةٍ وعن شهوةٍ. ولذلك حين الحديث عن حفظ الفرج (العَوْرة) قيل: ﴿وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾، ولم يؤْتَ بكلمة «من».
6ـ كلمة «الغضّ» تعني التقليل: ﴿وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ﴾، أي اخفض من صوتك، ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ﴾، أي تحدَّثوا عند الرسول ولكنْ لا ترفعوا أصواتكم. ولذلك «يغضّون من أبصارهم» تعني يقلِّلون التدقيق، ويُفْتِرون من نظرهم.
وفي الآية الكريمة يقول الله تعالى: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾، ففعل ﴿يَغُضُّوا﴾ مجزومٌ، فالجملة الشرطية المقدَّرة هي: «قُلْ للمؤمنين: غُضُّوا من أبصاركم، فإنك إنْ تقُلْ لهم يغضّوا». و﴿يَغْضُضْنَ﴾ أيضاً مجزومةٌ في الآية الكريمة، فهي قد عطفت على ﴿يَغُضُّوا﴾، وفعل الأمر فيها مقدَّرٌ.
7ـ متعلّق فعلَيْ ﴿يَغُضُّوا﴾ و﴿يَغْضُضْنَ﴾ محذوفٌ، وما من أثرٍ له في الآية الكريمة. ولذلك لا تدلّ هذه الآية على الأمر الذي يجب غضّ البصر عنه. وربما يكون حذف المتعلَّق لوضوحه، أي غضّوا البصر عن كلِّ محرَّمٍ. لكنْ لا تبيِّن الآية الأمور التي يحرم النظر إليها، وبعبارةٍ مبسّطة: لا تبيِّن الآية الجسم الذي علينا غضّ البصر عنه.
8ـ اجتماع كلمات (الْمُؤْمِنِينَ)، (يَغُضُّوا)، (أَبْصَارِهِمْ)، وكذلك (الْمُؤْمِنَاتِ)، (يَغْضُضْنَ)، (أَبْصَارِهِنَّ)، يبيِّن أن غضّ البصر واجبٌ على الجميع، كما في ﴿وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾، أي على كلّ شخصٍ أخذ سلاحه، و﴿فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ﴾، أي على كلّ شخصٍ غسل وجهه.
ويمكننا الخروج بثلاث نتائج من ذلك:
1ـ الجميع مخاطبٌ بالآية الكريمة، مسؤولاً كان أو من العامة.
2ـ لا تبيِّن الآية عقاب مَنْ لم يلتزم بهذا التكليف.
3ـ موضوع الآية من الأمور الخاصّة، ولا علاقة للآخرين به، أي إنّ على الرجل غضّ بصره، سواء كانت المرأة مستورةً أو عارية، ولا تحمل المرأة وزر الرجل إذا نظر إليها. وكذلك هو حال المرأة إنْ نظرت إلى الرجل. وبالطبع هذا الستر في دائرة ما يجب ستره في الحجاب، وليس في الستر عامّة.
9ـ ذكر (الْمُؤْمِنِينَ) و(الْمُؤْمِنَاتِ) بدل «الذين آمنوا» دليلٌ على أن هذا التكليف هو لمَنْ يعتبرهم العامة مؤمنين. إذن لا تخاطب الآية غير المسلمين، ولا مَنْ ليس لهم إيمانٌ راسخ.
10ـ تكرار كلمة ﴿قُلْ﴾، والفصل بين الآيتين، وذكر كلمات (الْمُؤْمِنِينَ) و(الْمُؤْمِنَاتِ) بصيغتي التذكير والتأنيث، كذلك كلمات ﴿يَغُضُّوا﴾ و﴿يَغْضُضْنَ﴾، وغيرها، دليلٌ على أن لكلٍّ من المرأة والرجل أحكامهما الخاصة، ولا يمكن استنتاج التكليف الذي يقع على عاتق أحدهما من تكليف الآخر.
11ـ ذكر «من» التبعيضية في ﴿يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ و﴿يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾، وعدم ذكرها في ﴿يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾، وغيرها، ربما يكون دليلاً على أن ليس في الفرج ما يُباح، لكنْ في النظر هناك حدودٌ مباحة.
12ـ أحياناً يخدع الإنسان نفسه، ويختلق حججاً وتبريرات يبيح بها لنفسه المحرَّم، أو حتّى يوجبه لنفسه. كما قد يفتري على نفسه بأنه آثمٌ. ولذلك يقول الله في القرآن: ﴿إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ﴾، وبذلك يحذِّر الجميع بأنه يرى أفعالهم وسجاياهم كما هي، وهو عليمٌ بها.
13ـ إنْ بحثنا موضوع النظر في القرآن الكريم علينا القول بأن الآية 52 من سورة الأحزاب تذكر ضمنيّاً النظر إلى المرأة، لكنْ لا إشارة سلبية في ذلك، بل يفهم منها أن هذا النظر مباحٌ. بل إن فيه التفاتةً إلى جمال المرأة، وهو ما يضاعف من حساسية الموضوع: ﴿لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً﴾. ويرى الجصاص أن مضمون الآية يدلّ على جواز النظر إلى المرأة الأجنبية([28]). لكنْ لا يتفق هذا التفسير مع ما ترمي إليه الآية.
ما نستنتجه من الآية أن ما يُدَّعى وجوده من دليلٍ في هذه الآية على أن «نظر المرأة إلى الرجل ونظر الرجل إلى المرأة حرام» لا وجود له إطلاقاً. بل على عكس ذلك، تدلّ الآية على أن بعض النظر محرَّمٌ، ولم تمنع النظر التلقائي. ويدلّ منطق الآية على أن ما منع هو النظر بشهوةٍ.
وبالطبع ليس مخاطب ﴿قُلْ﴾، وهو فعل أمر، جميع الناس، بل الخطاب هنا موجَّهٌ إلى شخص النبيّ|. فالمخاطب محذوفٌ، وهو: أيها النبيّ، قُلْ للمؤمنات.
و﴿قُلْ﴾ هذه لا تدلّ على وجوب الحجاب، بل تبيِّن أن على النبيّ إخبار الناس بهذا الحكم، وليس هناك من قرينةٍ تتّصل بهذا الفعل تثبت وجوب الحجاب أيضاً.
وبعبارةٍ أخرى:
1ـ ﴿قُلْ﴾ في هذه الآية فعلُ أمرٍ. لكنّ هذا الأمر من باب النصح والإرشاد، وليس من باب أوامر الوليّ. والنصح والإرشاد يدلّ على استحباب الحكم، واعتباره أمر الوليّ يحتاج قرينةً خارجية، وهي لم تتوفَّر في هذه الآية. إذن فعل الأمر هذا من باب النصح والإرشاد.
2ـ ﴿قُلْ﴾ أمرٌ لحامل الوحي، وليس للمكلَّفين، أي بما أنّ النبي حاملٌ للوحي يجب عليه إبلاغ الناس حكم الله (مستحبّاً كان أو واجباً). وما من دليلٍ على أن هذا الأمر موجَّهٌ للمكلَّفين. وبعبارةٍ أخرى: فعل الأمر هذا مخاطَبه النبيّ في تبليغ أمر إرشادي، ولم يخاطب المكلَّفين، ويجب على النبيّ إبلاغه للناس. فهل خطاب النبيّ| للناس من باب النصح والإرشاد أو من باب أمر الوليّ؟
خطاب النبيّ للناس أيضاً من باب الإرشاد والنصح؛ إذ يحمل أمر الله للنبيّ صبغة الإرشاد والنصح، ولو كان يحمل طابع الإرشاد للنبيّ والإلزام للمكلَّفين لوجب وجود قرينةٍ لفظية أو معنوية. ثم إن النبيّ ليس مشرِّعاً، وليس له تشريع الأحكام، إذن للخطاب الموجَّه للنبيّ طابع النصح والإرشاد.
3ـ في زمن نزول الآية، كما سيأتي توضيحه، كثيرٌ من الناس إمّا كانوا عراةً؛ بسبب الفقر، أو لم يتمكنوا من ستر مواضع كثيرة من أجسادهم. وقد بُني الإسلام على السماحة والعدل، ولذلك يكون أمر الوليّ بتكليفٍ (واجب) فوق وسع المكلَّف وطاقته قبيحاً من قبل الشارع، ولم يأْتِ اللهُ بالقبيح. فالناس آنذاك كانوا يأكلون حتّى السحالي؛ بسبب الفقر، ولم يملكوا الثياب، أو كانت ثيابهم باليةً، حتّى قام بعضُهم بالطواف عارياً. وكان ذلك حال الحضر، فما بالك بحال البدو؟!
والزينة التي تتحدَّث عنها الآية هي الحليّ التي تزيِّن الجسد، وليس الجسد ذاته؛ والدليل على ذلك:
1ـ ليس هناك ما يبرِّر اعتبار جميع جسد المرأة زينةً، فالستر واجب تحقيقاً للعفّة، وليس لأن الجسد زينةٌ. كما أن الستر (وليس الحجاب) واجبٌ على الرجل أيضاً، ولم يقُلْ أحدٌ أن جسد الرجل زينة.
2ـ موضوع الآية هو الحجاب، وليس الستر.
3ـ قد تمّ الفصل بين موضوع الآية حول الحجاب: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ وموضوع عدم إظهار الزينة: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾، وفي ذلك قرينةٌ محكمة على أن جسد المرأة ليس بزينةٍ، بل الزينة هي الحليّ التي تعلّق بالجسد. وقد فصلت هاتين الجملتين «بالواو»، التي تسمّى «واو» التقطيع، كما تمّ الفصل بين الحكمين بالواو.
ب ـ هل الحديث والمزاح مع النساء، وإثارة ضحكهنّ، حرام؟
يقول القرآن الكريم: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ * فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ * وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ﴾ (هود: 69)
1ـ مجرد الحديث والمزاح ليس محرَّماً. المحرَّم هو المزاح غير اللائق، والخارج عن العُرْف.
2ـ يؤكّد الإسلام على اتباع السماحة في التعامل الاجتماعي مع المرأة. ولو قدَّم الإسلام في هذا الإطار صورة غير طبيعية وغير سليمة للحالة المطلوب تحقّقها فسيواجه نصف سكان الأرض إشكاليات عصيبة. كما أن في القرآن الكريم عديداً من الأمثلة على التسامح في التعامل مع المرأة، ومنها: طريقة تعامل النبيّ إبراهيم وسارة مع رُسُل الله.
3ـ بناءً على ما ورد في الآية الكريمة كان رسل الله يشبهون الإنس تماماً، حتّى جاءهم النبيّ إبراهيم بالطعام. ويظهر من طريقة تقديم الطعام أن سارة لم تقُمْ بإعداد الطعام بمفردها، بل كانا يتردّدان على المطبخ في حضور الضيوف، وكان النبيّ إبراهيم يساعد زوجته في طبخ الطعام وإعداده.
4ـ لم يقتصر حديث رُسُل الله على النبيّ إبراهيم، بل كانوا يتحدَّثون مع زوجته، وبشَّروها بمولودٍ في شيخوختها. كما كانت تتحدَّث زوجة النبيّ إبراهيم إليهم، ولم تكن تخفي نفسها عنهم، بل كانت واقفةً عندهم، وضحكت من حديثهم. ولذلك هناك بَوْنٌ شاسع بين سلوك المؤمنين، الذين يخفون زوجاتهم عن ضيوفهم، وسلوك أعظم أنبياء الله، وينافي نَهْجَهم ما ذكره الله تعالى في القرآن الكريم عن سيرة أوليائه في حياتهم، وقد وقع أولئك في الإفراط.
5ـ إنْ قيل: إن زوجة النبيّ إبراهيم كانت عجوزاً علينا القول: إنها وإنْ كانت في عمر الشيخوخة، لكنّها كانت تتمتّع بنشاطٍ وحيوية، ما جعل الآية تذكرها بلفظ ﴿امْرَأَتُهُ﴾، ولم تقُلْ: إنها «عجوز»، كما كانت لا تزال قادرةً على الحَمْل والإنجاب، ولم تكن طاعنةً في السنّ. وقد حدَّث ضيوف النبيّ إبراهيم×، الذي توجّس منهم خيفةً، زوجتَه بسهولةٍ وبساطة، على طبع البشر، وضحكت من حديثهم.
6ـ يُسمّى البشر بشراً لأنه يتكلَّم ويناقش ويباشر الآخرين ويحادثهم. ولذلك إنْ عمل رجل أو امرأة في دائرةٍ أو غرفة، وأثار دهشة أحدهما أمرٌ ما وضحك، فليس هناك ما يُؤاخَذ عليه؛ فقد كان الأمر كذلك في بيت نبيّ الله إبراهيم×، فقد جلست امرأته مع الضيوف، وتحدّثت معهم، وتحدّث الضيوف مع النبيّ إبراهيم وزوجته، ولم يكن هناك من حائطٍ أو ستار يفصل بينهم، وكان التعامل فيما بينهم بتلقائية وإنسانية، وكان النبي إبراهيم يعامل زوجته بسماحةٍ.
7ـ تبيِّن هذه الآية أن الرجل والمرأة يتشاركان الحديث، ولا يحدّ الجنس من ذلك. بالطبع ينبغي تجنُّب الغنج والحديث المعسول، كما يقول القرآن الكريم: ﴿فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ﴾ (الأحزاب: 32)، ولا حدود أخرى غير ذلك في الحديث. كما أنه ليس هناك ما يمنع المزاح [مع الالتزام بالأخلاق]. فالمنع والحظر المتعسّف والإفراط فيه ينتهي إلى الفساد والدمار، بدل تحقيق الأمن والصون؛ إذ من ناحيةٍ ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ (يوسف: 53)؛ ومن ناحيةٍ أخرى «الإنسان حريصٌ على ما مُنع». فالتستُّر والتكتُّم يزيد من رغبة الآخر على الاطلاع.
النتيجة: نستنتج ممّا ورد أنه لا إشكال في المزاح مع المرأة، وضحكها مع الأجانب (إنْ كان تلقائياً)، والحديث معها في أيّ موضوعٍ (ما كان في إطار المشروع)، وكلُّ ذلك جائزٌ. وينبغي الحرص على تحقُّق الشروط الخمسة عشر في ما يخصّ النساء.
ج ـ هل للمرأة والرجل الأجنبيان أن يتصافحا حين اللقاء؛ لكونهما أقارب أو أصدقاء؟ وهل ذلك يخالف الشرع؟
الرأي المشهور هو عدم جواز المصافحة
الحكم المشهور بين عوامّ الناس والمسلمين هو عدم جواز مصافحة المرأة والرجل إطلاقاً، أي إن الفكرة التي يحملها المجتمع الإسلامي في هذا الخصوص هي أن ملامسة يدي المرأة والرجل الأجنبيين خلاف الشرع ومنكر، حتّى عدّوها إثماً عظيماً.
وبالطبع لهذه الفكرة جذورٌ في الروايات. وفي الحقيقة إن رأي الفقهاء، وبتبعهم المسلمين، ينشأ من عديدٍ من الروايات التي نسبت إلى النبيّ الأكرم| في هذا الخصوص. ومع أن جميع هذه الروايات سعَتْ إلى إثبات عدم ملامسة يد النبيّ أيدي النساء، لكنّها تختلف في محتواها، حتّى أننا نجد تعارضاً فاحشاً وتناقضاً فيما بينها. وهذا التعارض والتناقض، أو بعبارةٍ أخرى: الاضطراب وعدم الانسجام بين هذه الروايات، يؤدّي إلى التشكيك في صحّتها وحجيتها. والحقيقة هي أن واضعي الأحاديث المتشرِّعين في القرن الأول بذلوا جهداً واسعاً لإثبات أن النبيّ| لم يصافح النساء، لا في البيعة، ولا في مواضع أخرى. وقد أثمرت جهودهم، حتّى تجذَّر الاعتقاد بعدم مصافحة النبيّ للنساء في المجتمع الإسلامي، واتّسعت دائرة الاعتقاد به إلى جميع المسلمين، وأدّى إلى ظهور الحساسية الشديدة حيال هذا الموضوع، وصولاً إلى عدّ المصافحة بين المرأة والرجل عين الفسق والدعارة، أو ترويجاً لهما.
لكنْ يجب العلم بأن هذه الروايات تنقض بعضها.
ملاحظة: لم يَرِدْ في القرآن الكريم أيّ نهيٍ أو إباحة في شأن المصافحة.
بعض هذه الروايات ينفي حدوث أيّ مصافحة بين النبيّ والنساء، ويعتقد رواتها بأن بيعة النساء مع النبيّ تمَّتْ بالقول، ولم يصافحهنّ النبيّ حين البيعة:
1ـ تقول عائشة: «كان النبيّﷺ يبايع النساء بالكلام بهذه الآية: ﴿لاَ يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً﴾، قالت: وما مسَّتْ يد رسول اللهﷺ امرأةً إلاّ امرأةً يملكها»([29]).
2ـ «عن عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبيّ| قالت: كانت المؤمنات إذا هاجَرْنَ إلى رسول الله| يُمْتَحَنَّ بقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ﴾ إلى آخر الآية، قالت عائشة: فمَنْ أقرّ بهذا من المؤمنات فقد أقرَّتْ بالمحنة، وكان رسول الله إذا أقرَرْنَ بذلك من قولهنّ قال لهنّ رسول الله: انطلقْنَ فقد بايعتُكُنّ. ولا واللهِ ما مسَّتْ يد رسول الله يد امرأةٍ قطّ غير أنه يبايعهنّ بالكلام. قالت عائشة: واللهِ، ما أخذ رسول الله على النساء قطّ إلاّ بما أمره الله تعالى، وما مسَّتْ كفّ رسول الله كفَّ امرأة قطّ، وكان يقول لهنَّ إذا أخذ عليهنَّ: قد بايعتُكُنَّ كلاماً»([30]).
فهم يعتقدون بأن النبيّ| قد قال: «لا أمسّ أيدي النساء»([31]). وقد نقل أن النبيّ| كان يمتنع عن مصافحة النساء، وإنْ طلبْنَ ذلك.
3ـ «عن أميمة بنت رقيقة قالت: أتيتُ رسول الله| في نسوةٍ نبايعه، فقلنا: نبايعك يا رسول الله على أن لانشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا نأتي ببهتانٍ نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروفٍ، فقال رسول الله: في ما استطعتن وأطقتن، قالت: فقلنا: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا. هَلُمَّ نبايعك يا رسول الله، فقال رسول الله: إنّي لا أصافح النساء، إنما قولي لمائة امرأةٍ كقولي لامرأة واحدة»([32]).
4ـ «…قال: أخبرتني أميمة بنت رقيقة: أتيتُ رسول الله| في نسوةٍ نبايعه، فاشترط علينا ما في القرآن، أن لا تسرقن ولا تزنين ولا تقتلن أولادكنّ ولا تأتين ببهتانٍ، ثم قال: في ما استطعتن وأطقتن. فقلتُ: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا، فقلنا: ألا تصافحنا يا رسول الله؟ قال: إني لا أصافح النساء، إنما قولي لامرأةٍ كقولي لمائة امرأة»([33]).
5ـ ويُقال: إن النبيّ| رفض مصافحة امرأةٍ مدَّتْ يدها إليه؛ للبيعة: «حدَّثني شهر بن حوشب أنه لقي أسماء بنت يزيد، قال: فحدَّثتني أنها بايعت رسول الله يوم بايع النساء، فمالت فمدَّتْ يدها لتبايعه، فقبض يده، وقال: إنّي لا أصافح النساء، ولكنْ إنما آخذ عليهنّ في القول»([34]).
6ـ «سمعتُ شهر بن حوشب قال: قالت أسماء: جئت رسول الله لنبايعه في نسوةٍ، فعرض علينا رسول الله، فأخرجت ابنة عمّ لي يدها لتصافح رسول الله، وعليها سوار من ذهب وخواتيم من ذهب، فقبض رسول الله يده، وقال: إني لا أصافح النساء»([35]).
على الرغم مما ورد في هذه الروايات من أن النبي| امتنع عن مصافحة النساء إطلاقاً، وحتّى أمر البيعة الخطير أيضاً تمّ مع النساء بالقول فقط، لكنْ هناك رواياتٌ تدلّ على أن البيعة لم تتمّ بالقول فقط، بل كان النبيّ| يطلب إناء ماءٍ، ثم يغمس يده فيه، ومن ثم تغمس النساء أيديهنّ في الماء، ليكون ذلك بديلاً عن المصافحة:
1ـ «فقالت (أمّ حكيم): يا رسول الله كيف نبايعك؟ قال: إنني لا أصافح النساء. فدعا بقدحٍ من ماءٍ، فأدخل يده ثم أخرجها، فقال: أدخلْنَ أيديكُنَّ في هذا الماء، فهي البيعة»([36]).
2ـ «وروى ابن مردوديه، في تفسيره، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه قال: كان رسول الله| إذا صافح النساء دعا بقدحٍ من ماءٍ، فغمس يده فيه، ثم غمسْنَ أيديهنّ فيه، وكانت هذه بيعتهنّ»([37]).
3ـ وقد ذكر البعض في طريقة البيعة بأن النبي أمر بإحضار إناء ماءٍ، وكان يغمس يده فيه، ثم تغمس النساء أيديهنّ فيه من الجهة الأخرى([38]).
ويفتقر تلفيق هذه الطريقة الغريبة إلى النضج، حتّى ادّعى البعض أن النبيّ| كان يمرّ بعددٍ من النساء، فأردْنَ بيعته ومصافحته، لكنّه طلب في هذه الحالة أيضاً إناء ماءٍ؛ لإتمام البيعة والمصافحة غير المباشرة، فغمس يده فيه، وأمر النسوة أن يغمسن أيديهنّ فيه، فكانت بيعتهنّ على هذا النحو([39]).
هذا في حين يأتي عددٌ من الأحاديث المشهورة على ذكر مصافحة النبيّ| النساء من وراء الثوب أو القماش، فكان يضع قطعة قماش أو جزءاً من ثوبه على يده ويصافحهنّ. وفي الحقيقة كان القماش يحول بين يده وأيديهنّ. ولا تزال رواسب من هذه الطريقة في المصافحة باقيةً لدى البعض.
1ـ «عن سعيدة وأيمنة، أختي محمد بن أبي عمير، قالتا: دخلنا على أبي عبد الله، فقلنا: تعود المرأة أخاها في الله، فتصافحه؟ قال: نعم، من وراء ثوبٍ. كان رسول الله يلبس الصوف يوم بايع النساء، فكانت يده في كمّه وهنّ يمسَحْنَ أيديهنّ عليه»([40]).
2ـ «عن عامر الشعبي قال: بايع النبيّ النساء وعلى يده ثوبٌ… عن الشعبيّ، أن النبيّ حين بايع النساء وضع على يده برداً قطرياً فبايعهنّ. قال: والأكثر على أنه قال: إني لا أصافح النساء»([41]).
3ـ ذكر الطبرسي الطرق الثلاث المذكورة لبيعة النساء مع النبيّ| (أي بالقول، وبغمس الأيدي في إناء ماءٍ، ومن وراء ثوب): «وروى الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: كان النبيّ| يبايع النساء بالكلام بهذه الآية: ﴿أَنْ لاَ يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً﴾، وما مسَّتْ يد رسول الله| يد امرأةٍ قطّ، إلاّ يد امرأةٍ يملكها. رواه البخاري في الصحيح. ورُوي أنه| كان إذا بايع النساء دعا بقدح ماءٍ، فغمس فيه يده، ثم غمسْنَ أيديهنّ فيه. وقيل: إنه كان يبايعهنّ من وراء الثوب، عن الشعبي»([42]).
4ـ وقد ورد تفريع على الأمر، وتمّ الادّعاء بأن النبي| صافح العجائز، لكنّه لم يُجِزْ مصافحة الشابات: «رُوي أن النبيّ كان يصافح العجائز في البيعة، ولا يصافح الشواب…» ([43]).
يعصف الشكّ والريبة بحقيقة المصافحة…. ويطرح السؤال نفسه: بأيّ طريقة تمّت بيعة النبيّ؟ 1ـ بالقول؟ 2ـ بإناء ماءٍ؟ 3ـ بالمصافحة من وراء قماش كحائلٍ؟ وإنْ اطَّلعنا على الرأي المهمل وغير المشهور علينا إضافة احتمال رابع. فهل هذا التعارض واختلاف الاحتمالات ينتهي إلى العلم؟([44]).
وقد نشأت هذه الاحتمالات الأربعة من روايات تعود إلى القرن الأول. وهذه الروايات ظنّية، وحجّية الظنّ معيبةٌ ومقدوح بها، ولا قيمة للظنون.
الرأي غير المشهور هو جواز المصافحة
لا شَكَّ في أن نهج النبيّ كان يتّجه نحو «السموّ بمكانة المرأة»، ومما لا شَكَّ فيه أيضاً أن امتناع بعض الرجال عن مصافحة النساء قبل الإسلام كان بوازعٍ من نظرتهم الدونية إليهنّ، ولم يكن وقايةً من تبعاتها إطلاقاً. كما لا يمكن إنكار وجود ممانعة تجاه السموّ بمكانة المرأة واحترامها من قبل الرجال الذين ينظرون إليها بازدراء. وربما يكون «الركون إلى أخلاق الجاهلية الفظّة» منشأ اختلاق روايات «النهي عن مصافحة الرجل والمرأة».
وبالطبع يدّعي السرخسي، وكذلك الآخرون، أن السبب وراء تحريم مصافحة المرأة والرجل هو اتقاء الفتنة (فتنة الجنس، وهياج الشهوة). ويعتقد أنه في حال ضمان السلامة من هذا الخطر فلا مانع في المصافحة: «…ولأن الحرمة لخوف الفتنة. فإذا كانت ممَّنْ لا تشتهى فخوف الفتنة معدومٌ. وكذلك إنْ كان هو شيخاً يأمن على نفسه عليها فلا بأس بأن يصافحها. وإنْ كان لا يأمن عليها أن تشتهي لم يحلّ له أن يصافحها، فيعرّضها للفتنة، كما لا يحلّ له ذلك إذا خاف على نفسه»([45]).
وإذا أخذنا بعين الاعتبار هذا الأمر فأيّ خوفٍ وأيّ فتنةٍ في زحمة البيعة؟ وذلك بالنسبة لنبيٍّ جاء بدينٍ جديد، وهو معصومٌ من قبل الله إطلاقاً، فحتّى فكرة الإثم والمعصية لا تراوده، ولا النساء اللائي ينظرن إليه كرسولٍ من الله، ويتلهَّفْنَ للقائه. لكنْ إنْ انتفى موضوع الفتنة والشهوة من أمر بيعة النساء للنبيّ، وافترضنا أن عدم المصافحة في تلك الروايات ينشأ من النظرة الدونية للمرأة وازدرائها (ومن المشهور أنهم كانوا يدفنون البنات (نساء المستقبل) آنذاك)، فعلينا القول: هل يمكن تصديق أن النبي الذي كان داعياً إلى احترام المرأة أن يزدريها، ويمتنع عن مصافحتها، ويردّ الأيدي التي مُدَّتْ إليه، ويتلاعب بمشاعر الشوق واللهفة من قبل النساء الملتفّات حوله «عجائز وشابات» حتّى يبايعنه على أنه رسول الله؟! ألا ينكر هذا السلوك على مَنْ وصف في القرآن «ليناً» و«أسوة» و«على خُلُق عظيم»؟! وألا يستبعد حصوله منه؟ فأيّ منكر كانت تنطوي عليه بيعة النساء، حتّى يضطر النبيّ للقول صراحةً: «إني لا أصافح النساء»، أو يتَّبع سلوكاً عجيباً، بَدَل المصافحة، تجاه نساءٍ ملأ الشوق واللهفة قلوبهنّ؟! تلك النساء اللائي كان أقرب الناس إليهنّ يمضون إلى غزوات النبيّ ليفدوا أنفسهم في سبيل تحقيق أهداف النبيّ الإلهية. وكُنَّ في المعارك يتعاهَدْنَ أمر رعاية المجاهدين، ولم يتركْنَ النبيّ وقت المحنة أبداً.
ونستعرض هنا أخباراً عن المصافحة:
1ـ قالت امرأةٌ اسمها سوداء: «ثم أتيتُ النبيّ|؛ لأبايعه، فقال: انطلقي فاختضبي، ثمّ تعالي حتّى أبايعك»([46]).
2ـ سوداء بنت عاصم قالت: «أتيتُ رسول الله| أبايعه، فقال: اختضبي، فاختضبت، ثمّ (جئت) فبايعته»([47]).
هاتان الروايتان في الحقيقة رواية واحدة بسندين ونصّين مختلفين، ويدلاّن على أن النبي| لم يصافح تلك المرأة فحَسْب، بل يبدو أنه التفت إلى ما تقتضيه الأنوثة، أي ضرورة الزينة المعتادة، وعدم تشبُّهها بالرجال.
وقد ذكر ابن حجر الروايتين بسندَيْهما([48])، كما نقلهما الهيثمي([49]).
وقد ذكر الشيخ الطوسي في ذلك ما يلي:
3ـ «أومأت امرأةٌ من وراء سترٍ بيدها إلى رسول الله|، فقبض يده، وقال: ما أدري أيد رجلٍ أو يد امرأة؟ قالت: بل امرأة، قال: لو كنتِ امرأةً لغيَّرتِ أظفارك بالحنّاء»([50]).
4ـ أرادت هند بنت عتبة أن تبايع النبي فقال: «لا أبايعك حتّى تغيِّري كفَّيْك، كأنهما كفّا سبع»([51]).
5ـ عن ابن عبّاس: «إن امرأة أتَتْ رسول الله| تبايعه، ولم تكن مختضبةً، فلم يبايعها حتّى اختضبت»([52]).
6ـ ورد في تفسير «كتاب العزيز»: «ثمّ مَدَّ يده من خارج البيت، ومددنا أيدينا من داخل البيت، فقال: اللهُمَّ اشهد، فبايعناه»([53]).
النتيجة: 1ـ لم تَرِدْ في القرآن الكريم أيّ آية في حرمة مصافحة الرجل والمرأة ولو بشكلٍ غير مباشر. وقد يكون ذلك أوّل برهان على جوازها.
2ـ يبدو أن لا وجود لحديثٍ مستقلّ يدلّ على حرمة مصافحة المرأة والرجل. وما ذكر كان حول بيعة النساء مع النبيّ|.
3ـ في الأحاديث حول بيعة النساء للنبيّ| كثيرٌ من التعارض، وذكر فيها حصول أفعال غريبة.
4ـ هناك أحاديث تدلّ على أن النبيّ| قام بمصافحة النساء، ومبايعتهنّ مباشرةً.
الدليل على جواز المصافحة
إنْ اعتبرنا الخوف من الوقوع في فتنة الشهوة علّةً في عدم جواز مصافحة المرأة والرجل، وبذلك يصبح عدم الجواز معلولاً لعلّة الخوف، فعلينا القول: إنْ سقطت العلّة جازت المصافحة، بناءً على القاعدة التي طبّقت على حجاب المرأة، ولا تشوبها حرمة أو كراهية من الناحية الشرعية. وبالطبع لا يعني ذلك أن الأئمة المعصومين^ كانوا يصافحون النساء دائماً، لكنْ يمكن القول: إنهم لم ينهَوْا عنها، كما أنهم كانوا يعتقدون بجواز الزواج المنقطع، لكنّهم لم يمارسوه. وإنْ اعتبرنا عمل المعصوم حجّةً فأيُّ عملٍ ذلك الذي يكون حجّةً؟ هل نسبة أعمال متعارضة للنبيّ| حجّةٌ (والقيام بأعمال كهذه بعيدٌ عنه كلّ البعد)؟ وهل هناك قولٌ صريح وقاطع بسندٍ صحيح عن الأئمة^ يعارض مصافحة المرأة والرجل؟ إن عدم وجود حججٍ كهذه يتيح إقامة أصل البراءة([54])، وبذلك يكون الأساس عدم تحقُّق الحكم (عدم الحرمة) على المصافحة. على الرغم من اعتقادي بأن مجرد المصافحة بين المرأة والرجل لا تؤدّي إلى أيّ مفسدةٍ (إطلاقاً).
النتيجة النهائية: ليس هناك ما يمنع مصافحة المرأة والرجل مع زوال علّة عدم الجواز (إثارة شهوة الطرفين، أو خوف الفتنة).
3ـ الزواج القَسْري
أحد أكثر مشاكل المرأة تعقيداً اليوم هو موضوع طريقة زواجها. الزواج الذي سيغيِّر مسار حياتها، ويحدِّد مستقبلها. ويبيّن استطلاع طرائق الزواج في الثقافات الإيرانية المختلفة أن المتدينين «المتشدّدين» يرغمون بناتهم على الزواج، وليس للبنت رفض هذا القسر؛ فإما أن ترضى بالزواج؛ أو تقصى من العائلة، وتعرف بالعاصية الجامحة. ويؤدّي ذلك إلى خيبة البنت في حياتها، فلا تحظى بحياةٍ زوجية حميمة مع زوجها. وبدل أن تهنأ البنت تعيسة الحظّ بالحبّ والغرام ترى زوجها مجرماً، وأباها وعائلتها ظالمين.
ولا يمكن إنكار زيادة هذا النوع من الزواج في المجتمعات المتديّنة بشكلٍ ملحوظ. فنظرةٌ خاطفة على ثقافة إيران قديماً، وأفغانستان وعراق اليوم، وحتّى المدن الكردية الإيرانية قديماً، كما اليوم، وكذلك بعض مدن جنوب إيران، كفيلةٌ بأن ندرك وجود هذه الظاهرة المشؤومة. فغالب الزيجات في هذه العوائل تكون إما في إطار الأقارب؛ أو قسراً. وتواجه المرأة غضباً عارماً من أقاربها إنْ لم ترضخ لهذا القَسْر. ثم إن القسوة في التعامل مع المرأة لدى القبائل في جنوب إيران وكردستان العراق على أشدّها، فكما جاء في أحد التقارير: «رجلٌ في دزفول أساء الظنّ بزوجته الثانية، فقطع رأسها ورأس ابنه البالغ من العمر 7 سنوات، متّهماً إياها بالخيانة، وأن الصبي ليس ابنه».
ونجد هذه القسوة حتّى في عدم الرضوخ للزواج القَسْري، فمثلاً:
1ـ في خريف عام 2002م وجدت عائلة في خوزستان بطاقة معايدة دون توقيع في حقيبة ابنتها، فقتلت البنت بيد عمّها، وعَفَتْ العائلة عن القاتل.
2ـ تمّ رجم سعيدة، البالغة من العمر 14 عاماً، من بلوشستان، وقتلها على يد أبيها وأخيها وأصدقاء أخيها؛ بسبب شكّ أبيها بأن لديها علاقة (مع صبيّ).
3ـ قطع أبو دلبر خسروي، البالغة من العمر 17 عاماً، رأسَها في قرية قرب مريوان؛ لأنها كانت تنوي الطلاق من زوجها، التي أُجبرت على الزواج به.
4ـ رفضت ليلى في لرستان الزواج قَسْراً بابن عمّها، وهربت مع الرجل الذي كانت تحبّه. وبعد أن وجدها إخوتها وابن عمّها ربطوها بشجرةٍ وأحرقوها.
وفي مدينة سقز قتلت «شنو فرهادي» بيد أخيها؛ لرفضها الزواج قَسْراً.
5ـ كانت «فرشته نجاتي» أصغر من زوجها بـ 18 عاماً، وقد عادت إلى بيت أبيها مصمّمةً على الطلاق، لكنْ قطع أبوها رأسها، متّهماً إيّاها باطلاً بعلاقةٍ مع رجل آخر.
6ـ خديجة شابّة من مدينة عبادان، كانت تنوي الطلاق من زوجها المدمن على المخدّرات، فاتصل زوجها بأعمامها، وأطلعهم على نيتها. وبناء على التقارير، أخذها أعمامها عنوةً، وأركبوها السيارة، وخرجوا بها من المدينة، ثم قام أحدهم بتقييد يدَيْها، وشرع الآخر بذبحها بسكين، لكنّها نَجَتْ بأعجوبة([55]).
7ـ في فراشبند، في محافظة فارس، رفضت سوسن، البالغة من العمر 17 عاماً، الزواج بابن عمّها، ولذلك قام أبوها وابن عمها بخنقها بعباءتها([56]).
8ـ أعلنت نغين شيخ الإسلام، من الناشطات في محافظة كردستان، أنه في أواسط عام 2008م تمَّتْ 15 عملية قتل في جرائم شرف في كردستان.
اطّلعنا في هذه التقارير على جزءٍ يسير من جرائم الشرف التي يكون السبب فيها الزواج القَسْري، والقسوة التي تواجهها الفتيات والشابات اللائي يُرِدْنَ الطلاق من أزواجهنّ الذين يسيئون معاملتهن أو كانوا مدمنين، أو رفضن الزواج القَسْري. ولا يمكن نسبة هذا النهج إلى فقهاء الشيعة أو فتاواهم (بشكلٍ عام)، وإنْ لم أَنْفِ ذلك، لكنْ من المجحف أن ننسب جميع هذه الجرائم إلى فتاوى الفقهاء. لكنْ أذكر هنا بعض الفتاوى التي تنشأ عنها مثل هذه الجرائم:
يقول المقنّن في المادة 220 من قانون الجزاء الإسلامي: «لا يقاصّ الأب والجدّ للأب على قتل الابن، بل يكتفى بالحكم عليه بدفع دية القتل وتعزيره». فعلى سبيل المثال: قبضت الشرطة على والد زهراء، البالغة من العمر 7 سنوات، والذي قطع رأسها؛ بدافع الشكّ، وحين وضعوا القيود في يديه قال معترضاً: «لماذا تقيِّدونني، أنا وليُّ ابنتي».
ولنطّلع على النقد الفقهي لهذه القضية:
أـ ليس في القرآن ما يمكن أن تبنى عليه هذه الزيجات، ولا تدلّ أيّ آية من القرآن الكريم على جواز مثل هذه الأحكام. ولم يتمّ العثور إطلاقاً على أيّ آية تجيز هذه الزيجات، بعد البحث في الكتب الفقهية واستقصاء الموضوع. لذلك تفتقر هذه الأحكام إلى دليلٍ من القرآن، وهو الذي يقول: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ﴾.
ب ـ كلّ حديث من الأحاديث المتواترة والمعتبرة يجب أن يعرض على القرآن، ويجد له مؤيداً من القرآن الكريم (إلاّ في حال السنّة القطعية). فيرفض الحديث الذي لا يجد مؤيداً من السنة القطعية أو القرآن الكريم. وأثبتت البحوث أن الفتاوى التي تخصّ «زواج البنت والصبيّ الصغيرين»، و«وجوب إذن الأب لزواج البنت»، و«جواز قتل الأب ابنته»، كلّها ابتنت على أخبار آحاد، بل على خبر آحادٍ مفرد في بعض الأحيان. لكنّ خبر الآحاد من أقسام الظنّ في علم الحديث، وكما قلنا في كتاب «سير أنديشه»، الظنّ مرفوضٌ، ولا يمكن أن يصبح أساساً للحكم، كما تقول الآية الكريمة: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾.
النتيجة من «أ» و «ب»: ينبغي أن تنبذ هذه الروايات التي ليس لها ما يؤيِّدها من القرآن، ولم يتطرَّق القرآن قطّ إلى موضوعها. وبناءً على القرآن هي ظنٌّ باطل، والأخبار التي وردت لتدعم هذه الفتاوى كلّها خبر آحاد، وذلك مرفوضٌ بحكم القرآن أيضاً. فبناءً على القرآن الكريم والسنّة القطعية لا شرعية لهذه الفتاوى، والعمل بها بدعةٌ. ولذلك: 1ـ «زواج البنت والصبي الصغيرين» ليس مشروعاً، ولا تحلّ البنت للصبيّ. 2ـ «قسر البنت على الزواج» عملٌ باطل، ولا تحلّ للعريس، والمقاربة في هذه الزيجات محرّمة. 3ـ «قتل الأب ابنته» ليس مشروعاً، والأب الذي يقتل ابنته يجب أن يقاصّ، كما في باقي جرائم القتل.
ج. يتمّ النكاح بين شخصين (امرأة ورجل عاقلين وبالغين). فالبنت دون البلوغ لا يمكن أن تكون طرفاً في النكاح «عقلاً وشرعاً»، وبعد البلوغ ليس لها إلاّ المضيّ في ما قرَّره لها الآخرون، وذلك ظلمٌ. فإنْ اتُّبع نهجٌ كهذا قديماً، وتمّ قبوله، فما سبب جعله من أحكام الإسلام الأبدية؟ ينبغي الالتفات إلى أن الاستناد إلى أخبار الآحاد في القضايا المهمة مرفوضٌ، ولا يجوز إطلاقاً، ونفس المرأة ومالها وكرامتها وشرفها وحقوقها الشرعية من الأمور المهمّة. إذن لا يصحّ إطلاقاً العقد في الموارد التالية: 1ـ البنت دون البلوغ والرجل البالغ؛ 2ـ الصبيّ دون البلوغ والبنت البالغة؛ 3ـ الصبيّ والبنت دون البلوغ، والمضيّ فيه حرامٌ. فالمفاسد المترتِّبة على نكاح البنت دون البلوغ من الظهور والسوء بما لا يَدَع مجالاً للشكّ في عدم جوازه. ويلزم تقبُّلَ هذا الرأي فهمُ الأسس الأصولية والأنثروبولوجية وراءه. وقد جاء هذا الرأي على أساس الاجتهاد في الأسس (الأنثروبولوجية) والأصول (القرآن والسنّة القطعية)، وبالطبع يختلف عن الاجتهاد المصطلح.
د ـ الزواج من الحقوق القطعية والخاصّة للأشخاص، وليس لأحدٍ التدخّل في حقوق الآخرين، أو وضع اليد عليها والتحكّم بها. الزواج وحقّ اختيار الزوج من هذه الحقوق الشرعية الخاصة القطعية للأشخاص، بنتاً أم صبياً. وحتّى النبي| منع من التحكّم بحقوق الناس: ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾. فلا يمكن نفي هذا الحق الشرعي والعقلي والخاص عن أحدٍ. فحرمة التحكُّم بحقوق الأشخاص الشرعية والخاصة من أحكام الإسلام الثابتة والقطعية، ولا يمكن التحكُّم بها باسم الولاية، ثم تبرير هذا التلاعب بأن للطفل أن يفسخ العقد بعد بلوغه. فالمفاسد التي يؤدّي إليها هذا النهج أظهر من الشمس.
وكما اطّلعتم في التقارير، حتّى الفتيات البالغات يحرمن حقّهن في الاختيار، فما بالك بالطفلة التي تُعَدّ زوجةً لطفلٍ منذ صغرهما، ثم تقرِّر فسخ هذا القرار والاختيار الذي طال أمده، وبات معروفاً! وعلى أيّ حالٍ لا يجوز التحكُّم في الزواج الذي هو من الحقوق الشرعية والخاصة للأشخاص، لا عقلاً، ولا شرعاً.
هـ ـ نتطرّق إلى عدة نقاط في ما يخصّ جواز قتل الأب ابنته:
1ـ ليس في القرآن ما يؤيِّد هذا الحكم، وكما قلنا في القسم «أ» الحكم الذي لا يجد مؤيِّداً من القرآن لا شرعية له.
2ـ تمّ تأييد هذا الحكم بأخبار آحادٍ مفردة، وكما قلنا في القسم «ب» لا شرعية إطلاقاً لأخبار الآحاد، ولا يمكن الالتزام بها.
3ـ النفس هي ملك الأفراد الخاص، ولا يمكن للآخرين التحكّم بها، إلاّ حين حدوث جريمة عقوبتها القصاص. وهذه النفس من الأمور المهمة، ولا يمكن الحكم في الأمور المهمة بأحاديث مزوّرة، وباطلة، وشنيعة، منشؤها الخرافات والكذب.
يقول الشيخ الغروي الإصفهاني حول ذلك: «…لا تجيز أيّ آيةٍ في القرآن الكريم ذلك للأب. فإنْ كان للأب حقٌّ؛ بسبب الشرف، في قتل ابنته لِمَ لا يَرِدُ نفس الحكم عن الابن الذي من الممكن أن يهتك حرمة عائلةٍ؟ فليس لهذا القانون أيّ مؤيّد من القرآن، بل نشأ عن حكمٍ فقهي استند إلى خبر [آحاد موضوع]، ثمّ دخل إلى قوانيننا الجزائية».
النتيجة النهائية
1ـ لا يجوز زواج البنت والصبيّ دون البلوغ بإذن أبيهما أو جدّها لأبيهما، والمضيّ فيه حرامٌ.
2ـ إن زواج البنت أو الصبيّ بشخصٍ لم يختاروه حرامٌ وباطل، وليس للأب ولاية على ابنته الراشدة إطلاقاً في أمر الزواج، وليس له التدخُّل في هذا الأمر (إلاّ إنْ كان هناك مشاكل أخلاقية أو جنسية أو غيرها في الرجل أو الفتاة المراد الزواج بهما).
3ـ لا شرعية إطلاقاً لحكم جواز قتل الأب ابنته (والذي أفتى به فقهاء الإسلام)، والمضيّ فيه حرامٌ، وينبغي قصاص الأب (القاتل)، كسائر المجرمين في جرائم القتل.
4ـ ضرب المرأة
من أهمّ آيات القرآن الكريم، وأكثرها إثارة للجلبة والجدل، والتي تمّ التركيز عليها كثيراً في شؤون المجتمع، ومن الآيات التي تتطرّق إلى قضايا المرأة والعائلة، هي الآية 34 من سورة النساء. وقد تصوَّر بعض المفسِّرين أن موضوعها جواز ضرب المرأة([57]). وقد علّق عددٌ من الفقهاء جواز ضرب المرأة على إذن حاكم الشرع، على الرغم من أنهم اعتقدوا بجواز ذلك، بناء على هذه الآية([58]). لكنْ ذهب بعض المفسرين إلى بيان طريقة هذا الضرب؛ إذ يقولون: «نعم ينبغي اتّقاء المواضع المخوفة، كالوجه والخاصرة ومراق البطن ونحوه، وأن لا يوالي الضرب على موضعٍ واحد، بل يفرّق على المواضع الصلبة…»([59]). وكذلك صاحب تفسير آلاء الرحمن يرى بأنه ينبغي أن لا يكون الضرب مبرحاً، أي لا يسبِّب الأذى والضرر. ويعتقد أنه حسب الظاهر اتفق المسلمون على هذا الشرط([60]). كما اعتبر صاحب التفسير المنير الضرب غير المبرح هو الضرب دون التسبُّب بالأذى والضرر البالغين. فإنْ بالغ الرجل في ضرب المرأة وتعدّى حدَّه، وتسبَّب في هلاكها، يكون مسؤولاً. كما يستحسن أن لا يضرب موضعاً واحداً، ويمتنع عن ضرب الوجه، فذلك موضع الجمال»([61]).
يمكننا إدراك عدّة نقاط (مقبولة) في تفسير العلاّمة الصادقي الطهراني&:
قد قام بتوسيع مفهوم ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ ليشمل «قائمات على الرجال»، بناءً على ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾، أي إن العلاّمة لم يحصر معنى القوّام بالرجل، وبناءً على الآية الكريمة: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ يجد المرأة قائمةً على الرجل أيضاً.
وقد فسّر ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾ على أنها من باب الحفظ والصون، ولم يجدها تعني أن للرجل ولاية ووصاية على المرأة. إن تغيّر العلة يسقط المعلول، ولذلك يقول العلاّمة: «في المقابل النساء أيضاً قائمات على الرجال، أي لديهنّ إنجاز يقدِّمنه للرجال، لكنّ إنجازهنّ أدنى. وعلى الرغم من أن بعض النساء يتفوَّقْنَ على أزواجهنّ في قدراتهنّ على إنجاز واجباتهنّ، ويصبحْنَ هنّ قائمات عليهم، إلاّ أنه نادرٌ، والقاعدة العامة هي أن الرجل قوّامٌ على المرأة في بُعْدَي التكوين والتشريع».
وفي مقام الدفاع عن حقوق المرأة، مقابل رأي التقليديين القائل: «على المرأة استئذان زوجها للخروج من البيت»، يقول العلاّمة: «كون الرجل قوّاماً على المرأة لا يعني أن المرأة أَمَة مملوكة لديه، حيث تتوقَّف جميع شؤونها على إذنه، ولا يمكنها فعل شيءٍ إلاّ بعد موافقته، حتّى في ما يتعلَّق بكسب العلم، والنذر، والقسم، والعهد، والخروج من البيت؛ للقيام بواجبٍ أو مستحبّ أو مباح ـ في ما لا ينتهي إلى انحراف جنسيّ، ولا تؤثر على حقوق الرجل وواجباتها تجاهه ـ، ويحرّم عليها الخوض في كلّ ذلك إنْ لم تحصل على إذن زوجها. فلا علاقة لإذن الرجل في قيام وعدم قيام المرأة بالواجبات والمستحبات والامتناع عن المحرّمات والأعمال المباحة المتعارف القيام بها».
وقد تمّ توسيع مفهوم المراد من الآية: ﴿تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ من العصيان في النواميس الخمسة ليشمل أيّ عصيان ومخالفة. كما أن الآية: ﴿تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ تتحدَّث عن العصيان الماثل قطعاً والمتحقِّق، لا الشكّ في حدوث العصيان. فيقول العلاّمة: «المقصود بـ ﴿تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ ليس الخوف من حدوث العصيان في المستقبل، فلو كان المراد ذلك لم يَبْقَ محلٌّ ولا معنى لـ ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ﴾، فليس النشوز هو الخوف من العصيان، لتحلّ الطاعة محلّه. إذن المراد بالنشوز الذي يتمّ الحذر منه هو العصيان المتحقِّق قطعاً والحادث فعلاً».
وبعد أن اطّلعنا على تفسير الدكتور محمد الصادقي الطهراني&، نريد في ما يلي توجيه النقد في عدّة نقاطٍ إلى تفسيره([62]). وسنثبت لاحقاً أن المراد من ﴿وَاضْرِبُوهُنَّ﴾ ليس ما قدَّمه العلاّمة في تفسيره، بل الآية تسعى لبيان نهجٍ جديد لدحر هذه العادة الجاهلية. فقد شاع هذا الخلق، حتّى كان الرجال في صدر الإسلام يقومون بتعليق السيف والسوط على الجدران حين تجهيز البيت أو الحجلة للعرس، ليعلموا الزوجة وأهلها وعشيرتها أنهم يدافعون عن البيت وأهله ممَّنْ يهدِّد أمنه من الخارج بالسيف، ويستخدمون السوط لمَنْ يريد زعزعة أمنه من الداخل([63]). إن هذه الطريقة القاسية في العقاب والتأديب جعلت البيئة كريهةً للمرأة، وجعلت المرأة أَمَةً تحت سلطة زوجها.
وقد ورد في الجزء الأول من الآية: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً﴾.
ولفهم البحث بشكلٍ صحيح تنبغي ملاحظة عدّة كلمات:
1ـ ﴿قَوَّامُونَ﴾ 2ـ ﴿فَالصَّالِحَاتُ﴾ 3ـ ﴿قَانِتَاتٌ﴾ 4ـ ﴿حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ﴾ 5ـ ﴿نُشُوزَهُنَّ﴾ 6ـ ﴿اضْرِبُوهُنَّ﴾.
1ـ ﴿قَوَّامُونَ﴾: «قوّام» صيغة مبالغة من اسم الفاعل «قائم»، وجمعها «قوّامون». وقد ورد لـ «القوّام»، الذي يأتي بحرف جرّ أحياناً، ومن دونه أحياناً أخرى، عدّة معانٍ، مثل: حسن القامة([64])، وتولّي الأمور ورعايتها([65]). ويشير الصادقي الطهراني& إلى هذا المعنى للفظ «قوّامون» صراحةً، ويقول: «في هذه الآية ورد ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾، وقوّام صيغة مبالغة، أي إن الرجال يقومون بإنجازٍ أكبر… ولا يدلّ ذلك على ولاية الرجل المطلقة على المرأة، والقيمومة عليها، خلافاً لما يُقال، بل صفة القوام هذه تعني رعاية الرجال للنساء. فكما مرّ سابقاً، للرجال قدرات وقابليات أكثر من النساء في الرعاية في جميع الجوانب، العقلية والمالية والجسدية.
النتيجة: لا يُراد بلفظ «قوّامون» القيمومة، فإنْ أراد القرآن الكريم معنى «ولاية الرجل على المرأة» للزم ذلك استخدامه مشتقات كلمة «الولاية». كما ينبغي التنبيه إلى أن ألفاظ: قيِّم وقيّام وقوّام تحمل نفس المعنى، وتستخدم للمبالغة. لكنّ المبالغة أشدّ في لفظ (قوّام) من اللفظين الآخرين، وتعني كثير القيام([66])، وخاصّة في الآية التي يدور البحث حولها، وورود هذا اللفظ في جملةٍ اسمية كصيغة مبالغة يدلّ على الدوام والاستمرار. وبناءً على ما جاء في آيات القرآن الكريم إن للنبيّ الأكرم| ولايةً إلهية عامّة فقط، وقد بيّن الله تعالى في عدّة مواضع من القرآن أن النبي| وليّه، وقال: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾، لكنْ في نفس الوقت قال: ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾، فليس للنبيّ سلطةٌ على المسلمين. وإنْ جمَعْنا الآيتين: ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ و﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ معاً يمكننا الخروج بالنتيجة التالية: إنْ لم تكن للنبيّ| سلطة على المسلمين، وهو صاحب الولاية الإلهية العامة عليهم، فمن باب أَوْلى أن لا يكون لأيّ أحدٍ سلطةٌ على آخر.
2ـ ﴿فَالصَّالِحَاتُ﴾: بهذا اللفظ يبين الصفات التي حقيق بالنساء التحلّي بها في البيت. وبذلك يكون معنى هذا اللفظ: «إن النساء الصالحات هن اللائي…».
3ـ ﴿قَانِتَاتٌ﴾: يعني القنوت الخشوع والطاعة. وقد فسَّره البعض الخشوع والطاعة تجاه الله تعالى([67])، ورآه آخرون مطلق الخضوع والطاعة، تجاه الله وسواه([68]). ومن المفسِّرين مَنْ فسَّر القنوت بالطاعة([69])؛ وقد قال بعضهم صراحةً: إن القنوت هو طاعة الزوج([70])؛ وقال آخرون: إنه طاعة الله والزوج([71]). ورأى عددٌ بأن طاعة الله تشمل حقّ الزوجين([72]). فأيّ الآراء تتبع المرأة؟
قد ورد لفظ ﴿قَانِتَاتٌ﴾ في الآية الكريمة مجرّداً، دون قيدٍ يبيّن لنا لمَنْ يكون القنوت. ولفهم معنى لفظ مجرّد في آيةٍ علينا الرجوع إلى الآيات الأخرى. فقد ورد لفظ «قانتات» ومشتقّاتها في 12 موضعاً غير هذه الآية، وفي كلّها ورد القنوت لله تعالى([73]).
الدليل الأوّل: يدلّ لفظ «قانتات» في الآيات المذكورة على نقاء الروح، وذلك تجاه الله تعالى.
الدليل الثاني: الجزء الأول يتناول الشأن الاقتصادي للعائلة: ﴿الرِّجَالُ…﴾ وهو ما كلّف به الرجل. والجزء الثاني يتناول شأن المرأة المعنويّ وعبادتها، وهو موجّه إلى المرأة: ﴿فَالصَّالِحَاتُ…﴾، ما يدعم الجانب المعنوي للعائلة؛ إذ إن المرأة هي التي توفّر السكينة الداخلية في الحياة الزوجية، ليتاح للرجل أداء مهامّه الاقتصادية براحة بالٍ.
4ـ ﴿حَافِظَاتٌ﴾: كلّ الآيات التي تتحدَّث عن صَوْن المرأة نفسها تريد بذلك حفظ الفرج، وتتعلّق بوقت تشريع حكم حفظ الفرج، لكنْ اليوم وجدت مصاديق عديدة مع تحوّل أفكار الناس([74]). وقد اختلفت الآية: ﴿حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ﴾ (يوسف: 52) فقط عن باقي الآيات، حيث المراد فيها حفظ النفس من الفاحشة والفسق. وقد ورد قيد ﴿بِمَا حَفِظَ اللهُ﴾ ليبيّن أن هذا الحفظ يكون في سبيل مرضاة الله، لا لإرضاء الرجل، أي امتثالاً لأمر الله، لا انصياعاً لمطالب الرجل. فعلى المرأة أن تصون نفسها لتحقّق رضا الله، لتكون مصداقاً لـ ﴿الصَّالِحَاتُ﴾. فمعنى «الصالح» في القرآن يدور حول القيام بالأمور التي يحبّها الله.
5ـ ﴿نُشُوزَهُنَّ﴾: يقول الراغب: «نشوز المرأة هو كرهها لزوجها، وضغينتها تجاهه، وعصيانها له، ورغبتها في غيره»([75]). لكنْ، خلافاً لرأي الراغب، علينا القول: إن الآية تدلّ على أن النشوز هو الخروج من دائرة «الصالحات» و«الحافظات»؛ لأن الله تعالى بيَّن أوّلاً صفات المرأة، وهي الصلاح وصَوْن النفس، ثم قال: ﴿وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾. ولذلك لا يمكن اعتبار امرأة ناشزاً لعصيانها زوجها. إذن معنى الناشز هي: المرأة التي فقدت الصلاح، أو لم تحفظ نفسها في الأمور الشرعية (في ما يخصّ الجنس).
وقد ورد لفظ نشوز من الجَذْر الثلاثي «نشز» ومشتقاته 5 مرّات في القرآن الكريم. فقد جاء في موضعين على هيئة المصدر «نشوز»، وفي موضعين آخرين في هيئة فعل أمرٍ، وفي موضع خامس في هيئة فعل مضارع من باب «إفعال». واستخدم هذا اللفظ في موضع للمرأة: ﴿…وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ…﴾، وفي آخر للزوج: ﴿وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً…﴾، وفي ثالثٍ لإحياء الموتى: ﴿…وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا…﴾، وفي موضعين أخيرين حين الحديث عن الأدب في مجلس النبيّ|: ﴿وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا﴾. ويعتقد علماء اللغة بأن «النشز» هو الموضع المرتفع من السرج([76])، لذلك يطلق على المرأة التي تعصي زوجها ناشزة([77]).
6ـ ﴿وَاضْرِبُوهُنَّ﴾: مع الأسف يرجع الفقهاء في معرفة موضوع الآية ومفهوم لفظ ﴿وَاضْرِبُوهُنَّ﴾ إلى اللغويين. ومن الإشكاليات الأساسية في نطاق معرفة الدين، والذي يضلِّل طلبة علوم الدين، هو الرجوع إلى «معاجم اللغة» العامّة في الأبحاث الاختصاصية. فلا يمكن الاستناد إلى هذه المعاجم في الأبحاث العلمية. فعلى سبيل المثال: لا يمكن الرجوع إلى معجم اللغة لفهم معنى «الطرب»، بل ينبغي البحث في النفس الإنسانية لفهم المعنى الصحيح للطرب، وكيفيته، وخواصه التي تطرأ على النفس البشرية.
ضرورة الرجوع إلى آيات أخرى من القرآن الكريم لتحقيق فهمٍ صحيح لهذه الآية
قد ورد لفظ «الضرب» في القرآن الكريم بعدّة معانٍ، ومنها:
1ـ عسر السير: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً﴾ (النساء: 101).
2ـ ذكر المثال: ﴿إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ﴾ (البقرة: 26)([78]).
3ـ السبات: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً﴾ (الكهف: 11).
4ـ انفراج الطريق: ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لاَ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَى﴾ (طه: 77).
5ـ لبس الثياب: ﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (النور: 31).
6ـ نقش الختم: ﴿ضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الذِّلَّةُ أَيْنَمَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمْ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ﴾ (آل عمران: 112).
7ـ الجهاد: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ (النساء: 94).
إذن يمكن القول بأن معنى لفظ ﴿اضْرِبُوهُنَّ﴾ في الآية مجهولٌ، وينبغي استبيانه من الآيات الأخرى. وفي كافة الآيات التي ذكرناها، ووردت فيها كلمة «ضرب»، هناك نوعٌ من التحوُّل في الحال أو النهج، كلبس الثياب، أو ضرب المثل، أو عسر السير، أو السبات. فتريد هذه الآية التنبيه على التحوُّل في تعامل الرجل: ﴿فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ﴾، ويعني ذلك القسوة على المرأة وتجنّبها؛ ليتم تأديبها في عزلتها وتتنبَّه إلى خطئها. فإنْ لم تتأدَّب بالبعد والعزلة آنذاك ﴿اضْرِبُوهُنَّ﴾، أي «غيِّروا» من تعاملكم (كما تدلّ الآية 73 من سورة البقرة على الملاطفة، وتدلّ باقي الآيات على التحوُّل من نوعٍ إلى آخر). وتكون الطريقة الجديدة في التعامل عكس الإقصاء والتجنُّب. وقطعاً إنّ عكس التجنُّب هو المحبة والملاطفة، وإبهاج المرأة بالقيام بحاجاتها، ويقع ذلك على عاتق الرجل([79]).
يجب القول بأن الآية تدلّ على حلٍّ للنزاع بين المرأة وزوجها، يقدِّمه القرآن الكريم، ولذلك قال الله تعالى أوّلاً: 1ـ الموعظة، 2ـ الإعراض، 3ـ تغيير نهج التعامل. ولا خلاف بين العقلاء والمفسِّرين أن هذه الآية تسعى لحلّ النزاع بين المرأة وزوجها، بحيث تعود المرأة عن عصيانها.
هنا يأتي دور التجربة لتبيِّن هل الضرب يزيد من العصيان أو يردعه؟! إنْ تفقدنا محاكم الأسرة لوجدنا أن القسوة في الكلام أو الضرب من أهمّ أسباب الطلاق. فهل يصحّ أن يحكم القرآن الكريم بأمرٍ لا يردع المرأة عن عصيانها فحَسْب، بل يجعلها تتمادى فيه؟! يمكن للآية 35 من سورة النساء بيان أن القرآن يقدِّم حلاًّ للنزاع: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقْ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً﴾. إذن لا يمكن القول بأن القرآن يريد حلّ النزاع بالضرب، فالضرب بطبيعته يعقِّد الموقف، ويزيد من حدّة النزاع والقسوة، ويجعل الخلاف على مرأى ومسمع الآخرين، فهو لا يردع عن العصيان، بل ينتهي إلى التمادي فيه. فلا يمكن للقرآن أن يقول: «اضرب المرأة» لحلّ النزاع، فذلك ما يجعلها تتمادى في عصيانها. ولذلك يريد بـ ﴿اضْرِبُوهُنَّ﴾ تغيير نهج التعامل في الحياة، أي إنْ دلّ النشوز على الخيانة الجنسية فعلى الرجل التعامل مع المرأة بحبٍّ، والتقرُّب إليها، بعد الإعراض عنها، ليخرج حبّ الآخر من قلبها، وتعود إليه.
5ـ شهادة المرأة
يقول القرآن الكريم: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى﴾ (البقرة: 282).
بناءً على هذه الآية المرأة والرجل في الشهادة سواءٌ. وقد بعثت هذه الآية وآية الميراث (النساء: 11) إلى الاعتقاد بأن شهادة امرأتين تساوي شهادة رجلٍ واحد. لكنّ الله تعالى يقول: إنْ لم تجدوا من الرجال اثنين ممَّنْ ترضونهم للشهادة فاستشهدوا رجلاً وامرأتين؛ لكي تذكِّر إحداهما الأخرى إنْ أصابها السهو والنسيان. فأراد بذلك دعم أمر شهادة المرأة؛ إذ لا تنسخ المرأة الثانية شهادة الأولى بين يدي القاضي، ولا تقول: إنها على خطأ، بل تذكِّر صاحبتها إنْ سَهَتْ وضَلَّتْ، فتقوّم الأولى شهادتها بين يدي القاضي. إذن الشاهدان هما رجلٌ وامرأة، والمرأة الأخرى لا دَوْر لها في الشهادة، بل دورها تذكير الشاهدة إنْ أخطأت. وبذلك المرأة والرجل سيّان في الشهادة. ويجد الدكتور محمد الصادقي الطهراني& الرجل والمرأة سواء في الشهادة على أساس قاعدة «العلِّية»([80])، ويقول: «تبيّن الآية نفسها الحكمة وراء هذا الحكم، وهو السهو وتساهل النساء تجاه الأمور المالية: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى﴾ (سورة البقرة: 282). لكنْ بما أن القرآن الكريم بيَّن علّة الحكم أو الحكمة وراءه، بعد ذكره، فهو قابلٌ للتغيُّر أو قد يحدث استثناء في العمل به. فإنْ لم تكن امرأةٌ بذلك الوصف ـ أي لا تسهو أو تتساهل في التعامل مع الأمور المالية ـ، وتعمل على شاكلة الرجال في الأمور المالية، فشهادتها مقبولةٌ في تلك الأمور. والعكس أيضاً صحيحٌ، فإنْ كان رجلٌ أو رجال يسهون أو يتساهلون في هذه الأمور فحكمهم كحكم المرأة التي تسهو وتتساهل. وفي جميع الأحوال مَنْ يشهد، امرأةً كان أو رجلاً، يجب أن يكون مصداقاً لـ ﴿مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾، لتتّسم الشهادة بالعدل، وتحقّق العلم، سواء كان الشهداء نساءً أو رجالاً أو من الجنسين»([81]).
6ـ حقّ الحياة (قتل المرأة المرتدة)
إنْ ارتدت المرأة يفرَّق بينها وبين زوجها، وتحبس، وتضرب في أوقات الصلاة، وتعامل بقسوةٍ حتّى تتوب؛ فإنْ لم تتُبْ تبقى في المحبس إلى الأبد([82]). ويفتي كلٌّ من: بهجت([83])، ونكونام([84])، بهذا الحكم. ويقول حسين علي منتظري (الفقيه المتجدِّد)، بعد الأخذ بالحكم المذكور: «لكنْ حَسْب الظاهر القَدْر المتيقَّن في تطبيق هذا الحكم هو العلم بأن الإسلام هو الحقّ، وفي نفس الوقت إنكاره؛ عناداً وطغياناً، وهو ما يسمّى بالكفر جحوداً»([85]). وتعود أقسى فتوى في ارتداد المرأة إلى السيد يوسف المدني([86])، ووافقه المحقّق الكابلي في فتواه([87]). أما إسحاق الفياض فمع أنه يتفق مع المدني في فتواه، لكنّه يسعى في التخفيف من قسوتها حين بيان الحكم([88]). وقد أدلى أسد الله بيّات الزنجاني بفتوى على غرار الحكم المشهور، لكنّه خفّف من قسوته حين بيانه([89]).
ما الذي تعنيه حرِّية العقيدة في الإسلام؟
هل للإنسان اعتناق أيّ عقيدة؟ من أهم ما يمتاز به الإسلام هو احترام «حرّية العقيدة»، ويمكننا أن نعي ذلك بوضوحٍ في ما تناوله القرآن الكريم من مواضيع. ومما لا شَكَّ فيه أنّ بإمكاننا اتّخاذ أصالة «حرّية العقيدة» قاعدةً أساسية في استنباط حكم «عقوبة المرتدّ». بناءً على هذه القاعدة للمرء اعتناق أيّ عقيدةٍ شاء. فيمكنه الاعتقاد بوجود الله أو عدم وجوده، ويمكنه تصديق النبوّة أو إنكارها، كما يمكنه الاعتقاد بالإمامة أو إنكارها. ولكلٍّ قبول أيّ عقيدة شاء (مطلقاً). لكنْ أيّ عقيدة على حقٍّ؟ وأيّ عقيدةٍ على باطل؟ موضوع يجب التداول فيه في أبحاث موضوعية منفصلة، وهو ما لا يسعه هذا المقال. وللتوصُّل إلى فهمٍ صحيح لهذه القاعدة علينا مراجعة آيات القرآن الكريم:
الآية الأولى: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ﴾ (البقرة: 256)([90]).
الآية الثانية: ﴿وَقُلْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾ (الكهف: 29)([91]).
الآية الثالثة: ﴿إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً﴾ (المزمّل)، وبنفس المضمون (المدّثر: 55) و(التكوير: 28).
الآية الرابعة: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً﴾ (الإسراء: 54).
الآية الخامسة: ﴿مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ (الأنعام: 52).
الآية السادسة: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (يونس: 99).
الآية السابعة: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ (الغاشية: 21 ـ 22).
يقول البعض في تفسير هذه الآيات: إنّ الإسلام لا يرغم غير المؤمنين على أن يؤمنوا، لكنْ ما إنْ يسلموا حتّى يصبحوا ملزمين بحفظ إيمانهم، وعدم الرجوع عنه، وتنفيذ أحكامه. لكنّهم مخطئون في تفسيرهم، وفاتهم أن على المرء الالتزام بقانون المكان الذي يعيش فيه، فنقض القوانين منافٍ للحرّية. والذي يسلم يتعهّد بالعمل بأحكام الإسلام. ولذلك أمر الله تعالى في كتابه الحكيم ـ في الآيات التي مرّ ذكرها ـ بأن لا يؤمن أحدٌ (بأصول الدين أو فروعه) مُكْرَهاً. فالإكراه في الإيمان يولِّد النفاق، والنفاق ينتهي إلى نقض القوانين. ولذلك نرى كثيراً من الآيات تذمّ النفاق وتعدّه قريناً للكفر أو أسوأ منه. إذن إرغام المسلمين على العمل بأحكام الإسلام هو إلزامهم باتباع قانون صدَّقوه وتعهَّدوا بتحقيقه. وهذا الإلزام عمليّ، وليس عرضي، أي إنّ المسلم مسؤولٌ عن إلزام نفسه بالتمسُّك بأحكام الإسلام، ولا يرغمه أحدٌ على ذلك. فإنْ أرغمه أحدٌ على الالتزام يكون قد عمل خلاف الآيات المذكورة. وإنْ لم يلتزم المرء باعتقاده ينقض ميثاقه، ويجب عدم إرغامه على فعل ما يمليه المعتقد.
إن الآيات الكريمة المذكورة، وخاصّة الأولى والسابعة، ليس فيها دلالة على وقتٍ محدّد لـ «حرّية العقيدة». وبعبارةٍ أخرى: لا يمكن القول: إن المرء إذا أسلم لا يتمتع بحرّية العقيدة، أو أن حرّيته في العقيدة يتمّ تحديدها؛ لأن الحكم شامل، والخطاب عامّ وموجّه إلى جميع الناس (المسلمين والكافرين). إنّ الرأي القائل بوجوب عقاب مَنْ أسلم ثمّ ارتدّ عن إسلامه منافٍ لهذه الآيات؛ إذ لا تضع هذه الآيات قيوداً على «حرّية العقيدة» من حيث الزمان والمكان أو أي حدٍّ آخر، فهي لكلّ زمان ومكان، وبشكلٍ مطلق. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا لم يستند الفقهاء في الحكم على المرتدّ بهذه الآيات؟! وبناءً على الآيات التي مرّ ذكرها إنْ عرضنا عقوبة المرتدّ على القرآن الكريم يتمّ رفضها، وليس لها أيّ مشروعية. فلا يفهم من القرآن أن المسلم إذا ارتدّ عن دينه يجب أن يقتل أو يحبس أو يتوب، بل إطلاق الآيات (في الزمان والمكان والحدود) يدلّ على: 1ـ إنْ كان أحدٌ كافراً لا يمكن إرغامه على الإسلام. 2ـ إنْ لم يعمل المسلم بحكمٍ من أحكام الإسلام (جهلاً) لا يمكن إرغامه. على سبيل المثال: إنْ كان مسلم لا يصلّي لا يمكن إرغامه على الصلاة، كما لا يمكن إرغام المسلم على الصيام. 3ـ إنْ صَدَّ مسلمٌ عن الإسلام، وأصبح «مرتدّاً»، لا يمكن عقابه؛ بسبب تغييره عقيدته، وليس في القرآن ما يجيز هذا العقاب، ولذلك لا مشروعية له. فعلى سبيل المثال: إنْ أنكر مسلمٌ اللهَ أو النبيَّ أو القرآنَ لا يمكن عقابه، فـ «حرّية العقيدة» من حقوقه.
ما رأي «السنّة الصحيحة» في هذا الموضوع؟
تظهر السنّة الصحيحة في أمرٍ ما بطريقتين:
1ـ بناءً على الأحاديث تُعْرَض الروايات على القرآن الكريم؛ فما وافق القرآن سنّةٌ صحيحة؛ وما خالفه خبرٌ ملفّق كاذب.
2ـ إنْ لم يَرِدْ حكمُ أمرٍ ما في القرآن الكريم، كعدد الركعات في الصلاة، آنذاك (في حال عدم ورود الحكم في القرآن) يمكن الرجوع إلى الروايات، التي يجب أن تكون مسندةً (صحيحة السند)، ومتواترةً، ولا يكون هناك ما يعارضها (ينقضها) من الأحاديث، و…. فإنْ توفّرت كافة الشروط هذه تكون حينها «سنّةً صحيحة». لكنْ إنْ كانت الرواية «خبر آحاد»، ولا ينقضها حديثٌ آخر، وتكون صحيحة السند، ولا تنافي القرآن، آنذاك يمكن الأخذ بها. أما إنْ كانت الرواية خبر آحاد، وضعيفة السند، أو وُجد ما ينقضها من الأحاديث، أو تنافي القرآن في دلالتها، فهي مرفوضةٌ بتاتاً.
إنّ نظرة الشريعة المحمدية إلى الإنسان ومكانته في الكون هي أساس كل اتجاهاتها الأخلاقية والفقهية. ودون الأخذ بنظر الاعتبار هذا الأساس المهمّ لا يمكن فهم الشريعة بشكلٍ صحيح. إنّ أهم حقوق الإنسان الفطرية والطبيعية، وأكثرها جلاءً، هو حقُّه في الحياة وتوفير متطلّبات إنسانيته. وعلى الرغم من وضوح هذا الحقّ، إلا أنه انتهك صراحةً من قبل بعض الظالمين بحججٍ مختلفة، فقاموا بالقتل وإراقة الدماء. فلا يجوز انتهاك الحقوق الفطرية والطبيعية، كحقّ الحياة، إلا إنْ توفَّر دليلٌ عقلي موثوق لإثباته. والأدلة المعتبرة أيضاً يجب أن تكون من حيث الكمّ والكيف في حدّ تحقّق الثقة، وتحظى بتأييد العقل؛ لتتمكن من نسخ الحقّ الفطري الأصيل. فمن الناحية المنطقية لا يمكن نسخ حقٍّ فطري أصيل بأدلّةٍ ظنية غير موثوقة، والأدلة القاطعة الموثوقة وحدها يمكنها التغلُّب على حكمٍ وحقٍّ أصيل ثابت.
وقد يستند نهج العقلاء القويم وحكمهم، الذي يُعَدّ أساس حجّية الاستصحاب، على هذا الاستدلال المنطقي: «لا تدحض يقيناً بشكٍّ أبداً، بل ادحضه بيقينٍ آخر».
إنّ الشريعة المحمدية أجازت قتل الإنسان في موضعين فقط: 1ـ إنْ سلب آخراً حقَّه في الحياة؛ 2ـ إنْ سلب الآخرين حقَّهم في الحياة الكريمة (الإفساد).
وقد ورد في الآية 32 من سورة المائدة، بعد ذكر قصة هابيل وقابيل: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾.
والأمر المهمّ الذي ينبغي ملاحظته هنا هو أن قبول الآراء والمعتقدات أمرٌ لا إراديّ. وعلى الرغم من أن للمرء دوراً في تحقُّق المقدّمات والظروف، لكنّ نفس القبول (المعرفة) انفعالٌ نفسيّ (تأثّر لا إرادي). فهو كالحبّ، والكره، والفرح، والحزن…، يحدث لا إرادياً في نفس الإنسان. وأساساً إرغام الناس على قبول أو رفض الأمور اللاإرادية أمرٌ ممتنع عقلاً، والحكم بالعقوبة على الأمور اللاإرادية قبيحٌ ومناف للعقل. وبعبارةٍ أخرى: الواجبات والتكاليف والمسؤوليات تكون معقولةً في دائرة الأمور الإرادية فقط، وتكليف المرء بما ليس في وسعه قبيحٌ، ويمتنع حدوث ذلك من الله تعالى أو الشرائع المنسوبة إليه. إذن لا يمكن أن يتّخذ الإلزام بقبول أو تغيير عقيدةٍ ما صفةً شرعية، أي إن موضوع الارتداد لا يتعلَّق بالمعتقد أو بيانه فقط، بل يتناول الظروف والمتطلبات الإرادية المتعلّقة به([92]).
لكنّ الأهم هو أنه لم يَرِدْ في الآيات التي تناولت الارتداد في القرآن الكريم أيّ إشارة إلى قتل المرتد وتعذيبه. ولاستبيان الأمر يمكن مراجعة هذه الآيات، وهي: (المائدة: 54)، (البقرة: 217)، (محمد: 25)، (البقرة: 108 ـ 109)، (آل عمران: 86 ـ 90)، (النحل: 106)، (آل عمران: 177)، (النساء: 137)، (آل عمران: 72)، (المائدة: 5). ولم تتطرق هذه الآيات بتاتاً إلى عقوبة المرتدّ (القتل، والتعذيب، والحبس)، كما تقول الآية 5 من سورة المائدة: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾. وتدلّ الآية 177 من سورة آل عمران على نفس المفهوم. كما تقول الآية 217 من سورة البقرة عن المرتدين: ﴿فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
يكفي هذا القَدْر لبيان النهج الذي اتَّبعه القرآن الكريم (الله تعالى) في موضوع الارتداد. لكنّ أهم ما يستنتج من هذه الآيات هو:
1ـ يدور الحديث في جميعها عن الكفر بعد الإيمان، أي إنّ إنكار الحقيقة يجعل الإنسان كافراً، ويجعل حياته على نحوٍ لا يستند إلى أيّ حقيقةٍ في تحقيق مصالحه الخاصة، ويجابه دوماً الآخرين ويخاصمهم.
2ـ لم يَرِدْ في القرآن الكريم أيّ حديثٍ عن العقاب الدنيوي للمرتدّ. فحتّى في شأن مَنْ لجأوا إلى الفتنة والمكيدة؛ ليزلزلوا إيمان مَنْ آمنوا حديثاً بالنبيّ| (النساء: 137، وآل عمران: 72)، أوصى القرآن الكريم بالعفو والصفح: ﴿فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا﴾. وبالطبع قد تمّ التأكيد على أن هذا العفو والصفح (عن اختلاق الفتن) قائمٌ ﴿حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ﴾.
لنتطرّق الآن إلى الروايات: سنأتي بمفهوم الأحاديث فقط؛ مراعاةً للاختصار، إذ تفيد الروايات المعاني التالية للارتداد والكفر: 1ـ مَنْ يصدّ عن الإسلام ويكفر بالقرآن الكريم([93]). 2ـ مَنْ يشكّ بوجود الله وصدق النبيّ فهو كافر([94]). 3ـ ابن المسلم إنْ كفر أو أشرك([95]). 4ـ مَنْ يجسد الله تعالى فهو مشركٌ وكافر([96]). 5ـ الشكّ في أن أعداء الإسلام ظلمةٌ وكفّار يستدعي الكفر([97]). 6ـ مَنْ ينكر حكم الله تعالى وينأى عن العمل به فهو كافر([98]). 7ـ مَنْ يعتقد بالجَبْر فهو كافر([99]). 8ـ مَنْ يشكّ في أن عليّا× وصيّ الرسول| فهو كافر([100]). 9ـ مَنْ يعتقد بالتناسخ فهو كافر([101]). 10ـ الارتشاء في الحكم والقضاء كفر([102]). 11ـ التصديق بالسَّحَرة كفر([103]). 12ـ اقتناء الشطرنج والاحتفاظ به واللعب به كفر([104]). 13ـ تارك الصلاة كافر([105]). 14ـ المرائي مشرك([106]). 15ـ تصديق المزاعم الواهية شرك([107]). 16ـ الشكّ في كلام الإمام× يستوجب الكفر والشرك([108]). 17ـ مَنْ يتبرّأ من نسبه كافر([109]). 18ـ مَنْ يدّعي عداوة أخيه المؤمن كافر([110]). 19ـ مَنْ يسرّ الطاغوت كافر([111]).
وقد نقلت بعض هذه الروايات أو مضامينها بأسانيد موثوقة، لكنْ هل يمكن الاستناد إليها، وهي أخبار آحاد، والإفتاء بأن كلّ ما ورد فيها يحقّق الكفر أو الشرك؟ وهل تتّفق جميع رواياتنا مع هذا النهج؟ فلِمَ لا يفتي الفقهاء بـ «ارتداد» مَنْ يتحقق فيه ما ورد في هذه الروايات؟
كما أن الحكم بقتل إنسانٍ راوده ظنٌّ أو اعتقادٌ واهٍ، أو شكٌّ وترديد نشأ عن الجهل، في حال لم يقدم على أيّ عملٍ عدائي وجائر، ولم يهدِّد حياة الآخرين أو مالهم أو شرفهم، اجتراءٌ في أمر خطير، عدّه الله سبحانه وتعالى قتلاً لجميع الناس، وأشنع أنواع الفساد في الأرض. كل هذا التأكيد على حفظ الدماء (وجوباً)، وإلزام العقل والشرع بضرورة الاحتياط في هذا الأمر، ونهي القرآن الصريح عن الإسراف في القتل، وتأكيد الروايات على ضرورة الإحجام عن إقامة الحدود في مواضع الشبهة والتمسُّك بالاستصحاب، ألا يدعو كبار العلماء والفقهاء من السنّة والشيعة إلى التأمُّل وعدم إصدار الأحكام بالارتداد؟ ألا يدعوهم كلّ ذلك إلى إعادة النظر في أمر الارتداد؟ فتأمَّلْ….
إن فتوى السادة في الارتداد يمسّ ثلاثة أمور أساسية: النفس، والمال، والشرف، أي ينتج عن الحكم الصادر بحقّ المرتد الأمور التالية: 1ـ قتل إنسان وحرمانه من الحياة؛ 2ـ انفصاله عن زوجه، إنْ لم يسقط في أيدي المسلمين ولم يقتل؛ 3ـ حرمانه من أمواله وتوزيعها على أبنائه المسلمين. فكم من فتوى دون تأمُّلٍ ومبالاة دمَّرت وتدمر حياة عوائل؟! وكم من أزواج متحابّين انفصلوا وينفصلون رغما عنهم، ويحرم الأولاد من آبائهم وأمّهاتهم؟! وكم من أناس أبرياء تعرّضوا ويتعرّضون للشنق أو الإعدام أو الاغتيال، دون أن يُقْدِموا على قتلٍ أو فساد، بل فقط لحصول تغيير في معتقداتهم؟! وكم…؟!
إنْ تعمّقنا قليلاً في موضوع الارتداد (ولا يسعنا المقام هنا) سنجد أن جميع الروايات التي تقول: «يجب قتل المرتد أو حبسه أو تعذيبه» تعاني من الوَهْن في عدة أمور أساسية:
1ـ تنافي جميعها القرآن الكريم. إذ لا يوصي القرآن إطلاقاً بالتعذيب والقتل والحبس. وحين تناول موضوع الارتداد حصر عقوبة المرتدّ في «عقاب الآخرة»، ووعد المرتدين بجهنّم، لكنّه لم يذكر مطلقاً تعذيب المرتدّ وقتله وحبسه. وبما أن تأجيل بيان ما هو ضروريٌّ عن موضع القول المحدّد له قبيح، وتأجيل البيان هذا في موضع الضرورة قبيحٌ، والقبح يناقض حكمة الله، فلا يمكننا القول: إن القرآن بيَّن العقاب الأخروي فحَسْب. ثم إن الآيات في هذا الموضوع وردت مطلقةً من حيث «الحكم» و«الزمان» و«المكان»، ولا يمكن للروايات تخصيص إطلاق الآيات. وبذلك تفقد جميع هذه الروايات شرعيتها حين عرضها على القرآن الكريم؛ لأنها تعارضه. فللأساس الذي يتبعه القرآن الكريم في التعامل مع مختلف المعتقدات ركيزتان: أـ إن حرّية العقيدة حقُّ كل إنسان؛ ب ـ وعد المرتدّين بجهنّم.
2ـ تتناقض هذه الروايات فيما بينها. فقد ورد في إحداها الإعدام مطلقاً([112])، وذكرت أخرى القتل والطلاق والحرمان من المال وتقسيمه([113]). فيلفّ الإبهام الأمر؛ إذ لو كان الحكم هو إعدام المرتد وتطليقه وتقسيم أمواله، بناءً على الرواية الثانية، لِمَ تحكم الرواية الأولى بالقتل مباشرةً، ولم تتطرَّق إلى الأمرين الآخرين؟! وقد وردت أخبارٌ عن المرتدّ لم يذكر فيها أيّ عقابٍ، واكتُفي فيها بالإقرار بكفر المرتدّ([114]). ولا يتضّح السبب وراء عدم ذكر العقاب إنْ كان حكم عقاب المرتدّ واجباً!
3ـ جميع الروايات التي تدلّ على وجوب قتل المرتدّ أو تعذيبه أو تطليقه وتقسيم أمواله أخبار آحاد. وكما قلنا: لا مشروعية لأخبار الآحاد إلاّ إنْ دعمتها قرائن عقلية قاطعة. وإنْ اعتبرنا أخبار الآحاد مقبولةً في الأمور المستحبة، لا يمكن الاستناد إليها (وهي مفردة أيضاً في بعض المواضع) في أمور مهمّة، كالقتل، والتعذيب، والتطليق، والحبس، وتقسيم الأموال، لا شرعاً، ولا عقلاً؛ إذ لا يمكن إثبات أمور مهمة كهذه برواياتٍ ظنّية ضعيفة وغير موثوقة، وأخبار آحاد واهنة. ولا ينبغي السماح لهذه الروايات بالتأثير في الحكم على المرتدّ، والمساس بأرواح الناس وأموالهم وأعراضهم. كما أن سيرة العقلاء مضَتْ على العمل بالخبر الواحد الموثوق مع تحقُّق الاطمئنان النوعي به، وفي نفس الوقت عدم إغفال احتمال كذبه. وهذه الطمأنينة إلى صدق الخبر الواحد الموثوق تحصل فقط في الأمور غير الهامّة (كالمستحبات والمكروهات). ففي الأمور الخطيرة (كالحلال والحرام) مضَتْ سيرة العقلاء على حصول الطمأنينة لروايات لا يحتمل كذبها بتاتاً، أي إن الإطمئنان إليها يتحقَّق بالقطع واليقين العرفي. وبعبارةٍ أخرى: قد يتحقَّق الاطمئنان إلى خبر الواحد الموثوق في الأمور غير الهامة، لكنْ في الأمور الخطيرة لا يتحقَّق الاطمئنان إلى خبر الواحد الموثوق لدى العقلاء. ثمّ إن لحياة الإنسان لدى العقلاء الأولوية في سلّم الأمور الخطيرة. وقد تمّ التعبير عن الأولوية الأولى بالحياة والدم، وعن الثانية بالعرض والشرف. فالأمور الخطيرة العقلائية يقيناً هي: في المرتبة الأولى حياة الإنسان؛ وفي المرتبة الثانية عرضه وشرفه. وقد أيَّد أمير المؤمنين× هذا التصنيف العقلاني بقوله، في كتابه إلى مالك الأشتر&: «إيّاك والدماء». وبديهيٌّ أننا إذا نظرنا من زاوية الحكم الشرعي فكلّ ما يثبت صدوره عن الشارع مهمٌّ على السواء.
4ـ ورد في «باب المرتدّ» من كتاب أصول الكافي 15 رواية (وجميعها أخبار آحاد) في حكم المرتدّ. وإنْ اعتبرنا الغلوّ من مصاديق الارتداد تصبح هذه الروايات 18. ولم يَرِدْ في ثلاث روايات من 18 رواية حكم القتل، أي في 15 رواية ورد القتل حكماً على المرتدّ. وقد قال المحدّث المجلسي (من كبار المحدّثين الشيعة) في سند هذه الروايات([115]): (الحديث 7) مرسلٌ، (الأحاديث 3 و13 و14) مجهولةٌ، (الأحاديث 5 و8 و23) ضعيفةٌ، (الأحاديث 2 و6 و15 و16 و17) ضعيفةٌ على الرأي المشهور، (الأحاديث 3 و18 و20 و21) حسنةٌ، و(الحديث 1) حسنٌ كالصحيح، و(الحديثان 10 و12) موثَّقان، و(الحديث 22) موثَّقٌ كالصحيح، و(الأحاديث 1 و11 و19) صحيحةٌ. ويجد الأستاذ محمد باقر البهبودي (أكبر محدِّثي القرن)، في كتاب «صحيح الكافي»، أن الروايات 1 و4 و13 فقط من بين هذه الروايات صحيحة، والروايات الأخرى ضعيفة السند وواهنة.
إذن بناء على رأي هذين المحدّثين المشهورين ثلاث روايات فقط صحيحة السند، وهذه الثلاث أيضاً أخبار آحاد منافية للقرآن. و(أساساً) لا حجّية عقلية، ولا شرعية، لخبر الواحد في الأمور المهمّة من باب أَوْلى. فلا يمكن الاعتماد على هذه الأحاديث من حيث السند أيضاً. ثمّ إن مجموع هذه الروايات في وجوب قتل المرتدّ و… في كتابي وسائل الشيعة ومستدرك الوسائل، اللذين يحتويان كافة الروايات الفقهية في الكتب الأربعة، ويشكِّلان المرجع الروائي في الأبحاث الفقهية، 21 رواية. إن مجموع الروايات الصحيحة في وجوب قتل المرتدّ في أقصى الحالات لا تتجاوز 6 روايات، وإذا أضَفْنا إليها الموثّقة والمعتبرة ستصبح في النهاية 8 أخبار آحاد معتبرة لدى فقهاء السَّلَف، وقد ورد نصفها في الكافي فقط. فأيُّ فقيهٍ هذا الذي يدّعي التواتر في أمرٍ بعشر روايات؟! وكيف يمكن للأخبار المرسلة والمجهولة والضعيفة أن تشكِّل تواتراً يحقِّق القطع واليقين؟! إن ادّعاء التواتر، ولو التواتر المعنوي، بناءً على عشرين ونيِّف من الروايات، التي ثلثاها ضعيف، وهي من باب مراسيل الدعائم، ومجاهيل الجعفريات، غير صحيح، فتحقُّق القطع بصدق أمرٍ استناداً إلى ثمانية أخبار آحاد صحيحة وموثَّقة (أو حتى 21 رواية) مرفوضٌ مطلقاً، وعادةً وعقلاً لا توجب القطع([116]).
ملخّص البحث
ثبت أن العقوبات المذكورة للمرتدّ لا شرعية لها في الأحاديث، وكافّة الأحاديث التي ذكرت هذه العقوبات أخبار آحاد مرسلة وضعيفة وواهنة، ولا يمكن الأخذ بها.
الهوامش
(*) باحثٌ في الفكر الإسلاميّ. من إيران.
([1]) ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا (فهذه ليست مقاييس للأفضلية) إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾. فالجنس والقبيلة والعرق واللون والمال والجاه والمكانة ليست مقياساً للأفضلية. التقوى هو مقياس الكرامة والقرب من الله تعالى. فقد خلق جميع الناس ذكوراً وإناثاً من رجل وامرأة.
([2]) وقد جعل للنساء حقوقاً، كما الواجبات التي كلّفن بها، وللرجال أفضلية عليهنّ.
([3]) الرجال يصونون النساء ويوفّرون الحماية لهنّ؛ لما فضل الله (من حيث أساس الخلق) به بعضكم (النساء) على بعض (الرجال)؛ وبما ينفقه الرجال (كنفقة للنساء) (لتوفير الراحة لهنّ)…
([4]) هل مَنْ ينشأ في الحلي ولا يتمكن من بيان مراده في الجدال (تسمّونه ابن الله)؟!
([5]) العبارة المبسطة: الاختلاف الجسدي والجنسي بين الرجل والمرأة يستدعي اختلاف حقوقهما.
([6]) العبارة المبسطة: لا يمكن حذف الاختلافات الجنسية والجسدية بين المرأة والرجل، والتي أدت إلى أفضلية الرجل، ولا يمكن اعتبار ذلك نفياً للعدالة.
([7]) العبارة المبسطة: الاختلاف الجوهري بين المرأة والرجل في أمرين: 1ـ الإنجاب والحمل. 2ـ للمرأة عاطفة جيّاشة وجسدها ضعيفٌ وناعم.
([8]) العبارة المبسطة: خلاصة خصال النساء أمران: 1ـ حبّ التبرُّج؛ 2ـ قصور العقل لدى النساء.
([9]) العبارة المبسطة: بما أن النساء تحت وصاية رجل دوماً، ولضعفهنّ الجسدي، لا يمكنهنّ التصدي للقيادة أو مرجعية التقليد أو القضاء.
([10]) العبارة المبسطة: النساء أدنى مرتبةً؛ لقلّة حظوظهن في الميراث والشهادة والدية وتعدّد الزوجات والقصاص و…. كما يجب عليهنّ طاعة الزوج، والتمكين له في غير المعصية.
([11]) العبارة المبسطة: الموضوع بايجازٍ هو أن النساء والرجال يتساوون في الحقوق في بعض الأمور، وتكون الأفضلية للرجال على النساء في أمور أخرى.
([13]) نظام حقوق زن در إسلام: 144، 155، 180.
([14]) حكومت ديني وحقوق إنسان: 119 ـ 120.
([15]) العبارة المبسطة: يُراد بعدالة الاستحقاق النظرية المعروفة لدى التقليديين، ونقلنا في بيانها أقوال السيد الطباطبائي والشيخين مطهري ومنتظري، ولا نحتاج إلى مزيدٍ من النقل. أما المراد بعدالة المساواة هو أن المرأة والرجل يتمتعان بحقوق متساوية ومتناظرة، ولا يوجد أيّ تمييز بينهما.
([16]) العبارة المبسطة: الأدلة العقلية التي تثبت أن عدالة المساواة أَوْلى من عدالة الاستحقاق.
([17]) يقول مرتضى مطهري: «العدل سيد الأحكام، ولا يتبعها. فالعدل ليس إسلامياً، بل الإسلام عادل». بررسي إجمالي مباني اقتصاد إسلامي (مناقشة شاملة لأسس الاقتصاد الإسلامي): 14، ط1، انتشارات حكمت، طهران، 1409هـ.
([18]) العبارة المبسطة: أي إن حقوق المرأة تختلف عن حقوق الرجل، وللرجل أفضلية وأولوية.
([19]) مفردات القرآن، مادة العدل.
([20]) لسان العرب، مادة العدل.
([22]) النحل: 90. الصف: 2 ـ 3. الحديد: 25. الشورى: 15. الأعراف: 29. النساء: 135. المائدة: 8. غافر: 31. النساء: 40، 77. يونس: 44، 54. الكهف: 49. التوبة: 70. البقرة: 272. الزمر: 69. هود: 117. آل عمران: 108، 182.
([23]) الوسائل 11: 310. الوسائل 13: 277، ح1. غرر الحكم 2: 795، ح39. غرر الحكم 1: 222، ح88. غرر الحكم 1: 12، ح274؛ 26، ح749؛ 28، ح856، 834. الكافي 5: 266.
([24]) العبارة المبسطة: كان للعرب آداب جاهلية كثيرة… فلما جاء الإسلام قام بخطوتين: 1ـ ساوى في بعض الحقوق بين المرأة والرجل. 2ـ جعل حقوقاً أخرى للمرأة في سلّم التدرّج نحو المساواة لسلطة الرجل الطاغية آنذاك، كما فعل مع العبودية… لكنْ استند الفقهاء إلى عدالة الاستحقاق الأرسطية، وأصروا حتّى اليوم على الاختلافات بين المرأة والرجل. فيمكننا تلخيص هاتين الخطوتين كالتالي: 1ـ عدالة الاستحقاق؛ 2ـ عدالة المساواة.
([25]) العبارة المبسطة: فهل للسيدة مريم الأفضلية إلى نهاية البشرية أم كانت لها الأفضلية على نساء زمانها فحَسْب؟
([26]) «وعن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن يحيى الحلبي، عن أيوب بن الحُرّ قال: سمعتُ أبا عبدالله× يقول: كلّ شيء مردودٌ إلى الكتاب والسنّة، وكلّ حديثٍ لا يوافق كتاب الله فهو زخرفٌ». (وسائل الشيعة 27: 111، ح33347)
([27]) نگرشي جديد بر حقوق بانوان در إسلام (رؤية جديدة إلى حقوق النساء في الإسلام): 35.
([28]) الجصّاص، أحكام القرآن، الآية 52 من سورة الأحزاب.
([29]) مسند أحمد 6: 153. صحيح البخاري 8: 125.
([30]) صحيح مسلم 6: 29. النسائي، السنن الكبرى، ح8714.
([33]) الطبقات الكبرى 8: 5 ـ 6.
([37]) تخريج الأحاديث والآثار 3: 463.
([40]) مستدرك الوسائل، ح16711.
([43]) السرخي، المبسوط 10: 154.
([44]) للاطلاع على هذا الموضوع راجع: محمد عقيقي، كتاب سير أنديشه (أنديشه ششم): 67 ـ 80.
([48]) ابن حجر، الإصابة، رقم 11361.
([50]) الطوسي، المبسوط 4: 161. التلخيص الحبير 7: 253.
([51]) سنن أبي داوود، ح4165. كنـز العمال، ح455.
([53]) تفسير «كتاب العزيز» 5: 300.
([54]) الدور الأساس لهذا الأصل هو بيان واجب المكلف حين يشكّ في الحكم الحقيقي، أي إنْ شكّ المكلف في حرمة أو وجوب شيء أو فعل؛ لعدم توفُّر الأدلة أو تعارضها، ثم لم يجد دليلاً بعد البحث، يحكم العلماء بناءً على هذا الأصل ببراءة ذمته وعدم وجوب التكليف عليه. (منتهى الأصول 5: 383) ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ﴾ (البقرة: 159). وقد لعن في هذه الآية الذين يكتمون آيات الله والبراهين الواضحة، ويعني ذلك أن لا مسؤولية تقع على عاتق الإنسان إنْ لم يبين له الشارع تكليفه، أو لم يصله بيان الشارع، ولا تبعة عليه. (أنوار الأصول 3: 27). كذلك تقول الآية الكريمة: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً﴾ (الطلاق: 7). وتؤكِّد الأحاديث هذه القاعدة، فيقول النبيّ|: «الناس في سعةٍ ما لم يعلموا». (مستدرك الوسائل 18: 20)، ويقول الإمام×: «ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوعٌ عنهم». (الوافي 1: 49)، ويقول النبيّ|: «كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي». فأصل العدم أو أصالة العدم مصطلح أصولي، يستخدم في حال الشك بوجود شيء أو اتصافه بصفة محددة، فيتمّ الحكم بعدم وجوده أو اتصافه بتلك الصفة، بناءً على ذلك الأصل، إلاّ أن يثبت دليلٌ معتبر وجوده أو اتصافه بتلك الصفة.
([55]) صحيفة اعتماد، 10/ 3/ 1388هـ.ش.
([56]) المصدر السابق، 12/ 11/ 1387هـ.ش.
([57]) ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه، تبعاً للآية الكريمة.
([58]) لقاء مع السيد الموسوي البجنوردي، مجلة فرزانه، العدد 7: 14.
([59]) محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 31: 206.
([60]) محمد جواد البلاغي، آلاء الرحمن في تفسير القرآن 2: 398.
([61]) الزحيلي، التفسير المنير 6: 56.
([62]) يقول الدكتور محمد الصادقي الطهراني& في تفسير هذه الآية: «أساساً كل المكلفين معنيين بتحقق البناء الإيماني في الحياة ـ نساءً ورجالاً ـ، ويتحقّق هذا البناء في بُعْدين: بناء النفس، والآخرين. وبما أنه ـ في المجموع ـ للرجال قوىً وقابليات أكثر من النساء ورد في الآية الكريمة ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾. وقوّام صيغة مبالغة، وبذلك تبيّن الآية الدور الأكبر للرجال في تحقق هذا البناء. وفي المقابل النساء أيضاً قوّامات على الرجال، أي يقدِّمن إنجازاً في هذا البناء، ويتشاركن المهمة مع الرجال، لكنّ دورهنّ أدنى من دور الرجال. وعلى الرغم من تفوّق بعض النساء في قدراتهنّ وقابلياتهنّ في القيام بالواجبات على أزواجهنّ، فتنعكس بذلك علاقة القيمومة، لكنّ ذلك نادرٌ، والقاعدة العامة هي أن الرجال قوّامون على النساء في بُعْدَيْ التكوين والتشريع. لكنْ كون الرجال قوّامين على النساء ـ خلافاً لما يقال ـ لا تعطي الرجال ولايةً مطلقة على النساء، بل القوامة هذه تعني رعاية الرجال للنساء وتوفير الحماية والصون لهنّ. فكما مرّت الإشارة إليه الرجال يتمتّعون بقوى وقابليات أكثر من النساء في توفير الحماية والرعاية من جميع الجهات ـ العقلية والمالية والجسدية ـ. وصحيح أنه في الحياة الزوجية تتساوى حقوق المرأة والرجل من حيث الرعاية والمشاركة، بناء على الآية الكريمة: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، لكن في سورة البقرة تقول الآية الكريمة: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ﴾، كما ورد هنا ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ﴾. إذن للرجال دورٌ أكبر في الرعاية من دور النساء. أما في ما يتشاركون فيه من أمر الرعاية يقول: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾، كما يقول هنا: ﴿بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾، ولم يقُلْ: (بما فضلهم الله عليهنّ)، وبذلك لم يجعل الرجال قوّامين على النساء على أساس الرعاية عامّةً، بل على أساس دورهم الأكبر في الرعاية؛ فأوّلاً: من حيث القوة إنْ تشارك اثنان في أمرٍ، وتمتّع أحدهما بقوّةٍ أكبر، كان له دورٌ أكبر؛ وثانياً: في ما يقوم به الرجال من أمر الرعاية ﴿بِمَا أَنفَقُوا مِنْ أمْوَالِهِمْ﴾ فدون شكٍّ مَنْ يقدِّم المال للآخر له نصيب أكبر في القيام بالرعاية. وكما أن حفظ المال واجب فصَوْنُ مَنْ يعطي المال دون مقابلٍ واجبٌ أيضاً. إذن مسؤولية الرجال في الرعاية أكبر من مسؤولية النساء، والنساء «قائماتٌ على الرجال» بحملهنّ مسؤولية أقلّ؛ إذ إن في القوّام مبالغة في الحفظ والرعاية، لكن القائم يدل على رعايةٍ عادية. وقد ﴿فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾، لكنّ هذا التفضيل ليس في الأمور المعنوية؛ لأن الأفضلية المعنوية تقوم على التقوى، وهنا الأفضلية هي تفوّق ومسؤولية أكبر في واجبات الرعاية والحفظ، ففي بعض أوجه الرعاية واجبات الرجال أكثر من النساء، وفي بعضها الآخر واجبات النساء أكثر، ويتساوون في واجباتٍ أخرى. وتقع مسؤولية أكبر على عاتق النساء في ما يخصّ الرعاية والصون الداخلي وحفظ العفة والطهارة، ومسؤولية الرجال أكبر في ما يخصّ الأمور التي تتطلب رجولةً، كما في إنفاق الأموال. وبشكلٍ عامّ تقسّم الحقوق بين النساء والرجال إلى قسمين: الحقوق المشتركة؛ والحقوق الخاصة بكلٍّ منهما. كما أن الحقوق التي يتساويان فيها تختلف باختلاف طاقاتهما وقدراتهما. إذن قيمومة الرجل على المرأة لا تعني أن المرأة أمَة مملوكة لدى الرجل، بحيث تصبح جميع شؤونها وأفعالها مرهونةً بإذنه وموافقته، ويحرم عليها حتّى كسب العلم، والنذر، والقسم، والعهد، والخروج من البيت للقيام بواجبٍ أو مستحب أو مباح ـ في ما لا يؤدّي إلى انحراف جنسي، ولا تهاونٍ بواجبات المرأة تجاه الرجل ـ إنْ لم تحصل على إذنٍ من زوجها، بل في جميع الواجبات والمستحبات وترك المحرمات والأمور المتعارف عليها لا موضع لإذن الرجل في قيام المرأة بها أو تركها. وكما أن الرجل لا يحتاج إذن المرأة في القيام بواجباته الشرعية والمباحة لا تحتاج المرأة إذن الرجل في ذلك. وهناك نهجٌ يتبع ليتيح للرجل صون طهارة المرأة من ناحية العفّة والعقيدة والمال والأخلاق والنواميس الأخرى، والتي تقع فيها مسؤولية أكبر على عاتقه. وعلى النساء في المقابل صون النواميس الخمسة قَدْر المستطاع. فقد شارك القرآن الكريم النساء والرجال المؤمنين في الأمر والنهي، ووجدهما جديرين به. كما أن للقيمومة وصون النفس والآخرين درجات، وأهم هذه الدرجات الاجتماعية بين المؤمنين هي القيمومة في العلاقة الزوجية. فعلى الزوجين صَوْن نفسَيْهما والآخر، على أن مَنْ له قدرات أكثر في تحقيق الصون يتحمل مسؤولية أكبر. وكما قلنا: إن الرجال يتفوقون على النساء في اتجاهي الصون، وعلى النساء تحقيق الصون في كلا الاتجاهين ما أمكنهنّ ذلك. إن النواميس الخمسة هي: العقيدة، العقل، النفس، العرض، والمال، وهي المجال الأهمّ الذي يجب صونه، وخاصّة في العلاقة الزوجية. ومن الأمور التي يجب على النساء صونها تجاه أنفسهنّ هو الثبات في دائرة الصالحات، القانتات، والحافظات للغيب، وخاصّة في العلاقة الزوجية. إن فضيلة الصون في اتباع الحق وحفظ الغيب أوّل ما يجب تحقّقها في غيب الله، أي على النساء صون النواميس الخمسة في هذا المستوى، ثم المستوى الثاني هو حفظ النواميس في ما يغيب عن أزواجهنّ. وحفظ الغيب في هذين المستويين هو اتجاها الصون لأنفسهنّ وأزواجهنّ.
وممّا يجب على النساء صونه تجاه أزواجهنّ هو ما تطرّقت إليه الآية: ﴿تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾، وهو الخشية من النشوز الحادث، وليس الخشية من حدوثه. ولا يعني ذلك أن للرجال فعل ما ورد في الآية إنْ خشي الرجال عدم طاعة المرأة في الواجبات الزوجية. كما أن النشوز لا يعني أيّ عصيان وعدم امتثال، بل المراد هو العصيان وعدم الالتزام الذي يجده الرجل تهديداً للحياة الزوجية، وهو يصدق في النواميس الخمسة كلّها، كأن يخاف الرجل انحراف زوجته في أيٍّ من هذه النواميس، بحيث يدمِّر كيان العائلة. حينها يأتي دور صون الرجل وقيمومته، فيسعى في النهي عن المنكر بدرجاته الثلاثة. وإنْ لم يُجْدِ كلُّ ذلك نفعاً يعمل بما ورد في الآية. وإنْ لم ينجح بعد في تصحيح الوضع يأتي دور الانفصال الذي يمكن تحقُّقه أحياناً دون الطلاق، وخاصة في ما يخصّ الانحراف الجنسي، كما ورد في سورتي النور والمائدة، فأساساً نكاح الرجل الصالح والمرأة الفاسقة والمرأة الصالحة والرجل الفاسق حرام، ابتداءً أو استمراراً على حدٍّ سواء. فحتّى نكاح المرأة والرجل الفاسقين محرَّمٌ أيضاً.
فلا يُراد بـ ﴿تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾ خشية حدوث النشوز في المستقبل، فإنْ كان كذلك لم يَبْقَ محلٌّ لعبارة ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ﴾؛ إذ النشوز ليس خشية حدوث العصيان، لتحلّ الطاعة محله. وبناءً على ذلك النشوز هنا هو العصيان الحادث والماثل. إن صون الرجل للمرأة في مراحله الثلاث ينبغي أن يكون سرّاً، كما أنه في النهي عن المنكر بشكلٍ عام يجب اتباع نهج التدرّج. الخطوة الأولى هي النهي سرّاً، ثم الخطوة الثانية النهي علناً. وتأتي مراحل النهي سرّاً كما يلي: 1ـ ﴿فَعِظُوهُنَّ﴾، وذلك بطريقةٍ صحيحة ولائقة. كما أن المطلوب هنا الإلحاح في الوعظ والنصح. فأساس النصح يرد حتّى في عدم الطاعة في الأمور غير المهمة. لكنّ النصح والوعظ يجب أن يكون جادّاً في الأمور الخطيرة. فإنْ لم ينتج أثراً تأتي الخطوة الثانية؛ 2ـ ﴿وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ﴾، بالإدبار في الفراش ـ وهو الموضع الذي فيه إيحاءات ومحفِّزات للغريزة الجنسية ـ، وطعنهنّ في أنوثتهنّ، وهذا الطعن يجب أن يكون سرّاً، ولا يعلم به الناس والأولاد، وإلاّ جرّ الموقف إلى العناد والتمادي في العصيان. وإنْ لم يُجْدِ ذلك نفعاً أيضاً تأتي الخطوة الثالثة؛ 3ـ ﴿ وَاضْرِبُوهُنَّ ﴾، وذلك بالقدر الذي يحقِّق الردع. وهذه هي مراحل النهي عن المنكر، لكن في العلاقة الزوجية تستوجب ملاحظة وجدّية أكثر. وبما أن هذه الخطوات لا تأتي للانتقام، بل هي لصون وحفظ النواميس الخمسة، تتابع الآية القول: ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً﴾، فإنْ رجعْنَ عن عصيانهنّ فأوقفوا خطوات التأديب هذه، ولا يجوز التمادي بعده وانتهاك شخصيتهنّ. وإلى هنا تكون جميع خطوات النهي عن المنكر سرّاً، ولا يعلم بها إلاّ الزوجان». (ترجمان فرقان 1: 377 ـ 380).
([63]) الزمخشري، الكشّاف 1: 525. الكشف والبيان 3: 303.
([66]) الكشّاف 2: 313. حجّة التفاسير 2: 105.
([67]) لسان العرب 2: 73. الفايق 3: 124.
([68]) مفردات ألفاظ القرآن 1: 684.
([69]) جامع البيان 5: 38. تفسير القرآن العظيم 3: 940.
([70]) الجرجاني، آيات الأحكام 2: 341. تفسير المراغي 5: 28. الميزان 4: 344.
([71]) أنوار التنـزيل 2: 173. تفسير ابن أبي حاتم 3: 941. جامع البيان 5: 38. روح المعاني 2: 202. مجمع البيان 4: 71.
([72]) جوامع الجامع 1: 253. التفسير لكتاب الله المنير 2: 223. التفسير الاثنا عشري 2: 422.
([73]) ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ﴾ (البقرة: 238).
﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾ (الروم: 26).
﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ﴾ (البقرة: 116).
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً للهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (النحل: 120).
﴿وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ للهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً﴾ (الأحزاب: 31).
﴿يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ (آل عمران: 43).
﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُو الأَلْبَابِ﴾ (الزمر: 9).
﴿وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ (التحريم: 12).
([74]) ﴿إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾ (الأحزاب: 35).
﴿وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (النور: 31).
﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ﴾ (النور: 30).
﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾ (المؤمنون: 5).
﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾ (المعارج: 29).
﴿وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (الأنبياء: 91).
﴿وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ (التحريم: 12).
([76]) الصحاح 3: 899. العين 6: 232. لسان العرب 5: 417.
([77]) مجمع البحرين 4: 39. العين 6: 232. الصحاح 3: 899.
إنْ قبلنا المفهوم الذي قدّمه الكاتب في تحليل معنى النشوز تحلّ هذه العقدة أيضاً؛ فإنْ اعتبرنا النشوز رغبة المرأة الشديدة في الجماع، وبالتالي ارتكابها الخيانة، يكون خوف النشوز تغييرها في طبيعة تعاملها مع الأجنبيّ، كعدم المبالاة في الحديث معه والمزاح غير المتعارف لدى المتمسّكين بالشريعة، وكما تقول الروايات النشوز هو إدخال الأجنبي إلى البيت، والزوج كارهٌ لذلك. (مجمع الزوائد 3: 266). إذن معنى ﴿نُشُوزَهُنَّ﴾، مع الأخذ بنظر الاعتبار لفظ ﴿تَخَافُونَ﴾ الملازم له، هو الخشية من الخيانة الجنسية، وليس أيّ عصيانٍ وعدم طاعة تراود المرء.
([78]) كذلك: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾ (النحل: 112).
([79]) بعبارةٍ أخرى: يقول القرآن الكريم: تجنّبوهنّ أوّلاً، ولا تشاركوهنّ الفراش، ثمّ يقول: غيِّروا من تعاملكم: ﴿وَاضْرِبُوهُنَّ﴾، وهذا التغيير يجب أن يكون عكس الإقصاء والابتعاد. فتجنّب الزوجة ثم ضربها يكون حركةً في نفس الاتجاه. لكن تجنّب الزوجة أولاً ثمّ التغيير في التعامل فذلك ما يجعله انتقالاً إلى وضعٍ عكس الوضع الأول.
([80]) بناءً على هذه القاعدة تبتني جميع الأحكام على أساس العلّة والمعلول. وهذه قاعدة عقلية، ولا يمكن إنكارها. فحتى أحكام العبادات أيضاً لها علل محددة، تحتاج معرفتها إلى الملاحظة والتفكير. وتجد هذه القاعدة أن زوال العلّة يزيل المعلول. أي بقاء المعلول واستمراره قبيحٌ بعد زوال العلة، والله بريءٌ من القبح. فإنْ زالت علة حكمٍ ما يزول معلولها. فعلى سبيل المثال: وجوب التزام المرأة بالعدة يكون لمعرفة صاحب النطفة، فإنْ كانت امرأةٌ عاقراً ليس عليها الالتزام بالعدة؛ لأن العلة (معرفة صاحب النطفة إنْ كان هناك احتمال حدوث حمل) زالت، فيزول المعلول.
([81]) محمد الصادقي الطهراني، نگرشي جديد بر حقوق بانوان در إسلام (رؤية جديدة لحقوق النساء في الإسلام): 39.
([82]) محمد حسين فلاح زاده، آموزش فقه (تعليم الفقه): 366، ط47.
([83]) جامع المسائل، باب الارتداد. لكنّه لم يذكر أمر ضرب المرأة المرتدة.
([84]) توضيح المسائل 2: 582. لكنّه لم يذكر أمر ضرب المرأة المرتدة.
([86]) لا تقتل المرأة المرتدة، لكنْ يجب تطليقها من زوجها، وأن تلتزم بعدّة الطلاق، وتؤمر بالتوبة والرجوع عن ارتدادها. فإنْ لم تمتثل تحبس، وتضرب وقت الصلاة، وتكسى بثيابٍ خشنة، ولا يقدّم إليها ما يكفيها من ماءٍ وطعام حتّى تموت. المسائل المستحدثة 3: 104، سؤال 1812.
([87]) الرسالة العملية، من مسألة 2983 إلى مسألة 2994.
([88]) يتّفق في رأيه في الرجل المرتد مع السيد المدني، لكنه يقول في رأيه في المرأة المرتدة: «[بعد الضرب في أوقات الصلاة و…]…يقسون عليها ولا يقدِّمون لها الماء والطعام، إلاّ بما يبقيها حية، وتكسى بثيابٍ خشنة، حتّى تعود وتتوب». الرسالة العملية باللغة الفارسية، مسألة 3216.
([89]) يقول في حكم المرأة المرتدة: لا تضرب، لكنه يؤيِّد كسوتها بثياب خشنة، ولا تعدم، وإنْ تابت يفرج عنها، وإنْ لم تتُبْ تبقى في الحبس إلى الأبد. الرسالة العملية، من مسألة 3627 إلى مسألة 3641.
([90]) إن هذه الآية الأهمّ والأكثر صراحة في حرّية العقيدة. فقد ورد في هذه الآية ﴿لاَ إِكْرَاهَ﴾ مطلقاً، أي هذا النفي مطلق، ويجب أن لا يكون أيّ «إجبار وإكراه». وتؤكد ذلك «لا» النافية. ولا يمكن إنكار إطلاق الآية، فنفي الإكراه والإجبار فيها جليٌّ وبيّن. كما أنّ «في الدين» مطلق أيضاً، أي إنّ لفظ «الدين» في الآية يدلّ على أصول الدين وفروعه. ويمكننا إثبات إطلاق «في الدين» بنحوين: 1ـ إن لفظ الدين مطلق، ويدلّ في إطلاقه على أصول الدين وفروعه. 2ـ لفظ «لا إكراه» وإطلاقه قرينةٌ على أن «في الدين» مطلق أيضاً. وما تقوم به بعض التفاسير من تخصيصٍ في شأنه مرفوضٌ، ودون برهان.
([91]) لا تخصِّص هذه الآية سابقتها؛ فهي تدل على «حرّية العقيدة» مطلقاً. فلفظ «الحقّ» في الآية الكريمة، الذي تمّ الحديث عن الأخذ به أو الصدّ عنه، مطلقٌ. فهل يمكن القول: إن أصل الدين «حقّ» وفرعه «باطل»؟ والجواب امتناع ذلك، إذن تدلّ الآية على حرّية العقيدة مطلقاً.
([92]) يقول محمد بن حكيم: «قُلْتُ لأَبِي عَبْدِ اللهِ×: الْمَعْرِفَةُ مِنْ صُنْعِ مَنْ هِيَ؟ قَالَ: مِنْ صُنْعِ اللهِ، لَيْسَ لِلْعِبَادِ فِيهَا صُنْعٌ». الكافي 1: 163، ح2. وأيضاً يُروی عن الإمام الصادق× أن المعرفة والقبول ليست أمراً إرادياً واكتسابياً. وأيضا سُئل: هل هو فعل الله وعطائه (لا إرادي)؟ أجاب الإمام: بلى، ليس لعباد الله يدٌ فيه، لكنْ لهم الاختيار في أفعالهم. إنما يزن الله أعمال العباد بنحوٍ تلائم إرادته واختياره، ولا جَبْر فيها.
([93]) وسائل الشيعة 18: 544، ح2.
([95]) وسائل الشيعة 18: 545، ح6.
([112]) وسائل الشيعة 18: 545، ح6.
([113]) وسائل الشيعة 18: 544، ح2.
([115]) مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول 26: 396 ـ 403.
([116]) كما أن الشيخ محمد فاضل اللنكراني ناقش كافّة الروايات المتعلِّقة بقتل المرتد وسائر العقوبات، ولم يدَّعِ تواتر هذه الروايات. وقد قبل حكم قتل المرتدّ الفطري، بناءً على الفتوى «المشهورة» فحَسْب. تفصيل الشريعة، كتاب الحدود: 692.