الشيخ محمد عباس دهيني
وانتفض الأحرار الأُباة في تونس، فآنسوا وسرّوا بثورة شعبيّة عارمة، تكلَّلت بالنصر، ولله الحمدُ.
وهبّت جماهير مصر من مراقدها، فملأت الساحات والميادين، وقد نُصِرْنَ فلتُطلَق الزغاريدُ.
وخرج الشعب البحرانيّ الحرّ الأبيّ يطالب بالحرّيّة والعدالة والمساواة.
وانفجر أحفاد الزعيم البطل عمر المختار كالقنبلة في وجه الطاغيّة المستبدّ، وها هو يترنَّح متّجهاً نحو الهاوية بإذن الله.
وتململ الشعب اليمنيّ غضباً من الجلاّد القاهر الغاصب.
وسقط الظلمة والخونة واللصوص، الذين لا دين لهم ولا طائفة ولا مذهب، وسيسقط آخرون، وفرح وسيفرح كلّ إنسانٍ حرٍّ أبيٍّ بتلك المواقف البطوليّة للشعوب العربيّة الحبيبة.
وهكذا أعاد الزمن نفسه بعد ثلاثين سنةً ونيِّف، فكما سقط شاه إيران وطاغيتها في 11/شباط/1979هـ سقط طاغية مصر محمد حسني مبارك في 11/شباط/2011م، ويسقط الجبابرة الطغاة الواحد تلو الآخر، إنْ شاء الله تعالى.
وهنا خطّان ونهجان لعلماء الدين في التعاطي مع الحدث:
1ـ خطّ الأحرار والثوّار، خطّ العلماء الأبرار، خطّ الإسلام المحمديّ الأصيل، الذي أرسى دعائمه في أواخر القرن العشرين مفجِّرُ الثورة الإسلاميّة في إيران الإمام روح الله الخمينيّ)، والذي يتزعّمه هذه الأيّام وليّ أمر المسلمين وقائد الثورة الإسلاميّة في إيران السيّد علي الخامنئيّ>.
وقد تلقَّف السيّد الخامنئيّ> حركة الشعبين التونسيّ والمصريّ بكلّ حبّ وحنان، فخرج بنفسه إلى صلاة الجمعة ـ التي لا يخرج إليها إلاّ في المناسبات المهمّة ـ، وخطب محيِّياً ومشجِّعاً وحاضناً وداعماً. نعم، خطب باللغة العربيّة، ونادراً ما يفعل ذلك؛ إذ إنّ جموع المصلّين من الناطقين باللغة الفارسيّة.
وهكذا أسقط سماحته كلّ محاولات التشويش الاستكباريّة والفتنة المذهبيّة، فظهر للناس جليّاً أنّ المسلمين صفٌّ واحدٌ، ويدٌ واحدةٌ، لا يفترق السنّيّ فيهم عن الشيعيّ، ولا العربيّ عن الفارسيّ، فهُم في مواجهة الفساد والظلم والطغيان أمّةٌ واحدةٌ.
وهكذا انبرى جملةٌ من العلماء المسلمين، من السنّة والشيعة، للدفاع عن الشعبين التونسيّ والمصريّ، وحقّهما في القيام ضدّ الحاكم الجائر والمستبدّ.
2ـ خطّ الخانعين والمنهزمين نفسيّاً ومعنويّاً، والمستسلمين لكلّ حاكمٍ وسلطانٍ، ولو جَارَ وقَهَر، وغصب، وعاث في الأرض فساداً، وأهلك الحرث والنسل، والساكتين الصامتين، كأنّهم خُشُبٌ مسنَّدةٌ.
هكذا كانوا ـ وما كان أكثرهم ـ أثناء الثورة على شاه إيران المخلوع، رغم أنّه أذاقهم الويلات، وفرض على نسائهم خلع الحجاب، وما كان ينقصه سوى أن يأمرهم بحلق لحاهم ونزع عمائمهم. ومع ذلك فقد ركنوا إليه طويلاً، وتملّقوه كثيراً، وتآمروا معه على إمام الأمّة السيّد الخمينيّ). وذريعتهم في ذلك كلّه أنّه لا جهاد قبل ظهور صاحب العصر والزمان%، وأنّ كلّ راية تخرج قبل ذلك فهي راية ضلال.
فيا سبحان الله، ما الذي عدا ممّا بدا حتّى صار الاعتراض على الإمام الخمينيّ) مشروعاً، فأذاقوه المرارة تلو المرارة، والغصّة بعد الغصّة؟!
وهكذا انقضّوا على قائد الثورة السيد الخامنئيّ>، وعلى جملةٍ من العلماء الأخيار، المجاهدين الأبرار، وعلى رأسهم المرجع الدينيّ السيّد محمّد حسين فضل الله).
وخاب سعيُهم ـ بحمد الله ـ، ولمع نجم السيد الخامنئيّ، مرجعاً فذّاً، وقائداً حكيماً، ووليّاً مرشداً، وبزغ نور السيد فضل الله، ثائراً مخلصاً، ومرجعاً رشيداً، وحامياً للعقيدة والشريعة على حدٍّ سواء.
وتستمرّ المسيرة بإذن الله، غير أنّ ما يعكِّر صفوها أنْ تجد أمثال هؤلاء المدَّعين للقداسة، وهي قداسة زائفةٌ على أيّة حال، يعملون جاهدين، وفي كلّ آن، للقضاء على منجَزات الثورة الإسلاميّة المباركة، ومنها: الوحدة الإسلاميّة بين السنّة والشيعة.
فيعمد بعضُ هؤلاء إلى إثارة البلابل والقلاقل والترّهات السخيفة بين الفينة والأخرى، كما فعل المدعوّ ياسر الحبيب، في تهجُّمه القذِر على «عائشة» أمّ المؤمنين وزوج النبيّ–، ما استدعى أن ينبري له قائد الثورة السيد الخامنئيّ>، في جوابٍ عن استفتاء، محرِّماً الإساءة لصحابة النبيّ وزوجاته. وكذا فعل بعض العلماء المخلصين، كالشيخ ناصر مكارم الشيرازيّ، والسيد محمود الهاشمي. وقد كان السيّد فضل الله) أصدر مثل هذه الفتوى منذ عشر سنوات، فأقاموا الدنيا ضدّه، فأقعدها.
وهكذا بلعوا ألسنتهم إبّان الثورات المبارة في تونس ومصر والبحرين واليمن وليبيا، فلم يصدر عن أيٍّ منهم ما يشير إلى أدنى اهتمام له بما يحصل، فهل صُمّوا؟ أو عَموا؟ أو خَرِسوا؟ وأين هم من قول رسول الله–: «من سمع منادياً ينادي: يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»؟ وعن قول أمير المؤمنين%: «…لقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة، والأخرى المعاهَدة، فينتزع قرطها وحجلها، ما يُمنَع منها، ثم انصرفوا، لم يُكلَّم أحدٌ منهم، فوالله لو أنّ امرأً مسلماً مات من هذا أَسَفاً ما كان عندي ملوماً، بل كان به جديراً»، فها هو عليٌّ% يوجب التضحية بالنفس في سبيل المسلمين، بل والمعاهَدين، فأين هم «شيعةُ عليٍّ وآلِه الطاهرين»؟!
إنّها العصبيّة المذهبيّة القذرة تمنعهم من الدفاع عن جماعات المسلمين من أبناء السنّة، ويتَّهمونهم بأنّهم نواصب، وأين هم عن معنى النصب والغلوّ؟! فلا عرفوا معنى النصب حقيقةً، فأدخلوا فيه مَنْ ليس منه في شيء؛ ولا عرفوا معنى الغلوّ حقيقةً، فأخرجوا منه مَنْ هو أوّل الداخلين فيه، وقد تكون أنفُسُهم.
إنّني ـ وبكلّ صراحة ـ أرى أنّ هؤلاء يشكِّلون الخلفيّة الدينيّة الحاقدة لتلك الظاهرة الخائنة، التي عملت وتعمل هذه الأيّام لإسقاط نظام الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، وأرجو كافّة المسؤولين في الجمهوريّة الإسلاميّة المباركة أن يلتفتوا على هذا الأمر، ويحملوه على محمل الجدّ، وإلاّ كانت العواقب وخيمةً، لا سمح الله.
وقبل أن أختم كلامي أودّ الإشارة إلى أنّ ما تقدّم لا يعني أنّ بعض علماء أهل السنّة في منأى عن التعصُّب المذهبيّ البغيض، فها قد انطلقت شرارة الثورة في البحرين، وسقط الشهداء بالمئات، غير أنّها ثورة فيها من الشيعة كثيرٌ، فما سمعنا حتّى اليوم عالماً سنّيّاً يرفع صوته بجرأة وشجاعة داعماً ومؤيِّداً لهذه الثورة، فأين أولئك الذين دعموا وأيَّدوا ثورتي تونس ومصر، أم أنّ حساب السنّة شيء وحساب الشيعة شيء آخر؟
والأدهى من هذا أنّ جملةً من العلماء السنّة والشيعة(هداهم الله)هم خارج هذا العالم، فمن بيوتهم إلى دروسهم، ومنها إلى بيوتهم، وكأنْ لا شيء يحصل من حولهم، ولا يعنيهم أمرُ مُسْلِمٍ على الإطلاق، سواء كان سنّيّاً أم شيعيّاً، ولذا لم نسمع منهم حتّى هذه اللحظة تعليقاً واحداً على ما حدث منذ شهور، وهذه هي الطامّة الكبرى.
اللهم إنّا نشكو إليك فقد نبيّنا–، وغيبة وليّنا%. اللهم احفظ لنا الجمهوريّة الإسلاميّة المباركة في إيران، وقائدها الحكيم السيّد علي الخامنئيّ، وكافّة العلماء الأبرار الواعين والمنفتحين على قضايا العصر وأزمات الواقع، بعيداً عن الجمود والصمت والتخلُّف والخرافة والذلّ والاستكانة. اللهم انصرهم على أعدائهم؛ فإنّك إنْ أهلكتَهم لم تُعبَد، وإنْ شئت أن لا تُعبَد لا تُعبَد.