حديثٌ وهواجس في الضوابط والمحدَّدات
تمهيد
البحث في ضوابط المصلحة من البحوث شديدة الأهمّية في الاجتهاد والسياسة الشرعيّة معاً. وسوف أحاول هنا فقط فهرسة بعض هذه الضوابط، مع شيءٍ من التنظيم؛ لمساعدة القارئ على أخذ صورةٍ كاملة عن الموضوع نسبيّاً.
يبدو موضوع الضوابط على شكل محدَّدات يلزم الأخذ بها في التعامل مع فقه المصلحة. وهذه الضوابط لا فرق فيها هنا بين: المصلحة بوصفها أساساً في الاجتهاد الشرعي، والمصلحة بوصفها أساساً في السياسة الشرعيّة والإجرائيّة، فكلُّ هذه الضوابط تقريباً تمثِّل قاسماً مشتركاً بين نوعَيْ المصالح.
وتختلف ذهنية ضوابط المصلحة بين الفقهين: الشيعي؛ والسنّي، في تقديري. فالفقه السنّي يذهب لممارسة ضوابط للمصلحة خشية الوقوع في العلمانيّة والخروج عن المعايير الشرعيّة الدينيّة العامّة، لهذا تجد اهتماماً بكون المصلحة لا تناقض أصول الاجتهاد الأخرى، كالكتاب والسنّة والقياس والإجماع وغير ذلك. بينما على الصعيد الشيعي الإمامي نحن نجد خشيتين من المصلحة، تستدعيان تنوُّعاً لدى الفقيه الإمامي في تناول القضيّة، وهما:
أـ خشية الانجرار نحو عَلْمَنَة الشريعة.
ب ـ خشية الانجرار نحو خلع الثوب السنّي الفقهي على الفقه الشيعي.
فعلى الصعيد الأوّل، وهو الصعيد المشترك بين السنّة والشيعة في موضوع البحث هنا، نلاحظ ـ على سبيل المثال ـ المقالة التي كتبها جهانگير صالح پور([1])، والتي نُشرت عام 1995م، في العدد 24 من مجلّة «كيان»، المحسوبة على الإصلاحيّين الإيرانيّين، فهذه المقالة اعتبرت أنّ الفقه الشيعي تحرّك نتيجة فقه المصلحة من الفقه الجواهري نحو العَلْمنة، وأنّ مآلات الأمور تتّجه نحو تكوين فقهٍ آخر، يعتمد العقل البشري مرجعاً في الإدارة والسلطة. وقد انتقد هذه المقالةَ العديدُ من الباحثين الإيرانيّين، الذين كانوا يصرّون على إيجاد التوفيق والمواءمة بين فكرة المصلحة، التي أطلقها أمثال: السيد الخميني، والفقه الجواهري المدرسي في الاجتهاد الإمامي، والذي كان الخميني نفسه يفتخر به ويدعو إليه.
مثالٌ آخر هنا على المقلب السنّي، يكشف عن الشعور بخطر فكرة المصلحة، فيفرض الحديث عن ضوابطها، هو حركة النقد السنّية خلال العقود الأخيرة لأطروحات الإمام الطوفي، ومن أبرزها: نقد الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي له؛ فإنّ هذا النقد ـ في سياق حديث البوطي عن ضوابط المصلحة ـ يكشف لنا عن القلق من تقديم العقل على النصّ، ومن الذهاب نحو علمنة السلطة في الإسلام.
أمّا على الصعيد الثاني، فنحن نلاحظ في الأروقة الداخليّة للمؤسّسة الدينيّة الشيعيّة قلقاً من فكرة التوسُّع في قضيّة المصلحة، وأنّ ذلك على حساب الشريعة، ويأتي متأثِّراً بالفكر السنّي تحت اسم المقاصد والأهداف وسعة ولاية الأمر وغير ذلك. ويبدي هذا الفريق قلقه من أنّ الفقه الشيعي في العقود الأخيرة بدأ يتّجه نحو الشيء عينه الذي لطالما انتقده في سلوك الخلفاء الثلاثة الأوائل، وفي الفقه السنّي وتفكير علمائه، الذي كان يصنَّف تفكيراً تبريريّاً للسلطة. فكلّ السياسات التي سلكها أبو بكر وعمر وعثمان، أو أغلبها على الأقلّ، تصبح مفهومةً ومعقولة ومنطقيّة وقابلة للتبرير في ظلّ فقه المصلحة، وخاصّة بالمعنى الذي طرحه السيّد الخميني، ولم يكن لديهم سوى خطأ واحد، وهو أخذ الخلافة من عليٍّ، ومن ثمّ فعلى الاجتهاد الإمامي أن يتخلّى عن تلك السلسلة النمطيّة الموروثة من الانتقادات لهؤلاء الخلفاء، والتي باتت تمثِّل جزءاً لا يتجزّأ من وعي الإماميّة لصورة هؤلاء الخلفاء وفهمهم. فنحن اليوم نقوم بالكثير من عناصر الشَّبَه فيما سلكه هؤلاء من قبل، بعد أقلّ من نصف قرن على إمساكنا بالسلطة، ومن ثمّ فالفقه الإمامي انتبه إلى أنّ تلك الإشكاليّات على الخلفاء كانت مثاليّةً ناتجة عن عدم وَعْي التجربة السلطويّة. وهذا ما يخيف التيار المدرسي التقليدي في الفضاء الإمامي؛ لأنّه يزرع في الوَعْي الإمامي تبريراً حقيقيّاً لسلوك الخلفاء، في الكثير ممّا اعتُبر خَرْقاً للشريعة من قِبَلهم.
من هنا، يبدو الحديث عن ضوابط المصلحة مهمّاً، بل يبدو أنّ الأهمّ هو تحويل المصلحة إلى نَسَقٍ من مسار، وليس مجرّد تشخيص فردي.
المصلحة من الكلّية إلى الجزئيّة وبالعكس، ولادة فقه الضوابط
يحاول الدكتور البوطي أن يقارب تبرير الحديث عن ضوابط المصلحة عبر القول بأنّه لا يوجد عندنا شيءٌ مستقلّ في الشرع ومصدر منفرد باسم المصلحة، إلى جانب الكتاب والسنّة والإجماع والقياس؛ لأنّ المصلحة لم نتوصّل إليها إلاّ عبر استقراء جزئيّات الشريعة؛ ليتبيّن لنا أنّها مبنيّة على المصالح. وبهذا نستنتج أنّ المصلحة مبدأٌ كلّي، بينما الأحكام هي جزئيّات هذا الكلّي، ولا وجود للكلّي بدون جزئيّاته، فهو قائمٌ بها في الحقيقة ومتحقِّق عبرها، وهذا يعني أنّه لكي نتحقَّق من مصلحةٍ ما في أمرٍ معيّن لا بُدَّ من دلالة الشرع عليه، أو على الأقلّ عدم دلالة الشرع على عكسه.
ونتيجة كلام البوطي هنا أنّه لا يمكن أن تتغلَّب المصلحة على الجزئيّات القائمة في الأدلّة الشرعيّة؛ لأنّ هذا يقف على النقيض من مرجعيّة الاستقراء في قضيّة المصلحة، وبهذا تولد فكرة الضوابط العامّة للمصلحة؛ إذ من دون هذه الضوابط لا يتحقّق الانسجام بين الكلّي والجزئيّ.
ومن هنا، يرفض البوطي استقلال العقل بدرك المصلحة في الجزئيّات؛ إذ لو استقلّ بها فإنّ ذلك يعني ـ من جهةٍ أولى ـ الاستغناء عن دليل الشرع؛ ومن جهةٍ ثانية إبطال الكثير من الأدلّة التفصيليّة التي نلاحظ أنّ العقل هنا وهناك يرى فيها المفسدة أو يرى المصلحة في خارجها. وبذلك يمتاز مفهوم ضوابط المصلحة عن مفهوم شروط المصلحة، فإنّ مفهوم الضوابط يعني عند البوطي أنّ ما هو خارج هذه الضوابط ليس مصلحةً من الأصل، وإنْ توهَّمناه مصلحةً، بينما مفهوم الشرط يعني أنّ ما خرج عن هذه الشروط يمكن أن يكون مصلحةً، غاية الأمر أنّ المصلحة المأخوذة لها شروطٌ معيّنة بحيث تخرج سائر المصالح عن هذه الشروط، ومن خلال ذلك نفكّ قدرة العقل على مواجهة النصوص في تشخيص المصالح([2]).
هذه المحاولة من البوطي نجد لها حضوراً في تفكير الشاطبي بوضوحٍ، في مواضع مختلفة. والهدف منها ربط المصلحة بالشرع، وليس ربط الشرع بالمصلحة، بمعنى أنّ مَنْ يفسِّر لنا المصلحة هو النصّ، وليس مَنْ يفسّر النصّ هو المصلحة. وبذلك تكون الخطوة الأولى لفهم الشريعة هي متابعة النصوص؛ لاكتشاف مفهوم المصلحة في الشرع ومَدَياته، ثمّ عند فقد النصوص نذهب نحو التحقُّق من وجود المصلحة بمفهومها الشرعي في الموارد المنصوصة نحو المورد غير المنصوص؛ لكي نتكهَّن بوجود الحكم المناسب مع الشرع في هذا المورد.
وبهذا نجد افتراقاً في طريقة التفكير بين هذا المنهج والمنهج الذي يؤمن باستقلال العقل في دَرْك المصالح والمفاسد والحُسْن والقُبْح في الأفعال الجزئيّة، وينطلق من قانون الملازمة لكي يثبت أنّ الشرع يحكم بذلك أيضاً؛ فإنّ بين هاتين الطريقتين بَوْناً شاسعاً؛ إذ الطريقة المقاصديّة الشاطبيّة ـ التي ينتصر لها البوطي وكثيرون ـ تعتبر أنّ العقل في تفكيره المصلحي يجب أن يستمع إلى الشرع، بينما الطريقة المقابلة تعتبر أنّ الشرع بنفسه ثبت عبر مقولات عمليّة عقليّة مسبقة، فكيف يمكن فرض تجميد العقل العمليّ قبل ورود الشرع؟!
ومردُّ هذا الاختلاف إلى التنازع في حجّية العقل العملي ومدركاته، بل وقدرات العقل النظري أيضاً. وهذا التنازع في غاية الأهمّية على مستوى فكرة ضوابط المصلحة؛ فإذا قلنا بأنّ المصلحة المدركة يجب أن لا تكون مخالفةً للسنّة الشريفة فإنّ المُدْرِك للمصلحة هنا يجب تحديده، فمَنْ هو المُدْرِك لهذه المصلحة التي نتكلَّم عن ضوابطَ لها؟
فإذا كان المُدْرِك هو العقل العملي بمفهومه الكلامي والأصولي فمن غير المعقول أن يكون محكوماً للنصّ، في سياقٍ من التفكير العدلي؛ لأنّ حجّية النصّ انبثقت من هذا العقل العملي، فكيف يمكن أن يكون محكوماً لها، بل كيف يُعْقَل سلب الحجّية عن العقل هذا؟!
وهذه هي الإشكالية التي وقعت فيها بعض التيارات الفكريّة في العالم الإسلامي، مثل: الأخباريّة والتفكيكيّة الخراسانيّة. فكيف يمكن فرض كون العقل محكوماً وتابعاً للنصّ، في حين أنّ إثبات هذا النصّ وحجّيته كان عبر العقل؟ فهل ميكانيزما العقل تحوَّلت في الحالتين أو لا؟ وإذا تحوَّلت يجب تفسير هذا التحوُّل، لا إطلاق القول بأنّ العقل محكومٌ للنصّ هنا.
وأمّا إذا كان المُدْرِك هو العقل العرفي، وليس العقل العملي (بمفهومه الشامل لفكرة تباني العقلاء، كما يراه الفلاسفة)، فإنّ تقييد حركته بالمصلحة معقولةٌ، لكنّ هذا التقييد ليس وضعاً لشرطٍ على حركة العقل في المصلحة، بل القضيّة في الحقيقة أنّ هذه المصلحة العرفيّة ليس لها حجّية في نفسها حتّى تقف في مقابل الشرع، وإذا أعطى الشرع لها حجّيةً فمن الطبيعي أن تكون حجّيته لها مقيَّدة من الأوّل بعدم معارضتها له، وإلاّ يكون قد نقض نفسه بنفسه بطريقةٍ غير معقولة.
وبناءً عليه، ليس المهمّ وضع ضوابط للمصلحة فقط، بل قبل ذلك يجب أن ندرس مَنْ هو المُدْرِك للمصلحة؟ وما هي حجّيته المنطقية والاعتباريّة الأصوليّة؟ ما هي نظريّتنا في مجال حجّية الإدراك العقلي للمصالح والمفاسد بصرف النظر عن الشرع؟ فهل للعقل قدرة ذلك من الأوّل أو أنّه أعجز من ذلك، وأنّنا إنّما نسير خلف العقل في إدراك المصالح والمفاسد عند فقدان السبل الأخرى، لا من باب أنّه يوصلنا إلى حقيقة المصالح والمفاسد، بل من باب أنّه السبيل المتوفِّر الأكثر قرباً إليها، ومن ثمّ فلا يمكن لهذا العقل الوظيفي أن يواجه النصّ؟
وبهذا نكتشف أنّ طريقة مقاربة المدرسة الشاطبيّة وكلّ المناصرين لها في العصر الحديث لموضوع العلاقة بين المصلحة والنصّ في سياق إنتاج الضوابط هي طريقةٌ غير دقيقة؛ لأنّ المفروض أن تسبقها طريقةٌ أخرى، وهي حجّية العقل الإنساني في كشف المصالح والمفاسد. فإذا كنّا أشاعرةً في تفكيرنا، ولم نمنح هذا العقل قدرة الاكتشاف، فلسنا بحاجةٍ بعد ذلك إلى مقاربة البوطي في أنّ المصلحة ناتجُ الاستقراء، بل لنا من الأوّل أن نقول بأنّ المصلحة لا معنى لحجّية الكشف العقلي والبشري عنها، سواء ثبت بناء الشريعة على المصالح من خلال الاستقراء أم من خلال دليلٍ مستقلّ عامّ.
والذي يترجَّح بالنظر أنّ العقل الإنساني يقوم بوضع مفاهيم عملانيّة لتنظيم أمور الإنسان في علاقاته البشريّة، وتأخذ هذه المفاهيم العملانيّة قيمتها من المواضعات البشريّة، وتستمدّ تغذيتها من التجربة المتواصلة التي كشفت عن إنتاج هذه المفاهيم لمصالح معقولة. وهذا يعني أنّ العقل البشري يرى أنّ السلوك على وفق هذه المفاهيم هو الراجح، ويحصل له ظنٌّ بذلك وترجيح، لا أنّه يكتشف حقيقةً خارجيّة في الأفعال هي حقيقة الصلاح والفساد، بل هذه الأمور نسبيّةً بدرجةٍ عالية. وعليه فالعقل ليست لديه قدرةُ تعيين المصالح والمفاسد الحقيقيّة، بل يقوم من خلال هذه المفاهيم العملانيّة بتنظيم أموره عبر المواضعات، وحيث لا يوجد لديه ما يلزمه ويحرِّكه نحو غيرها فهو يعتبرها مرجعاً له، ومن ثمّ ليست لدى هذا العقل في تجربته التاريخيّة قدرةُ مواجهة الوَحْي في كشف المصالح والمفاسد، بل هو عقلٌ وظيفي حيث لا علم، وبهذا يظلّ محكوماً للنصّ، ولا سيَّما لو أردنا نسبة شيءٍ إلى الشريعة عبر اكتشاف هذا العقل للمصالح. إذن هو عقلٌ عرفـيّ عقلائيّ تواضعيّ تجريبيّ، وليس عقلاً كلّياً مطلقاً متعالياً.
التمييز بين: ضوابط المصلحة، وتعيين المصلحة، ورسم الأولويّات
قد يقع الباحث هنا في إشكاليّةٍ عميقة يخلط فيها عدّة ملفاتٍ ببعضها، وهي: ماذا نريد من فكرة ضوابط المصلحة؟
في سياق الجواب عن هذا السؤال تظهر ثلاثة تصوُّرات:
1ـ إنّ ضوابط المصلحة هي المعايير التي من خلالها نضع يدنا على أيّ سلوكٍ أو خطوة أو عمل، فنقول: هذا فيه مصلحةٌ أو فيه مفسدةٌ.
2ـ إنّ ضوابط المصلحة هي المعايير التي من خلالها نضع هرم الأولويّات في الشريعة، فنعرف ما هو الأَوْلى وما هو الأقلّ أولويّةً، فنرسم الخارطة تَبَعاً لذلك.
هذان المفهومان لضوابط المصلحة غير مقصودَيْن هنا بالتأكيد؛ فكلّ هذه الضوابط التي قيلت أو تُقال لا علاقة لها بتعيين الفعل نفسه أو تحديد موقعه الأَوْلوي، بل تعيين المصلحة في الفعل المعيَّن عمليّة شاقّة جدّاً، وليست بسيطةً، وتحتاج لسلسلة من العناصر، تتخطّى مجرّد ضوابط المصلحة بمفهومها الحالي هنا.
وكذلك الحال في فقه الأولويّات؛ فإنّها عملية معقَّدة نظريّاً، وأعقد عمليّاً وتطبيقيّاً، كما بحثناه في محلّه. الأمر الذي يعني أنّ الحديث عن ضوابط بالمعنى الأوّل والثاني من المستحيل عمليّاً أن يوصلنا إلى توافق؛ لأنّ هذا النوع من البحث عن الضوابط يظلّ في محلّ الاختلاف الدائم، ويختلف الباحثون والفقهاء والعاملون في ضوابط المصلحة في داخل منظومة فقه الأولويّات، وكذلك داخل تعيين هذا الفعل بعينه أو ذاك.
ومن هنا المرادُ من الضوابط في موضوع بحثنا هو المعنى الثالث.
3ـ ضوابط المصلحة مفهومٌ سلبيّ، وليس مفهوماً إيجابيّاً، كما هي الحال مع المفهومين السابقين. ونعني بالمفهوم السلبي هنا أنّها سلسلةٌ من المعايير التي لها قدرة نفي مصلحة مفترضة، لا غير. أمّا المفهوم الإيجابي فهو من توابع البحث في فقه الأولويّات، وبهذا نخرج سلسلةً ممّا أطلق عليه «ضوابط المصلحة» في بعض الكتابات([3])، من نوع:
أـ المصلحة هي الأمر الضروري.
ب ـ المصلحة هي الأمر الأكثر نفعاً على المستوى الكمّي (المصلحة العامّة).
ج ـ المصلحة هي الأكثر نفعاً على المستوى الكيفي.
د ـ المصلحة هي النفع الأبقى.
هـ ـ المصلحة هي الأهمّ.
و ـ المصلحة ما عيَّنه الخبراء المختصّون.
ز ـ المصلحة ما كان اجتماعيّاً، مقابل ما هو فرديّ.
فهذه التعريفات تلتقي مع فقه الأولويّات، وكلُّ واحدٍ منها بحاجةٍ لما يثبته؛ بينما نحن نريد هنا من ضوابط المصلحة مجرّد وضع حدود يمنع تخطّيها، ومن ثم فما هو داخل هذه الحدود غير متعيِّن بالضرورة، بل هو محدودٌ لا غير، وقد يتعيَّن بعناصر مساعدة.
وبهذا لا نواجه إشكالية أنّ هذه الضوابط لا تساعدنا على التعيين، بل يظلّ الباب مفتوحاً للنقاش؛ فإنّ الهدف من هذه الضوابط ليس التعيين، ولن يحسم قرار التعيين بسهولةٍ، بل الهدف تحديد ما هو غير متعيِّن أو ما هو خارج دائرة الفرضيّات المصلحيّة.
وعلى أيّ حالٍ نتعرَّض هنا باختصارٍ لبعض الضوابط التي يلزم مراعاتها في سياق الاشتغال بنظريّة المصلحة وقواعدها:
1ـ وقوع المصلحة في سياق مقاصد الدين والشريعة
أوّل معايير الاشتغال بالمصلحة هو إعادة تعريفها وفهمها. وأهمُّ شرطٍ لفهمها هو ضرورة تمييزها عن مفهوم المنفعة بمعناه الوضعي. ونقصد من هذا الضابط الأوّلي أنّ مفهوم المصلحة ينسبق منه اليوم المعاني المادّية والبشريّة الدنيويّة أكثر من ارتباطه بالمعاني الدينيّة والأخرويّة والأخلاقيّة، ولهذا يُتصوَّر أنّ الأخذ بالمصلحة هو نوعٌ من تحييد القِيَم الدينية.
إنّ قاعدة المصلحة ـ سواء كانت أساساً في الاجتهاد في ما لا نصّ فيه أم أساساً في التطبيق والعمل ـ لا تعني مفهومها المادّي المَحْض، بل تعني مفهومها الديني. ففي المرحلة الأولى نحن نذهب إلى الدين لأخذ تصوُّره عن المصلحة، وبعد الخروج بفهمه للمصلحة وتعريفه لها نبدأ رحلتنا العمليّة مع قاعدة المصلحة. وهذا ما يعني أنّ المصلحة ليست مفهوماً مخارجاً للدين مفروضاً عليه، بل هي مفهومٌ لا يولد في الاجتهاد والتطبيق الشرعي معاً قبل أن يقوم الدين نفسه بتعريفه أو تفويضه لنا في التعريف، وإلاّ فنحن نتحدَّث عن مجال خارج إطار الدين في هذه الحال.
وبناءً عليه لا تنفصل نظريّة المصلحة عن نظريّة الغايات والمآلات والمقاصد في الدين، بأيّ معنى اخترنا المقاصديّة؛ لأنّ فقيه المصلحة يقصد من اجتهاده أو تطبيقه الوصول إلى الغايات المحدَّدة في الشرع، وليس تجميد الشرع أو تخطّيه. والفهم المغلوط الشائع أنّنا نبحث عن فقه المصلحة كي نتحرَّر من القيود الشرعيّة، وأنّ فقيه المصلحة يقف تماماً مقابل فقيه النصّ. وهذه أكبر إشكالية تواجه فقه المصلحة اليوم، وذلك على ناحيتين:
الناحية الأولى: إنّها توجّه فقه المصلحة نحو مفهومٍ للمصلحة مخارج للدين، وهذا ما يُنتج الاعتقاد بأنّ نظريّة المصلحة تفضي إلى العلمنة.
الناحية الثانية: إنّها تفرّغ فقه النصّ من مقاصد الشريعة، ومن عقليّة الأولويّات.
وأعتقد بأنّ أدبيّات بعض فقهاء الدولة الدينيّة في حديثهم عن التعامل مع الشريعة ضمن سياق السلطة كان سبباً في حدوث هذا التصوُّر، ولو لم يكونوا قاصدين له. وكان يجب عليهم استحضار مفهوم فقه الأولويّات من جهةٍ، وفقه المقاصد والغايات من جهةٍ ثانية؛ لإعادة إنتاج حديثهم عن سلطة وليّ الأمر، وإلاّ فهذا التغوّل في سلطة وليّ الأمر بهذه الطريقة المعروضة في أدبيّات بعض الإسلاميّين توحي، بل لعلّها تجرّ بالفعل، إلى نوعٍ من هيمنة عقل وليّ الأمر على مختلف الأحكام الشرعيّة، فقط وفقط لأجل بقاء سلطة سياسيّة للدين، وكأنّ مفهوم السلطة السياسيّة هو المقصد الشرعي، فيما مفهوم تنزيل القِيَم الدينيّة ليس سوى قضيّةٍ شبه هامشيّة! مع أنّ العديد من النصوص الدينية التي تتحدَّث عن الإمامة بمعناها العامّ تضع الإمامة نفسها في سياق إقامة الشريعة، وليس العكس، فهي خادمٌ لتحقيق الشرع، وليست هي التي تحظى بأولويّة على تحقيق القِيَم والغايات الشرعيّة.
إنّ التضحية بالكثير من الأمور الدينية لمصلحة بقاء مشروع الدولة هو في حدّ نفسه مخاطرةٌ كبيرة، ولو كان بحجّة أنّ تطبيق الشريعة لن يكون ممكناً في هذا العصر. فإذا لم يكن ممكناً لأنّ الناس لا تريد تطبيق الشريعة فهذا يعني أنّ علينا ترك مشروع الدولة حتّى تتوفَّر معطياته الموضوعيّة، أو علينا النظر مجدَّداً بقراءةٍ اجتهاديّة موضوعيّة متحرِّرة من إرث الماضين في نفس الأحكام التي نسبناها للشريعة؛ علّنا نكتشف أنّنا كنّا على خطأ فيها، فنذيب جبل الجليد بين الناس وبين الشريعة. أمّا أن نضحّي بأحكام الشريعة، وبقسمٍ وافر منها في ميدان التطبيق؛ لأجل سلامة بقاء السلطة فهذا أمرٌ غير مفهوم، إلاّ في ضوء اعتبار السلطة هي غاية الشريعة عملاً، وهو مفهومٌ لم أجد شاهداً مقنعاً له، بل مختلف النصوص الدينيّة والشواهد التاريخيّة تعطي عكس ذلك.
وقد قلنا سابقاً بأنّ وضع فقه المصلحة ضمن سياق المقاصد والغايات وفقه الأولويّات يعني ضرورة ولادة اجتهادٍ جديد في أوساطنا، يغطّي بالدقّة حاجات هذه الأمور، ومن دون ذلك سوف نبقى في درجةٍ عالية من الاستنسابيّة. وإذا كان بعض الفقهاء ما يزال متحسِّساً من فكرة فقه المقاصد، وخاصّة في الفضاء الشيعي الإمامي؛ لأنّه لم يقُمْ بإنتاجها بنفسه بطريقةٍ منسجمة مع أصوله الاجتهاديّة، ولم يَرَ فيها سوى شكلها الذي لا ينسجم معه، فإنّ الاجتهاد العللي أو التعليلي هو بابٌ مهمٌّ جداً في نهضة الفقه الإسلامي اليوم، وهو اجتهادٌ يفتِّش عن العلل في النصوص؛ كي يسير خلفها حيث يمكن، الأمر الذي يسهِّل فهم مساحة أوسع من دائرة النصّ عبر الأخذ بالعلّة.
ونستخلص ممّا تقدَّم أنّ الحديث عن فقه المصلحة يجب أن يصاحبه تقييد بمثل: المصلحة الشرعيّة، أو المصلحة من منظور الدين، أو نحو ذلك، وعلى الأقلّ المصلحة من منظورٍ غير مناقض للدين.
2ـ عدم مناقضة الكتاب والسنّة
هذا الضابط من ضوابط المصلحة في الفقه الإسلاميّ ليس سوى نتيجة طبيعيّة، وهو أخفّ من الضابط الأوّل. ففي الضابط الأوّل كان المطلوب هو أن تقع المصلحة في سياق الغايات والمقاصد؛ بينما في هذا الضابط يكفي وقوع المصلحة في سياقٍ غير مناقض للغايات والمقاصد.
والفرق بين الحالتين أنّنا في الحالة الأولى نعتبر مقاصد الشريعة وغاياتها وعللها مقصودات شرعيّة، لا بمعنى أنّها واجباتٌ أو أعمال مستقلّة، بل هي أهداف يلزم التحرّك نحوها، وهي في النظريّة المقاصديّة السائدة تكاد تغطّي كلّ الحياة؛ بينما في الضابط الثاني نحن لا نلاحظ حاليّاً أهدافاً محدَّدة علينا التوجّه نحوها، بقدر ما نلاحظ عدم اصطدامنا بالشريعة ونصوصها.
وهنا يظهر الفرق بين الاجتهاد المقاصدي والاجتهاد التفكيكي المسائلي؛ ففي الاجتهاد المقاصدي يميل المقاصديّون لجعل الأهداف الدينيّة والشرعيّة قادرةً على أن تكون القبلة لمختلف سلوكيّات الأفراد والجماعات؛ بينما في الاجتهاد التفكيكي المسائلي يميل الفقهاء لجعل كلّ مسألة لها حكمها الخاصّ من الأدلّة الشرعيّة. وعليه إذا قلنا بأنّ الشريعة غير شاملة لمختلف مرافق الحياة فهذا يعني أنّ الفقيه المقاصديّ ما يزال يوجِّهني في العادة نحو مقاصد الشريعة؛ لأنّها على صلةٍ بمختلف السلوكيّات من وجهة نظره؛ بينما فقيه المسألة يمكن أن يرجع خالي الوفاض، ومن ثمّ فغاية ما يطلبه منّي هو أن لا أمارس المصلحة في سياقٍ يواجه نتائجه الشرعيّة في الدائرة التي خرج هو فيها بنتائج شرعيّة من النصوص.
وبهذا نكتشف أنّ فقه المسألة يطالبني، حين يتوقَّف عن استنتاج أمرٍ معيَّن، بعدم مخالفة سائر الأمور؛ بينما فقه الغاية يطالبني بجعل حركتي في سياق تحقيق أمورٍ محدَّدة من قَبْل.
وعلى أيّ حال شرطُ عدم مناقضة الكتاب والسنّة هو الذي يفتح الباب على النقاش مع مثل: الإمام الطوفي. وقد قلنا في محلّه: إنّ نظريّة الطوفي يمكن تخريجها بفهمٍ مقاصديّ، وإلاّ فهي باطلةٌ لا أساس لها، فلا نعيد.
وعندما نتكلَّم عن عدم معارضة المصلحة للكتاب والسنّة فنحن نتكلَّم عن الناتج من عمليّة اجتهادٍ كاملة الأوصاف، ومحرِزةٍ لشروط العمليّة الاجتهاديّة في الكتاب والسنّة. فالسنّة لا بُدَّ أن تكون ثابتة، وهي مع الكتاب ثمّة قواعد لفهم الدلالات فيهما وأنماطها. ومن هنا لا أجد حاجةً للكثير من التطويلات التي أفاض فيها العلاّمة البوطي، حيث خرج عن أصل الموضوع في بعض الأحيان في كتابه «ضوابط المصلحة».
نعم، هنا مسألةٌ مهمّة، وهي الحديث عن المصلحة المعتمدة على قياسٍ؛ فهذا النوع من المصلحة حجّةٌ في أصول الفقه السنّي على المشهور، فإذا عارضَتْ نصّاً في الكتاب والسنّة فما هو الموقف؟
المعروف بين علماء أهل السنّة أنّ القياس ـ ومنه المصلحة المبنيّة على القياس ـ إذا خالفت الدليل القطعيّ لا يُؤخَذ به؛ أمّا لو خالف القياس الدليل الظنّي فبينهم كلامٌ في إمكان الأخذ به، وتقديمه على الدليل الظنّي، كخبر الواحد أو لا. والأغلب على تقديم الدليل الظنّي على القياس. نعم، إذا كان القياس أخصّ من دليل الكتاب والسنّة قُدِّم عليهما عند كثيرين.
لكنْ تبقى قضيّةٌ، وهي أنّ عدم معارضة الكتاب والسنّة يجب أن يشمل عدم معارضة مختلف القوانين التي تحكم حركة التشريعات في الكتاب والسنّة، ومنها: قانون الأولويّة.
3ـ عدم تفويت مصلحةٍ أهمّ
ذكر هذا الضابط الدكتور البوطي، معتبراً أنّ من معايير المصلحة المعتمدة أن لا يلزم منها تفويت مصلحة أهمّ أو مساوية. وبعد أن شرح مراتب التشريعات؛ من حيث الأهمّية تارةً؛ ومن حيث الشموليّة أخرى، ونحو ذلك، استدلّ لهذا الضابط ببعض الأدلّة التي تُساق لإثبات قانون الأولويّة، وأنّ الشريعة مبنيّةٌ على ترتيب التشريعات من حيث المستوى والأهمّية، خاتماً ببعض الأمثلة من قضايا التزاحم والأولويّات([4]).
والحديث عن فقه الأولويّات بحثناه في مكانٍ آخر. لكنّنا نريد هنا أن نتوقَّف قليلاً مع البوطي في تحليله هذا، وذلك:
أوّلاً: لم يتّضح لي لماذا اعتبر البوطي أنّ من شرط المصلحة عدم كونها موجبةً لتفويت مصلحةٍ مساوية؟ فأين تكمن المشكلة لو اعتبرنا المصلحة موجبةً لذلك؟ ولماذا يمنع أن تكون كذلك ما دامت المصلحتان متساويتين من حيث المستوى، ولم يوجب الأخذُ بواحدةٍ منهما تفويتَ أمرٍ إضافي؟
ثانياً: عن أيّ مصلحةٍ يتكلَّم البوطي هنا؟ ثمّة احتمالات ثلاثة:
1ـ أن يقصد المصلحة الكامنة في الأفعال المحكومة في الشرع بحكمٍ مفروغ منه، ومن ثمّ فهو لم يقُمْ بأيّ شيءٍ سوى بإعمال فقه الأولويّات؛ لترجيح حكمٍ على آخر، وحيث إنّ كلّ حكم تقف خلفه مصالح مبرِّرة له كان تقديم الأهمّ على المهمّ تقديماً للمصلحة الأهمّ على المصلحة المهمّة.
وهذا المعنى نوافق عليه، ويتّفق عليه فقهاء المسلمين.
2ـ أن يقصد المصلحة في خارج إطار المنصوص عليه، وضمن إطار الاجتهاد المصلحي، بمعنى أنّنا نكتشف في فعلٍ ما مصلحةً معيّنة، ولا يكون في هذا الفعل نصٌّ يحكم فيه، فنجري قواعد المصالح المرسلة مثلاً، ونحكم فيه بضرورة الإتيان به. وهنا:
أـ إذا واجهت هذه المصلحةُ التي نريد بناء حكمٍ شرعيّ عليها غير منصوص مصلحةً أخرى لا نصّ فيها أيضاً فنحن نجري قواعد الأهمّية؛ بهدف استخراج الحكم في حالة التصادم. وهذا صحيحٌ ومنطقي تماماً؛ لأنّ الحكم في ما لا نصّ فيه لا يمكن أن يولد على أساس المصلحة المرسلة، إلا إذا ثبت وجود مصلحةٍ تستدعي حكماً. وإذا كانت هذه المصلحة تعارضها مصلحة أهمّ فهذا يعني أنّنا لم نتأكَّد بَعْدُ من وجود هذه المصلحة في الحساب العامّ؛ لأنّ حاصل الكسر والانكسار بين المصالح يفرض أخذه بعين الاعتبار، لتكون النتيجة هي المصلحة الحقيقيّة التي بقانون المصالح المرسلة نستخرج حكمها.
هذا إذا كان تزاحم المصلحتين دائميّاً. أمّا لو كان اتفاقيّاً وفي بعض الحالات، فالمفروض أن تقوم نظريّة المصلحة المرسلة بإنتاج حكمين تابعين لهاتين المصلحتين، وبعد إنتاجهما يقع التزاحم بينهما في بعض الحالات، فنطبِّق فقه الأولويّات. وهذا أمرٌ منطقي تماماً.
ب ـ أمّا لو كانت هذه المصلحة غير المنصوص حكمها، والتي نتكلَّم عنها هنا، تواجهها مصلحةٌ ثمّة نصٌّ متعلّق بها ففي هذه الحال لا معنى للحديث عن الأهمّ والمهمّ؛ لأنّ المفروض أنّ نظريّة المصلحة المرسلة لا تستطيع أن تعمل في ظلّ وجود نصٍّ، والمفروض أنّ وجود النصّ في الطرف الآخر هنا يؤدّي إلى جعل المصلحة التي نتكلَّم عنها ملغاةً إذا كانت العلاقة بين المصلحة التي نتكلَّم عنها وبين مصلحة المنصوص تصادميّةً بشكلٍ دائم، بحيث لا يمكن تحقيقهما معاً؛ أمّا لو لم يكن الأمر كذلك فنرجع إلى قواعد التزاحم، بعد استخراج حكم المصلحة غير المنصوصة بقاعدة المصالح المرسلة.
3ـ أن يقصد المصلحة في السياسة الشرعيّة، باعتبار أنّ الحاكم يُعمل قانون المصلحة في هذا المجال، وليس في مجال الاجتهاد الشرعيّ. فإذا رأى الحاكم مصلحتين أو مصلحةً ومفسدة تتجاذبان الموقف، ولا يمكن التوفيق، فهنا:
أـ إذا قلنا بأنّ جامع أو كلّي أو أصل المصلحة في السياسة الشرعيّة شرطٌ، أو أنّ الشرط فقط عدم المفسدة، ففي هذه الحال يحقّ للحاكم اختيار أيٍّ من المصلحتين، ما دام اختياره لا يخرج عن حدود صلاحيّاته.
ب ـ أمّا لو قلنا بأنّ المطلوب في السياسة الشرعيّة هو اتّباع الأصلح، ولو انسياقاً مع مفهوم الأحسن في مثل: آية التعامل مع أموال اليتامى، ممّا بحثناه في محلِّه، ففي هذه الحال يلزمه الأخذ بالأصلح، وترك الأقلّ أهمّيةً، ومع التساوي يمكنه الأخذ بأيِّهما. وبهذا على الحاكم أن يُجري في مرحلة جعل حكمه قوانين التزاحم بين الملاكات نفسها أيضاً.
وبهذا تكون هذه المسألة تابعةً لنظريّة المصلحة في السياسة الشرعيّة وحدودها.
ومن هنا، نعلِّق على الشيخ البوطي بأنّه كان من الأفضل أن يفكِّك القضيّة؛ لتتّضح الصورة أكثر.
4ـ اعتماد السبل الموضوعيّة لإثبات المصلحة (ضوابط الإثبات)
يختلف هذا الضابط عن الضوابط الثلاثة المتقدّمة؛ فتلك كانت ضوابط للمصلحة بواقعها العيني الثبوتي، سواء اكتشفناها نحن أم لا، فكلّ مصلحةٍ لا قيمة لها إذا عارضت كتاباً أو سنّة، وكلّ مصلحة لا قيمة لها إذا لم تقع في سياق تحقيق غايات الشريعة، بناءً على شمول الشريعة أو غاياتها؛ بينما هذا الضابط هنا يرجع للمصلحة بوجودها الإثباتي عند الإنسان نفسه، بمعنى أنّه يرجع إلى حدود المصلحة في أُفق تفكيرنا، وليس إلى ذات المصالح الخارجيّة.
والمقصود من اعتماد السبل الموضوعيّة المعتبرة شرعاً وعقلاً في اكتشاف المصلحة التي على أساسها نريد اكتشاف حكمٍ في المصالح المرسلة، أو جعل حكمٍ حكومي في السياسة الشرعيّة، أنّ الفقيه أو السلطة النافذة يلزمهما مراعاة ضوابط موضوعيّة لمعرفة المصالح والمفاسد، وهي ضوابط يفرضها العقل التجريبيّ البشريّ تارةً، والنصّ الشرعيّ تارةً أخرى. ويمكن لنا ذكر بعضها، على سبيل المثال:
1ـ الاعتماد على الخبراء والمختصّين في المجال الذي تُفترض فيه المصلحة. فإذا كنّا نبحث في قضايا متّصلة بالاقتصاد، ونريد تعيين المصلحة، فإنّ الضابط الذي علينا التزامه هو الرجوع إلى المختصّين في ذلك، عملاً بدليل العقل والشرع والعقلاء في هذا الموضوع. وكلّ مصلحة يتمّ تشخيصها من خارج سياق الوَعْي بموضوعها فهي منفيّةٌ ولا قيمة لها. وهذا يعني أنّ المشورة بهذا المعنى ليست مجرّد حكمٍ تكليفيّ مَحْض، بل شرطٌ بنيوي في وضع يدنا على المصلحة، تمهيداً لاكتشاف الحكم الشرعي المتعلِّق بها تارةً، أو جعل قانونٍ حكوميّ أخرى.
إنّ الحصول على يقينٍ بالمصلحة أو ظنٍّ قويّ أمرٌ لا قيمة له موضوعيّاً ما لم ينطلق هذا اليقين أو الظنّ من خبرة في الموضوع، وإلاّ فهي مصلحةٌ موهومة لا يُعتنى بها، بصرف النظر الآن عن إلزامية نتائج الشورى أو لا.
بل ثمّة أمرٌ آخر أبعد من ذلك، وهو أنّ الحاكم رُبَما لا يثبت دليلٌ ـ كما يراه بعض الفقهاء بالفعل ـ على إلزامه بنتائج المشاورات هذه، لكنّ الفقيه يغدو وضعه مختلفاً لو أراد إصدار فتوى على أساس المصلحة عملاً بمثل: قاعدة المصالح المرسلة؛ لأنّ تشخيص الفقيه للمصلحة الخارجيّة التي يريد على أساسها إصدار الفتوى يمكن أن لا يكون مُلزماً لعموم الناس، ولا لمقلّديه فيما لو اختلفوا معه في تعيين مصداق المصلحة بمفهومها الشرعي. فالفقيه يحقّ له أن يحدِّد المفهوم الشرعي للمصالح في ضوء النصوص الدينيّة، لكنّه غير قادر ـ بوصفه فقيهاً ـ على تعيين هذا الفعل أو ذاك على أنّه مصداقٌ للمصلحة الدينيّة؛ لأنّ هذه العمليّة تتركَّب من جزءٍ نظريّ، وهو مفهوم وعناصر المصلحة الشرعيّة؛ وآخر عمليّ تطبيقيّ، وهو تنزيل هذا المفهوم على الحالة الخارجيّة أو الفعل الخارجيّ غير المنصوص حكمه في الكتاب والسنّة ونحوهما من الأدلّة الشرعيّة الأصليّة.
والفقيه عندما يبتّ في الجزء النظريّ لا يوجد ما يفرض إلزاميّة فهمه للجزء العمليّ. وهذه مشكلة عويصة تواجه نظريّة المصلحة المرسلة وأمثالها في مرحلة التنزيل، بل هي مشكلة تواجه مختلف الفقهاء المسلمين بمدارسهم، حيث يتدخَّلون كثيراً في تعيين المصاديق العينيّة الخارجيّة الزمنيّة، رغم أنّ ذلك ليس من وظيفتهم، ورغم أنّهم بذلك لا يُصدرون حُكْماً، بل فتوى!
بل ثمّة أمرٌ يتّصل بالحاكم نفسه في مجال اعتبار حكمه. فلو ذهب أغلب الخبراء في موضوعٍ اقتصاديّ معيَّن إلى كونه مضرّاً ضرراً بالغاً بالمفهوم الديني للضرر والمفسدة، لكنّ الفقيه الحاكم أو الحاكم ولو لم يكن فقيهاً لم يوافق على ذلك؛ لأيّ سببٍ من الأسباب، فهل المصلحة التي ينطلق منها الحاكم في السياسة الشرعيّة هي مصلحةٌ تنشأ من قناعاته أو أنّها مصلحةٌ عامّة، أي تنشأ من كون ذلك مقبولاً في الاجتماع العام، أو في الاجتماع النخبوي المعني بموضوع هذه المصلحة، بعد الأخذ بعين الاعتبار تحريك الوَعْي الاجتماعي على أساس المفهوم الديني للمصلحة لا غير؟ وبتعبيرٍ آخر: هل المصلحة هنا عقلانية شخصيّة أو هي عقلائيّة جمعيّة عامّة؟ وأيّهما يلزم على الحاكم الأخذ به؟
هذا الأمر يتّصل اتّصالاً وثيقاً بكون المصلحة في السياسة الشرعيّة قائمةً على محوريّة الفرد أو قائمة على محوريّة مسارٍ مؤسَّسي ملزم للفرد نفسه، وله قوّة ضغط عليه، كما أشرنا لذلك سابقاً. وتفصيله وبحثه في الفقه السياسيّ الإسلاميّ، فلا نطيل هنا.
2ـ اعتماد الرؤية ذات الأبعاد المتعدِّدة لرصد المصالح والمفاسد، بمعنى أنّ الفقيه أو الحاكم لا ينطلقان من رؤية الموضوع من زاويةٍ واحدة، بل يلزمهما الانطلاق في الموضوع من زواياه كلّها التي تتّصل به، وطبعاً قدر الإمكان. فربّ موضوعٍ له زاوية سياسيّة، ولكنّ له زوايا وأوجهاً لا تظهر إلاّ للخبير، من نوع زواياه الاجتماعيّة والتربويّة وغيرها. ومن الطبيعي أنّ تعيين المصلحة في الفعل يحتاج للكثير من رصد شبكة علاقات الفعل بنواحٍ متعدِّدة، الأمر الذي يزداد تعقيداً في المجال الاجتماعي العامّ.
هذه القضية تواجه السلطة السياسيّة كما تواجه نشاط المؤسّسة الدينية أيضاً. ويبدو هنا ضرورة أن لا يتمّ البتّ في أيّ قضيّةٍ من منطلق المصلحة إلاّ بعد عرض ذلك على خبراء متنوِّعي الرؤية، يرَوْن الأمور كلٌّ من زاويته المتخصِّصة وعيونه الراصدة. أمّا أن يجلس فقيهٌ في بيته، أو سلطة سياسية في أروقتها الضيّقة، لتعطي مواقف وأحكاماً وفتاوى انطلاقاً من قراءةٍ فرديّة أو جماعيّة تعيش كلّها في فضاءٍ واحد، وهو فضاء المؤسّسة الدينيّة أو الجماعة السياسيّة الواحدة، فهذا ما يجرّ على المسلمين استنتاجاتٍ منقوصة، وفهوماً مغلوطة لقضايا المصالح والمفاسد في الإطار الزمكاني. وهذا هو الذي يفرض تحوُّل معرفة المصلحة إلى مسارٍ مؤسَّسي معرفـيّ متكامل، وليس إلى تشخيص فردٍ بعينه.
بل هنا قد يقال بعدم جواز بتّ الفقيه أو غيره في قضيّةٍ لها زوايا متعدِّدة، وليس هو خبيراً بها، بناءً على القول بأنّ غير الفقيه لا يجوز له الاعتماد على قناعاته الآتية من الاستماع إلى خبراء الفقه ونتائجهم([5])؛ فالفقهاء المدرسيّون يقولون عادةً بأنّ «العامّي» لا يحقّ له أن يذهب فيراجع مجموعةً من الفضلاء والفقهاء، فيستمع إلى مواقفهم، ثمّ يعتمد على وثوقه وما يظهر له ويترجَّح جدّاً في ظنّه، بل يرَوْن ظنّه غير موضوعي. فإذا كان ظنّ هذا «العامّي» غير موضوعي؛ لأنّه غير متخصِّص بالدراسات الفقهيّة، فإنّ ظنّ الفقيه بالمصلحة ذات الزوايا المتعدِّدة المنطلقة من وَعْيٍ خبروي متعدِّد لن تكون له قيمةٌ، ولن يصبح بهذا الظنّ أو الوثوق الذي حصل عنده من مراجعة الخبراء عالماً حتّى يرجع إليه المقلِّدون من باب رجوع الجاهل إلى العالم، وإلاّ كان رجوع الجاهلين لمَنْ هم مثلهم من العوامّ الذين حصل لهم وثوقٌ بقول بعض الأطبّاء في موضوعٍ معين… كان هذا الرجوع رجوعاً لعالمٍ! نعم، الرجوع إلى الفقيه في فهم مفهوم المصلحة الشرعيّة لا إشكال فيه، أمّا في تعيين المصالح خارجاً فليس على إطلاقه.
وبهذا كلِّه نعرف أنّ على الفقيه هنا أن يعتمد سبيلاً آخر لحلّ القضيّة، كأنْ يحيل الأمر إلى المكلَّف، فيجعل الفتوى معلَّقةً أو يعرض وجهات نظر المختصِّين له، بل لا يحقّ له الإفتاء بناءً على تقليده هو لأحد المختصّين أو لأغلبيّتهم؛ لأنّ هذا التقليد يُلزمه هو، ولكنّه لا يلزم الآخرين لو اختلفوا معه، وخاصّة لو كانوا بأنفسهم من المختصّين، فتبقى الفتوى في روحها معلَّقة.
مخاطر فقه المصلحة غير المنضبط
هذه الضوابط التي تكلَّمنا عنها تظلّ كلِّيةً عامّة. ورغم أهمّيتها العليا تبقى المشكلة الأخطر في محاولات التحايل عليها. وهنا نقف أمام الجانب الأخلاقي للسلوك؛ إذ قد تجرّ المصالح الشخصيّة أو الفئويّة أو المذهبيّة أو السياسيّة أو حتّى الخوف من السلطان والقوّة الحاكمة، أو معاداة أحدٍ من أفراد أو تيارات أو مذاهب أو ديانات…، تجرّ هذه كلّها الفقيه أو الحاكم أو غيرهما للتوسُّل بفكرة المصلحة؛ بغية تصفية حسابات أو الفرار من مآزق. ومن هنا نجد أنّ فكرة المصلحة قد تصبح تبريراً للفرار من الدين، أو تصبح تبريراً لسلطاتٍ ظالمة، أو تصبح تبريراً لممارساتٍ غير أخلاقيّة تجاه الآخرين، ممَّنْ قد نختلف معهم في الدين أو المذهب أو الفئة والجماعة.
إنّ القلقين من فقه المصلحة قلقون من تحوُّل هذا الشعار إلى وسيلةٍ لطمس الحقائق، أو لطمس الدين، أو للتلاعب به، أو لمنح الإنسان سلطةَ التفوُّق عليه، بحيث يغدو الدين على المدى البعيد قرباناً لهذا النمط من التفكير. وسيرةُ أهل البيت النبويّ تدلّ على حجم الخوف من التورُّط في هذا النمط من الفقه المصلحي.
هذا الأمر نلاحظه على سبيل المثال في حركة نقد التقريب بين المذاهب. فهذه الحركة تعتبر أنّ مصلحة التقريب هذه، وهي مصلحةٌ مهمّة في نفسها، تبدو الآن ـ بسبب عقليّة الفقه المصلحي التي تسمّي نفسها أحياناً، في فضاءٍ لا يؤمن بالفقه المصلحي، مثل: الفضاء الإمامي، بالعنوان الثانوي ـ موجبةً لتقديم العلاقات مع الآخرين على الحقيقة المذهبيّة أو التاريخيّة، بحيث بدأنا نطمس الحقيقة التاريخيّة، ونحاول حذفها من المخيّلة الإسلاميّة؛ لأجل تحقيق التقارب، بما يشبه ما يقال بأنّه حصل في بعض البلدان العربيّة، من عدم بثّ الآيات التي تعتبر اليهود أعدى أعداء المسلمين عقب توقيع اتفاقيّة السلام مع الكيان الصهيوني…، أو تبدو موجبةً لنوعٍ من التلاعب بالقضيّة الدينيّة، فنجد أنّ مفهوم البراءة من أعداء الله والنبيّ وأهل بيته، وما يتبعه ويتجلَّى فيه، مثل: اللعن ومثالب رموز الآخرين، أخذ بالتلاشي لأجل مقولاتٍ مصلحيّة، من نوع التقريب وحفظ النظام وغير ذلك، إلى حدٍّ قمنا بثورةٍ ضدّ الموروث المذهبيّ؛ لتصفيته من كلّ ما يمكن أن يزعج الآخرين!([6]).
إنّ هذه العيِّنة ـ عيِّنة التقريب ـ تقدِّم أنموذجاً بارزاً لقلق التيارات الدينيّة والمدرسيّة من مشروع التفكير المصلحيّ في الشريعة، اجتهاداً أو تطبيقاً.
مثالٌ بارز آخر لقلق المدرسيّين من التفكير المصلحيّ هو تخلّي الحركة السياسيّة الإسلاميّة تدريجياً عن مهمّاتها الدَّعَويّة والتطبيقيّة للدين والشريعة، واعتبار أنّ المهم هو الوصول إلى السلطة والتأثير السياسي في المجتمع. بل لقد صرَّح غيرُ واحدٍ من زعماء بعض الحركات الإسلاميّة بأنّنا غير معنيِّين بالدعوة الدينيّة والمساجد، وإنّما نحن معنيّون بالجانب السياسيّ فقط، بل نجدهم يغضّون الطرف عن الكثير من القضايا الدينيّة، ولا يتدخّلون بها في إصلاح المجتمع، ليس سوى بهدف بقائهم في نفوذهم السياسيّ، وعدم خسارتهم لمساحة شعبيّة معيَّنة من جمهورهم! أليس معنى هذا أنّ التفكير المصلحيّ بدأ يُخْرجُنا من مهمّاتنا الدينيّة نحو مكانٍ آخر، وبدأ يهمِّش الموضوع الدينيّ بشكلٍ تدريجيّ من حياتنا؟!
مثالٌ ثالث يثيره العديد من النقّاد هو أصل فكرة مجمع تشخيص مصلحة النظام، بوصفه مؤسَّسة عليا في التجربة الإماميّة الشيعيّة في إيران؛ إذ يعتبر الناقدون أنّ هذا المجلس، الذي تمّ تأسيسه على خلفيّة فضّ الاشتباك بين ما يصوِّبه مجلس الشورى الإسلامي (البرلمان) وما يراه مجلس صيانة الدستور، ليس إلاّ نظريّة المصلحة المرسلة السنّية. فالمفروض أنّ مجلس صيانة الدستور يقوم بالنظر في مصوّبات مجلس الشورى الإسلامي، من حيث كونها موافقةً للدستور والشريعة، فما معنى وضع مجلس أعلى يحكم بين الطرفين على أساس المصلحة؟! إنّ معنى ذلك هو أنّ فقه المصلحة وصل بنا إلى وضع مؤسّسة قانونيّة كبرى تسيِّر حركة التجربة الإسلاميّة على أساس المصلحة، وتحكم في ضوء ذلك، بما يجمِّد وجهة نظر مجلسٍ قانونيّ يتحدَّث عن مخالفة الشريعة في مقرَّرات البرلمان، فكيف يُعْقَل أن نحلّ الخلاف بين مَنْ يقول ـ في كثيرٍ من الأحيان ـ بأنّ هذا الحكم مخالفٌ للنصوص الدينيّة (مجلس صيانة الدستور) ومَنْ يريد هذا الحكم برؤيته العقليّة البشريّة (مجلس الشورى الإسلامي)… كيف نحلّ هذا الخلاف عبر مجلسٍ يعتبر المصلحة مرجعيّته؟! أليس هذا هو المصالح المرسلة، بل ما هو أبعد منها، وهو الاجتهاد في مقابل النصّ؟! ألم يجرّنا مسلك المصلحة نحو معايير الاجتهاد السنّي؟!([7]).
وبصرف النظر عن صحّة ما يقوله المدرسيّون هنا، في الأمثلة التي ذكرتُها، فإنّني لم أقصد من ذكرها أن أتبنّاها تماماً، لكنْ تبقى القضيّة تثير قلقاً بالنسبة لكثيرين، ممَّنْ لديهم الحسّ الدينيّ وحمل الهمّ الدينيّ عموماً.
لكنّ كلّ هذا الوجه السيِّئ لممارسات فقه المصلحة لا يشكِّل موجباً للقلق من اعتماد منهج هذا الفقه ضمن ضوابطه، سواء في مجال الاجتهاد أم التطبيق، بناءً على ثبوت مرجعيّة هذا الفقه فيهما؛ لأنّ كلّ هذه المساوئ الأخلاقيّة والمخاطر الناجمة عن الاعتماد على فقه المصلحة ليست من خواصّ هذا الفقه، ولا هي من نتائجه الخاصّة، بل هي بأجمعها يمكن أن تقع في الاجتهاد في النصوص نفسها، وإنْ بدرجةٍ مختلفة.
الفارق الرئيس بين مخاطر اجتهاد النصّ واجتهاد المصلحة هو أنّ اجتهاد المصلحة ما يزال شخصيّاً؛ بمعنى أنّ الفقيه أو السلطة تمارس هذا الاجتهاد انطلاقاً من العنصر الذاتي السلطويّ لديهما، فيما المطلوب؛ لتفادي مخاطر اجتهاد المصلحة، أن يصبح هذا الاجتهاد عامّاً معروضاً أمام الآخرين؛ بغية النقد والإبرام. فالحاكم إذا اتَّخذ موقفاً معيَّناً بحجّة المصلحة فإنّ كون الموقف قد صدر من الحاكم لا يسمح بذاته بعدم مساءلة الحاكم، والطلب منه تبرير سياسته الشرعيّة هذه أو تلك في إدارة السلطة، ووضع رؤيةٍ واضحة للآخرين، تدافع عن نفسها من خلال مفاهيم المصلحة وأمثالها.
وكذلك الحال في الفقيه الذي يريد أن يفتي خارج إطار النصوص بالمصلحة، فإنّ كونه فقيهاً لا يعني ثبوت حقٍّ له في إخفاء منطلقات فتواه هذه، بل يجب علينا أن نذهب نحو مرحلة المحاسبة الفتوائيّة، لنسأل هذا الفقيه: من أين أتيتَ بهذه الفتوى؟ وما هي الدراسات التي توفَّرت لديك للانطلاق بفتوىً من هذا النوع؟ وهذا ما يفرض علينا إطلاق العنان للمختصِّين وأصحاب الرأي في مجال الموضوع الذي أصدر فيه الفقيه أو الحاكم قراراتهما وفتاواهما على أساس المصلحة… إطلاق العنان لهم بممارسة النقد العلني لتصوُّرات الحاكم أو الفقيه، الأمر الذي يجعل الفقيه أو الحاكم عرضةً للنقد المركَّز، بما يخفِّف من اعتباطيّة إصدار الفتاوى على أساس المصلحة أو إصدار الأحكام الحكوميّة كذلك.
بهذه الطريقة تصبح محاكمة نظريّة المصلحة في مرحلة التطبيق علنيّةً، ونقوم بذلك بوضع سلطةٍ موازية لسلطة الفقيه أو الحاكم، يمكنها نقده، ومن ثمّ التضييق عليه، بما يفرض عليه الكثير من العمل قبل إصدار فتاوى أو أحكام مصلحيّة.
إنّ هذه العمليّة التي نقوم بها لإيجاد توازنٍ خارجي يخفِّف من أضرار فقه المصلحة لا تعني أنّنا نحاسب أخلاقيّة الحاكم أو الفقيه بالضرورة، بل نحن نحاسب المسار الذي سار فيه فقه المصلحة عنده، وإلاّ فالحاكم أو الفقيه ـ فرداً كانا أو جماعةً ـ رُبَما ينطلقان في التورُّط في إفراطيّة فقه المصلحة لا من باب سوء الأخلاق، بل من باب حماية الدين أو الإسلام أو النظام الإسلامي. ففي بعض الأحيان قد يتورَّط الفقيه بمصالح ترجع لجذب الناس إلى الدين، فيميل نحو فقه مصلحةٍ يناسب الرخصة في حياة الناس؛ بهدف تمييل قلوبهم إليه أو إلى الدين، مضحِّياً من حيث لا يشعر بمصالح أخرى.
وبهذا يمكن لفقهاء المصلحة أن يقوموا بهجمةٍ مرتدّة ضدّ خصومهم في الأمثلة السابقة. فهؤلاء الخصوم يمكن الملاحظة عليهم بأنّهم يمارسون بأنفسهم فقه المصلحة، فتجد بعضهم يبرِّر أو يتغاضى عن الكذب الذي يأتي به بعض الخطباء والشخصيّات بهدف ـ فقط ـ تحبيب الناس بأهل البيت النبويّ أو جَذْب الناس إلى الاعتقاد المذهبيّ. إنّ السكوت عن العَرْض العبثيّ أو الكاذب أحياناً للدين في القضيّة المذهبيّة هو نوعٌ من التفكير المصلحي في بعض مبرِّراته. وهكذا مستلزماتُ الجَدَل الطائفيّ والمذهبيّ، بما تحمله من الكذب والمراوغة والتحايل على الحقيقة والإخفاء لبعض جوانبها وغير ذلك؛ بهدف الوصول إلى تحقيق مكسبٍ على الآخر المذهبيّ، هو في بعض منطلقاته تفكيرٌ مصلحيّ، حتّى لو لم نسمِّه تفكيراً مصلحيّاً. وهكذا الحال في خصوم الحركة الإسلاميّة السياسيّة، الذين يقيمون الدنيا أحياناً ولا يُقْعدونها لأجل قضيّةٍ مذهبيّة شكليّة بسيطة، بينما لا ينبسون ببنت شفة، فضلاً عن أن يقوموا بجهدٍ، في مواجهة أخطر المخاطر الوجوديّة والسياسيّة على الأمّة، فلا تجد لهم حضوراً في سُوح الجهاد، ولا في مواجهة أعداء الأمّة، بل قد لا تجد في أدبيّاتهم القضايا الكبرى للأمّة، وإنّما يقفون في موقع تبرير تصرُّفات السلطات الحاكمة تارةً، والرموز الدينيّة تارةً أخرى.
ما أُريد أن أصل إليه هو أنّ الضبط الموضوعيّ والأخلاقي، ووضع فقه المصلحة في سياقٍ عامّ، وليس في سياقٍ شخصيّ، فلا يأخذ مرجعيّته من شخص الحاكم أو الفقيه، بل الحاكم والفقيه بفقهه المصلحي يأخذ مرجعيّته من المبرِّرات التي يبديها في المحافل العلميّة والمختصّة، بما يضع رقابةً عليه ومحاسبة، هذا كلّه يمكن أن يساعد على تخفيف حدّة المخاطر الناجمة عن إعمال فقه المصلحة، لكنّه لا يزيلها بالتأكيد.
وبهذا نتوصَّل إلى نتيجةٍ، وهي أنّ على الفقيه أو الحاكم قبل إصدار الفتاوى أو الأحكام المصلحيّة تهيئة النُّخَب والقاعدة المعنيّة بالمبرِّرات الموضوعيّة للفتوى أو الحكم؛ لتأخذ هذه المبرّرات مسارها العامّ، فتتحوَّل إلى وجهة نظر، فيكون عبرها إنشاء الفتوى أو الحكم. فنحن أمام مسار عملاني (process)، ولسنا أمام فتوى مفاجِئة. وبهذا تتحوَّل نتائج فقه المصلحة إلى معطيات قابلة للتقويم، وليست قيمتها من مجرَّد قيمة المُصْدِر لها، رغم أنّ قيمة المُصْدِر لها تظلّ محفوظةً ضمن حدودها الشرعيّة.
الهوامش
([1]) هذا اسمٌ مستعار. والاسم الحقيقي هو سعيد حجاريان. وهو أحد أبرز وأكبر رموز الحركة الإصلاحيّة في إيران، والذي جرت محاولة اغتياله في إيران، عام 2000م، وأصيب إثرها بإعاقةٍ.
([2]) انظر: البوطي، ضوابط المصلحة: 115 ـ 117.
([3]) انظر: عطاء الله بيگدلي وعلي أصغر فرج پور، ره يافتي نو به ضوابط تشخيص مصلحت، أز ضابطه تا فرآيند، مجلة سياست هاي راهبردي وكلان، العدد 2: 79 ـ 94.
([4]) انظر: البوطي، ضوابط المصلحة: 248 ـ 262.
([5]) لا أُريد هنا أن أُثبت أو أنفي صحّة هذا الاستنتاج الذي يطرحه الفقهاء عادةً، بل أحاول إجراء مداخلة على بناءاتهم ونظريّاتهم؛ بهدف إلزامهم بنتيجة نظريّاتهم في مكانٍ آخر.
([6]) من هنا، شخصيّاً لا أميل في قضيّة التقريب التي أؤمن بها إلى المنطلق السياسي، رغم أنّه في نفسه معقولٌ، ولو في بعض الظروف، بل أعتبر أنّ قضيّة التقريب يجب أن تنطلق من منطلقٍ عقائديّ واجتهاديّ عميق، تجعل التقريب أساساً من داخل الرؤية الدينيّة الأصليّة والأصيلة، وليس عنواناً ثانويّاً في هذا الإطار. وقد كتبتُ في ذلك في أكثر من موضعٍ، ودافعتُ عن فكرتي هذه في أكثر من مناسبةٍ.
([7]) لا أُريد هنا أن أخوض في جَدَل هذا البحث، فهذا ليس هو المصلحة المرسلة؛ لأنّ المصالح المرسلة في الاجتهاد السنّي تبدأ حيث لا نصّ، بل بعد فرض كون مقرّرات البرلمان مخالفة للشرع والنصوص تصبح هذه المصلحة ملغاةً وفقاً لأصول الاجتهاد السنّي؛ بل الأصحّ لو أُريد الإشكال هنا أن تُجْعَل هذه الحالة من نوع تقديم المصلحة على النصّ، على مسالك الطوفي التي تحدَّثنا عنها من قبل، وهو ما يعتبر محلّ توافق في رفضه بين المذاهب الإسلاميّة بالتفسير السائد له، كما بحثناه في محلّه.
طبعاً، لا أُريد هنا الموافقة على إشكاليّة الناقدين، فقد ذُكرت ردودٌ في هذا الصدد، يمكن للمهتمّين مراجعتها، من نوع أنّ وظيفة مجمع تشخيص مصلحة النظام لا تقترب من مجال الأحكام الشرعيّة، بل هي تشتغل على تشخيص الموضوعات، وتصحِّح للطرفين المتنازعين (البرلمان والمجلس الدستوري) نظرتهما للموضوع والقضيّة، وعبر ذلك يكون عمل هذا المجلس ليس سوى توفير المناخ لحلول عنوان ثانويّ أو نفيه، لا غير، وأين هذا من الاستصلاح أو مواجهة النصوص؟! بل يذهب بعضٌ آخر إلى أنّ المراد بكلمة النظام في مجلس تشخيص مصلحة النظام هو نظام الأمّة والشعب ومصالحه، وليست إلاّ مقاصد الشريعة وغايات الدين، ومن ثمّ فعمل مجمع تشخيص مصلحة النظام هو عملٌ يقع ضمن السياق المقاصدي أو فقه الأولويّات، ويجعل المقاصد تحكم على الفروع الجزئيّة والحالات الخارجيّة المورديّة، وليس المراد من النظام هو السلطة الحاكمة. (لمزيد من التفصيل راجع: حسن عاشوري لنگرودي، حكومت ديني ومصلحت أنديشي در نظام إمامت وخلافت، مجلّة حضور، العدد 26: 107 ـ 131؛ وأبو القاسم عليدوست، فقه ومصلحت: 751 ـ 759).