رصد خلفيات الإشكالية ونقدها
د. أبو القاسم فنائي(*)
ترجمة: حسن مطر
مقدّمة ــــــ
إنّ تبويب المسائل وتصنيفها بحسب أولويتها، وتحديد المسائل الأصلية والأساسية، وفصلها عن المسائل الفرعية، وإعطاء الأولوية لحلّ المسائل الواقعة في الدرجة الأولى، من واجبات الإنسان العقلائية. أي إنّ العقل يأمرنا في مقام التحقيق والبحث والتنقيب أن نصنِّف المسائل بحسب أهميتها وأولويتها. ولذلك علينا قبل الخوض في مسألة من المسائل أن نحرز أولويتها وأهميتها، وأن نبرر انتقاءنا لها وتقديمها بالبحث على غيرها، من خلال إثبات أنها في الوقت الراهن أهم من غيرها، فلا يوجد ما يضاهيها في الأولوية والأهمية. إنّ المراد من المسائل الأصلية والأساسية تلك المسائل التي بحلّها يتم حلّ المسائل الفرعية الأخرى تلقائياً. من هنا كان الخوض في هذه المسائل الأصلية والأساسية راجحاً من الناحية العقلية والمنطقية.
وأعتقد أنّ هذه الحقيقة لم تؤخذ بنظر الاعتبار في مورد السؤال عن النسبة بين المهدوية والديمقراطية. ولذلك سينصبّ جهدي في هذه المقالة على بيان أنّ السؤال عن النسبة بين المهدوية والديمقراطية سؤال فرعي. وعليه فإنّ الحلّ الأنسب لذلك يتوقف على العثور على الإجابة عن السؤال الأصلي والأساسي الذي يتفرّع عنه هذا السؤال. وفي الحقيقة أنه قبل أن يكون لي موقف خاص بشأن هذه المسألة أسعى إلى توضيح هذه النقطة، وهي أنه إذا كان هناك نزاع في هذا الخصوص فلابد من البحث عن جذوره وأصوله التي بدأ منها.
إنّ أول مسألة يجب علينا التنبه لها هنا هو أنه لا موضوعية لـ (المهدوية) في ما نحن فيه، فهي ليست في الحقيقة سوى مصداق لمفهوم أوسع. وإذا كان هناك عدم انسجام وتناغم بين (المهدوية) و(الديمقراطية) فإنّ ذلك يعود في حقيقته إلى عدم الانسجام بين (الإمامة) و(الديمقراطية). وعليه إذا كان هناك مَنْ يذهب إلى عدم التناغم بين المهدوية والديمقراطية فهو في الحقيقة يذهب إلى عدم التناغم بين الإمامة والديمقراطية. وإذا كان هناك من يذهب إلى انسجام المهدوية مع الديمقراطية فعليهم في الدرجة الأولى أن يثبتوا هذا التناغم والانسجام بين الإمامة والديمقراطية. إذاً محل النزاع الحقيقي هو في (النسبة بين الإمامة والديمقراطية)، وليس في (النسبة بين المهدوية والديمقراطية).
المسألة الثانية: إنه إذا كان هناك عدم انسجام بين الإمامة والديمقراطية فمردّ ذلك لا يعود إلى عدم الانسجام بين المقام العلمي والمعنوي للإمام والديمقراطية، أي إن علم الإمام للغيب وعصمته ومرتبته المعنوية وارتباطه الخاص بالله تعالى لا يتنافى مع الديمقراطية. وإنما إذا كان هناك تنافٍ وعدم انسجام فهو في التبعات والآثار (الحقوقية) و(السياسية) التي يرتِّبها بعض الشيعة على مقام ومنزلة الإمام المعنوية، أي إذا كان هناك من تعارض بين فكرة الإمامة والديمقراطية فإنما هو تعارض بين (الولاية السياسية) للإمام والديمقراطية، وليس بين (الولاية المعنوية) للإمام والديمقراطية. وبعبارة أخرى: لو أنّ شخصاً رأى للأئمة أكبر المقامات العلمية والدرجات المعنوية، وذهب في الوقت نفسه إلى المساواة بين الأئمة وسائر الناس في الحقوق والصلاحيات السياسية والاجتماعية، وأن ليس للأئمة بسبب ما يتمتعون به من الأفضلية العلمية والمعنوية أية حقوق وصلاحيات سياسية خاصة زائدة على سائر الناس، وليس لهم حق النقض على الآخرين، فعندها لن يكون هناك أي تعارض أو تنافٍ بين الإمامة والديمقراطية.
يتضح مما تقدم عدّة أمور: الأول: إنّ الاعتقاد بالتفاوت بين مقام النبي المعنوي ومقام الإمام لن يغير من نتيجة بحثنا؛ لأنه إذا كانت هناك مشكلة في هذه الناحية فإنها تنشأ من حقوق وصلاحيات الإمام، وولايته السياسية الخاصة. ويذهب الكثير من الشيعة إلى عدم وجود أي فرق من هذه الناحية بين النبي والإمام، أي إنّ أئمة الشيعة يرثون جميع حقوق وصلاحيات النبي السياسية، سواء في ذلك المراتب المعنوية أو بعض جوانبها. وبتعبير آخر: هناك اشتراك بين النبي والإمام في الإمامة السياسية، فالنبي الذي يتمتع بمنصب النبوة واجدٌ لمنصب الإمامة أيضاً.
وعليه نصل إلى هذه النتيجة، وهي أنه إذا كان هناك من تنافٍ بين الإمامة والديمقراطية فهذا التنافي موجود أيضاً بين النبوة والديمقراطية، ولن تكون هناك (موضوعية) للإمامة في بحثنا أيضاً. إنّ النزاع يقع في هل أنّ الحقوق والصلاحيات السياسية الخاصة لأولياء الله (الأنبياء والأئمة) منسجمة مع الديمقراطية أم لا؟ ولن يكون للتساؤل القائل بأنّ أئمة الشيعة يوحى إليهم أم لا أي تأثير على نتيجة البحث. ولن ندخل في تفاصيل ذلك، ومنها: رأي الإمام الخميني في ذلك، حيث قال بأن الأئمة يوحى إليهم أيضاً. ومن هذه الناحية لا فرق عنده بين الإمام والنبي، فالأئمة يوحى إليهم رغم أنهم ليسوا من الأنبياء، ولكن جبرئيل كان يهبط عليهم كما كان ينزل على غيرهم من الصالحين، من قبيل: السيدة مريم العذراء.
حقّ التشريع بالنسبة لأهل البيت^ ــــــ
وفي ما يتعلق بحق التشريع ـ طبقاً للرأي التقليدي والسائد ـ فإن التشريع يطلق على معنيين: الأول: إنّ حق التشريع من مختصات الله تعالى، فحتى النبي لا يحق له التشريع، وإنما يقتصر دوره على إبلاغ تشريع الله إلى الناس. وعليه لا فرق من هذه الناحية بين النبي والإمام. الثاني: هناك من وجهة نظر بعض الشيعة معنى آخر للتشريع، وهو بهذا المعنى يشترك فيه النبي والإمام، فيكون لهما حق التشريع. وإنّ الذين يؤمنون بولاية الفقيه يوسِّعون دائرة هذا المعنى من التشريع، ويمنحونها للفقيه أيضاً، فيكون للفقيه حق التشريع الثابت للنبي والإمام المعصوم. إنّ لحق التشريع في المعنى الثاني مرتبتين: الأولى: وهي أدنى مرتبةً من الثانية، وتتمثل في تعطيل الأحكام الأولية والثانوية التي تمّ تشريعها من قبل الله تعالى. والثانية: حق إصدار الأحكام والتشريعات الحكومية. وحيث تتمتع هذه الأحكام بإمضاء الله تعالى فلن يكون بينها وبين الأحكام الإلهية الأولية والثانوية أي فرق من ناحية الآثار والخصائص الحقوقية المترتِّبة عليها. وعلى أية حال فإنّ حق التشريع بهذا المعنى الثاني جزء من الحقوق والصلاحيات السياسية الثابتة للنبي والإمام، ولا يوجد أيّ فرق في هذه الناحية بين النبي والإمام.
سراية إشكالية المهدوية والديمقراطية إلى الفكر السني ــــــ
والنتيجة الثانية التي يمكن الحصول عليها من التوضيحات السابقة هي أنّ هذا الإشكال لا يختص بالمهدوية والتشيع والعقائد الشيعية، بل هناك بعض السنة الذين يواجهون هذا الإشكال أيضاً، وعليهم أن يبحثوا عن مخرج من هذا الإشكال؛ لأنهم يذهبون أيضاً إلى انتقال خصائص النبي بعد رحيله إلى الخلفاء من بعده، ولا يرَوْن فرقاً من هذه الناحية بين النبي وخلفائه. وعليه فإن عدم انسجام المهدوية مع الديمقراطية كعدم الانسجام بين النبوة والخلافة، وليس هناك من هذه الناحية أي فرق بين الشيعة والسنة.
والنتيجة الثالثة هي أنّ النزاع بشأن انسجام أو عدم انسجام المهدوية مع الخاتمية لا ربط له بالنزاع حول انسجام أو عدم انسجام المهدوية مع الديمقراطية. فإذا كان هناك عدم انسجام بين المهدوية والخاتمية فإنه ناتجٌ من داخل الدين؛ لكونه واقعاً بين اعتقادين دينيين. في حين أن عدم الانسجام مع الديمقراطية ناتجٌ في حقيقته من خارج الدين؛ لوقوعه بين بعض المعتقدات الدينية وبعض المفاهيم الخارجة عن دائرة الدين ومجاله. وكما رأينا فإنّ التفكير الديني الذي لا يبدو منسجماً مع الديمقراطية لا يختصّ بالمهدوية، بل إن عدم الانسجام الذي يبدو ظاهراً بين المهدوية والديمقراطية موجود بين الديمقراطية والإمامة، وبين الديمقراطية والنبوّة أيضاً. وعليه فإنّ حل مشكلة التنافي بين المهدوية والخاتمية لن يساعد على حل المعارضة وعدم الانسجام بين الخاتمية والديمقراطية، سواء أكان هذا الحل من طريق إنكار المهدوية أو أي طريق آخر. ولذلك يتعيّن على من ينكر المهدوية أن يعمل على حل التعارض القائم بين الحقوق والصلاحيات السياسية الخاصة بالنبي وخلفائه وبين الديمقراطية([1]). وبذلك يمكن لنا أن ندعي أنّ النزاع الحقيقي يقع في (النسبة بين النبوة والديمقراطية). وطبعاً فإنّ للنبوّة، كما للإمامة، بعدين: معنوي؛ وسياسي. وإذا كان هناك عدم انسجام فإنما يقع بين البعد السياسي للنبوة من الحقوق والصلاحيات الخاصة بالنبي وبين الديمقراطية.
وقد يقول قائل: إنّ هذا النزاع ليس سوى نزاع لفظيّ محض، ولا ربط له بالمشاكل الراهنة، والتي هي مورد ابتلاء المجتمعات الإسلامية أو الشيعية؛ لأننا حالياً نقول بختم النبوّة من جهة، ومن جهة أخرى نعيش أجواء عصر الغيبة. ولكن من الواضح أنّ الأمر ليس كذلك؛ لأنّ الذين يذهبون بعد رحيل النبي إلى القول بنظرية الخلافة، وكذلك الذي يدعي خلافة الفقهاء في عصر الغيبة ونيابتهم من قبل صاحب العصر والزمان، يؤمنون بانتقال جميع حقوق وصلاحيات النبي السياسية إلى الأئمة (أو الخلفاء) بعد رحيله، وهناك من هذه الجماعة من يذهب إلى ثبوت هذه الحقوق والصلاحيات للفقهاء في عصر الغيبة أيضاً. وعليه إذا كان هناك عدم انسجام بين الإمامة والنبوّة وبين الديمقراطية فإنه يؤثِّر على واقعنا الراهن بشكل مباشر، ولذلك فإنّ حل عدم التناغم والانسجام يحظى بالنسبة لنا بأهمية قصوى من الناحية العملية.
وقد توصلنا حتى الآن إلى النتائج التالية:
1ـ إذا كان هناك عدم انسجام بين المهدوية والديمقراطية فإنه يعود في الأصل إلى التنافي بين الإمامة والديمقراطية.
2ـ إذا كانت هناك منافاة بين الإمامة والديمقراطية فإنّها موجودة بين الخلافة والديمقراطية أيضاً.
إذا كانت هناك منافاة بين الإمامة والديمقراطية فإنّ هذه المنافاة ستكون موجودة بين النبوّة والديمقراطية أيضاً. وإنّ عدم الانسجام المبحوث هنا ليس بين مرتبة الولاية المعنوية للشخص وبين الديمقراطية، بل بين الولاية السياسية (الحقوق والصلاحيات السياسية الخاصة التي تترتب على تلك المناصب والمقامات المعنوية) والديمقراطية. وإنّ عدم انسجام المهدوية مع الديمقراطية لا ربط له بعدم انسجام المهدوية مع الخاتمية.
مديات الإشكالية ــــــ
المسألة الأخرى التي يتعين علينا الانتباه لها هي أنّ حقوق النبي وصلاحياته السياسية إذا لم تكن منسجمة مع الديمقراطية فإن ذلك مسألة بنائية ناشئة عن عدم انسجام أكثر تجذراً وعمقاً، وهو عبارة عن عدم الانسجام بين (حقّ الطاعة) لله تعالى و(الديمقراطية). والدليل على ذلك واضح، وهو أنّ الذين يثبتون تلك الحقوق والصلاحيات الخاصة للنبي، وبتبعه للإمام والخليفة، وبتبعهم للولي الفقيه في عصر الغيبة، إنما يثبتونها لهم بالاستناد إلى حق الطاعة لله تبارك وتعالى وإرادته وحكمه؛ فإنّ هؤلاء لا يقولون بأنّ النبي قد حصل على هذه الامتيازات من عنده، بل يرون لها منشأ إلهياً، وأنّ علينا أن نطيع النبي لأنّ الله أمرنا بذلك، وقد فوّض إليه مثل هذه الحقوق والصلاحيات، ونصبه في هذا المنصب. وإن إطاعة الله واجبة على الناس؛ لأن له حقّ الطاعة عليهم، وهم مكلفون تجاهه سبحانه وتعالى.
إنّ بعض علماء الدين الذين يدعون عدم انسجام الإسلام مع الديمقراطية يذهبون في ادعائهم هذا من خلال التمسك بتعريف عن الإسلام والديمقراطية؛ حيث يقولون: إنّ الإسلام يعني حكم الله، والديمقراطية تعني تحكيم رأي الناس، وعند وقوع التعارض بين حكم الله وحكم الناس لن يكون هناك لحكم الناس أية مشروعية. وعليه يكون هناك تعارض بين الديمقراطية والإسلام.
إذاً إنّ مصدر المشكلة يكمن في إطار حق الطاعة لله تعالى، فإن كان حق الطاعة لله حقاً مطلقاً فعندها يتنافى هذا الحق مع الديمقراطية. وإنّ الذين يذهبون إلى انسجام المهدوية مع الديمقراطية عليهم أن يثبتوا انسجام حق الطاعة لله مع الديمقراطية.
ومن المناسب هنا أن نشير إلى نقطة ضمنية ومهمة، وهي أنّ من الأساليب الرائجة لإيجاد التناغم بين الديمقراطية وحقّ الطاعة لله تقييد الديمقراطية بحدود المباحات الشرعية. ففي هذا الرأي يفترض الإطلاق في حق الطاعة لله تعالى، وفي الوقت نفسه يدّعى أنه في الموارد التي لا يكون لله فيها حكم ملزم، ولم يوجب شيئاً أو يحرّمه عليهم، فإنه لن تكون هناك فعلية لحقّ الطاعة له، ويكون الناس أحراراً في العمل طبقاً لإرادتهم الفردية والجماعية. وينسجم مثل هذا التفسير لحق الطاعة لله تعالى مع الديمقراطية المقيّدة والمشروطة بأحكام الشرع (المشروطة المشروعة). ولكن المهم هو أنه بفعل إنكار أو قبول الحقوق السياسية الخاصة بالنبي والإمام (والولي الفقيه أو الحاكم الشرعي) تتسع أو تضيق رقعة المباحات الشرعية. فإذا كان هناك من يؤمن بأنّ للنبي حق النقض، وتقديم حكم النبي على أحكام وإرادة الناس، فعندها تضيق دائرة المباحات الشرعية، وبتبعها تغدو حدود مشروعية الديمقراطية مقصورة على موارد محدودة، لا تكون لله والنبي فيها أية أحكام إلزامية. ومن يثبت حقوق النبي وصلاحياته للإمام والولي الفقيه تكون مساحة المباحات الشرعية عنده، وبتبعها سعة مشروعية الديمقراطية، أضيق من ذلك بكثير. وهذه هي القراءة السائدة عن الديمقراطية الدينية في أوطاننا.
طبقاً لهذه الرؤية فإنّ الديمقراطية الدينية تعني الديمقراطية المقيّدة بالأحكام الفقهية ورأي الولي الفقيه وتصويبه وتنفيذه. وبعبارة أخرى: إنّ الديمقراطية الدينية عبارة عن الديمقراطية في إطار الأحكام الشرعية، شريطة أن نعتبر الأحكام الشرعية أعمّ من الحكم الأولي والثانوي والحكومي.
وهناك الكثيرون من الذين لا يؤمنون بولاية الفقيه المطلقة يحملون مثل هذا التعريف عن الديمقراطية الدينية. وإنّ الفارق الوحيد بين هذين الفريقين يكمن في سعة حدود المباحات الشرعية، ومساحة مشروعية الديمقراطية من الناحية الدينية. ولا يرتضي الفريق الأخير تقدم الأحكام الحكومية للولي الفقيه على آراء الناس. ففي رأي هؤلاء الحكومة ـ سواء أكانت من باب الولاية أو الوكالة ـ مقيدة بالأحكام الإلهية الأولية والثانوية، وإنّ المسؤولين في الدولة إنما يحق لهم الحكم في إطار الأحكام الإلهية، وليس لهم حق نقض أو تغيير هذا الإطار، وإذ آمنا بأصل مشروعية الحكم الحكومي فهو واجب الاتباع إذا كان منسجماً مع الأحكام الإلهية الأولية والثانوية.
حتى الآن كان بحثنا يدور حول مفهوم (المهدوية). وقد سعينا إلى أن نثبت عدم موضوعية المهدوية والإمامة والنبوّة في هذا البحث، وإذا كان هناك من نزاع فإنما هو في حدود حقّ الطاعة لله تعالى، وأنه إذا كان هناك عدم انسجام فهو أوّلاً وبالذات بين (حق الله) و(الديمقراطية)، وإن سائر النزاعات الأخرى متفرّعة عن هذا النزاع. ولذلك إذا أردنا أن نخوض في المسألة الأساسية، ومعالجة الداء جذرياً، فعلينا، بدلاً من الخوض في النسبة بين المهدوية والديمقراطية، أن نعالج التعارض بين حقّ الله والديمقراطية، وبعبارة أخرى: علينا أولاً أن نعالج التعارض بين (الثيوقراطية) و(الديمقراطية)، أو أن نثبت عدم وجود أي تنافٍ بين هاتين المقولتين إطلاقاً.
مفهوم الديمقراطية وأصولها، إشكالية الجمع بين الديمقراطية وحقّ الله ــــــ
ومن الآن فصاعداً نخوض في مفهوم الديمقراطية. ومن وجهة نظري فإنّ طرف النزاع هنا ليس هو (الديمقراطية) أيضاً، بل هو مبنى الديمقراطية، المتمثِّل بـ (حقوق الإنسان). إنّ الديمقراطية تنشأ أولاً: من حقّ الناس في تعيين الحكام، وثانياً: من المصادقة على القوانين. وعليه إذا كان هناك عدم انسجام فهو واقع بين حقوق الله وبين حقوق الإنسان. وإذا أخذنا موقفاً واضحاً وصريحاً في ما يتعلق بحق الله وحقوق الإنسان فإنّ سائر النزاعات الفرعية سيتم حلّها تباعاً وتلقائياً.
ولو تفحَّصنا الفلسفة الديمقراطية سنصل إلى حقوق الإنسان. أي إنّ أقوى التبريرات الموجودة للديمقراطية، وأكثرها إقناعاً، هو القول بأنّ الديمقراطية من لوازم وتبعات حقوق الإنسان. وإنّ الديمقراطية تحصل من خلال تطبيق حقوق الإنسان على الساحة السياسية، ومن حق تقرير المصير ينشأ الحق في التصميم والإرادة، وحق الترشح، وحق الانتخاب، وحق التقنين، والحرية، والمساواة، واستقلال المواطنين، وتوزيع السلطات والقوى السياسية بشكل عادل. وتقوم على هذه الفرضية القائلة بأن المساحة العامة ملك مشاع لجميع المواطنين ضرورة أن تدار السياسة طبقاً لآراء المواطنين ورضاهم. ومن هذه الزاوية إذا أراد البعض؛ للتوفيق بين الدين والديمقراطية، تجريد الديمقراطية من حقوق الإنسان، أو تقييد حقوق الإنسان بالأحكام الدينية، فإنهم في الواقع لن يبقوا شيئاً من حقوق الإنسان، ولن يبقوا شيئاً من الديمقراطية.
إذاً النزاع الأساسي يكمن في كيفية الجمع بين حق الله في التقنين وإدارة المجتمع وطريقة الحكم من جهة، وتعيين أو نصب الحكام من جهة أخرى، وبين حق الناس في هاتين المسألتين؟ وكما نعلم فإنّ السؤالين الأساسيين في فلسفة السياسة عبارة عن: كيف يجب أن نحكم؟ ومن الذي يجب أن يحكم؟ يقول المؤمنون بالديمقراطية: إنّ الإجابة عن هذين التساؤلين يدخل في حقوق الناس وصلاحياتهم، أي يجب تحديد شكل الحكومة وشخص الحاكم من خلال الرجوع إلى أصوات الناس وآرائهم، وإنّ مشروعية الحكومة تتوقف على آراء الناس، حدوثاً وبقاءً، ونفياً وإثباتاً. ومن ناحية أخرى يقول المؤمنون بوجود الله وثبوت حقّ الطاعة له على الإطلاق: إنّ الإجابة عن السؤالين المتقدمين داخل في صلاحيات الله وحقوقه (الثيوقراطية)، وللكشف عن إجابته لابد من استنطاق النصوص الدينية، دون آراء الناس، وإنّ مشروعية الحكومة تتوقف على التنصيب من قبل الله، وتطبيق أحكامه من قبل الحاكم الذي نصبه. ويكون رضا الناس مهماً إذا كان منسجماً مع رضا الباري تعالى، وكان الحاكم منصوباً من قبله، وفي صورة التعارض بين حق الخالق، والحاكم المنصوب من قبله، وبين حقوق الإنسان فإما أن يكون الحق الأول هو المقدَّم، أو لا يكون للحق الثاني وجود أصلاً.
وعليه فإنّ التعارض الأساس والمبنائي يقوم بين (حق الله) و(حقوق الإنسان). ولو أننا استطعنا العثور على حلٍّ صحيح ومقنع لهذا التعارض فإن سائر النزاعات والتعارضات البنائية سيتم حلها تلقائياً وعلى النحو المطلوب. ولذلك، بدلاً من أن نتساءل عما إذا كانت المهدوية تتعارض مع الديمقراطية، علينا أن نتساءل عما إذا كانت حقوق الإنسان تتعارض مع حقوق الله؟ وبعبارة أخرى: إنّ سؤالنا الأصلي هو: هل يحق لله أن ينقض حقوق الإنسان؟([2])؛ فإذا كان لله كامل الحق في أن ينقض حقوق الإنسان كان بإمكانه أن يمنح مثل هذا الحق للنبي والإمام المعصوم، وبتبعهم إلى الولي الفقيه؛ وأما إذا لم يكن لله مثل هذا الحق لم يكن له تفويض مثل هذا الحق لغيره من باب أولى. وبعبارة أخرى: هل يحق لله أن يضع أحكاماً تتنافى وحقوق الإنسان؟ وهل يحق لله أن يفرّق بين عباده من ناحية الحقوق والصلاحيات السياسية، فيسلط بعضهم على بعض من خلال التنصيب، ويحكمهم على مصائرهم وأنفسهم وأموالهم وأعراضهم؟ وهل يمكن اعتبار علم الغيب والعصمة للنبي والإمام، أو فقاهة وعدالة الفقهاء، من الوحدات القياسية أخلاقياً، فيمكن من ناحية الأخلاق الاجتماعية تبرير مثل هذا التمييز والمحاباة؟ وهل يمكن لله من خلال نصب شخص بوصفه إماماً أو ولياً فقيهاً أن يتجاهل الضوابط الأخلاقية، وعلى رأسها أصل العدالة؟
والمسألة الملفتة للانتباه هي أنّ لهذا النزاع تاريخ طويل جداً، رغم أنها كانت تطرح في الماضي بصيغ وعناوين أخرى. فالحقُّ أنّ النزاع حول نسبة حقوق الإنسان إلى حقوق الله صيغة جديدة وعصرية عن النزاع بشأن كون الحسن والقبح عقلياً أو شرعياً، حيث احتدم الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة حول ما إذا كان الحسن والقبح عقلياً أو دينياً وشرعياً. والخلاف الذي سنخوض فيه يقع حول ما إذا كانت حقوق الإنسان (طبيعية) و(عقلية) أو (شرعية) و(نقلية)؟ إذا كانت حقوق الإنسان (شرعية) وجب اكتشاف حدودها وثغورها من خلال الرجوع إلى (النقل) والنصوص الدينية؛ وإما إذا كانت (طبيعية) وفطرية كان الطريق إلى اكتشافها هو العقل. هناك في تحديد وتعيين النسبة بين حقوق الإنسان وحق الله اتجاهان فكريان: الأول: الاتجاه النقلي؛ والثاني: الاتجاه العقلي. والاتجاه النقلي هو في الحقيقة نفس اتجاه الأصولية الدينية، أي إنّ النقلية في الأخلاق والفقه والمعرفة تؤدي منطقياً إلى الأصولية في السياسة. فهؤلاء؛ وبسبب من وجود أدلة نقلية تدل في ظاهرها على نقض أو تخصيص حقوق الإنسان من قبل الله، يذهبون إلى أنّ الإنسان ليس له أولاً وبالذات أيّ حقّ بغضّ النظر عن حكم الله وإرادته، ويقولون بوجود فرق بين حقوق الإنسان في الغرب وحقوق الإنسان في الإسلام، وإننا نلتزم بحقوق الإنسان ما لم تتعارض والأحكام الإسلامية. وفي رأي هؤلاء ليس للإنسان في الحالة الطبيعية والفطرية، أي بغض النظر عن الخلق وقبل الشرع، أيّ حق، وإنّ جميع الحقوق وضعية واعتبارية. وإننا حينما نراجع النصوص الدينية نجد أنّ الله، ومن خلال الأحكام التي وضعها، قد فرّق بين النبي والناس العاديين، وبين الإمام والناس العاديين، وبين الفقيه وغير الفقيه، وبين المسلم والكافر، وبين الشيعي والسني، وبين الرجل والمرأة، من الناحية الحقوقية، ويقسِّم الناس إلى مواطنين من الدرجة الأولى والثانية والثالثة والرابعة، ولكن لما كان الله عادلاً فعلينا أن نستنتج بأنّ هذه الفوارق الحقوقية منسجمة مع روح العدالة الإلهية.
إنّ أنصار وأتباع هذه الرؤية في الفترة الراهنة والمعاصرة يقولون: إنّ الله تبارك وتعالى خلق الإنسان للعبادة والطاعة، وإنّ إطاعة الحكومة الدينية هي عين إطاعة الله، وكما أنه ليس لنا أيّ حق في قبال الله تعالى، وأننا مجرّد مكلفين، كذلك هو شأننا تجاه الحكومة الدينية. وخلاصة القول: إنّ أهم مستند لإنكار حقوق الإنسان عند هؤلاء هو عدم انسجام هذه الحقوق مع الأدلة النقلية التي تعمل على بيان الأحكام الشريعة.
أما العقلانيون فيقولون: إنّ للإنسان حقوقاً بما هو إنسان، وإنّ هذه الحقوق (الطبيعية) الفطرية والعقلية، والتي تسبق الحقوق الدينية، ليست اعتبارية، ولا شرعية، وإنّ خلق الله للإنسان هو وثيقة اعتراف من قبل الله بهذه الحقوق، وعليه فإن الخالق نفسه لا يحقّ له نقض أو تخصيص هذه الحقوق؛ لأنّ في نقضها ظلم، وإن اتصاف الله بالعدالة يحول دون أن يلحق العباد منه حيف أو ظلم. وعليه إذا أردنا أن نجمع بين حق الله وحقوق الإنسان علينا أن نوفق بين حق الله وعدالته، وعلينا أن نفهم حق الله بشكل ينسجم مع عدالته. إنّ إنكار حقوق الإنسان الفطرية والطبيعية يفرغ وصف العدالة الإلهية من محتواها، أي إننا إذا أنكرنا حقوق الإنسان الفطرية والطبيعية فلن يكون هناك أيّ فرق بين العدل والظلم، وسيكون العدل والظلم في حق الله تعالى سالبة بانتفاء الموضوع.
طبعاً يمكن لله تعالى أن لا يخلق أيّ إنسان ابتداءً، ولكنه لا يستطيع خلق إنسان ثمّ يجرّده عن إنسانيته. وإنّ حقوق الإنسان جزء لا يتجزأ من هويته الإنسانية، وشرط ضروري لبقائه على إنسانيته. إنّ حرمان الإنسان من حقوقه الفطرية والطبيعية اعتداء على ساحته الإنسانية، وتجاهل لكرامته، ورفع للحواجز الفاصلة بين الإنسان والحيوان. وإنّ الإنسان مجرّداً عن حقوقه الإنسانية مفهوم مبهم مجرد عن اللون والطعم والرائحة، ولن يكون هناك أي فرق بينه وبين سائر الأشياء وسائر الحيوانات. وإنّ تديُّن الإنسان الفاقد للحقوق الفطرية والطبيعية يفتقر إلى أية قيمة من الناحية الأخلاقية.
ومضافاً إلى ذلك يمكننا أن نسأل: ما هي طبيعة حق الله على عباده؟ لا شك في أنّ هذا الحق لا يمكن أن يكون وضعياً أو اعتبارياً أو شرعياً؛ لأنّ الله تعالى لا يمكنه أن يضع لنفسه مثل هذا الحق عن طريق التشريع، وإلا كان بإمكانه أن يسلب هذا الحق عن نفسه. كما أنّ شرعية هذا الحق تؤدي إلى التسلسل في مقام الامتثال، وبالتالي إلى نفي جميع الحقوق والتكاليف الشرعية. كما يذهب بعض المتكلمين من الشيعة إلى أنّ شرعية الحسن والقبح تؤدي إلى النفي الكامل للحسن والقبح.
وعليه فإنّ حق الطاعة لله يجب أن يكون حقاً طبيعياً، يمكن إدراكه من قبل العقل. ولكن إذا كان الأمر كذلك يمكننا الادعاء بأن الحقوق الطبيعية غير منحصرة بحق إطاعة الله، وأنّ العقل الذي يدرك الحق الطبيعي لإطاعة الله يستطيع أن يدرك حقوق الإنسان الطبيعية أيضاً، وأنّ ذلك العقل الذي يقول: إنّ لله مثل هذا الحق على عباده يقول: إنّ للإنسان بما هو إنسان مثل هذه الحقوق.
وبعبارة أخرى: إنّ الذين ينكرون وجود حقوق فطرية وطبيعية للإنسان، ويقولون: ليس للإنسان أي حق طبيعي أو فطري، بل هو مكلف فحسب، وإنّ حقوقه بأجمعها ليست طبيعية، وإنما تنتزع من التكاليف الشرعية، لا يمكنهم ادعاء كون جميع التكاليف وضعية واعتبارية، بل لا مناص لهم من الادعاء بأن هناك في الأقل وجود لتكليف فطري وطبيعي، وهو عبارة عن وجوب إطاعة الأوامر الإلهية. وإنّ هذا التكليف الفطري والطبيعي هو الدليل الذي يبرر الدفع والحث إلى العمل بالتكاليف (الشرعية). وإنّ هذا التكليف الفطري والطبيعي متناظر للحق الطبيعي لله وقائم عليه. ولكن السؤال هو: على أيّ شيء يقوم هذا الحق والتكليف الطبيعي؟ وما هو الطريق إلى معرفتهما وإدراكهما؟ ولمّا كان هذا الحق وذلك التكليف طبيعيين لن يكون بالإمكان كونهما ناشئين عن الإرادة التشريعية لله تعالى وحكمه، وإنّ إدراكهما من طريق النقل يواجه محذوراً أيضاً.
ولذلك يجب علينا القول بأنّ هذا الحق والتكليف طبيعيان، وأخلاقيان، وسابقان على الدين، ومقدمان على الفقه، ويدركان من طريق العقل. ولكن السؤال هو: ما هو الفارق بين هذا الحق والتكليف الطبيعي الذي يميزهما عن سائر الحقوق والواجبات الطبيعية؟. وإذا كنا قبل الرجوع إلى الشريعة، ودراسة الأدلة النقلية، والخوض في كشف الحقوق والواجبات الشرعية، مضطرين ومأمورين بتوظيف العقل المستقل عن الشرع؛ للتعرف على حق الله الطبيعي على عباده، وواجبهم الطبيعي تجاهه، فلماذا لا نستطيع أو لا يجب علينا أن نسلك ذات الطريق للتعرف على حقوق الإنسان الطبيعية، واكتشافها؟ ولماذا يجب أن نقيد التأملات والبحوث العقلية والفلسفية في ما يتعلق بحقوق الإنسان بالأدلة النقلية الأضعف، ونخصصها بها؟
إنّ الأصل العام الذي علينا الإذعان له من الناحية العقلائية هو ضرورة قيام الحقوق والتكاليف الشرعية والاعتبارية على الحقوق والتكاليف العقلية، وتحصل على اعتبارها وشرعيتها من قبل الحقوق والتكاليف الطبيعية والعقلية. ولذلك لا يمكنها نقض مبناها وإطارها. وعليه فإنّ الحقوق والتكاليف الفطرية والطبيعية واحدة من الفرضيات والأسس الفلسفية في الفقه، وليست واحدة من مسائله. كما أنّ نفي أو إنكار الحقوق الفطرية والطبيعية نظرية فلسفية، وليست نظرية فقهية. ولذلك لا يمكن من خلال التمسك بالأدلة النقلية، التي تدل ـ بحسب الظاهر، وبحسب الدلالة الالتزامية ـ على نقض أو تخصيص أو إنكار حقوق الإنسان، تبرير مثل هذه النظرية من الناحية الفلسفية. بل على العكس من ذلك يجب من خلال الاستناد إلى الأدلة العقلية، التي تبرر الاعتقاد بالحقوق الفطرية والطبيعية، أن نرفع اليد عن تلك الأدلة والظواهر النقلية. وفي الواقع يمكن الادعاء؛ بسبب وجود الأدلة العقلية الناهضة لصالح الحقوق الفطرية والطبيعية، أنّ الأدلة النقلية المخالفة ستفقد حجيّتها واعتبارها المعرفي. وهكذا ستفقد الفتاوى الفقهية المستندة إلى هذه الأدلة اعتبارها أيضاً؛ لقيامها على الفحص والتحقيق الناقصين.
ويجدر بنا أيضاً إضافة هذه النقطة، وهي أنّ الذين ينكرون حقوق الإنسان الفطرية لا ينكرون حقوق الإنسان، بل ينكرون تساوي الأفراد في التمتع بهذه الحقوق، أي إنهم يخالفون التوزيع العادل لحقوق الإنسان، وبعبارة أخرى: إنّ مشكلتهم تكمن في العدالة في التوزيع؛ إذ يريدون لأنفسهم حصة زائدة على حصص الآخرين، ولكنهم يبررون ذلك عمداً أو سهواً تحت غطاء من التمسك بالتعاليم الدينية، ويظهرون أنّ الله تعالى هو الذي أمر بذلك. وهذه هي المشكلة التي نعاني منها تجاه الكثير من المجتمعات الدينية؛ إذ يتمّ تبرير نقض حقوق الإنسان في هذه المجتمعات من خلال الاستناد إلى حقّ الله. وأتصوّر شخصياً أنّ هذا أكبر ظلم في حق الله تعالى؛ إذ ينسب الإنسان ممارساته الظالمة بحق سائر الناس إلى الله تعالى.
ويجدر بنا هنا أن نشير إلى بعض المسائل التي قد تؤدي إلى سوء في التفاهم. إننا حينما نتحدث عن الحقوق الفطرية والطبيعية للإنسان لا نروم أن نحدّد لله تكليفه، وإنما المدَّعى هنا هو أنّ الله من خلال خلقه للإنسان يعمل على تحديد مساحة قدرته وصلاحياته وحقوقه في التقنين، أي إنّ عدالة الله تقتضي بعد خلقه أن يراعي حقوق الإنسان الفطرية والطبيعية. فلا يمكن لله تعالى أن يخلق كائناً ويتجاهل مقتضياته الفطرية والطبيعية. يستطيع الباري تعالى أن يختار بين خلق الإنسان الواجد للحقوق الطبيعية والفطرية وعدم خلق مثل هذا الإنسان، ولكنه لا يستطيع أن يختار بين خلق الإنسان الواجد للحقوق الطبيعية والفطرية وخلق الإنسان غير الواجد لمثل هذه الحقوق الطبيعية والفطرية؛ لأنّ الإنسان الفاقد لهذه الحقوق إنما هو فاقد لحقيقة الإنسانية. وبتعبير الدين: إنّ كرامة الإنسان ذاتية له، وإن حقوقه الفطرية والطبيعية التي تحكي عن مقامه ومنزلته الأخلاقية الخاصة تنتج من كرامته.
ومضافاً إلى ذلك فإنّ التأكيد على حقوق الإنسان الفطرية والطبيعية لا يعني نفي التكاليف الدينية أو تجاهل أهميتها، وإنما يكمن كل همنا في الأسلوب الصحيح لفهم الشريعة ومعرفة التكاليف الدينية. وإنّ فهمنا ومعرفتنا للتكاليف الدينية مرتبط مئة بالمئة بفهمنا لحق الله، ونسبة هذا الحق إلى حقوق الإنسان الفطرية والطبيعية، أي إنّ رؤيتنا الفلسفية في باب مساحة حق الله الطبيعي، ونسبته إلى حقوق الإنسان الفطرية والطبيعية، مؤثرة بشكل كامل في فهمنا وإدراكنا للأحكام الشرعية، وتفسيرنا للنصوص المبينة لهذه الأحكام. وإنّ هذا التأثير حاسم ومصيري. وفي الحقيقة يمكن القول بأنه نوع من الثورة الكوبرنيقية في الفقه.
ويصدف أن لا تكون هذه المسألة من المسائل التي أثارها بعض المتنوّرين الدينيين في عصرنا لتثار حول قائلها زوبعة الاغتراب والتأثر بالغرب، وبذلك يتم التشويش على أصل المسألة، فقد كان هذا التساؤل مطروحاً حتى من قبل المتكلمين التقليديين. فقد ذهب الكثير من علمائنا المتكلمين قديماً إلى استحالة فعل القبيح على الله تعالى، وذهب الكثير منهم إلى استحالة التكليف بما لا يطاق. وهذا يعني أنّ الله وإنْ كان بوسعه من الناحية التكوينية أن يقوم بعمل القبيح، إلا أنّ فضائله الأخلاقية تحول دون صدور مثل هذه الأفعال عنه، أي إنّ صفات الله الأخلاقية تحدّ من قدرته وحقه في التقنين، وإن قبح التكليف بما لا يطاق يعني أن على الأحكام الشرعية أطراً أخلاقية، وإنّ الله تعالى في مقام وضع وجعل الأحكام الشرعية لا يعمد إلى نقض هذه الأطر، ولن يفوّض لغيره حق نقضها. إلا أن كلامنا في أنّ أخلاق التشريع والتقنين لا تنحصر بالتكليف بما لا يطاق، بل إنّ جميع القيم الأخلاقية، بما في ذلك الحقوق الفطرية والطبيعية، مقدّمة على التشريع والتقنين.
إنّ من بين الأعمال القبيحة هو ظلم العباد، وليس الظلم سوى تضييع الحقوق. وعليه إذا تم إثبات أنّ للإنسان حقوقاً طبيعية وفطرية بأدلة متينة ومقنعة كان نقض هذه الحقوق من قبل الله قبيحاً، وإن اتصاف الله بالعدل يحول دون أن يقوم بعمل، أو تشريع حكم، أو تنصيب شخص في منصب، يكون سبباً في نقض حق من حقوق عبد من عباده. المدعى هو أن للشريعة إطاراً أخلاقياً، وإنّ إطار أحكام الدين الاجتماعية هو (حقوق الإنسان)، الذي هو أساس الأخلاق الاجتماعية. وعليه إذا كنا نريد أن نفهم الأحكام الدينية بشكل صحيح تعيّن علينا أن نزن فهمنا لهذه الأحكام بموازين حقوق الإنسان. إنّ حق تشريع الله ليس بأسبق وأوسع من حق طاعته. وإنّ حقّ طاعته مشروط بانسجام أحكام الله وتشريعاته مع القيم الأخلاقية. ولما كان الأمر كذلك وجب علينا أن نقيس فهمنا لأحكام وأوامر الله بالقيم الأخلاقية. ولا يمكن تبرير نقض حقوق الإنسان بالاستناد إلى حقّ الله. إنّ مثل هذا العمل من أسوأ نماذج سوء استغلال الدين، وإساءة استخدام المقدّسات الدينية.
مسؤولية التوفيق بين حقّ الله وحقوق الإنسان ــــــ
وعلى أية حال فإنّ أهم مسألة تواجهنا نحن المسلمين في الوقت الراهن في ما يتعلق بالحكمة العملية، ويتعيّن علينا التفكير والتحقيق بشأنها، هي مسألة التوفيق بين حق الله وحقوق الإنسان الطبيعية والفطرية. ونحن في هذا الإطار بحاجة ماسّة إلى نظرية واضحة ومنقحة، وإنّ هذه النظرية لا يمكن اكتشافها والوصول إليها وإثباتها إلا من خلال تحقيق حرّ وعقليّ مستقلّ، وتوظيف أسلوبٍ فلسفي. وطبعاً إنّ التحقيق الحرّ والمستقل والعقلي، والاستناد إلى الأسلوب الفلسفي، لا ينافي الرجوع إلى السنة الدينية وغير الدينية، وتوظيف النقاط الإيجابية الموجودة في آثار المتقدّمين، إلا أن إعادة بناء السنة عقلائياً شيء آخر مغاير للإيمان التعبدي والتقليد الأعمى، ومغاير لترجيح النقليات على العقليات، ومغاير لإلغاء دور العقل في قبال النقل.
إنّ سنتنا الدينية كانت حتى الآن تؤكد على أنّ حقّ الله مطلق، وتصرّ على تكليف العباد في قباله، وقد ذهبت في ذلك بعيداً. وفي هذه السنة يتمّ تعريف الإنسان بأنه حيوان مكلَّف، وإنّ موضوع علم الفقه هو فعل المكلَّفين. إنّ الإله الذي يتمّ تعريفه لنا في هذه السنة عبارة عن دكتاتور مستبدّ، أو مصلحيّ يتمتع بحق مطلق في المالكية، ويحق له أن يمارس جميع ما يحلو له من التصرفات في عباده، وليس لـ (حقوق الإنسان الطبيعية والفطرية) أي محل من الإعراب في حساباته، وإنّ إرادته إما جزافية أو أنها بأجمعها تابعة لمصلحة النظام. وإن الحكام الذين ينصّبهم ويستخلفهم في السماوات والأرض، ويتصرفون في مصائر الناس بالنيابة عنه، يتمتعون بمثل هذه الخصوصيات أيضاً، أي إنّ إرادتهم إما أن تكون جزافية أو تابعة لمصلحة النظام، وإنّ حقوق الإنسان الطبيعية والفطرية ليس لها أيّ موضع من الإعراب في قراراتهم، ولا ينبغي أن يكون لها مثل هذا الموضع. وواضح أنّ النظام السياسي الديمقراطي لن يتمخض عن مثل هذا التصوير الذي يرسمه الدين للباري تعالى، وإنّ مثل هذه المعرفة الدينية لن تنسجم مع الديمقراطية بأية حال من الأحوال، ولن يمكن الجمع بينهما أبداً، بل يمكن لها أن تستقيم مع الاستبداد الديني.
وأما إذا قلنا بأن حقوق الإنسان الطبيعية والفطرية تقوم على القيم الأخلاقية الأساسية، وأنّ قدرة الله وإرادته تابعة للقيم الأخلاقية، فعلينا أن نقبل أنّ التكاليف التي يضعها الله على عاتق هذا الإنسان وكاهله سوف تكون منسجمة مع هذه الحقوق، وأنّ عدالة الله ستحول دون نقض هذه الحقوق الفطرية والطبيعية من قبله، وأننا سنتوصل بدورنا إلى فهم صحيح لتلك التكاليف فيما إذا كان فهمنا للنصوص المبيّنة للأحكام الشرعية قائماً على قياسها بموازين حقوق الإنسان الطبيعية والفطرية. وإنّ هذه الحقوق ليست وضعية أو اعتبارية وشرعية، حتى يكون كشفها متوقفاً على الرجوع إلى النصوص الدينية، وتكون حجيّتها ومشروعيتها متوقفة على إمضائها والمصادقة عليها من قبل الشارع أو حاكم الشرع.
وعليه إذا كانت الديمقراطية تنشأ عن حقوق الإنسان، وإذا كانت حقوق الإنسان حقوقاً فطرية وطبيعية، وإذا كانت الحقوق الفطرية والطبيعية مقدمة على الحقوق والواجبات الشرعية، لم يكن بالإمكان؛ للتوفيق بين الديمقراطية والإسلام، فصل الديمقراطية عن قيمها، وتقييد مشروعيتها بانسجامها مع الأحكام الفقهية. وهذا هو النهج الذي يُعبَّر عنه بـ (الذبح الإسلامي للديمقراطية)؛ إذ يذهب بعض علماء الدين؛ للتوفيق بين الإسلام والديمقراطية، إلى تقسيم الديمقراطية إلى قسمين: الديمقراطية الأسلوبية؛ والديمقراطية الأخلاقية، ثمّ يدعون بأنّ الديمقراطية الأسلوبية منسجمة مع الإسلام، خلافاً للديمقراطية الأخلاقية، فإنها لا تنسجم مع الإسلام. ومراد هؤلاء من الديمقراطية الأسلوبية طبلاً فارغاً يمكن لنا أن نملأه بالأحكام الفقهية، ويمكن له أن يجتمع مع الاستبداد الديني. إنّ فرضية هؤلاء هي عدم انسجام القيم الإسلامية ـ ويمكنكم القول: الأحكام الإسلامية ـ مع القيم الليبرالية. ولذا فإنهم يستنتجون من ذلك أنّ الإسلام لا ينسجم مع الليبرالية الديمقراطية، أو الديمقراطية الأخلاقية كما يحلو لهم تسميتها. ولكنْ إذا أمكن فصل الديمقراطية عن الليبرالية فعندها يمكن أن تجتمع مع الإسلام.
إنّ هؤلاء لا يدركون استحالة فصل الديمقراطية عن قيمها المتمثلة بحقوق الإنسان، وأنّ الديمقراطية الخالية من حقوق الإنسان قابلة للجمع مع الاستبداد والدكتاتورية والفاشية، ولذلك لا يمكن لها أن تكون ديمقراطية، بل هي شبه ديمقراطية أو مسمى الديمقراطية، أو أنها في الأقل فاقدة لأي نوع من القيم الأخلاقية. وهي على أية حال بضاعة زائفة ومغشوشة، الهدف منها الاحتيال على البسطاء من الناس؛ بغية حرمانهم من الديمقراطية الحقيقية والأصيلة. إنّ الديمقراطية يمكن لها أن تجتمع مع الدين، ولكنها لا تجتمع مع الاستبداد الديني والقراءة الاستبدادية للدين، ولذلك لا يمكن تسويغ الاستبداد الديني بوضع لاحقة الديني أو الإسلامي في آخره. إنّ هؤلاء قبل أن ينظروا إلى الديمقراطية بوصفها أداة للسيطرة على القدرة، والحيلولة دون وقوع الفساد، ووسيلة للتوزيع العادل والسلمي للسلطة، ينظرون إليها بوصفها فكرة غربية تهدف إلى غزونا ثقافياً، ولذلك يجب السيطرة عليها من خلال الدين والأحكام الدينية. إنّ هؤلاء ينظرون إلى نقض حقوق الإنسان بوصفها مسألة هيّنة لا تستدعي أن نحرق روما من أجلها، أو أنها فضلة فأر لا ينبغي لنا أن نتجاهل قيمة بيدر القمح من أجلها.
تنويع الديمقراطية وسُبُل الحلّ ــــــ
ومضافاً إلى ذلك إننا إذا استطعنا تقسيم الديمقراطية إلى قسمين، هما: الديمقراطية الأخلاقية؛ والديمقراطية الأسلوبية، أو الديمقراطية الدينية؛ والديمقراطية غير الدينية، أمكننا أيضاً تقسيم الاستبداد إلى هذين القسمين أيضاً. وفي هذه الصورة هل يمكن لنا أن نقول: إن الاستبداد الأخلاقي غير الاستبداد الأسلوبي، وإن الاستبداد الأسلوبي منسجم مع الإسلام؟ وهل يمكننا الذهاب إلى اعتبار حكم الاستبداد الديني غير حكم الاستبداد غير الديني؟ وهل لدى هؤلاء في الأساس نظرية واضحة ومنقَّحة في باب الاستبداد الديني، وطرق الحيلولة دونه، أو أنّ مفهوم الاستبداد الديني ليس له مصداق عندهم؟ وهل ساءلوا أنفسهم عما إذا كانت حساسيتهم ومخالفتهم للديمقراطية الأخلاقية والقيم الديمقراطية ناشئة عن غيرتهم وحميتهم الدينية أم أنها نتاج افتراضاتهم المسبقة في مشروعية وأحقية الاستبداد الديني، وقائمة على فهم خاطئ لحدود حق الله ونسبته إلى حقوق الإنسان الفطرية والطبيعية؟
إنّ الديمقراطية أسلوب، إلا أنّ هذا الأسلوب قائم على افتراضات أخلاقية خاصة تميزه عن سائر الأساليب الإدارية الأخرى في المجتمع. ولذلك فإنّ فصل الديمقراطية عن مقوّماتها وعناصرها الأخلاقية لن يجدي نفعاً. وإنّ التوفيق بين الدين والديمقراطية رهن بالكفّ عن النزعة الأخبارية والنقلية الواثقة والأصولية، وقبول اعتبار وحجيّة الظنون العقلية والتجربية. وإلا ففي غير هذه الصورة نجد الصدق يفرض علينا الكف عن خداع الآخرين وخداع أنفسنا، ونقول بصراحة: إنّ الإسلام لا ينسجم مع الديمقراطية وحقوق الإنسان. ولكنّ الواقع أنّ الإسلام ليس هو الذي لا ينسجم مع الديمقراطية وحقوق الإنسان، وإنما الذي لا ينسجم مع الديمقراطية وحقوق الإنسان هو التفسير والقراءة الإسلامية القائمة على الحجية الانحصارية للظنون النقلية، وتقديمها على ما هو أقوى منها من الظنون العقلية والتجربية.
إنّ هذه القراءة الدينية معلَّلة، وليست مستدلة، أي إنّ أنصار هذه القراءة يتبنون من البداية؛ لأسباب سياسية واقتصادية، نظرية خاصة في باب فلسفة الحقوق، ثمّ يسعون إلى ليّ عنق النصوص الدينية لتنسجم مع هذه النظرية، ويفسرون تلك النصوص بشكل يبرِّر تلك النظرية من الناحية الدينية. وبعبارة أخرى: إنّ هؤلاء بدلاً من أن يبدأوا بحثهم وتحقيقهم من دراسة مساحة حق الله، ونسبة ذلك إلى حقوق الإنسان الفطرية والطبيعية، ومن ثمّ بيان وتفسير النصوص الدينية في ضوء النتائج الحاصلة من خلال هذا البحث والتحقيق، نجدهم يربطون الحصان خلف العربة، فيذهبون إلى النصوص الدينية أولاً، ويحاولون أن يستنبطوا منها نظرية في باب فلسفة الحقوق، تستطيع تغطية الظواهر غير المنسجمة مع حقوق الإنسان. ولكن يمكن القول بوضوح: إنه من غير الممكن فهم النصوص الدينية وتفسيرها من دون افتراض نظرية خاصة في باب حق الله، ونسبته إلى حقوق الإنسان. وإنّ النظرية غير المنقَّحة أو المستدلّة التي تجول في أذهان هؤلاء في هذا المجال هي أنّ حق الله مطلق، وأنّ الإنسان فاقد للحقوق الطبيعية والفطرية، وأنّ حقوقه اعتبارية صرفة، وهي تتلخص في ما ورد في النصوص الدينية، أي لابد من التعرّف عليها من خلال الرجوع إلى التكاليف الشرعية. وكما تقدم أن ذكرت فإن قبول هذه النظرية معلَّل وليس مستدلاًّ. وإن اختيارها ليس قائماً على النقد والتحقيق الحرّ والعقلاني، ومقارنتها بالنظريات الأخرى، ودراسة الأدلة الموجودة لصالحها أو ضدها.
(*) أستاذ جامعي معروف، من الشخصيات البارزة في طرح مشروع علم الكلام الجديد، من إيران.
([1]) إنّ الكاتب لا ينكر أهمية السؤال عن النسبة بين المهدوية والخاتمية، بل يرى استحقاق هذا الموضوع للبحث من الناحية الكلامية وما يترتب على ذلك من الفوائد والآثار الثقافية والاجتماعية، ولكن في الوقت نفسه يذهب إلى أن التساؤل عن النسبة القائمة بين المهدوية والخاتمية لا ربط له بالتساؤل عن النسبة القائمة بين المهدوية والديمقراطية إطلاقاً.
([2]) إذا كان مثل هذا الحق ثابتاً لله، فمعنى ذلك عدم وجود حقوق للإنسان في ذلك المورد الخاص، لا أنه موجود، ولكن الله يعمل على نقضه وإبطاله.