المقدمة
إنّ المشاركة السياسية، وإن كانت في شكلها الحالي مرتبطة بالعصر الحديث، يمكن رؤية انعكاسات مختلفة لها في الحضارات الماضية كذلك، بل إنّ بعض الكتّاب الغربيين المعاصـرين يعتقدون ـ وبناءً على معطيات ودلائل موجودة لديهم ـ بأنّ المشاركة السياسية في اليونان القديمة كانت أهمَّ بدرجات مما هي عليه اليوم في الغرب المعاصر. وبلحاظ ما كانت تملكه من عناصر خاصّة، فإنّها كانت على تضادٍّ ذاتيّ مع الديكتاتورية والإستبداد.
هذه الطائفة من الكتّاب التي ترى في اليونان القديم مثلاً أعلى للحياة السياسية ـ وفي سياق انتقاد التوجّه الحالي لتجربة الغرب على الصعيد الثقافي والسياسي ـ تتحدّث بأسلوب محبطٍ جدّا عن مسألة "الإنحطاط" في العقل الغربي(1).
في المجال الحضاري للإسلام، يسعى بعض النقّاد أيضاً، من أمثال "برهان غليون"، وفي سياق الحديث عن "مجتمع المشاركة" في صدر الإسلام، و”الروح التعدّدية" للتعاليم الإسلامية، من أجل أن يوضحوا استحالة وجود هذا الفكر الأصيل (المشاركة والتعدّدية)، في ظل السياسات السلطوية والدول الإستبدادية(2).
في نظر هذه الفئة من الكتّاب، ولأسباب متعدّدة تبيَّن لنا، وفي بحث آخر، أنَّه تمّت الاستعاضة تدريجياً عن "الحرية الإسلامية" بـ"مركزية القرار الحكومي"؛ ومن الممكن من خلال تحليل مسار هذا “الانحطاط” والانحرافات في القراءات الدينية المنبعثة منه، تسهيل العودة إلى الأصالة الإسلامية.
المشاركة السياسية، لا سيما في أبعادها التنافسية، تظهر دائماً ـ ولسبب فنّي وعملي ـ في قالب التعدّدية السياسية. فتبعاً لما أثبته "روبرت دول"، تعدّ المشاركة السياسية من قبل الأغلبية الساحقة لأفراد الشعب أمراً غير ممكن؛ فأفراد المجتمع لا يتصرّفون على نحوٍ واحد في ما يتعلّق بالأمور السياسية: بعض منهم يتّخذ موقفاً حيادياً، وعدد آخر يشارك بنحوٍ انفعاليّ، وغالباً ـ من دون أي نوعٍ من المنافسة الفعّالة ـ ما يكون أفراده تابعين في حركتهم. فقط عدد قليل وجماعة صغيرة هم الذين ينخرطون بنحو كامل في الأمور السياسية. ويرى "دول" أنّ هذه الفئة الثالثة ـ والتي يسمّيها بفئة "النَّاشطين السَّياسيين" ـ هي الفئة الوحيدة التي تستحق البحث بشأنها(3).
هذه الفئة، وبسبلٍ متنـوعة منها الإنتاج الإيديولوجي، والقيادة السياسية، وحتى بناء التشكيلات والمؤسّسات المناسبة، تدفع الفئات الشعبية والجماعات الكثيرة نحو تبنّي مواقفها ودعم رؤاها وتوجّهاتها(4).
وبالإضافة إلى التحليل المعرفي الإنساني المذكور، فمن ناحية الحياة التنظيمية والعوامل الإجتماعية، فإنّ فئة محدودة من الشعب يمكنهم أن يؤدوا دوراً في الحياة السياسية.
بناءً عليه، فالحديث عن المشاركة السياسية، وإن كان ممكناً على مستوى النظرية، ليس أمراً قابلاً للتحقّق بشكل واسع من الناحية العملية(5). ولهذا السبب نفسه، يتحول كلّ حديث عن المشاركة السياسية إلى نوعٍ من الحديث عن البلورالية والتعددية السياسية. في الأسطر التالية يتم التعرض لبحث التعددية السياسية في إطار الحكومة الإسلامية.
الإسلام والتعدّدية السياسية
بحث الكتّاب المعاصرون ـ من الذين تحدّثوا عن التعدّدية السياسية ـ هذه المسألة ضمن دائرتين مهمّتين: الأولى، في دائرة الثقافات والاعتقادات. والأخرى، في دائرة المجتمع والسياسة(6).
وكما يوضّح "دول" فإنّ التعدّدية الإجتماعية ـ السياسية تقوم دائماً على أساس التعدّدية الثقافية ـ الاعتقادية، والتي يمثّل الدين جزءاً أساسياً منها.
بناءً عليه، السؤال الأساسي لهذه المقالة هو البحث في العلاقة أو النسبة التي من المحتمل أن تكون موجودة أو ملحوظة في ما بين التعاليم الإسلامية والدائرتين المشار إليهما أعلاه.
من المسلّم به أنّ ارتباط الدين والسياسـة قد عُدَّ ـ كما يشيرُ التاريخ الماضي وواقع المجتمعات الإسلامية ـ أمراً واجباً ولازماً بالنسبة لجميع المسلمين. لكن هل توجد وراء هـذا الارتباط نظرية مشخّصة في السياسة الدينية، أعمَّ من القرآن الكريم أو السنّة أو الفقه الإسلامي، أو أنّه لا توجد أي نظرية متكاملة وشاملة في شأن الإمامة والسياسة الإسلامية، وكل النظريات الفقهية كانت بصدد المطابقة بين السياسة ـ بعنوانها أمراً عرفياً ـ وتقييدها بقيم الدين الإسلامي، أو أنّ بعض النظريات "الفقهية" يعدّ السياسة أمراً شرعياً، بعضها الآخر يراها أمراً عرفياً؟
بناءً على الفرض الأول المحتمل، أي التصوّر القائل بوجود تعريف موحّد “للدولة الإسلامية”، سوف يكون غرضُ الباحث في مسألة المشاركة السياسية مناقشة العلاقة بين هذا التعريف المشار إليه وبين الواجبات المترتبة على التعدّدية.
لكن بناءً على الإحتمالين: الثاني والثالث، ما يهمُّ الباحث والمحقق هو العلاقة بين التعددية وبين المباني الفقهية والكلاميةالمتعدّدة، والتي تشكّلت في نظريات مختلفة، وعلى أساس قراءات وتفسيرات خاصّة عن الإسلام.
وعلى كلّ حال، تؤكد جميع المذاهب والفرق الإسلامية ـ أو أغلبيتها الساحقة ـ على وجوب القيادة والنظام السياسي، غير أنّ الاتفاق على هذا الأمر لا يعني أبداً الإجماع على نظرية واحدة بشأن السياسة وبشأن “الدولة الإسلامية”. ومن أبرز الشواهد على عدم وجود مثل هكذا نظرية، هو الاختلاف الحاصل بين المذاهب الإسلامية بشأن تعريف الإمامة أو الخلافة الإسلامية؛ الشيعة يعدّون مسألة القيادة الإسلامية أمراً منصوصاً ومنصباً من قبل النبي’ ، حيث قد تحقّقت في أناس صالحين أو أئمة معصومين من سلالة النبي’.
في المقابل يرى الخوارج، لا سيما "الأباضية" منهم، وخلافاً لمعتقدات الشيعة، أنّ الإمامة والقيادة قابلة للانطباق على كلّ فردٍ مسلم ومؤمن وعاقل، بقطع النظر عن نسبه وقبيلته(7). وقد نُقــل عن ابن حزم أنّ عموم الخوارج وجمهور المعتزلة، وبعض المرجئة، هم على هذا الرأي القائل: إنّ الإمام يجوز أن يكون كلَّ شخصٍ عارف بالكتاب والسنّة، أقام الأحكام والسنن الدينية، قرشياً كان أم عربياً، بل حتى ولو كان ابناً لعبدٍ مملوك.
"وقال ضرار عن عمرو القطفاني: إذا اجتمع حبشي وقرشيّ كلاهما قائم بالكتاب والسنّة، فالواجب أن يُقدّم الحبشيّ لأنّه أسهل لخلعه إذا حاد عن الطريقة"(8).
في قبال هاتين الرؤيتين ـ الشيعية والخارجية ـ يطرحُ المسلمون المعروفون باسم “أهل السنة” ـ مع قبولهم لشرط كون الإمام "قرشياً" ـ سلسلةٍ من الشروط الشرعية الأخرى للحاكم الإسلامي، والتي قد أشير إلى أغلبها في الرسائل المسمّاة بـ"الأحكام السلطانية".
كلُّ واحد من هذه المذاهب الثلاثة يتضمّن تفسيرات وقراءات متعدّدة لكلٍّ منها وجوه مشتركة ومختلفة تتقاطع مع مقولة التعدّدية. وبإيلاء النظريات الكثيرة والمتنوعة في الفقه الإسلامي الأهمية، سوف يكون من الممكن تقييم منـزلة التعدّدية وأهميتها في الفكر الإسلامي، إن تمَّ بحث علاقة هذه المقولة وارتباطها بالمسائل الثلاث أدناه:
1 ـ النظريات الإسلامية ـ السياسية.
2 ـ المصادر والمتون الإسلامية.
3 ـ التاريخ السياسي ـ الإسلامي.
بلحاظ البنية، والماهية المتفاوتة لمفهوم "السلطة" تشعّبت النظريات السياسية للمسلمين بكثرة وتعدّدت، إلاّ أنّه يمكن إجمالاً أن تقسم الى مجموعتين رئيسيتين:
النظريات القديمة، والجديدة، حيث كانت طبيعة التعامل مع مفهوم "السلطة" في النظريات القديمـة ذات طابع أقسى، في حين تعكس النظريات الجديدة في الغالب، ميولاً ذات طابعٍ تعدّدي بشكل أو بآخر.
إن أيّاً من النظريات المذكورة لا يغطِّي جميع المصادر والمتون الإسلامية بالكامل، بل إنّ كلاًّ منها ـ وبلحاظ خصائص خطابها ـ قد استندت فقط إلى بعض من المصادر، وهي إمّا أنّها تفسّر الجوانب الأخرى، أو تتغافلُ عنها إجمالاً. هذه النظريات أيضاً، لا تستطيع مطلقاً أن تستوعب في خطابها ومقولتها النظرية كل تاريخ الدولة الإسلامية، وكل واحدةٍ منها تستند مضطرة إلى جوانب خاصة من التاريخ الإسلامي والتجربة الإسلامية. وعلى ما يبدو، فإنّ النظريات السياسية للمسلمين وإن كانت قد وُلدت في ظروف تاريخية ـ سياسية خاصة(9)، إلاّ أنّه وبمجرّد ولادتها وظهورها، قد أحرزت تقدماً ملحوظاً نتيجة للمعرفة الدقيقة للمصادر والمتون الإسلامية من جانب واطّلاعها بشكل كليّ على التجارب التاريخية من جانب آخر(10).
وعلى هذا ـ وخلافاً للسنّة المشهورة، التي ترى في النظريات أموراً منبعثة من المعاني الذاتية وغير التاريخية للمتون والمصادر الدينية ـ يتّضح أنَّ هذه النظريات هي التي قد فرضت معنىً وتفسيراً خاصَّين على المصادر الإسلامية(11).
وبالالتفات إلى النكتة المشار إليها، يظهر أنّه لا يمكن أبداً ـ ومن خلال الاستناد والاعتماد المحض على النظريات ـ أن يُفهم معنى المصادر والتاريخ السياسي للإسلام، بل إنَّه من الضروري ومن خلال إظهار هذه النظريات الإسلامية ومعارضتها بعضها ببعضها الآخر، وعلى ضوء اكتساب وعي أعمق بشأن المصادر والمتون الإسلامية والتاريخ السياسي للإسلام، أن يقلّل مقدار أخطائها الاحتمالية، ويُقيَّم حجم الانتقائية والانحراف في النصوص والسنن.
ومما يجدر ذكره والإشارة إليه أنه فقط في ظروف مقابلة النظريات بعضها ببعضها الآخر يظهر ويتّضح أكثر المعنى الواقعي للمصادر والمتون، وبشكل عام، السنن الإسلامية(12).
في الأسطر التالية، وبعد بحث قصير بشأن أنواع التعدّدية، سوف نطرح الرؤى المتنوعة التي يمكن استنباطها من النظريات السياسية للمسلمين بشأن المشاركة السياسية.
وكما أشير سابقاً، تعدّ التعدّدية السياسية ـ الاجتماعية الموضوع الأساسي للمنـاقشة الحالية، إلاّ أنّه وبلحاظ الارتباط المهم والبنيوي لهذا الموضوع مع التعدّدية الاعتقادية ـ الثقافية، سوف تتمّ الإشارة أيضاً ـ وبشكل إجمالي ـ إلى الدائرة الثانية للبحث، بعنوانها مقدّمة للدخول إلى مسألة التعدّدية السياسية.
1 ـ التعدّدية الاعتقادية
تقوم التعدّدية الإعتقادية أساساً، والتي يُعدُّ الدين أحد عناصرها الرئيسية، على مبنى تنوّع الفهم الفردي والجماعي للدين والمصادر الدينية(13). وبملاحظة عامل “الدين” يمكن تفكيك نوعين من التعدّدية عن بعضها بعضاً: التعدّدية الدينية (بين الأديان) والتعدّدية المذهبية (داخل الأديان)(14)؛ وهنا يمكن أن يطرح هذا السؤال: ما هو موقف المصادر والمباني الإسلامية من هذين النوعين للتعدّدية؟
في الجواب عن هذا السؤال، توجد ثلاث رؤى متفاوتة في ما بينها:
أ ـ بناء على الاعتقاد بحقانية الدين والمذهب، وبالتفسير الديني الواحد، كان المفكرون القدامى يعدّون الملل والنحل الأخرى خارج دائرة الهداية.
طبق هذه الرؤية، الحقيقة ليست متعدّدة الوجوه أو ذات بطونٍ؛ ولأنّه (تعالى) واحد، لا يُحتمل أن تكون الحقيقة بشأنه سوى حقيقة واحدة. ولذا، فإنّ الأديان والعقائد غير الإسلامية الأخرى، تفصلها ـ بطريق أولى ـ مسافة أبعد عن الحقيقة. وقد انجرّ هذا النوع من التفسير الديني إلى دائرة عدم التساهل في ما يتعلق بالجزئيات وفروع المسائل أيضاً(15).
ب ـ في مقابل هذه النزعة الإطلاقية الإفراطية، تقف رؤية مفرطة أخرى تؤكد على البلورالية (التعددية) المطلقة في العقائد الدينية، حيث ترى في الحرب بين موسى× وفرعون نوعاً من اللعب لإشغال "أهل الظاهر"، وفي النهاية، لإلقاء الحيرة وفتح المجال أمام "أهل السرّ والباطن".
في مقالته "الصراط المستقيم" يرى الدكتور "عبدالكريم سروش"، في مثل هذا الاستنتاج، تعدّدية أصيلة في دائرة الأديان. وعلى أساس هذا المبنى تُعدّ عناوين من قبيل "الكافر" و"المؤمن" عناوين فقهية ـ دنيوية بالكامل، تجعلنا غافلين وعاجزين عن رؤية باطن الأمور(16).
طبق هذا التفسير للحقائق الدينية، فإنّ الشوائب الناشئة من امتزاج الحق والباطل قد جعلت أُفق الرؤية مظلماً، وأدت إلى سدِّ باب معرفة الحق من الباطل.
هذه الرؤية، ومن زاويتها المعرفية، رأت أنّ الطبيعة البشرية والبناء الإدراكي للبشر، عاجزان عن إدراك الحق والباطل وتمييز أحدهما من الآخر، واتّخذت بالتالي “النسبية" و"التفسير المطلق" مبنىً لها(17). وعلى صعيد العمل، يظهر أنّ مسلك "النسبية" الإفراطي يتنصّل بأسلوب لبق من مسؤولية تنظيم الحياة الإجتماعية وإدارتها، لأنّ مقولة: "أنّ جميع الأفكار والرؤى صحيحة" التي يتبناها، معناها في مقام العمل أنّه ليس هناك أي فكر صحيح، وفي ظروف تكثّر المعتقدات أكثر من اللازم، لا يمكن ترجيح فكرٍ أو معتقد وتنظيم برنامج للحياة الإجتماعية على أساس منه(18). إلاّ أن نقول: إنّه في ظروف عدم إمكان تبنّي فكر واحد، يكون الطريق الوحيد المفسوح للعيش هو قيام النظام السياسي ـ الإجتماعي على أساس “الإجتماع” الناشئ والحاصل من الحوارات والجدالات الممتدّة إلى دائرة الأمور العامّة(19). ولكن هل مع افتراض عدم وجود أيّ مبانٍ وأصول مشتركة بين الأفكار والمعتقدات، سوف يكون تصوّر مثل هكذا حوار وإجماع أمراً ممكناً؟
ج ـ على صعيد التعدّدية الإعتقادية، توجد رؤية ثالثة تبدو أنها أكثر عقلانية وأكثر قبولاً على الصعيد العملي من الرؤيتين السابقتين.
هذه الرؤية التي تدعو إلى نوعٍ من الحدّ الوسط بين الرؤى، تعتقد بأنّ "البلورالية" الدينية يمكن أن تحظى بفرصة تكون معها مقبولة وموجودة، عندما يقرّ الفرد أو الجماعات البشرية بأصول وحقائق بوصفها أصولاً موضوعة وحقائق مشتركة، أو على الأقلّ، عندما يقبلون مثل هذه الأصول بعنوانها فرضياتٍ قبلية وأصولاً مسلّماً بها.
في الواقع، تعدّ البلورالية أو التعدّدية الدينية ممكنة في الحالة التي يمتلك فيها الناس والجماعات داخل مجتمع ما "ما يشتركون به" و"ما يمتازون به"، فيتعاملون مع "ما يشتركون به" من أمور بوصفه أصولاً "مفروضة"، ويتنافسون في ما بينهم بشأن "ما يمتازون به".
بناءً على هذه الرؤية، لا تعدُّ البلورالية خارج دائرة الدين الواحد ـ منطقاً وعملاً ـ أمراً قابلاً للتصوّر والتحقّق. فالتعدّدية تكتسب معناها في دائرة التعدّدية المذهبية (داخل الدين الواحد). ولا يمكن أبداً، نزولاً عند طلب بعض أهل العرفان النظري والعملي، حرمان الذات والمجتمع من معرفة الحقيقة القريبة، بإظهار عرض بعيد عن الحقيقة وإبرازه(20).
كلّ رؤيةٍ من هذه الرؤى الثلاث بشأن التعدّدية استندت إلى مصادر من النصوص والسنن الإسلامية، والتي سوف نُشير في ما يأتي إلى بعضٍ من أهمها:
إشارة إجمالية إلى أدلّة الرؤى الثلاث في شأن التعدّدية الإعتقادية
أ ـ عدم التعدّدية
كما مرّ سابقاً، فإنّ الرؤية الأولى ليس فيها أي نوعٍ من أنواع المهادنة مع التعدّدية . هذه الرؤية تبنّت، سواء على صعيد الفكر الشيعي أم على صعيد المصادر السنّية، أُطراً غير مرنةٍ من الاستدلال والمستندات الروائية، وقامت بالنقض على كلّ المصادر التي يستفيد منها الطرف المنافس في استدلاله، ورفضتها بشدّة.
وللمثال، ففي مسانيد الشيعة ـ وفي سياق الاستدلال بحديث الغدير على نصب الامام علي× ـ تمّ التأكيـد على وجوب نصب الإمـام والحجّة بناءً على لزوم اللطف الإلهي، في كل مراحل التاريخ. ينقل "الكليني"(21) عن الإمام
الصادق×:
1 ـ "ما زالت الأرض إلاّ ولله فيها الحجّة، يعرفُ الحلال والحرام ويدعو الناس إلى سبيل الله".
2 ـ "إنّ الله أجلُّ وأعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل".
3 ـ "إنّ الله لم يدع الأرض بغير عالم ولولا ذلك لم يُعرف الحق من الباطل".
في المقابل، تنقل مصادر أهل السنة أحاديثاً بأسانيد ودلالات معتبرة (بناءً على أصول الجرح والتعديل عندهم) تتعارض بشكل تام مع جميع استدلالات الشيعة، وتسعى إلى حلّ التناقضات السياسية ـ الدينية بعد رحيل رسول الله’؛ حتى أن "أحمد شلبي" ينكر أصل واقعة "الغدير"(22).
ب ـ التعدّدية المطلقة
الرؤية الثانية، وفي تعارض مع إطلاقية الرؤية الأولى، تقدّم تفسيراً للإسلام يجعل من فكرة التعدّدية الدينية (بين الأديان) والتعددية المذهبية (داخل الدين الواحد) أمراً قابلاً للتشكّل والتحقّق؛ بناءً على مباني هذا التفسير.
وكما ذكر سابقاً، فإنّ “عبدالكريم سروش” يقدّم مثل هذا التفسير للدين الإسلامي، مستنداً ومستعيناً بالإرث التساهلي للعرفان والتصوف. وهو في هذا السياق يفسّر آية ]…إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم[ [الحجرات/13] بوصفها أحد مباني التعدّد والتعارف القرآنية(23). وبشكل عام، باتت تُقبل مؤخّراً الاستنتاجات الشهودية والكشفية المستفادة من التعاليم الإسلامية الموجودة في المجتمع الحالي المعاصر، والتي تمتاز بشكل أكبر بطابع الاستدلالات العقلية ـ الكلامية، والروائية ـ الفقهية. وعلى صعيد العمل أيضاً، ولأسباب متعددة، يجعل العجز عن إبراز البديل بشكل منظم في الحياة الإجتماعية ـ كما عكس تاريخ الفكر العرفاني ـ المرء يغرق في الحيرة(24).
خلافاً لهذه الطريقة، يبيّن "أبو فارس" أحد الكتّاب الجدد عند أهل السنّة ـ البحث بشأن التعدّدية الإعتقادية، بالاعتماد على التوجّه التقليدي للفقه السنّي، وعلى آيات متعددة من القرآن الكريم.
طبقاً لتفسير "أبو فارس"(25)، تصرّحُ النصوص الدينية، ويكشف إجماع الأمة الإسلامية بوضوح، أن الإنسان ليس مجبراً على قبول أيّ دين أو مذهب، بما في ذلك دين الإسلام، قال تعالى: ]لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ[[البقرة/256].
بناءً لرأي"أبو فارس" فإنّ مقتضى الحكمة الإلهية ـ ومن خلال عدم إجبار أحدٍ على قبول دين خاص ـ هو تحمّل كلِّ إنسان مسؤولية مصيره. وذلك لأنّ الحال لو لم تكن على هذه الصورة، وشاء الله، لآمن كلُّ أهل الأرض بالطبع.
قال تعالى: ]وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ[[يونس/199].
]وَلَوْ شَاء الله مَا أَشْرَكُواْ[[الأنعام/107].
]وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً[[هود/118].
في هذه الرؤية الفكرية، تقتضي الحكمة الإلهية، وفي ظلّ حفظ حرية الإنسان وعدم وجود أي إجبار، بأن يبيّن الإيمان والكفر، الهداية والضلالة، الخير والشر، للناس وبأن يُتركوا أحراراً في اختيار واحدٍ من هذين الطريقين، ليكون حساب الناس على أعمالهم أمراً ممكناً ومتصوراً، قال تعالى: ]فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً * أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ[، [الكهف/29 ـ 31] وقال تعالى: ]إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا * إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيرًا * إِنَّ الأبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا[ [الإنسان/3 ـ 5].
وبملاحظة النكات المذكورة، كان أن جعل الله تعالى تبليغ الدين وإقامة الحجّة على الخلق أهم رسالة للأنبياء على الإطلاق، وفي هذا الأمر المهم لم يُلحظ أي نوعٍ من الإكراه والإجبار في مقابل إرادة الإنسان واختياره الحر، قال تعالى: ]رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ[ [النِّساء/165].
]فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَالله بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ[ [آل عمران/20].
]فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ[[الشورى/48].
ويضيف “أبو فارس” أنّ “أصل الحرية الإعتقادية لجميع الناس” قد اعتُبر في القرآن الكريم ـ سواء الآيات المكية أم المدنية ـ أصلاً مفروضاً مفروغاً عنه، ولهذا السبب عينه كان أن أمر النبي’ في نهاية سورة "الكافرون" أن يقول لهم: ]لكم دينكم ولي دين[. وفي آية أخرى يقول: ]وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ[[التَّوبة/6].
بناء على هذه الرؤية، لم يُشرّع الجهاد بهدف التوسّع في الحدود أو فرض العقيدة الإسلامية، بل من أجل حفظ الحرية الإعتقادية لعامّة الناس، والوقوف في وجه غلبة السيـاسة على الفكر، وإجبار أقطاب القدرة على قبول دين معين(26)، قال تعالى: ]وَلَوْلا دَفْعُ الله النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ الله كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[[الحج/40].
في هذه الآية ـ كما يذكر "أبو فارس" ـ تبيّن الإشارة إلى مراكز اليهود والنصارى العبادية إلى جانب ذكر مسجد المسلمين ـ بعنوانها مؤسّسات لنشر العقائد الدينية ـ والتأكيد على أهمية الحفاظ عليها جميعاً، اهتمام الإسلام بالحرية الإعتقادية.
في مكان آخر، يؤكد القرآن الكريم علىمجادلة أهل الكتاب والتعايش معهم بشكل سِلمي، قال تعالى: ]وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[[العنكبوت/46]. وقد ذكرت هذه التوصية في الوقت الذي يُعلن فيه القرآن صراحة أنَّ العقائد الدينية لأتباع هاتين الديانتين ـ الواردة في الإنجيل والتوارة ـ قد تعرّضت إجمالاً لتحريف جدّيّ وحقيقيّ. والآيات الآتية هي أنموذج لهذا التصريح:
1 ـ ]وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ الله[[التوبة/39].
2 ـ ]لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ الله هُوَ الْمَسِيحُ[[المائة/17].
3 ـ ]وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ الله[[التوبة/30].
يشخّص القرآن الكريم بوضوح، إلى جانب تأكيده على حفظ الحرية الدينية، حدود العلاقة والارتباط في ما بين المسلمين وبين أتباع سائر الأديان: حربُ من هبَّ منهم للقتال، والتعايش السلمي مع طالبي السلم من بينهم؛ وفي كلتا الحالتين سوف لن يكون هناك أيّ نوع من الإجبار على ترك الدين والمعتقد، قال تعالى: ]لا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ الله يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[[الممتحنة/8 و9].
ويُسري “أبو فارس” الحرية الإعتقادية إلى أبعد من دائرة أهل الكتاب، وذلك لتشمل الأديان غير الكتابية، ويستندُ في ذلك على حديث لنبي الإسلام’ يقول فيه إن خذوا الجزية من المجوس ـ عبدَة النار ـ ودعوهم يبقون على دينهم(27). ويشير أيضاً إلى تجربة الحكومات الإسلامية في الهند، والتي على الرغم من سيطرتها لمئات السنين على تلك المنطقة، لم تسلُب من الهنود حريتهم الدينية. وبنظر "أبو فارس" أنّ أخذ الجزية والخراج هو من أجل توفير الأمن، واستفادة أهل الكتاب وغيرهم من الخدمات والنفقات المصروفة من قِبل مؤسّسات الدولة الإسلامية، ولا علاقة له أبداً بالعقائد الدينية(28).
ج ـ التعدّدية المذهبية (داخل الدين الواحد)
الرؤية الثالثة لا ترى حدود دائرة التعدّدية واسعة وممتدّة كثيراً. فبناءً على المنطق الاستدلالي لهذه الجماعة، لا تُعدّ التعدّدية الدينية (بين الأديان) ـ طبعاً ليس بين أهل الكتاب أنفسهم، بل تعايش الإسلام مع الأديان غير الكتابية والمشركة ـ أمراً متصوراً، لأنّها تغاير العناصر والأركان الأساسية للدين الإسلامي؛ فالإسلام والأديان والمذاهب غير الكتابية لا تمتلك في ما بينها أي نقطة مشتركة حتى يمكن التوصّل إلى توافق بشأن الأصول الموضوعة، وتتوفر أرضية وأسس للتنافس بشأن "ما به الإمتياز". فعـلى سبيل المثال، أيّ تنافسٍ يمكن أن يُتصور بين الإلحاد (Atheism) والإعتقاد بوجود الله (Theisim)، وبين الفكرالعلماني والفكر القائم على ارتباط الدين بالسياسة، في الوقت الذي يسعىكلّ طرفٍ من بين هؤلاء للقضاء الكامل ـ فكرياً ـ على خصمه؟!(29).
وبشأن مدى دلالة آيات من قبيل ]لكم دينكم ولي دين[ على قبول التعدّدية الإعتقادية، يقول العلاّمة محمد تقي الجعفري (رحمه الله):
"إن كان المقصود بقولـه تعالى ]قل يا أيها الكافرون[ هم المشركون، فمن المؤكّد أنّه لا يريد من ]لكم دينكم[ أن يعدّ هذا الدين ديناً إلهياً مقبولاً ومشروعاً، لأنّ إنكـار الشرك ومجابهته هو أحد أكثر المباني الإعتقادية أصالة للإسلام. فمعنى ]لكم دينكم[ ليس تصديقاً للشرك، بل وكما ورد في بعض الآيات، المقصود هو التوبيخ الشديد للمشركين على عنادهم وإصرارهم الذي يصرّح به تعالى على لسان نبيه’… وهذا لا يتنافى مع إنكار الشرك ومحاربة المشركين في الوقت المناسب"(30).
وفي معرض كلامه هذا، يوضّح العلاّمة محمد تقي الجعفري أنّ آيات من قبيل ]سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون[[البقرة/6] لا يراد منها مطلقا أنّ عدم إيمانهم مقبول من وجهة نظر الإسلام، أو أنّ المقصود هو أن التخاصم معهم قد تُرك أو أنّ النبي’ قد قَبِلَ التعايش معهم. وعلى العكس، فإنّ آية ]إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإِسْلاَمُ[ [آل عمران/19] تُصرّح بأنّ الإسلام بمعناه الخاص المتجلّي في دين محمد’ هو وحده الدين المختار(31).
على أساس هذه النتيجة الحاصلة، يمكن للتعدّدية أن تتحقّق فقط في ظلِّ قبول أصولٍ موضوعة، الأمرالذي من الممكن تحقّقه أيضاً في إطار دينٍ واحد أو بين مؤيدي مذهب خاص في دين من الأديان وأتباعه.
بناءً عليه، بمقدار ما نتحرك بعيداً عن مذهب ما باتجاه الدين الأوسع، ومن ثمَّ باتجاه الأديان المتعدّدة، بمقدار ما سوف تقل ـ ولأسباب عديدة من جملتها نقصان الأصول الموضوعة والمتسالم عليها ـ إمكانية مواجهة مسألة التعدّد؛ يقول تعالى في القرآن الكريم بشأن أهل الكتاب: ]قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالله وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[. [التوبة/29].
وعلى كلّ حال، فالرؤية الثالثة تقوم على أساسٍ بيّن، وهو أنّه مع فرض قبول الأصول الموضوعة لدينٍ أو مذهب ما، تكون التعدّدية في المباني الفقهية والآراء والنتائج العملية المنبعثة من ذلك أمرا مقبولاً، قال تعالى: ]فَبَشِّرْ عِبَاد * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُِ[[الزمر/17 و18].
وبالاستناد إلى قبول التعدّدية في المباني الفقهية ـ الإجتهادية في إطار مذهب أو دين، فإنّ حصيلة الرؤية الثالثة أيضاً ـ على الأقلّ في الدائرة الداخلية الدينية والمذهبية ـ تكون قد اقتربت من الرؤية الثانية، وتقبلُ النتائج السياسية المترتبة على التعدّدية الإعتقادية.
في السطور الآتية أدناه، سوف نتعرّض لمواقف هاتين الفئتين في شأن أطر التعدّدية السياسية ـ الإجتماعية وحدودها؛ وبالطبع سوف يكون تركيزنا على الجانب السياسي.
2 ـ التعددية السياسية
تعدّ التعدّدية السياسية قسماً مهمّا من المشاركة السياسية، التي يُشار إليها تحت عنوان “المشاركة غير المباشرة والتأسيسية للناس في السياسة". والمقصود من التعدّدية السياسية هو وجود الأحزاب والمجموعات والأجنحة السياسية، حيث يؤطّر “الناشطون السياسيون” رؤاهم ومواقفهم السياسية في قالب هذه المؤسّسات(32).
الهدف الرئيسي لهذا النوع من المؤسّسات الحزبية والجناحية، هو الوصول إلى سدّة الحكم، وتولّي المراكز الرسمية للسلطة السياسية، بقصد إدارة الأمور العامّة على أساس رؤاها وبرامجها.
في مجتمع ذي طابع تعدّديّ تمّ فيه تأمين الوحدة السياسية ـ القومية وضمانها وحماية قيم المجتمع على أساس سلسلة من الأصول الموضوعة والعقائد التي لاقت قبول جميع الفئات والمجموعات، يقف الحزب أو الجناح الحاكم دائماً في حالة تعارض ومنافسة مع الأحزاب الأخرى المنافسة، في إطار السعي لبيان السياسات المتّبعة والبرامج التي يمكنها أن تؤمّن أكبر قدرٍ ممكن من المصالح العامّة، وبناء عليه، أن تحافظ على أكبر حجم من تأيّيد الناس(33).
إنّ وجود مثل هذه البنية القائمة على مداراة الناس والحرص عليهم والاعتزاز بهم في مجتمع ذي طابع تعدّدي، يحقّق أمرين مهمّين: أولاً، نشر الوعي وتشكّل المؤسّسات السياسية ـ الشعبية. ثانياً، إيجاد التقارب بين مصالح النظام السياسي والمصلحة العامّة؛ فالحزب أو الجناح الحاكم، وفي ظلّ المنافسة مع الأحزاب المعارضة، سوف يُدرج في الأصل مصلحة الحكومة التي تستطيع أن تحدّد المصالح العامّة وتوفيرها؛ وفي غير هذه الحالة سوف يغادر سدّة الحكومة والسلطة بشكل سلمي.
من الممكن أن تُقسَّم الأحزاب والمجموعات السياسية ويتمّ البحث من شأنها وفق اعتبارين:
قُطريّ واعتقادي. على أساس الاعتبار القطريّ، تنقسم الأحزاب والأجنحة السياسية إلى فئتين: الأحزاب الإقليمية والأحزاب القومية.
المجموعات أو الأحزاب الإقليمية هي عبارة عن مؤسّسات وجماعات تنشط في دائرة الأمور السياسية الإقليمية والمحلّية. هذه الفرق والمجموعات تعتمد في الغالب على المصادر المحليّة، وتُعنى بالطبع بسياسات ذات طابع إقليمي في الأصل. وقد تخوض المجموعات السياسية المحليّة منافسات سياسية في إطار انتخابات أعضاء مجلس الشورى المحلية، وعضوية مجلس الشورى الإسلامي، وفي بعض الأوقات توفّق أيضاً في الوصول إلى المؤسّسات التنفيذية المحليّة، من قبيل رئاسة المحافظات وإدارة الجامعات، والإدارات المحلية. كما تملك عدداً من المطبوعات، والمحافل الإقليمية التي تتشكّل من أعضاء محليين في الغالب، حيث تقوم بشكل متناوب ـ تبعاً للظروف والأوقات ـ بدعم سياسات الأحزاب والتيارات القوميّة ونشاطاتها، ومواكبة ذلك(34).
خـلافاً للمجموعات الإقليمية، تطرح الأحزاب والأجنحة القومية ـ عموماً ـ برامج وأنشطة قومية شاملة. هذا النوع من الأحزاب أو الأجنحة يُظهر الاهتمام عادة بوضع الخطوط العريضة وبوضع السياسات الكبرى على مستوى الحكومة، ويقوم بتنظيم نشاطاته السياسية من خلال تأسيس مكاتبه ودوائره الحزبية ـ الجناحية في المدن ومراكز المحافظات.
وهذه الأحزاب تنتشر مطبوعاتها على مستوى قومي، وتنشغل باستقطاب القوى الفاعلة وتربيتها من مختلف مناطق البلد ومستوياته الاجتماعية. الهدف الأساس لهذا النوع من الأجنحة أو الأحزاب هو الحصول على الأكثرية النيابية، والفوز في منافسات رئاسة الجمهورية، وبشكل عام إحكام السيطرة على مراكز اتّخاذ القرار وصناعته في البلد، من أجل وضع رؤاها وبرامجها موضع التنفيذ، على الصعيد القومي والقطري(35).
وكما أشرنا سابقاً، تنقسم الأحزاب السياسية بلحاظ العقيدة والدين إلى فئتين رئيسيتين أيضاً هما:
أ ـ الأحزاب الإسلامية.
ب ـ الأحزاب غير الإسلامية.
والمقصود من الاحزاب الإسلامية هو الأجنحة والمجموعات التي تؤمن بالأصول الإعتقادية للإسلام: هذا النوع من الأحزاب ـ الذي يمكن وفق الاعتبار القطري تقسيمه إلى فئتين: إقليمية وقومية ـ يصرّ على دور الشريعة الإسلامية وعلى ضرورة تطبيقها مع كافّة مستلزمات الحياة السياسية، والواجبات المترتّبة عليها(36).
يجبُ التأكيد أن التوجّه المذكور، في ما يتعلّق بالعلاقة بين الدين والسياسة، يدعو إلى نتائج على الصعيد السياسي هي بطبيعتها الذاتية تحمل أبعاداً تعدّدية ونخبوية، وذلك لأنّه مع افتراض دورٍ وتدخّل للدين في السياسة، فإنّ المسألة الأولى التي تُطرح هي ضرورة قراءة وفهم ـ وبشكل عام ـ تفسير المتون والمصادر الشرعية.
وهذا الأمر، بناءً على الاتجاه الحتمي للأفهام نحو التعدّد من ناحية، وعلى تعدّد المفسّرين من ناحية أخرى ـ وهو ما ساق ويسوق الجماعات البشرية نحو ضرورة تقليد هذا المفسّر أو ذاك ـ يضع حجر الزاوية للتعدّدية الفكرية ـ السياسية داخل المجتمع الإسلامي(37).
وبالالتفات إلى الخصائص المذكورة آنفاً للأحزاب الإسلامية، يمكن تصنيف هذه المجموعات في فئتين من الأحزاب: أحزاب دينية ـ فِرَقية، وأحزاب فقهية ـ إجتهادية.
في السطور الآتية، سوف نتعرّض أكثر لماهيّة هذا النوع من الأحزاب الدينية، وأسلوب عملها.
أمّا الأحزاب غير الإسلامية التي لا تؤمن بالأصول الاعتقادية للإسلام، وتنكر حقانية الدين الإسلامي، ولا تلتزم بشريعة نبي الإسلام’، فتنقسم وفق الاعتبار الاعتقادي إلى ثلاثة أقسام: الأحزاب الكتابية، الأحزاب غير الكتابية، الأحزاب العلمانية.
التعدّدية السياسية في إطار الحكومة الإسلامية
يحمل الإسلام، بناءً على منظومته الإعتقادية، موقفاً متبايناً من التعدّدية المنتجة لأحزاب إسلامية وغير إسلامية، حيث يبدو أنّ “الحكومة الإسلامية” تقف موقفاً سلبياً ـ وبشكل مطلق ـ من الأحزاب غير الإسلامية، إلاّ أنّها وبحسب الأصول وعلى أساس الأحكام والأُطُر التي تظهر متفاوتة في النظريات الإسلامية المختلفة، تحملُ رؤية إيجابية بشأن الأحزاب الإسلامية.
أ ـ الاحزاب غير الإسلامية
لا يمنح المجتمع الإسلامي المشروعية للتعدّدية المطلقة في مجال السياسة؛ وذلك بأن تنشط الأحزاب غير الإسلامية فيه، مثلها مثل الأحزاب الإسلامية. بناءً عليه، لا تمتلك الأحزاب غير الإسلامية ـ سواء الكتابية وغير الكتابية أم العلمانية ـ والتي تنفي نظام القيم، والأخلاق، والشريعة، والقضاء والحكومة الإسلامية وتستغني عنه، فرصة التحرك على الصعيد القومي والوطني للأسباب الآتية(38):
1 ـ إنّ منطق التعدّدية السياسية يقوم على أساس إقناع الناس بالالتزام بالعقائد والأهداف والبرامج الحزبية، ومن المسلّم به أنّ أهم مباني الأحزاب غير الإسلامية ـ على الإطلاق ـ هو مخالفة القيم الإسلامية، في حين أنّ من أهم ما تصرّح به الدساتير في "الدولة أو الدول الإسلامية" هو حراسة الدين وتنمية القيم الدينية والإسلامية في المجتمع.
2 ـ تعمدُ الأحزاب غير الإسلامية على التبليغ لمبانيها الاعتقادية، وهي بذلك تهيِّئ مقدّمات تكفير وارتداد أفراد المجتمع الإسلامي. وهذا الأمر يكون مغايراً للنظام الاجتماعي والمدني والسياسي ـ إذا التفتنا إلى وجوب قتل المرتد في الفقه الإسلامي، وإلى وجوب حفظ دماء المسلمين وأموالهم ـ ومتناقضاً مع أحكام الارتداد في الشريعة الإسلامية(39).
3 ـ التعدّدية السياسية، وكما أشرنا في الفصل الأول، ناظرة إلى النشاط المؤسّساتي المنظّم للناشطين السياسيين في داخل النظام والحكومة الإسلامية. بناءً عليه، الأصل في التعدّدية السياسية هو الالتزام بالدستور وسائر قوانين الحكومة. ودستور الحكومـة الإسلامية من الأساس مبني على القرآن الكريم وسائر النصوص الدينية والفقهية، وعلى السيرة والإجماع؛ وهذه، جميعها، تمنع من ظهور حزب سياسي غير ملتزم بالعقيدة والشريعة الإسلاميتين(40).
4 ـ إنّ أحد الأصول الاجتماعية والاعتقادية للمسلمين هو قاعدة "نفي السبيل" وعدم سلطة الكفار على المسلمين، كما قال تعالى: ]ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً[ [النساء/41]. لذا ففي الحالة التي يتمكّن معها كلّ حزب غير إسلامي من الوصول إلى سدّة السلطة في المجتمع الإسلامي، سيكون ـ وخلافاً للآية ـ قد أحرز التفوق الكامل على المسلمين؛ وهو بذلك يمهِّد كلّ موجبات الاستخفاف بدين المسلمين وأعراضهم وأموالهم.
إن إجماع المسلمين قائم على أنّ الحاكم الإسلامي إذا ارتدّ، يكون مستحقّاً للعزل والخلع، والقيام ضده. وبهذا كتب محمد رشيد رضا في تفسيره “المنار” قائلاً: "يُجمع المسلمون على أنّ الخروج على حاكم مسلمٍ قد ارتدَّ أمر واجب. كذلك يعتبر استحلال وإباحة ما تعدُّ حرمته ثابتة ومسلّمة في النصوص أو على أساس الإجماع: من قبيل الزنا، وشرب الخمر، وكذلك تعليق وإبطال أحكام الشرع وحدوده ـ ما دام أنّ الله لم يأذن بذلك ـ من مصاديق الكفر والإرتداد"(41).
ويشير العلاّمة الحلّي، في كتابه "شرح الباب الحادي عشر" نقلاً عن النبيّ الأكرم’ أنّه قال: "ألا لا ترجعوا بعدي كُفَّاراً"(42). كما جاء في الآيات الكريمة أيضاً: ]ومن يرتدّ منكم عن دينهِ فيمت وهوَ كافرٌ فأولئكَ حبطتْ أعمالُهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار[[البقرة/217]. و]إنّ اللهَ لا يغفر أن يشرك بهِ ويغفر ما دونَ ذلك لمن يشاء[[النساء/48].
ب ـ الأحزاب والمجموعات الإسلامية
يقبل الدين الإسلامي التعدّدية السياسية المبنية على شريعة الإسلام وأصوله الإعتقادية. في ظلِّ هذا النوع من التعدّدية، تعتقد الأحزاب السياسية بحاكمية الله تعالى، وتلتزم بعدم مخالفة الأحكام السياسية (التي تتبناها) للمصادر الدينية والنصوص والسنن، وترى في الدين الإسلامي المصدر الوحيد للتشريع، وتصرّح بأنّها في حالة الوصول إلى سدّة السلطة السياسية، سوف لن تحيد قيد أُنملة عن الأصول والمباني الإسلامية(43).
يمكن تقسيم الأحزاب والمجموعات الإسلامية التي تنشط على مستوى إقليمي ـ وعموماً على مستوى النشاطات القومية والوطنية ـ بلحاظ المباني الكلامية والاجتهادية إلى نوعين من الأحزاب: الأحزاب الدينية ـ الفِرَقية، والأحزاب الفقهية ـ الاجتهادية.
وبالرغم من أن الكتابات والآثار المرتبطة بالتعدّدية الإسلامية قليلة جداً، أو أنّنا بالفعل نفتقد كلّ نوعٍ من أنواع الكتابة على هذا الصعيد، إلاّ أنّه على ما يبدو في صورة الطرح الصحيح للمسألة في دوائر المذاهب الإسلامية ـ خصوصاً في الظروف الحالية التي تطرح فيها سياسة التقريب بين المذاهب على صعيد العالم الإسلامي بجدّ ـ سوف لن يمتد الطريق طويلاً أمام الكشف عن الأسس الكلامية والفقهية للتعدّدية الإسلامية.
وفي الوقت نفسه، وبسبب الاختلافات التاريخية ـ الكلامية المهمة بين المذاهب الإسلامية، تواجه التعدّدية المرتبطة بالأحزاب الدينية ـ الفِرَقية موانع أكثر نسبياً، وأشدُّ تعقيداً. لكن الأحزاب الفقهية ـ الاجتهادية التي تبنّت المباني الكلامية لمذهب من المذاهب الإسلامية ـ خصوصاً في الظروف الحالية لإيران حيث الأغلبية العظمى من الناس تعتقد بالمذهب الشيعي ـ سوف لن تواجه أي نوعٍٍ من أنواع المشاكل الأصولية والبنيويَّة.
هذه الطائفة من الأحزاب والمجموعات السياسية، وفي ظلّ الاعتقاد بالأصول أو المبادئ الشيعية، تختلف و"تتنافس" في ما بينها بالنسبة لوسائل الحكم وأساليبه، وإدارة الأمور العامّة؛ والاختلافات الموجودة على الأصول إما ناشئة من الرؤى الفقهية، أو هي نتاج "مرجعية الناس في معرفة الموضوعات السياسية وتشخيصها"، والتي قد تمّ تبنّيها في النظام الفقهي الإسلامي(44).
في التعدّدية الإسلامية من النوع الأخير، والتي من الممكن تسميتها أيضاً بالتعدّدية الفقهية ـ الإجتهادية نلاحظ أن النظريات الاجتهادية للنخبة الدينية ـ السياسية، أي العلماء والمجتهدين النَّاشطين في ساحة الدين والسياسة، وأيضاً المجموعات والجماعات المتخصصة في الموضوعات السياسية ـ وبعبارة أخرى "خبراء السياسة" ـ هي التي تشكّل مبنى النشاطات الحزبية. وهذه النخبة، بقدر وتعداد الأنصار والمؤيدين من عامّة الناس الذين ينظرون إلى آرائهم وأعمالهم بتأييد واحترام، سوف تحوز قدرة المنافسة والمشاركة في مجال الحكومة ـ وبشكل عام ـ في الشأن السياسي.
وعلى كل حال، يظهر أنّه يوجد في الثقافة الإسلامية ـ خصوصاً في النظام الفقهي للشيعة ـ نوع من التعدّدية التي تمتلك من الناحية النظرية قابلية التبدّل إلى “تعدّدية سياسية” أو "أحزاب إسلامية". فمن وجهة نظر الشيعة (وأيضاً في المنظومات الفقهية الأخرى) وبدافع من أنّ أغلب الأمور نظرية، فإنّ طريق الاجتهاد وإبداء الرأي والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المباحث الإجتماعية ـ السياسية مفتوح(45). وكما يقول الإمام الخميني (قدس سره): "طالما أنّ إبداء الرأي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبشكل عام كلَّ نوعٍ من أنواع النشاط السياسي، لم ينجرّ إلى المنازعة والجرح والقتل سوف لن يحتاج إلى إجازة الولي الفقيه وإذنه"(46).
غاية الأمر، أنّ لهذا التعدّد النظري، وفي النتيجة، السياسي ـ الاجتماعي، رابطة دقيقة مع صلاحيات الولي الفقيه وأحكامه الولائية، حيث يتجلّى في النظريات الشيعية المتعدّدة في شكل علاقات وفروع متنوعة.
في السطور الآتية، سوف نقوم ببحث النظريات المختلفة للحاكمية الإسلامية وعلاقتها بالتعدّدية السياسية المطروحة.
وخلاصة، يمكن القول: إنّ المقصود من التعدّدية السياسية في ظل الحكومة الإسلامية هو أنّ كلّ حزب إسلامي يمكنه أن يتحرك وينشط في إطار السعي لاستقطاب الناس وإقناعهم في شأن صحّة برامجه الحكومية وفائدتها، في حال وصوله إلى سدّة السلطة السياسية.
هذه النشاطات ـ إضافة إلى قيامها على أساس احترام الأصول والمبادئ الإسلامية ـ تقوم أيضاً على خلفية مشروعية الاجتهادات المتباينة والمتفاوتة في شأن الحكومة والمجتمع(47).
بعض آثار التعدّدية
يذكر محمد عبدالقادر "أبو فارس" بعضاً من الآثار السلبية للتعدّدية والتحزّب داخل الحكومة الإسلامية(48).
هذه الآثار السلبيةُ التي تعدّ، في نظر بعضٍ من المفكّرين الإسلاميين بمثابة لوازم ذاتية للتعدّدية، وفي نظر بعض آخر على العكس من ذلك، قد تبدّت وظهرت بوضوح في النشاطات الانتخابية لرئاسة الجمهورية الإسلامية، ربيع عام 1376 هـ.ش، في إيران.
1 ـ من أهم الآثار السلبية للتعدّدية على الإطلاق، إيجاد التفرقة والتنازع، وإحياء الإختلافات الكامنة في المجتمع الإسلامي ونشرها، الأمر الذي يبعث على إضعاف قوى الأمّة، وتزلزل بنيان الحكومة الإسلامية في مواجهة الأعداء قال تعالى: ]وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ[[الأنفال/46].
2 ـ من الاعتراضـات الأخرى المهمّة على التعدّدية السياسية هي أنّها تؤدي إلى محدودية عقلنة الحياة في المجتمع، كما تؤدّي إلى نمو الخداع في العقائد والأفكار، ومن خلال إيجاد جوٍّ من الشك وعدم الاطمئنان، تفسدُ على المجتمع هدوءه وسكينته.
طبق هذا الاستدلال، الإنسان الذي يصابُ بالشكّ والتردد في أصول عقيدته ومبانيها، لا يستطيع أن يخدم مجتمعه بعد ذلك، بل لا يستطيع أن يمتلك تصوراً صحيحاً لهويته.
إنّ الشابّ الذي لا يكون مطمئناً لماهيّة الأسس التي تبنى عليها حياته، ولحقيقة الهدف من حياته، وما الذي تعنيه كلمة "البشرية" من الأصل، يتفوه بكلماتٍ وتخطُر في باله خيالات، لا ينطق بها ولا يتصورها حتى المؤسّسون لمبدأ "العبثية". إنّ هذا ليس رقابة على العلم أو تحديداً له، بل هو رأفة بالإنسانية(49).
هذا النوع من المنتقدين يعتقدون بأنّه ليس هناك من مانع أمام عرض النظريات وتطبيقها حينما لا تؤدّي إشاعتها إلى إيجاد اضطراب وبلبلة في أذهان الناس. لكن على كل حال، الأصل في التعدّدية ـ خصوصاً لدى الأحزاب الإسلامية ـ هو عرض النظريات، المناهج والمواقف والبرامج، في الملأ العام، كي تتمكّن بالتالي من جذب الرأي العام وتحريكه. وهذا الأمر، لا نتيجة له سوى إيجاد الاضطراب النفسي وزيادة ألمٍ آخر إلى آلام المجتمع. يقول أحد المفكّرين المعاصرين:
"إنّ ما اشترطناه من ألاّ يبعث طرح النظريات المختلفة على الاضطرابات، هو بسبب أنّ الناس يرغبون بشكل جدّي ـ نظراً لوضعهم العقلي والنفسي ـ في أن يعيشوا حياة هادئة، وليس الإخلال بهذا الهدوء مجرّد فقدانٍ لنوعٍ من اللّذة فقط، بل سوف يؤدّي إلى حدوث اختلالٍ في الثقافة الدينية والأخلاقية، وحتى الحقوقية والسياسية"(50).
ويضيف هذا المفكر قائلاً:
"الحداثة والتجديد، نعم، وأمّا الإخلال بعقول ونفوس الناس والمجتمع فلا.. وللمجتمع من الناحية الحقوقية والسياسية والثقافية.. طريق يخطّه ويمضي عليه؛ فلماذا يجب ـ ودون الإثبات بالأدلة القطعية، ولمجرّد شعور تيار التجديد والمجددين المزعوم بالرضى ـ أن يُصاب بالإضطراب؟"(51).
3 ـ في التعدّد السياسي، يرتكبُ الناشطون الحزبيون ومؤيدوهم من الناس ـ قهراً ـ بعضاً من المحظورات والمحرمات الشرعية. فمسائل من قبيل الغيبة، والنميمة، والكذب، وشهادة الزور، والثناء في غير محلّه على المقرّبين، وشتم الأعداء والخصوم، والافتراء، والتجسّس المحرّم المؤدّي إلى إذلال الشخصية وسحقها واحتقارها والتستّر على الوجه الحقيقي للمناوئين، وبشكل عام فإنّ صناعة الشخصيات ووضعها في غير محلها، سواء الإيجابية منها أم السلبية، إنّما تحصل في ظلِّ الإعلام المثير لمشاعر الناس"(52).
4 ـ العصبية الحزبية، والالتزام برأي الحزب ومصالحه، أفقٌ آخر من آفاق التعدّدية السياسية التي تؤدّي إلى المساس بعقلانية الأفراد وحريّة تفكيرهم في المجتمع.
في مجتمع كهذا، يضع الناشطون السياسيون الذين يتولّون مسؤولية المناصب الحكومية، العقل والتدبير جانباً، ويعملون طبق توجّهات حزبهم أو اتجاههم.
في الواقع، يقوم هؤلاء بتوجيه الكثير من القوانين وتفسيرها، والسنن وأحكام الشريعة بناءً على مصالح حزبهم ومجموعتهم الخاصّة، وفي بعض الظروف يزكّون أنفسهم ومجموعتهم في قبال الطرف المنافس: ]فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى[[النجم/32].
بشكل عامّ، تصاب الأنظمة الحزبية، في ظلّ التعدّدية، بتغيير ماهوي، حيث تخرج عن دورها الخاص والأساسي في كـونها أداة للمشاركة السياسية إلى كونها أداة للإفراط في تعظيم الحزب وتقديسه(53). وبعبارة أخرى، بدلاً من أن تكون مؤسّسة الحزب والمجموعة في خدمة الأفراد، يصير الأفراد في خدمة منافع الأحزاب والأجنحة.
التأمّل في الآثار الإيجابية والسلبية للتعدّدية
التعدّدية السيـاسية ـ كما أشرنا إلى بعض آثارها السلبية ـ هي أمر ذو وجهين، حيث تترك في الوقت نفسه نتائج سلبية وإيجابية في ساحة الحياة العامّة. وبعبارة أفضل، لكلٍّ من وجود التعدّدية السياسية وعدمها آثار سلبية، لكن كيف يمكن الاختيار بين هاتين الحالتين، وطبقاً للقاعدة، الإقدام على دفع الأفسد بالفاسد؟ أليست التعدّدية السياسية، مع كلّ ما تحمله من مشكلات، أقلّ خطراً من المشكلات الناشئة من فقدانها؟
في تقييم المسائل أعلاه، يعدُّ التعرّف إلى بدائل التعدّدية السياسية في إدارة الحكومة الإسلامية، وتقييمها الخطوة الأولى. والبديلان المطروحان هما: الحكم الفردي، وحكم الحزب الواحد. وكلا هذين النوعين من الحكم ـ كما يشير تاريخ تطوّر الأنظمة السياسية، خصوصاً في إطار الحضارة الإسلامية ـ قد وقع في أسر الاستبداد، والفساد السياسي والاقتصادي والإداري، وسَلَب الحريات العامّة(54)؛ لأنّ الحكام في هذه الحكومات لا يرون أيّ نوع من أنواع الرقابة، أو الإحساس بوجود الرقيب والحسيب الذي يمكن أن يحسابهم علىتصرفاتهم وأخطائهم. وشيئاً فشيئاً تتسع الهوّة بين الأفراد والجماعات وبين أمثال هذه الحكومات، ويؤدّي تراكم الاعتراضات والمشاعر المكبوتة والعُقَد، إلى ثورات دمويّة وحالات من الفوضى، وانقلابات متواصلة في المجتمعات الإسلامية(55).
في حين أنّ المعارضة والمنافسة السياسية، في إطار التعدّدية القائمة على أساس المباني الشرعية، تأخذ وسائل الرقابة على الحكومة بعين الإعتبار، وتوفّر في الظروف الضرورية إنتقال السلطة السياسية إلى المنافس المُسلِم للجناح الحاكم، من دون إراقة للدماء أو عنف.وعليه، يبدو أنّ التعدّدية السياسية ليست مجرد خيار، بل ـ وبناءً على مفاسد الحكم الفردي وحكم الحزب الواحد ـ تعدُّ أمراً ضرورياً. وهذا النوع من التعدّدية الذي ينبع من الشريعة والمباني الإسلامية ـ إضافة إلى تقويته للوفاق الوطني والدوافع الوطنية للمشاركة، ومنعه لركود المجتمع سياسياً ـ يجعل الرقابة على الحاكم أو على الحزب والجماعة الحاكمة، ويمهّد الفرصة أمام تحقيق مصلحة النظام السياسي والشعب(56).
بملاحظة ما أشرنا إليه، تقتضي ضرورة التعدّدية السياسية بذلَ الجهد المضاعف في معالجة ـ أو التقليل من ـ الآثار والنتائج السلبية لهذا المنهج أو المسار السياسي.
أحد أهم هذه الجهود على الإطلاق هو "مَأْسَسَة" النشاطات الحزبية وإيجاد الرقابة القانونية عليها، الأمر الذي يستطيع في ظلّ تمهيد الجوّ السليم للمنافَسة السياسية على أساس الـرؤى الاجتهادية ـ الفقهية، والآداب الشرعية والقانونية، أن يحفظ بشكل شامل المنافسة السياسية وحقوق المشاركين فيها(57).
ومن جملة الأمور المفترضة هو أن كل إنسان أو حزب أو جماعة، معرّض للخطأ في اجتهاد واستنباطه؛ وليس من أحدٍ معصوم سوى الأئمة (عليهم السلام). وبناءً عليه؛ فكلّ جماعة تبدي نظرها في المسائل الإجتهادية تنال أجرين في اجتهادها إن أصابت، وأجراً واحداً إن هي أخطأت. وفي كلا الحالتين، الحزب أو الجماعة الإسلامية هما اللذان لن يكون للخطأ في اجتهادهما أي ضرر(58).
وفي هذا الخصوص، المهم هو المنافسة بالحسنى ]وجادلهمَ بالتي هي أحسن[[النحل/125]، ورعاية الحدود الفقهية لهذا الجدال وهذه المنافسة، لأنّه وخصوصاً في المسائل السياسية ـ الإجتماعية، يمكن تصوّر العديد من الاستنتاجات والاستفادات المختلفة من الأحكام الشرعية؛ وكما أشار بعض المحقّقين، كم هناك من أحكام متفاوتة في الموارد الخاصة، وكم أنّ الشيء أو المصداق الواحد تكون له أحكام متعدّدة بحسب الإفتراضات المختلفة (المتعلقة به)(59).
نقل في "السرائر"(60) عن الإمام الصادق×: "إنما علينا أن نلقي إليكم الأصول وعليكم أن تفرّعوا". وجاء في “البصائر"(61) أيضاً عن علي بن أبي حمزة وأبي بصير، عن الإمام الصادق×: "إني لأتكلم بالكلمة الواحدة (وقيل: بالحرف الواحد) لي فيه سبعون وجهاً، إن شئت أخذت كذا وإن شئت أخذتُ كذا"(62).
وفي "علل الشرائع"(63) نقلت رواية ملفتة عن إبن الوليد، بسند معتبر عن أبي الحسن× أنّه قال: "إختلاف أصحابي لكم رحمة، وقال’: إذا كان ذلك (أي ظهور الحق وقيام القائم× جمعتكم على أمرٍ واحد. وسئل عن اختلاف أصحابنا فقال’: أنا فعلتُ ذلك بكم. لو اجتمعتم على أمرٍ واحد لأُخذ برقابكم"(64).
وقد ذكر صاحب كتاب "عوالم العلوم والمعارف والأحوال" توضيحات مفصّلة في شأن علل الاختلاف في الروايات، وأسباب اختلاف الأصحاب من الشيعة في أحكام الشريعة، نُعرِضُ هنا عن الخوض فيها.
وعلى كل حال، لا يبدو أنّ التعدّدية السياسية في الإسلام ـ تفتقد للدعامة النظرية أو للمصادر الدينية المخالفة لذلك، إلاّ أن النكتة المشار إليها أعلاه ليست أيضاً بمعنى أن مثل هذا المفهوم في الإسلام يفتقد أي نوع من أنواع القَدر المتيقن، بل المقصود من ذلك هو أن جهاز الشريعة ـ لا سيما في الفقه الشيعي ـ يقبل مشاركة الناس في مصيره، إلى جانب رعاية الأصول والقيم الخاصّة. في الحكومة الإسلامية، لا توجد أية ضرورة لتقديم التعدّدية السياسية بصورة إطلاقية وغير قابلة للتطبيق على ظروفها ومبانيها الدينية، بل إنّ هذا المفهوم أيضاً ـ كسائر المفاهيم السياسية حال التطبيق ـ يتحقّق في أثر القيم العامّة والأُطر التأسيسية والبنيوية "للمجتع والحكومة الإسلامية"(65).
بافتراضٍ كهذا، وهو أنّ أساس التعدّدية السياسية لا يعارض المباني الشرعية للإسلام، ومن جانب آخر، أنّه يوجد رجحان في ما يتعلّق ببدائل الإدارة السياسية المنافسة، يصبح من الممكن علاج آثار التعدّدية السياسية وأبعادها السلبية. وبعنوان المثال، فإنّ الطريق الوحيد لمنع شرعنة محظورات شرعية من قبيل الغيبة، والنميمة، وشهادة الزّور، والتجسّس الحرام، وسوء الظن، وكشف أسرار الناس وأمثال ذلك، والتي تُضعف الروابط الإجتماعية للمسلمين، ومن جملتها عدد من الظواهر التي توجد لدى غياب الاحزاب السياسية أيضاً هو التذكّر الدائم للعقوبات الأخروية، وإعداد القوانين والمقرّرات الخاصّة ونشرها في المجتمع بهدف مجازاة المرتكبين لها ومراقبتهم.
ومثل هكذا هدف، لا سيما في ظروف تحقّق التعدّدية السياسية، يمكن الوصول إليه بشكل أكبر وأكثر شفافية(66).
ومن الطبيعي أيضاً أن يكون للأحزاب السياسية قواها ومصالحها خلال أحداث مواجهاتها الانتخابية ومنافستها مع الخصم، والتي من الممكن أن تبدو للوهلة الأولى على تعارضٍ مع المصلحة العامّة للمسلمين، سواء القومية أم الدينية، إلاّ أنّه للسببين اللذين سنشير إليهما في ما يأتي، تسعى الأحزاب السياسية لتعديل منافعها الحزبية ومطابقتها مع المصالح الوطنية والإسلامية للمجتمع ـ وبشكل إجمالي، مع المصالح العامّة ـ وإن كانت تبذلُ مساعي أيضاً في طريق توجيه المصـالح العامّة وإرشادها، من أجل أن تقترب من المصالح الحزبية.
لكن يجب التأكيد على أنّ المصالح العامّة نفسها، وبعبارة أفضل، المعرفة العامّة بالمصالح العامّة تتشكّل في ضوء هذا الديالكتيك (الجدلية) المتواصل بين المصالح الحزبية والأحكام العمومية، وفي النهاية تأخذ طريقها نحو الظهور في ساحة الآراء العمومية.
أما السببان فهما:
1 ـ بدليل حاجتها إلى رأي الناس في المنافسة والمواجهة، تسعى الأحزاب السياسية الإسلامية إلى الأخذ بعين الاعتبار الحاجات والمتطلبات والميول العامّة للمجتمع.
وتعبّر الأحزاب السياسية عن تناغمها مع الإرادة العمومية في قالب برامجها الإنتخابية، وتتعهّد ـ بنحو ما ـ علانيةً بتنفيذها.
2 ـ بعد الانتصار والوصول إلى سُدّة المناصب السياسية، ونظراً للعيون اليقظة للأحزاب ولوسائل الإعلام المنافسة، يحرصُ الحزب المنتصر دوماً على إظهار نفسه بصورة الملتزم ببرامجه المعلنة، وبهذا الأسلوب يمتلك قدرة الحفاظ على حجم الرأي العام، وتأييد الأفكار العمومية.
بملاحظة السَّببين المشار إليهما، يبدو للعيان أنّ فكرة التعارض بين مصالح التيارات السياسية وبين المصالح العامّة للمجتمع ليست بأكثر من وهم. المهم هو أنه في مجتمع ذي طابع تعدّدي، ليست المصالح العامّة والحزبية مصالح ثابتة وغير متغيرة، بل بشكل دائم تتطابقان وتتفاوتان. ومن هكذا علاقة ديالكتيكية، تتأتى نتيجتان: أولاً، المصالح العامّة والحزبية يتمّ تعديلها وإصلاحها بالتدريج. ثانياً، تعدّ المصالح العامّة مِلاك الحكم النهائي في قبول أو عدم قبول ـ وفي النتيجة ـ الصحّة والسَّقم الإجتماعيين ـ المصلحة السلوكية ـ للمصالح الحزبية والتيارية.
وبهذا المعنى، حينما تتناغم هاتان المصلحتان، أي تنطبق المصلحة العامّة مع مصالح حزب أو اتجاه، يصلُ هذا الحزبُ أو الاتجاه إلى سُدّة المناصب الحكومية، وفي حالة عدم الانطباق، يقفُ على مسافةٍ من المصادر السياسية.
إنّ طراز التعبير عن الآراء والمنافسات الانتخابية هو الذي يتولّى مسؤولية ديناميكية هذا القبض والبسط في المصالح والسلطة، في حين تعيّن الشريعة الإسلامية حدودها67)). وفي ما يأتي سوف نشير إلى بعضٍ من هذه الحدود والضوابط.
قواعد التعدّدية السياسية في الحكومة الإسلامية
بالنظر إلى الخصائص والحدود التي تتّصف بها التعدّدية السياسية في الحكومة الإسلامية، أشار بعض من الكتّاب المعاصرين(68) إلى ضوابط وقواعد معينة لنشاط الناشطين السياسيين في داخل المجتمع الإسلامي:
1 ـ أول شرط للنشاط السياسي هو إيمان الناشطين السياسيين، والأحزاب والمجموعات بأصول العقيدة الإسلامية والشريعة المنبعثة منها. يقول الله تعالى: ]إن الدين عند الله الإسلام[[آل عمران/85]، و]من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يُقبل منه[[آل عمران].
2 ـ لا يستطيع أي ّحزب أو جماعة سياسية تنشط في داخل المجتمع الإسلامي أن تتعاون مع الجماعات المناوئة للايمان بالإسلام، أو أن تُظهر الولاء والمودة لها. يقول تعالى في سورة المائدة: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[[المائدة/51]. ويقول تبارك وتعالى أيضاً: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ[[المائدة/57].
وفي الآية الأخيرة، تمّ التأكيد على خصوص تلك الفئة من الكفار وأهل الكتاب الذين استخفُّوا ويستخفُّون بالإسلام، وتمّت التوصية بالامتناع عن التعاون معهم وموالاتهم. وتوصي الآية الكريمة من سورة التوبة بصراحة أكبر أنّه يجب على المؤمنين أن يتبرَّأوا من إخوانهم وآبائهم الذين يرجّحون الكفر على الإيمان:
]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[[التوبة/23].
وفي سائر الآيات اللاحقة من سورة التوبة، تكرّر الذمُّ لقرابات الدم، وللقرابات النسبية والسببية التي تؤدّي إلى غضّ الطرف عن مصالح الدين وإقامة أحكام الله تعالى النبي’.
3 ـ القاعدة والضابطة الثالثة التي أشار إليها بعض من الكتاب، هي محاربة كلّ واحد من الأحزاب والاتجاهات والتيارات السياسية، للأفكار والمجموعات التي تسعى إلى إبعاد الإسلام عن ساحة الحياة السياسية ومجالها، وإلى حصر الأحكام الإسلامية بالدائرة الخصوصية، الشخصية وغير العامّة، من حياة الأفراد(69). في حين أن كثيراً من الأحكام الإسلامية تمتلك ماهيّة إجتماعية وسياسية، قال تعالى: ]وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[[المائدة/47]، ]فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[[المائدة/46]. ]فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[[المائدة/44].
4 ـ عدّ بعض المفكرين أيضاً الرقابة على استمرار عدم مخالفة الأحكام الساسية والمقرّرات الحزبية للشريعة الإسلامية، أحد أهم شروط التعدّدية السياسية وقواعدها. وينتقد القرآن الكريم بشدّة الأشخاص الذين يسعون لتحريف الأحكام والأصول الإسلامية بذريعة بعض المصالح، فيقول عزّ من قائل:
]يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ … يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ[[المائدة/41]،]أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[[البقرة/75].
5 ـ القاعدة الخامسة ـ والتي غالباً ما أُشير إليها ـ هي رعاية الموازين الفقهية والشرعية في حالات اختلاف وجهات النظر، والمواجهة مع الأحزاب المنافسة.
لازم هذا الأمر هو اختيار وسائل مشروعة في الدعاية الحزبية، وجذب الأفراد، وتنظيم البرامج والأهداف الحزبية بنحو لا يؤدّي إلى وقوع الظلم والبهتان بحقّ الأفراد والأحزاب والجماعات المنافسة. وقد نقل عن رسول الله’ أنّه قال: "إتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحُها وخالق الناس بخُلق حسن"(70).
كذلك ـ وبسبب تصدّيها للشؤون السياسية وللسلطات العامّة ـ غالباً ما تكون الأحزاب السياسية في البلدان والمجتمعات عرضة لهذا الخطر وهو أن تسخّر المصالح والأموال العامّة لغرض تحقيق المنافع الحزبية، بل وحتى لتحقيق الميول الشخصية للقادة الحزبيين، في حين أنّ جميع المصالح والموارد المشار إليها آنفاً تعدُّ جزءاً من الآمانات العامّة،وطبقاً للقاعدة الفقهية يعدّ وجوب الحفاظ على الأمانة وعدم خيانتها إحدى أهم التوصيات والقيم الإسلامية على الإطلاق. يقول الله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ[[الأنفال/27].
6 ـ من أهم قواعد التعدّدية السياسية والتنافس على الإطلاق، حرص الأحزاب والجماعات السياسية على وحدة الأمة الإسلامية والوحدة القومية. من هنا، تكون المواجهة والمنافسة السياسية فاعلة وإيجابية ما دامت تبتعد عن كل نوع من أنواع الإضرار بوحدة المجتمع الإسلامي، وتحافظ على حدود التنافس المبني على عدم العنف والتفرقة وضوابطه وتراعيه. وبالعناية والاهتمام بضـرورة وحدة المجتمع، تمتاز التعدّدية السياسية في الحكومة الإسلامية بخاصيتين اثنتين: الاولى، الرأفة والرحمة في ما يتعلّق بالأحزاب الإسلامية أو بالطرف المنافس. الثانية، التعبئة الشاملة ضد الكفار والمعتدين.
هاتان الخاصيتان الملحوظتان في تنافس الأحزاب السياسية، قد صرّح بهما في الآيات الآتية:
]مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ[[الفتح/29].
]فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ[[المائدة/54].
وإضافة لما لأصل الوحدة من أدوار خاصة مهمّة في المحافظة على استقلال المجتمع الإسلامي وعزّته على المستوى العالمي، يمتلك أيضاً أهمية على صعيد حفظ الانسجام والتوافق الداخلي. إنّه وعلى ضوء أصل الوحدة يتشكّل الحدّ الأدنى للإجماع الضروري لقيام الحياة السياسية، وإشاعة الحوار ولغة التفاهم المشتركة، بوصفهما شرطين بنيويين لتحقّق المشاركة السياسية. فوعي العلاقات والرغبات المشتركة يؤدّي إلى انتشار الإحساس بالثقة المتبادلة، وبشكل عام الإحساس بالهوية الراسية على الأخوّة وتآلف القلوب المتبادلة. يقول القرآن الكريم على هذا الصعيد: ]وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا[ [آل عمران/103].
7 ـ القاعدة المهمّة التي لها ضرورة بالغة في الظروف الحالية للمجتمع الإسلامي، هي قاعدة التساهل، وعدم إنكار الأحزاب الإسلامية ـ السياسية المنافسة أو تكفيرها، بسبب اختلاف وجهات النظر في الأمور الإجتهادية. فعدم مراعاة هذا الأصل، إضافة إلى ما يوجده من ضعف وتفرقة ونزاعٍ، يناقض فلسفة الإجتهاد وضرورة التفقه في الدين(71). فما نفترضه نحن في التعدّدية السياسية داخل المجتمع الإسلامي هو استناد الحركات السياسية إلى آراء المجتهدين واستنباطاتهم من الأدلّة التفصيلية، وفي هذا السياق إن أصاب الحزب أو الجماعة في اجتهادهما، كان لهما أجر مضاعف، وإن أخطآ ـ أيضاً بسبب اجتهادهما هذا ـ فسوف يكونان مأجورين معذورين، وما يشفع لهما في النهاية هو حسنُ النيّة ذاك.
ينقل أيوب بن نوح، عن صفوان، عن موسى بن بكر، عن زرارة، عن أبي عبيدة أنّ أبا جعفر الامام محمد بن علي الباقر×، قال: "من سمع من رجل أمراً لم يُحط به علماً فكذّب به ومن أمره الرضا بنا والتسليم لنا فإنّ ذلك لا يكفّره"(72).
وكتب الشيخ عبدالله البحراني الأصفهاني، مؤلّف كتاب "عوالم العلوم والمعارف والأحوال" في توضيح معنى الرواية أعلاه، فقال:
"لعلّ المقصود من التكذيب هو أنّ أيّ شخص يسمع خبراً منقولاً عن
المعصوم×، ويشكّ بشأن صدوره من المعصوم، بناءً على ما ارتكز في ذهنه من قبل، سوف لن يكون هذا الشكّ مدعاة للكفر، إن اجتمع مع الرضا والتسليم والإقرار بحقانية الخبر في حالة صدوره من جانب المعصوم× أيّاً يكن معناه"(73).
وقد نُقل عن الرسول’ حديث يقرب في مضمونه من الحديث السابق حيث قال:
"من ردَّ حديثاً بلغه عنّي فأنا مخاصمه يوم القيامة، فإذا بلغكم عنّي حديث لم تعرفوه فقولوا: الله أعلم"(74).
وعلى كل حال، ففحوى الروايتين أعلاه هو السعي الجاد وراء الفهم الصحيح لسند كلام المعصوم× ومعناه، وفي حالة الخطأ أو الشك في أصل صدوره أو معناه، فإن كان ذلك مطابقاً للمعمول به في الاستنباط بين المجتهدين، فقد غضّ المعصومون (عليهم السلام) الطرْفَ عن ذلك.
ويعرّفُ الآمدي ـ وذلك ما أورده صاحب "الأصول العامة للفقه المقارن" ـ "الاجتهاد" بأنه "استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد عليه"(75).
وبديهي أنّ مثل هذا الجهد في استنباط الأحكام الشرعية بلحاظ تفاوت الاستعدادات والأفهام ـ وأيضاً الوضعية الخاصّة التي تمتاز بها الأدلّة والمصادر الشرعية ـ سوف يؤدّي إلى ظهور فتاوى ـ وبالطبع ـ حركات سياسية مختلفة.
وفي مثل هذه الحالة، سوف لن يكون أمام المجتمع الإسلامي سوى طريقين: قبولُ التساهل في الآراء والحركات السياسية المستندة إلى الآراء الإجتهادية، أو إغلاق باب الاجتهاد وسدّه، وإيقاف علم الفقه وتأخيره عن مواكبة وقائع المجتمع والزمان، والذي يعني عملياً إقصاء الفقه عن تغيّرات الحياة السياسية والإجتماعية للمسلمين(76).
ويبدو أن التأكيد البنيوي للشيعة على مسألة "الإجتهاد"، وعلى تقليد المجتهد الحيّ هو بمعنى تأييد الفكر الإجتهادي وحمايته في مقابل الجمود والسكون، بحيث لا يُعرض عن التغيّرات الناشئة عن مضيّ الزمان بأيّ وجه من الوجوه.
8 ـ آخرُ أصول وقواعد التعدّدية السياسية وأهمها ـ وبشكل عام قواعد المشاركة السياسية ـ في الحكومة الإسلامية، هو الإعتقاد بحاكمية الله تعالى والالتزام بطاعة وليّ أمر المسلمين (عدم شق عصا الطاعة).
هذا الأصل على ما يبدو، وبرأي كثير من الكتّاب، لا يتوافق ولا يتلاءم مع القول بالتعدّدية السياسية. وبكلام آخر، عبارة "التعدّدية السياسية في الدولة الإسلامية" أو عبارة "التعددية السياسية تحت إشراف الحاكم الإسلامي" تُبرزان تناقضاً ظاهرياً، وتحملان بين طياتهما مفارقة.
هنا، نشير إجمالاً إلى أنّ المذاهب الشيعية والسنّية، وأيضاً بعض فقهاء الخوارج من أتباع "الاباضية"، لديهم وجهات نظرٍ متفاوتة من شأن العلاقة بين ولاية الحاكم والتعدّدية السياسية.
في هذا المجال، يستند أهل السنّة في البداية إلى الآية المعروفة ]أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ[[النساء/59]، ثم ومن خلال ما يطرحونه في شأن اختيار ولي أمر المسلمين ـ أو ما يعرف اصطلاحاً بالحاكم وخليفة المسلمين ـ يقومون بإجراء مصالحة بين الولاية والتعدّدية السياسية. وقد ذكر ابن الفَرّاء في كتابه "الأحكام السلطانية" كلاماً في هذا الشأن يقول فيه(77):
"وعلى أهل الاختيار في دار العدل أن يعقدوا الإمامة لمن أرتضوه".
ويقول أيضاً أبو الحسن الأشعري مؤسّس مذهب "الأشاعرة" الكلامي(78):
"الإمامة تثبت بالإتفاق والاختيار دون النصّ واليقين".
مذهب "الاباضية" الفقهي أيضاً، لا سيما أهمُّ ممثلٍ له على صعيد الفكر السياسي، محمد بن يوسف الأطفيش، يمتلك ـ مع قليل من الجرح والتعديل في جواز الإمامة وعدم قرشية الإمام ـ وجهات نظرٍ قريبة من أهل السنة.
أمّا الشيعة فلديهم مبانٍ عقلية واجتهادية مختلفة في مبحث الإمامة. فالشيعة بناءً على قولهم بضرورة تعيين الحاكم من قبل الله على أساس برهان اللطف ووجوب ذلك، يحكمون بعصمة الإمام ووجوب نصبه. ونحن نوكل التفصيل في شأن وجهات النظر الشيعية إلى الإمامة والقيادة، في عصري الحضور والغيبة، وعلاقتها بالمشاركة السياسية والتعدّدية إلى فرصة أخرى.
الهوامش
(*) أستاذ مساعد في كليّة الحقوق والعلوم السياسية في جامعة طهران. ترجمة الشيخ موسى ضاهر.
(1) بعنوان أنموذج راجع كتاب:
Hannah Arabul “The Chsis in Culture; Between Past and Facture” (Meddlesex England: Penguin Book Ltd. 1964). PP. 197 – 2270
(2) برهان غليون، نقد السياسة، الدولة والدين، بيروت مؤسّسة التربية، ص. 207، 1986م.
(3) R.Dahl. Poluarchy. Op cit, PP124-183.
(4) ibid.
(5) برتران بديد، توسعه سياسي، ص. 28، ترجمة: أحمد نقيب زاده، طهران، قومس 1376 هـ ش.
(6) عبدالكريم سروش، صراطهاى مستقيم، مجلة كيان، العدد 36، تير ماه 1367هـ.ش.
(7) عدون جهلان، الفكر السياسي عند الإباضية ص. 184 و185، عمان؛ مكتبة الضامري، 199م.
(8) برهان غليون، مصدر سابق، ص. 111.
(9) داود فيرحي، فرد ودولت در فرهنكَـ سياسي اسلام، فصلنامه نقد ونظر، العدد 43، صيف ـ خريف 1375هـ ش، ص. 44 ـ 47.
(10) المصدر نفسه، ص. 55.
(11) راجع كتاب حسن عباس حسن، الصياغة المنطقية للفكر السياسي الإسلامي، ص. 45 ـ 80، بيروت، الدار العالمية للطباعة والنشر، 1992م.
(12) المصدر نفسه، ص. 45.
(13) محمد شبستري، فرايند مهم متون، مجله نقد ونظر، السنة الأولى، العدد 3 و 4، ص. 44.
(14) محمد تقي الجعفري، پلوراليسم (كثرت كرايي) ديني، مجلة نقد ونظر، السنة الثانية، العدد 3 و4، ص. 333.
(15) لقد حوت الآثار الكلامية القديمة، ضمن الحضارة الإسلامية والمسيحية، رؤىً كهذه في الغالب، والتي بالطبع أدّت إلى منازعات فِرَقية شديدة. لقد كانت هذه الرؤى تعدّ في الغالب الاعتقاد بوحدة ووحدانية الحقيقة سبباً كافياً في ضرورة توحيد واقع التوجّهات والميول الإجتماعية، حيث أدّت في تطبيقها الدقيق للأمر الواقع" على استنتاجاتها وتصوراتها بشأن "الحقيقة" إلى إشعال حروب فِرقية. ولمثل هذه الأحداث في المسيحية والإسلام سوابق ممتدة عبر تاريخهما، وبعنوان المثال، يمكن أن يشار إلى حملات الوهابية على الأماكن المقدّسة للشيعة في الحجاز والعراق.
(16) عبد الكريم سروش، صراطهاى مستقيم، مصدر سابق.
(17) المصدر نفسه.
(18) المصدر نفسه.
(19) بناءً على مثل هذا الفرض، تكون الحقيقة قد خسرت أو فقدت ما بإزائها الخارجي، ومن دون الإعتناء بملاك "خارجي" لتقييم العقائد والأفكار العمومية، الأمر الذي كان ملحوظاً في الطروحات التقليدية، يتأتى أنّ جوهر الحقيقة من وجهة نظر هذه الفئة هو حاصل الحوارات والعلاقات الإنسانية. طبق هذا الإستنتاج، فإنّ ملاك الحقيقة ليس أمراً خارجاً عن أذهان البشر، بل هو الإجماع الناشئ من الحوارات والجدالات فيما بين الأذهان. وللقراءة التفصيلية يمكن مراجعة:
Yurgen Habemas, The Theay of Communicative Action, Trans. By: Thomas Max Carty, Bostan: Beacon Press, 1968.
(20) محمد تقي الجعفري، مصدر سابق، ص. 330 ـ 335.
(21) الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي ج. 1، ص. 251 ـ 252، ترجمة: سيد جواد مصطفوي، الانتشارات العلمية الإسلامية، طهران.
(22) أحمد شلبي، السياسة والإقتصاد في التفكير الإسلامي، ج2، ص68، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية.
(23) عبدالكريم سروش، صراطهاى مستقيم، مصدر سابق.
(24) بعنوان المثال انظر: ترديدهاي دكتر سروش در ارائه يك نظام سياسي بديل، در مقاله انديشه سياسي دكتر سروش با عنوان حكومت دين، مشخصات كتاب شناختي اين مقاله چنين است: عبد الكريم سروش، مدارا ومديريت ص. 354 ـ 380، طهران، صراط، 1376هـ.ش.
(25) محمد عبدالقادر، أبو فارس، التعدّدية السياسية في ظل الدولة الإسلامية، ص. 13.
(26) المصدر نفسه، ص. 19.
(27) المصدر نفسه، ص. 18.
(28) المصدر نفسه، 19 و20.
(29) محمد تقي الجعفري، پلوراليسم ديني، المصدر السابق، ص332. .
(30) المصدر نفسه، ص. 334.
(31) المصدر نفسه.
(32) Lester. W.Miblrathm Political Partici Pation, OP. Cit. P 150.
(33) ibid. p. 147.
(34) هذا النوع من المجموعات السياسية الإقليمية في إيران، يزداد فعالية على الصعيد الإقليمي في موسم الانتخابات النِّيابيّة، وكما هو مشهود فإنّ هذه المجموعات، ومن خلال ازدياد قواها المتعلّمة والمجاهدة، قد حازت منذ سنة 1368هـ . ش وحتى الآن، نموّاً ملحوظاً على صعيد المدن ومراكز المحافظات.
(35) مع أنّ الأجنحة السياسية القومية ـ الإسلامية في إيران لا تملك عنوان "الحزب" إلاّ أنّ لها نشاطات قطرية بعناوين مختلفة، من قبيل "جامعة روحانيت مبارز" (الجماعة العلمائية المجاهدة) و"كاركزاران" (كوادر البناء) و"مجمع روحانيون مبارز" (تجمع العلماء المجاهدين)، إلخ، ونشراتها متداولة على الصعيد القومي الوطني الداخلي، ولصحف "إيران" و"همشهري" و"سلام" و"رسالت" مثل هذه الصفة.
(36) أبو فارس، التعدّدية السياسية.. مصدر سابق، ص. 24.
(37) فرهنكَـ سياسي، در كفتكو با بژوهشكران حوزه ودانشكَاه، مجلة نقد ونظر، السنة الثانية، العدد 3 و4، ص. 347 وما بعدها.
(38) أبو فارس، مصدر سابق، ص. 34 ـ 39.
(39) راجع الأصول 14 و26 من الدستور (دستور الجمهورية الإسلامية)؛ هذه الأصول، وكما يصرّح الأصل الرابع عشر، تعدّ نافذة بحق الأشخاص الذين لا يتآمرون ولا يقدمون على عمل ضد الإسلام والجمهورية الإسلامية الإيرانية.
(40) راجع الأصول: 1 و2 و5 و12 و13 من دستور الجمهورية الإسلامية الايرانية. الأصل الثاني عشر من الدستور عدَّ أتباع المذاهب الإسلامية غير الشيعية أحراراً في إدارة شؤونهم الدينية المذهبية، وأحوالهم الشخصية، طبقاً لفقه أهل السنة، ومنحهم بعضاً من الصلاحيات المحليّة في إطار المقررات العامّة للقُطر، والتي لحظت في قانون مجالس الشورى المحلية.
الأصل الثالث عشر من الدستور يسمح أيضاً للأقليات الزردشتية واليهودية والمسيحية من الذين يحملون الجنسية الإيرانية، بأن يعملوا ـ وفي حدود القانون ـ على تأدية الفرائض والشعائر الدينية، وكذلك في نطاق الأحوال الشخصية، وفقاً لدينهم ومذهبهم. وكما هو مفهوم، فإنّ هذين الأصلين يشيران إلى أنّ هذه الجماعات لا تستطيع أبداً أن تملك تشكيلات وأنشطة سياسية.
(41) محمد رشيد رضا، تفسير المنار، ج. 6، ص. 367 ـ 368.
(42) العلامة الحلّي، النافع في شرح الباب الحادي عشر، ص. 70، قم، ستاره.
(43) ينصّ الأصل السادس والعشرون من دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية في هذا الخصوص: "تعتبر الأحزاب والجمعيات والروابط واللجان الإسلامية و… حرّة، بشرط ألاّ تنقض مبادئ الاستقلال، والحرية، والوحدة الوطنية والموازين الإسلامية، وأساس الجمهورية الإسلامية. ولا يمكن أن يُمنع أي شخص من المشاركة فيها، أو أن يُجبر أحدٌ على الانخراط في واحدة منها".
(44) محمد تقي الجعفري، مصدر سابق.
(45) تم التأكيد، في الأصل الثاني من دستور الجمهورية الإسلامية الايرانية، على أنّ الجمهورية الإسلامية نظام يقوم على أساس الإيمان بـ… "الإجتهاد المستمر للفقهاء الجامعين للشرائط على أساس الكتاب وسنّة المعصومين (عليهم السلام)".
(46) الإمام الخميني، تحرير الوسيلة، طهران، مكتبة الاعتماد، بي تا ، ج. 1، ص. 413.
(47) المصدر نفسه، ص. 397 ـ 414، الأصل الثامن من الدستور يؤكّد، وبالاستناد إلى الأدلّة وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على هذا الأمر في ما بين الناس، وما بين الناس والحكومة، وما بين الحكومة والناس.
(48) أبو فارس، التعدّدية السياسية…، مصدر سابق، ص. 40 ـ 42.
(49) العلامة محمد تقي الجعفري، تكثر كَرايى ديني، مصدر سابق، ص. 343.
(50) المصدر نفسه، ص. 340.
(51) المصدر نفسه، ص. 341.
(52) أبو فارس، مصدر سابق. وأيضاً راجع ماهنامه بيام امروز، الأعداد في ربيع وصيف
1376هـ . ش.
(53) L.W.Milbrath. Political Participation, PP.154 – 152
(54) ـ في شأن إيران، راجع: محمد علي همايون، كاتوزيان، اقتصاد سياسي ايران، ص. 12 و13.
(55) أبو فارس، مصدر سابق، ص. 43.
(56) المصدر نفسه.
(57) المصدر نفسه، ص. 57.
(58) المصدر نفسه، ص. 60.
(59) عبدالله البحراني الأصفهاني، عوالم العلوم والمعارف والأحوال، ص. 557، قم، مؤسّسة الامام المهدي (عج) الثقافية 1363 هـ.ش.
(60) السرائر، ج. 3، ص. 575.
(61) البصائر، ص. 349.
(62) عبدالله البحراني الاصفهاني، مصدر سابق، ص. 510.
(63) علل الشرائع، ج. 2، ص. 395.
(64) عبدالله البحراني الاصفهاني، مصدر سابق، ص. 565.
65)) لقد أكّد الأصل 22 و14 من الدستور على هذا الأمر صراحة: إنّه لا ينبغي لأي نشاط سياسي أن يكون مغايراً للضوابط الإسلامية ومناقضاً لأساس الجمهورية الإسلامية.
(66) لأنّه في ظلّ التعدّدية السياسية، يؤدّي نشاط النشرات الحزبية إلى ازدياد الوعي العام من جهة، وإلى الخوف من إمكان إفشاء الأخبار من جهة أخرى ـ ولو بالقوة ـ إلى تصحيح هذا النوع من الذنوب والحالات الاجتماعية الشاذة والتقليل منها، مثلما كان لفضيحة "واترغايت" في أمريكا من ردود فعل مهمّة لدى الرأي العام. وكذلك في إيران، موارد من هذا القبيل، كقضية "لاري غايت" أو إفشاء مذكرات السيد لاريجاني في لندن، حيث أضحت سبباً لخوف السياسيين والمتصدّين للشأن العام وامتناعهم عن الإقدام على أفعال مغايرة لمصالح الأمّة.
67)) السيد محمد باقر الحكيم، الحكم الإسلامي بين النظرية والتطبيق، الباب الثاني: الولاية والشورى، ص. 113 ـ 163، بي جا، مؤسسة المنار، 1992.
(68) أبو فارس، مصدر سابق، ص. 57.
(69) المصدر نفسه، ص. 58.
(70) المصدر نفسه، ص. 59.
(71) حسن عباس حسن، الصياغة المنطقية للفكر السياسي الإسلامي، مصدر سابق، ص. 164.
(72) عبد الله البحراني، عوالم المعالم، مصدر سابق، ص. 516.
(73) المصدر نفسه.
(74) المصدر نفسه، ص. 512.
(75) محمد تقي الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن، ص561، بيروت، دار الأندلس، 1963م.
(76) المصدر نفسه، ص. 599 ـ 601.
(77) إبن الفراء، الاحكام السلطانية ص. 23، قم، دفتر تبليغات إسلامي، 1364هـ. ش.
(78) أبو الفتح محمد بن عبدالكريم الشهرستاني الملل والنحل، ج. 1، ص. 103، القاهرة، مطبعة الحلبي، 1967م.