أسباب العجز عن بناء دولة القانون والمؤسَّسات والعدل
أ. نبيل علي صالح(*)
لا شَكَّ بأنّ تحديدَ مسؤوليات واقع التردي (والضياع والتخلف) العربي الراهن ليست من المهام الشائكة في ظلّ توافر إمكانات الرصد والمتابعة والوعي الإجمالي والتفصيلي الدقيق بمجمل مشاكلنا الداخلية والخارجية، التي تفاقمت وباتت ـ بالرغم من تحديدنا لها ـ عصيةً على التغيير أو الإصلاح الداخلي.
ويمكن الاستنتاج مباشرةً ومن دون أيّ مواربة أو أدنى شكوك ـ حيث إن الوقائع والدلائل والشواهد العملية في عالمنا العربي والإسلامي أبلغ وأوضح من أيّ محاولة لحجبها أو إخفائها ـ أن العرب لم يتمكَّنوا بَعْدُ من تكوين نظم حكم مدنية، وإقامة دول مؤسساتية قانونية حقيقية بالمعنى العملي والاصطلاحي للكلمة، وأن الواقع الحالي عندنا يعبِّر أصدق تعبير عن فشل نخبنا السياسية الحاكمة (بمختلف مؤسّساتها الإدارية والتنفيذية) في الوصول إلى بناء هيكليةٍ عملية واضحة عن مفهوم الدول المدنية الحديثة بالمعنى الثقافي والسياسي العملي.
دور الاستبداد في التخلُّف والعجز التاريخي المقيم
ما زالت أمتنا محكومةً في وجودها ومرهونة في ممارساتها لنخب ونظم «أهلية ـ قبلية» تقليدية غير مدنية (بالمعنى السوسيولوجي التاريخي)، تمارس فيها المؤسسات الرسمية القائمة (كمنظومات عمل وأطر سياسية) حكماً فردياً فرعونياً مطلقاً، غير متناسب (لا شكلاً ولا مضموناً) مع منطق العصر والتطور والحداثة العلمية والمعرفية والسياسية (التي آلت إليها تجارب البشر في الحكم الديمقراطي المدني الدستوري)، ولا مكان فيها (في تلك النظم) لأيّ منهجية تفكير علمية رصينة، ولا صوت فيها سوى لصوت وفعل الماضي والسلف ولغة العنف والدم، التي انتقلت ـ بفعل قوة حضور وسطوة الأعراف والتقاليد ـ من أيديهم إلى أيدي الخلف من النخب السياسية القبلية الجديدة التي يحكمها قانونٌ واحد فقط، هو قانون البقاء والمصلحة والنزوع السلطوي، وتتحكم بوجودها أيديولوجيا الاستبداد المقيم.
وفي سياق رفض تلك النخب القبلية العربية لمنطق وقانون التغيُّر، ومحاربتها لسنّة وناموس التداول (وتلك الأيام نداولها بين الناس) السياسي والاجتماعي الطبيعي؛ استجابةً لمنطق تغيُّر الحياة وتطوُّر الإنسان، ومنعها لأيّ محاولةٍ يمكن من خلالها تشييد البنى الأساسية لإقامة مجتمع مدني متطوّر، فقد وصلت بها الأمور أن تقف بقوة حتى في وجه أيّ عامل تقدم علمي أو تقني (وليس سياسياً فقط)، وتمنعه من النفاذ أو الدخول إلى المجتمعات إذا كان يمكن أن يشتمّ من دخوله أيّ رائحة للتغيير، أو أيّ حراك بسيط قد يفضي إلى تغيير وجهة الأوضاع القائمة، أو إصلاح بعض الأفكار، ومن أيّ نوع كان، سواء في العقلية أو السلوك أو التوازنات الاجتماعية أو السياسية.
وفي سياق إحكام قبضتها على مجمل الحياة العامة في معظم البلاد العربية، وإسقاط أيّ محاولة جدّية للتغيير أو إصلاح الوضع العام على أيّ مستوى من المستويات التي تهمّ واقع وحياة ومعيشة مواطنيها ومجتمعاتها، ما زالت بعض تلك النخب القائمة مستمرّة في تكريس وجودها الأرعن على رأس السلطة، وتعميق ثقافة الفساد والإفساد، كجزءٍ من سياسة المواجهة بينها وبين الطبقات والفئات الاجتماعية المتضرّرة والمختنقة، الساعية بأيّ ثمنٍ للتغيير، والضاغطة بشدّةٍ على تلك النظم المغلقة، ممّا دفعها (ويدفعها على الدوام) لتخصيص قسمٍ كبير من موارد الدولة، وإمكانات المجتمع المادية والمالية والبشرية الهائلة المتوافرة؛ لتثبيت أركانها، وحماية مصالحها، وصون امتيازاتها، وضمان بقائها (النخبوي الأقلوي)، وتجذير سطوتها وانفلاتها من عقال القانون والمحاسبة والمساءلة، وقيامها بفرض الاستقرار والثبات (الثبات كوجهٍ آخر للموت)، بالقوّة المادّية العارية، أو بقوّة الأمر الواقع والعنف الرمزي، وسدّ كل منافذ التغيير، وإحباط أيّ أمل بإصلاح الحال المعقد القائم.
وهكذا لم يبْقَ هناك، في معظم البلاد العربية والإسلامية، أيّ هامش للاستثمار (البشري والطبيعي) المنتج في الحاضر والمستقبل، لا على صعيد الإنسان (من خلال فكره وعقله وطاقاته ومواهبه) ولا على صعيد الواقع والطبيعة (إبداعات واكتشافات وإنتاجات مختلفة)؛ لأن المواطن منعزل وبعيد عن المشاركة، ومنكفئ عن ساحة العمل والإنتاج والحضور والإبداع، ولا وقت لديه سوى لتحصيل معيشته وتأمين رزقه ومتطلّبات وجوده واحتياجاته الأساسية، من مأكلٍ وملبس ومشرب… إنه التهميش، والإفقار كنتيجة طبيعية، أوصلته إليها قرونٌ طويلة من الحكم الفردي ودولة الحكم العضوض والظلم السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وسياسة القمع الممنهج وإلغاء الآخر… إنه العجز الكامن لنظام توازن سياسي وتعبئة سياسية، ولنظام توازن نفسيّ فرديّ هو ثمرة كلّ توازن اجتماعي، إنه عجز المجتمع الذي صنعته القوى والأفكار القائدة، وجعلته ملغماً بالحساسيات، وعميق النزاعات، مثخناً بالجروح الفردية والجماعية، فشل نظام عقائدي وفكري لا انسجام ولا تجانس فيه، وفشل نظام عمل سياسي لا قاعدة فيه للوحدة الاجتماعية ولا للحرّية. إنه فشل لمجموع التصوُّر والممارسة السياسية لصنفٍ اجتماعي نشأ مع التغلغل الغربي، وأخذ على عاتقه مسؤولية القيادة الاجتماعية التاريخية([1]).
إن الأملَ بحدوث تطوُّرات حقيقية سياسية واجتماعية وعلمية وصناعية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية عموماً، يمكن أن تستجيب لتحدّيات الحياة في الوجود المؤثر والفاعل، مرهونٌ ـ ليس فقط بمدى قدرتنا الفكرية والعملية على الاستجابة الفاعلة لتلك التطوّرات ـ وإنما مرهونٌ، أيضاً وبشكلٍ أساسي، إلى ضرورة إحداث تغييرات هائلة على صعيد الحكم وإشكاليات السلطة والمشاركة والحرّية.. إلخ؛ لأن الأصل يكمن في القدرة على اتخاذ القرارات الصحيحة المسؤولة والمعبِّرة عن طموحات الناس، والمنسجمة مع تطوُّرات وتغييرات الحياة الدولية.
وهذا التغيير المطلوب لن يتحقَّق لوحده بقدرةٍ سماوية، أو بطاقة سحرية (طوطمية)، بل لا بُدَّ من إرادة جماعية فاعلة لتحقيقه، حيث إن النخب الحاكمة في مجتمعاتنا العربية عموماً ليس لها أدنى مصلحة في الإصلاح، فضلاً عن كونها أصلاً غير قادرة عليه، ولا تمتلك الحدّ الأدنى من الإرادة الجدّية والفاعلية العملية لإحداث التغيير أو الإصلاح المنشود؛ بسبب انغلاقها ومركزيّتها الشديدة، وتغييب قوى التأثير عليها، من خلال ما قامت به ـ وعلى مدى العقود الماضية ـ من سحق للمجتمعات، وتحطيم منظم للموارد والثروات، وتبديد ممنهج للقدرات والطاقات الطبيعية والبشرية.
إن استثمار تطورات الحياة، والاستفادة المثلى من أيّ تقدم علميّ يمكن أن توفِّره الحضارة الحديثة، لن يكون متاحاً أمام مجتمعاتنا وأفرادنا إلاّ إذا انطلقنا جميعاً لنسهم ونشارك ـ بصورةٍ وبأخرى ـ في إنتاجه وإبداعه، وتمثُّله عملياً، ومن باب أَوْلى فهمه ووعيه.
وأما على صعيدنا نحن كمجتمعات عربية مخلخلة البنى التحتية فإنه لا يمكن أن نطوّر العلم وننتج منجزاته الحديثة في ظلّ وجود هذه الهيمنة المطلقة والسطوة الشاملة للعرف والقانون القبلي والتقليد الأعمى لسنّة الآباء والأجداد، واتّساع عقلية القبيلة، المنزرعة فينا، والمتحكّمة بوجودنا ومصائرنا، والتي يعمل أصحابها والرابضون في أحضانها، على تدمير أيّ فرصة لربط ـ مجرّد ربط ـ البلاد العربية والمسلمة عموماً بتيارات التقدُّم العلمي والتقني، وسحق أيّ محاولة لمجرد التجديد السياسي والثقافي والاجتماعي. بل، على العكس من ذلك، إنها تعمل على ترسيخ كيانها الذاتي البدائي، وتكريس طبيعة فكرها ونموذجها وعرفها «السياسي ـ الاجتماعي» عديم الفائدة والجدوى والهدف، وحفظ بقاء هيكلية نظم قديمة قائمة على مفاهيم القمع والضبط والردع، عبر تمويل ودعم أسباب بقائها ونموّها من خلال الاسترزاق على حقوق الشعوب، ونهب أموال الناس ومواردهم المادية الهائلة، وسرقة ثروات الأمة النفطية وغير النفطية، التي هي حقٌّ لأبناء الأمّة كلّهم، وليست حِكْراً لهذا النظام أو ذاك.
وبالنتيجة تكون المجتمعات العربية والإسلامية هي التي تدفع الثمن الباهظ لتلك السياسات الفاشلة والعقيمة للنظم السياسية ضعيفة الأفق القائمة، التي تستمر في وجودها على قاعدة تعقيم الإنسان العربي وشلّ قدراته وسحق طاقاته، والتي ليس لها مبرّر وجود سوى خدمة مصالح الفئات والطبقات والأفراد والنخب العصبوية التي تسيطر عليها، وتتحكم بمقدراتها.
ونحن نعتقد أنه عندما تفشل أيّ دولة من دولنا العربية والإسلامية في كسب ثقة أفرادها ومواطنيها عن طريق اعتماد لغة التواصل الخلاّق والوعي المتبادل، وأسلوب الحوار السلمي العقلاني، ومدّ جسور التعاون معهم، من خلال الاعتراف بوجودهم، والاهتمام الجدّي بمشاكلهم ومصائرهم ومستقبلهم، والعمل المستمرّ على تحقيق مصالحهم وطموحاتهم وتطلّعاتهم المادّية والمعنوية، من خلال اعتماد مشروع استنهاض سياسي واجتماعي تاريخي تقدُّمي يعبِّر عن آمالهم وطموحاتهم ووجودهم الحيّ الفاعل والمسؤول، ويحفّزهم للمشاركة الشاملة في عملية التنمية الفردية والجماعية… أقول: إن عدم تحقيق كلّ تلك الآمال (التي تتناقض أصلاً وفي العمق مع مصالح ومقاصد النخب (الفرعونية) السياسية الحاكمة، العاملة على أهداف ذاتية معاكسة تماماً لأهداف المجتمع) هو الذي أسهم في تحويل هذه الدولة العربية الحديثة ـ عندما قامت وعملت على ترسيخ شعاراتها ووجودها الفوقي الوصائي ـ إلى مجموعة إقطاعات ومافيات، لها أفرادها وأزلامها وشركاتها وواجهاتها ولصوصها الدائرين في فلكها، وعندئذٍ يمكن ملاحظة كيف تطفو على السطح ظواهر «قديمة ـ جديدة» من التشبيح السياسي والاقتصادي والأمني والاجتماعي، التي لها أفكارها ودعائمها ورموزها ونخبها، الذين يعملون باستمرارٍ على تحويل تلك الدولة إلى مجموعة مزارع واستثمارات ربحية نفعية خاصّة بهذا الطرف أو ذاك.
تأثير سوسيولوجيا الثقافة التقليدية التاريخية
طبعاً نحن عندما نحمِّل النخب السياسية العربية التقليدية الحاكمة مسؤولية هذا التردّي والضعف والانقسام والهوان الذي نقبع في داخله حالياً لا ينبغي أن ننسى أن العلة ليست موضوعيةً خارجية فقط، بل جذر العطالة قائمٌ أساساً (ذاتاً وموضوعاً) في طبيعة المناخ الثقافي المسيطر علينا منذ قرونٍ وقرون، وأعني به أن «الخلل معرفي ثقافي» بامتيازٍ قبل أن يكون أيّ شيء آخر، والمسؤولية ليست فقط محصورةً في هؤلاء الحكام والزعامات القائمة، فهؤلاء نتيجة ومحصلة تاريخية لثقافة مجتمعاتنا وبيئتنا الثقافية والاجتماعية أيضاً… ولذلك فالخلل مركوزٌ في صلب البنية السياسية العربية المستغلّة للدين، وليس الدين، حيث يحاول الكثيرون الإشارة إلى الدين كمعطى ثقافي قديم انتهى دوره، وتمّ تجاوز قيمه وأفكاره بحكم التطوُّر والتقدُّم التاريخي. كما أن أسباب العطالة التاريخية ـ التي لا تزال مستمرةً ومكرسة في وجودنا العربي والإسلامي الراهن ـ لا تعود إلى علّةٍ غير منظورة قادمة من كوكبٍ آخر، بل هي علة واقعية، في عقولنا ونفوسنا والتزاماتنا ومجمل سلوكياتنا العملية، التي هي انعكاس خاطئٌ وغير صحيح عن مرآة تصوُّراتنا ورؤيتنا للحياة والكون والحياة.
هي إذن حالةٌ عامّة، لا خاصة… وإذا ما افترضنا وصول أيّ حزبٍ آخر معارض إلى سدّة الحكم في عالمنا العربي والإسلامي، فهل ستختلف النتائج التي سيحقِّقها عما هو سائد حالياً، من إخفاق اجتماعي وقومي، وكوارث سياسية واقتصادية واجتماعية في ظلّ هيمنة الثقافة التاريخية المتخلّفة ذاتها، وفي ظلّ سيطرة عقلية التقليد والاتّباع والإمعية نفسها، وفي ظلّ هذا التفكك العقلي والمعرفي للنخبة القائدة للمجتمع والدولة، صاحبة الأيديولوجيا الخلاصية، أيديولوجيا الفئة القائدة الحاكمة التي لم تستطع أن تكتسب العلم الغربي وتتمثّله، أو تستوعب وتدمج وتثور الأيديولوجيا التقليدية الخاضعة، المسحوقة في أغلب الأحيان؟!
ويجب أن لا يفهم هنا بأن اتهامنا لثقافتنا السائدة حتّى الآن بأنها تتحمل جزءاً كبيراً من مسؤولية التردي الحضاري العربي الراهن أننا نرهن تحقّق الشروط الأولى لعملية التقدم والتجديد والنهضة بتهديم الجذور والبنى التقليدية (الدينية تحديداً) في المجتمع، التي يمكن استثمارها واستخدامها إيجابيّاً بشكلٍ مثالي ضمن عملية استنهاض المجتمع ككلّ. والدليل على ذلك أن حداثتنا العسكرية والمدنية قد هدمت، باسم العلمانية، كلّ الركائز والمؤسَّسات التقليدية التي كانت قائمة في المجتمع، وصار الفرد يقف وحيداً أمام سلطانات قبلية فردية مطلقة، لا يجرؤ أحدٌ على منازعتها سلطانها ومصالحها… فماذا كانت النتيجة؟! كانت أن مشاريع التحديث والحداثة والتقدُّم قد فشلت فشلاً ذريعاً في معظم مجتمعاتنا، على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، بعد أن أعادت إنتاج صيغ حديثة شكلاً لا مضموناً من مجتمعات أهليّة متخلِّفة تمّ تركيبه من قبل أجهزة الدولة العربية المستوردة الحديثة.
ومن باب المقارنة فقط، وأخذ العِبَر والدروس، فقد بدأت النهضة في العالم العربي، وفي مصر خاصّة، قبل اليابان التي ضربت القنابل الذرية في منتصف القرن الماضي… ولكن أين هم الآن؟ وأين أصبحنا نحن؟ نعم، لقد سبقونا الآن في نهضتهم في مجالات كثيرة لا حصر لها تقريباً، وباتوا يشكِّلون كتلةً تاريخية ضخمة وحيّة وفعّالة، لها ثقلها وحضورها العالمي، باقتصادها الصناعي والتقني والمعرفي والتجاري، وحداثتها العلمية والتكنولوجية الواسعة والمسيطرة.
أسباب العجز وشروط النجاح
وإذا كنا نبحث عن أسباب فشل مشاريع النهضة والتنوير، والإخفاق السياسي، وحدوث الانقسام الاجتماعي، فيمكن للمرء أن يجدها في جوانب ثقافية وتاريخية، وسياسية عملية. ففي الجانب الثقافي نجد إغلاق باب العقل والاجتهاد، والإصرار على نقل ثقافةٍ بلا نقد ولا مساءلة عقلية. وأما سياسياً فالأسباب واضحة وكامنة في صلب بنية هذا النظام الفكري والسياسي والاقتصادي الذي صاغته الطبقة الوسطى العربية خلال المراحل الزمنية السابقة، بعد عهود الاستقلال الشكلي عن المستعمر الخارجي، والذي اعتمدته كقاعدةٍ اجتماعية صالحة لشنّ حرب قومية ناجحة.
وبشيءٍ من التفصيل يمكن إضافة عوامل أخرى تسبِّب بهذا الإخفاق، يبسطها لنا هاشم صالح في كتابه القيِّم حول الانسداد التاريخي، وفشل مشروع التنوير في العالم العربي، على الوجه التالي([2]):
1ـ إن الانحطاط الحضاري الشامل العربي بدأ قبل سنوات من عام 1258م، وهو التاريخ الذي انهار فيه العالم العربي والإسلامي سياسياً أمام ضربات المغول الموجعة والمدمِّرة للمراكز الحضارية العربية.
وقال المؤرِّخ الأمريكي ستيفن دوتش Dutch Steven: «إن تدمير المغول لبغداد كان ضربة معنوية قوية للإسلام، وتحوَّل الإسلام فكرياً إلى الأسوأ، وازدادت الصراعات مابين الدين والفكر، وأصبح الدين أكثر تحفُّظاً. وباستباحة بغداد ذَبُل النشاط الفكري»([3]).
2ـ في عصر الانحطاط، الذي بدأ مع بداية القرن العاشر للميلاد، وبعد تدمير بغداد، وسقوط الخلافة العباسية واستيلاء المغول على بغداد 1258م، ثم على دمشق عام 1260م، أصبحت طرق التجارة غير آمنة، ومعرَّضة للنهب والسلب من قِبل قُطّاع الطرق والقراصنة، بدأت خطوط التجارة العالمية تتحوَّل عن العالم العربي إلى أوروبا في القرن الثالث عشر.
3ـ إغلاق باب الاجتهاد في عهد الخليفة العباسي المستعصم بالله (1242 ـ 1258) آخر الخلفاء العباسيين. وأدّى غلق باب الاجتهاد منذ نحو ثمانية قرون (1258 ـ 2009م) إلى موت العلم الطبيعي والفلسفة، فمات العقل معهما.
4ـ إن ما يقود إلى التنوير والإصلاح هو فهم الدين فهماً صحيحاً يتوافق مع العقل ومنطق العصر الراهن، ولا يتناقض معه، كما هو حاصلٌ اليوم في العالم العربي، حيث تنتشر أفكار الشعوذة والعادات والتقاليد والخرافة والأساطير على أنها من صُلْب «إسلام الرسالة».
5ـ إن الإسلام دينٌ عقلاني. والعقل هو القاسم المشترك الأعظم بين البشر على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم. وإن إبراز الجانب العقلي في الإسلام هو العامل الأكبر والفعّال لفتح أبواب النهضة.
6ـ وأخيراً، كان تصحُّر الهلال الخصيب، الذي كان مهد الحضارات على مرِّ العصور، ونقص ثروات هذا الهلال الحيوانية والزراعية، وارتفاع درجة حرارة طقسه، من بين الأسباب للانسداد التاريخي.
عقلنة الدين ووعي المصالح والمقاصد العليا
انطلاقاً ممّا تقدَّم نعتقد بأنه لا حلّ عملياً في المدى المنظور لتلك الإشكالية القائمة (تخلف ـ تقدم، انحطاط ـ نهوض). نعم، هناك مشاريع وأفكار ومبادئ وأسس نظرية مهمة ورائعة وعظيمة، ولكنّ العبرة ـ كما يقال ـ تكمن في سلاسة (وصحة) التطبيق والممارسة الجماعية على الأرض. فهناك ـ على سبيل المثال ـ الطرح الفكري الذي يدعو إلى تعميق قيم المجتمع المدني العصري ـ الذي يقوم على أساس القانون والنظام العادل ـ في تربة مجتمعاتنا العربية والإسلامية، حيث يعتقد أتباع هذا الطرح بأنه كفيلٌ ببناء دولة المؤسَّسات الحديثة التي يريدها الجميع؛ وذلك لأن هذا الفكر الذي تقوم عليه مدنية المجتمع العربي والإسلامي ـ المناهض والمناقض لأسس المجتمع القبلي (القائم حالياً) ـ يمتلك معايير وضوابط وآليات عامّة هي من صلب الحياة والفكر والتراث الإسلامي الأصيل، ويستطيع أن يؤمن ـ بالحدّ الأدنى ـ مشاركة كثيفة للناس والمبدعين في عملية الإنتاج والإثمار الحضاري المنشودة. لذلك من الضروري جدّاً الإيمان بأن بناء وتأسيس مجتمع مدني متطوّر في العالم الإسلامي ـ له قواعده الثابتة وأسسه القوية الواضحة ـ لا يمكن أن يتمّ من دون وعي التراث الإسلامي وعياً إيجابياً من الداخل، كما سلف القول، ومحاولة دراسة وتفكيك عُراه، وتحليل مضامينه المعرفية والفكرية والعقائدية، وصياغة مقولاته وأفكاره بما يتناسب والحاجات الاجتماعية والسياسية الضرورية في عصرنا الحاضر.
وإذا كانت العملية التطوُّرية للفكر والثقافة والتراث المعرفي الغربي قد أفرزت النمط الحديث المعروف للمجتمع المدني في الغرب، فإنه يجب العمل بالمقابل ـ من خلال فكرنا وثقافتنا ـ على إيجاد نواةٍ حقيقية لبناء نمطٍ اجتماعيّ آخر من صلب مبادئنا وتراثنا العربي والإسلامي؛ لأن الناس لن تشرك في التغيير والبناء والتنمية ما لم تقتنع بأن الفكر الإصلاحي لا يتناقض مع ثقافتها ونسيجها التاريخي العقائدي.
من هذا المنظور يؤكّد أصحاب هذه الأفكار المدنية الحداثية، المستقاة من التجديد الديني المنفتح على الحياة والعصر والتطورات الوجودية، على أن آلية العمل المؤسَّساتي المدني بصيغته الإسلامية المتطوّرة تفترض ـ مبدئياً ـ الارتكاز على ما يلي:
1ـ بما أنّ موضوعة «السلطة والحكم» قد تحوّلت إلى ما يشبه الهاجس الجنوني الذي تعيشه أغلب فئات مجتمعاتنا، وطبقاته وأحزابه وحركاته، حيث قامت السلطات الحاكمة بمحَوْرَة ومركزة وجودها على هاجس الحكم والبقاء في السلطة مهما كانت الظروف والأحوال والنتائج الكارثية، وإقصاءٍ لمجتمعات بأكملها عن المشاركة في القرار والمصير، فلا بُدَّ من وجود إطارٍ فكري يعمل على عقلنه السلطة ذاتها، وكبح جماحها، ومنع توحُّشها وتغوُّلها، وجعلها شأناً بشرياً نسبياً، واستبدال البنى والسلطات التقليدية والعائلية بسلطة القانون الاجتماعي المدني ـ إذا صح التعبير ـ المتَّفق عليه في المجتمع.
2ـ تركيز القناعة بأنّ أيّ تحوُّل أو تغيير في الحياة لن يكون له أيّ تأثير أو نفع إلاّ إذا استند على قاعدة إنسانية واسعة وشاملة، تتجسَّد في وجود مشاركة واعية وواسعة للبشر في الحكم السياسي؛ لأنّ التنافس السياسي السلمي هو المقوِّم الفعلي للحياة المدنية الحديثة. من هنا ضرورة وجود فكر حيّ وفاعل ومتفاعل ومتطوّر في داخل الأمّة يجعل من حضور الإنسان ـ في كلّ مجالات وآفاق الحياة، ومشاركته الحرة في العمل المجتمعي ـ شرطاً ضرورياً في عملية التغيير والتقدّم. وهذا الفكر يجب أن يكون جزءاً من نسيج الأمة، من تاريخها وهويّتها، كفكر معبّر عنها؛ لأنها أنجزته وراكمته عبر قرونٍ. فلا يمكن لأيّ أمة أو أيّ دولة ترنو للتطوُّر وللتقدَّم أن تؤسِّس نهضتها على تراثٍ آخر غير تراثها؛ لأن التراث يختزن إمكانات النهوض والإبداع في حياة الأمة، وهو زادها التاريخي، وحماية هذه الذات من الذوبان والانكسار، باعتبار أنّ التراث يستوعب مجموعة الرؤى والأفكار والخبرات والإبداعات، ممّا أنتجته الأمة في طول تجاربها الحياتية الشاقة، في حالات الانتصار والهزيمة، في حالات الازدهار والركود، وفي حالات التقدّم والانحطاط، فهو يجسِّد الذاكرة التاريخية للأمة، ويمثّل الزمن المتحرك المحيط بجميع فعاليات الأمة ومكتسباتها، مثلما كان يمثّل الزاد التاريخي لها في وجهه الآخر([4]).
3ـ الضغط المتواصل باتجاه تعميق وتوسيع مساحة ثقافة الحرّية في المجتمعات العربية كشرطٍ أساسي مسبق لحدوث أيّ تحوُّل إيجابي فيها، باعتبار أن وجود فكر مستقلّ وفاعل ومنتج لا يمكن أن يتحقَّق، أو يكون له أيّ معنى، إلاّ في إطار الحرّية المنظّمة والواعية، حرّية الفكر، وحرّية التعبير، وحرّية الاجتماع والتنظيم السياسي، وحرّية محاسبة الحكومات ومساءلتها.
4ـ الإيمان بوجود المعارضة السلمية، وحقّها في التعبير والشرعية المقننة.
5ـ مراعاة رأي الأغلبية في البلاد، والاحتكام إليها في اللحظات الحرجة والضرورية.
وهذه الأمور المهمة والحيوية لنهضة مجتمعاتنا، وسيرها على طريق التقدُّم المعرفي والعلمي، لا يمكن أن تنجز إلاّ من خلال إعادة اكتشاف مكامن قوتها الذاتية، وتحقّق هويتها؛ لكي تتحدّد المعالم المميزة لشخصية الأمة، وأيضاً من خلال وعي وتطبيق فكرة (وقيمة) الديمقراطية كآليةٍ لإدارة شؤون الناس والمجتمع بصورةٍ مؤسّساتية عادلة وصحيحة.
وتَبَعاً لذلك ينتج عن الديمقراطية ـ بتعبيراتها ودلالاتها «الشوروية» التعدُّدية الإسلامية ـ مجموعة من المعايير والقِيَم، من أبرزها:
1ـ المشاركة العامة في اتّخاذ القرار، وضمان حرّية الأفراد في ممارسة قناعاتهم السياسية والدينية وغيرها.
2ـ مسؤولية الفرد عن أفعاله ومجمل التزاماته.
3ـ تحقيق العدالة والمساواة بين الناس.
4ـ العناية الفائقة بحقوق الإنسان ومبادئه، وصونها وحمايتها بالقانون والدستور والتطبيقات القانونية والدستورية.
الهوامش
(*) باحثٌ وكاتب في الفكر العربي والإسلامي. من سوريا.
([1]) برهان غليون، مجتمع النخبة: 8، معهد الإنماء العربي، بيروت، ط1، 1986م.
([2]) هاشم صالح، الانسداد التاريخي: لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي؟: 255، دار الساقي، مع رابطة العقلانيين العرب، بيروت، 2007.
([3]) شاكر النابلسي، عوائق النهضة العربية، موقع العربية نت. الرابط:
http://www.alarabiya.net/views/2009/12/05/93209.html
([4]) عبد الجبار الرفاعي، جدل التراث والنهضة: 14، سلسة كتاب قضايا إسلامية معاصرة، الكتاب رقم 7، مؤسّسة الأعراف للنشر، لبنان، 1998م.