س1: كيف تقاربون مشروع الوحدة الإسلامية من خلال مفهومي الوحدة والتقريب بلحاظ الالتباس الذي يثيره الأول ومحدودية سقف الثاني بالمعنى التاريخي أو لجهة الوظيفة التاريخية؟ وكيف تقيمون آليات العمل التقريبي على ضوء الاهتزازات المذهبية الخطيرة التي عشناها في الآونة الأخيرة؟
حب الله: أيّ مفهوم نأخذه في الإضاءة على الموضوع سيحمل معه ملابسات، كنت سابقاً أرى أنّ مفهوم التكامل والتعاون أفضل من مفهومي: التقريب والوحدة، لكن حتى هذين المفهومين لا يمكن أن يولدا في مناخ يرى أنني كامل والآخر وحده ناقص، وأنني لست بحاجة إلى معونة الآخر، إذاً أكثر المصطلحات إما بحاجة إلى ممارسة تعدّدية فكرية مسبقة وهو أمر نفتقده في واقعنا الثقافي ومن ثم يرفض المصطلح، أو أنّها تصطدم بمحاذير لا نريدها نحن، مثل محذور الوحدة بمفهومه السلبي الذي يفضى إلى إلغاء التعدّدية الإيجابية في الأمّة.
من هنا، أفضّل استخدام أحد مصطلحين:
1 ـ المصلحة المشتركة؛ لأن هذا المصطلح يدعم الذاتية والخصوصية في الوقت نفسه الذي يدعم الآخر ويقرّبني منه، لكن مشكلة هذا المصطلح من ناحيتين:
أ ـ من ناحية نفسية إيمانية؛ ذلك أنّ مفهوم المصلحة حينما نريده أن يحكم علاقتنا فهو يشي بشيء من الأنانية والذاتية، ومن ثم ففي اللحظة التي لا تغدو فيها مصلحتي قائمةً بالمشاركة معك سوف أعود للانقسام مرةً ثانية.
ب ـ من ناحية دينية، فإن هذا المصطلح لا يتآلف مع المبادئ القرآنية ـ بحسب فهمنا لها ـ في علاقة المسلمين ببعضهم، فهذه المبادئ لا تعطي أيّ إشارة إلى أنّ علاقة المسلمين تحكمها ـ بالدرجة الأولى ـ مصالح مشتركة، ولو كان هذا هو المبدأ لوجدنا إشارة له في القرآن، بينما لم نجد.
2 ـ الأخوة الدينية؛ فهذا المصطلح تتوافر فيه سمات عديدة، منها أنّه مصطلح قرآني، ومنها أنّ السبيل الوحيد للخروج منه ليس سوى تكفير الآخر، فإذا لم أتمكّن من تكفيره، فأنا محكوم بمبدأ الأخوّة هذا، ممّا يضيق فرص التفلّت منه، ومنها أنّه لا يلزمني بالتنازل عن معتقد أو بالذوبان في الآخر، أو بإحساس النقص في الذات، أو أيّ من هذه اللوازم السلبية.
ولعلّ أفضل المصطلحات هو مصطلح الأخوّة الدينية أو الإيمانية، فالمؤسّسات التقريبية تغدو حينئذٍ مؤسّسات تآخي بين المسلمين، تريد منهم أن يعيدوا في أنفسهم إحساس الأسرة الواحدة، حتى لو اختلف أبناؤها فيما بينهم.
أمّا عن الشق الثاني من السؤال، فأظنّ أن إحدى المشاكل الأساسية ـ رغم الجهود الجبارة ـ تكمن في عدم قدرة التقريبيين على الإمساك بزمام الطوائف التي يعيشون وسطها، فما زالوا يعانون من غربة في مناخهم الطائفي؛ لهذا لا سبيل أمامهم سوى مضاعفة نفوذهم داخل جماعاتهم، بمضاعفة مشاريع رفع مستوى الوعي العام في الأمّة؛ لتقدر الأمّة على ممارسة اختيار أفضل في قضاياها الدينية.
س2: صورة الآخر في التراث الفقهي والكلامي والرجالي وفي الذاكرة التاريخية صورة نمطية في سلبيتها وقتامتها, كيف يمكن للحوار السني/ الشيعي أن يكون منتجاً دونما خلخلة أو تحوير في أبعاد هذه الصورة أو تلك (صورة الشيعي لدى السني والعكس) أو بالأحرى دون تغيير في آليات النظر إلى الآخر؟
حب الله: لا يمكن إحداث أيّ زحزحة قبل تغيير صورة الآخر، فما دامت هذه الصورة مشوّهة إذاً فهي ستشوّه كل العلاقة التي تقوم، وليست قضية التكفير سوى شكل من أشكال سوء قراءة الآخر، وليس المهم في قراءة الآخر الرجوع إلى مصادره فقط، وإنّما إيجاد مناخ تعدّدي يسمح بتعدّد الاجتهاد في القضايا الكلامية والأصولية، وليس فقط في القضايا الفقهية، إضافةً إلى إرفاق هذا التسويغ للاجتهاد بضمانات تسمح بالعمل على وفقه، سواء ضمانات تعذير أخروية أم ضمانات تعايش دنيوي مع هذا الاجتهاد الآخر، وما لم نصل إلى هذه المرحلة فلا أعتقد أنّه من السهل العبور نحو علاقات متوازنة بين المسلمين.
المشكلة أنّ ما يحكمنا هو ثقافة التطفيف التي ندّد بها القرآن الكريم، فهذه الثقافة ـ عندما نجرّدها عن مثالية المكيل والموزون التي جاءت في كتاب الله ـ تعني أن المطفّف يرى أنّ ما عنده وما له يجب أن يحصل عليه بكامله، فهو يعظّم ما عنده ويراه أثمن ممّا عند غيره، فيما يقلّل حقّ الغير، ولا يوفيه ما يستحق ولا يتعامل مع حقوق الآخرين وما عندهم من أفكار وأعمال إلا بمنطق الإنقاص والسخرية والاستهزاء والتقزيم، هذه هي المشكلة عندما يكون المذهبيون مطفّفين في وزنهم لما عندهم وما عند غيرهم، فيغدو المكيال بمكيالين هو الثقافة المهيمنة، فهذه الفتوى عند الطرف الآخر مضحكة مخزية، أمّا لو وجدت نماذج لها عندي فهي مبرّرة ومنطقيّة، وهذا الاجتهاد عندما يكون عند الآخر فهو سطحي ومنحرف، لكنّه عندما أجد له نماذج عندي فهو عميق ودقيق وهكذا.
س3: في الخلاف السياسي غالباً ما نعجز عن تدبير خلافاتنا بصورة حوارية، فنميل إلى الإلغاء و الإقصاء ومصادرة حقّ الطرف الآخر في الوجود، و في الحقل الديني والمذهبي تلعب التمثلات التاريخية دورها في إفساح المجال أمام التعصّب و لغة التكفير كوصفة جاهزة..هل ثمة ناظم معرفي ثقافي بنيوي يسمح بفهم هذه الظاهرة؟
حب الله: لا ينبغي اللهث ـ لحلّ أزمة العلاقة بين المسلمين ـ وراء وصفات من داخل المنظومة الدينية فحسب، أعني من التراث نفسه، وهي قضية أظنّ أنّها بالغة الخطورة، فالحلّ يكون ـ بالدرجة الأولى ـ من النظام المعرفي الذي نقرأ فيه الدين، وليس فقط في القضايا الدينية المبثوثة في الكتاب والسنّة، لأنّ النظم المعرفية الدوغمائية قادرة بيسر وسهولة على إفراغ النصوص الدينية التقريبية من مضمونها، بفعل جملة عناصر تاريخية ونصيّة أيضاً، فما لم نوجد مناخاً معرفياً تعدّدياً يؤمن بالتعدّدية بوصفها فكرة فلسفية وليست رؤية اجتماعية فحسب، أستبعد أن نجد في المنظور القريب حلاً للمعضل القائم؛ فالمشكلة من العقل الذي يقرأ الدين وليست من النصوص الدينية، مع الاحتفاظ بدور بعض النصوص الدينية في تمزيق المسلمين، عنيت بعض النصوص الموجودة في الأحاديث المبثوثة بين المسلمين.
يضاف إلى ذلك، ضرورة العمل على وضع حلول لأزمة الهوية التي تعيشها الأمة المسلمة اليوم، فعندما يعيش المسلم أزمة هوية وخوف على الوجود، بفعل المدّ الحضاري و.. القادم من غرب الأرض، فلن نجد شيئاً يضبط إيقاع الخوف والقلق على هذه الهوية، وهي ظاهرة ستتجلّى في المزيد من التقوقع داخل كلّ خصوصيات الهوية، سواء على الصعيد المذهبي أم القومي أم الوطني، وهو ما سيفعل فعله في خلق (كانتونات) منفصلة أو جزر غير متصلة بين المسلمين؛ لأنّ كل واحد يرى الآخر مصدر قلق على هويته ما دام يعيش في لحظته الحضارية أزمة هوية.
س4: هناك مأخذ على مشروع التقريب وهو انبناؤه على السياسي فيما يفرضه التحدي الخارجي من وحدة الصف، وبالنتيجة تلبسه بالبعد المصلحي والظرفي من كون السياسي متغير . فهل فعلاً يعيش مشروع الوحدة هذا الارتهان وتغيب عنه أو على الأقل تضمر فيه المراهنات الأخرى فقهية اجتهادية أو معرفية تأسيسية بشكل عام ؟
حب الله: سبق أن ألمحت في دراسة سابقة لي، أنّ الرهان على السياسي في قضية التقريب كان من أكبر الأخطاء التي حصلت، لا يمكنك أن تبني مشروعاً تهدف منه إلى إعادة الأوضاع الطبيعية بين المسلمين على أساس الخطر الخارجي فحسب، وإن كان هذا الأساس فعّالاً، لأنّك بذلك تكون قد ربطت الثابت بالمتحوّل، والنتيجة تتبع أخسّ المقدّمتين؛ فلابدّ ـ إذاً ـ أن يتحوّل بالتبع هذا الثابت، وهذا ما حصل بالفعل في الفترة الأخيرة؛ من هنا فالمفترض الانطلاق من التقريب المعرفي والعلمي والاجتماعي ليكون القرار السياسي خادماً لهذين التقريبين لا أساساً لهما، وهو ما سينتج تحوّلاً جذريّاً في مسيرة التقريب والتآخي؛ وحتى لو تغاضينا عن هذا الأمر، فهناك فرق بين أن يكون الواقع السياسي دافعاً لمشروع التقريب وبين أن يكون المشروع ذا صبغة سياسية وأهداف سياسية بحتة.
س5: على ضوء المنجز الذي حققته جهود التقريبيين و الذي يُختلف في تقييمه، ما هي في تقديركم الأهداف المرحلية الملحة التي ينبغي العمل عليها وذلك على خلفية بعض الثغرات التي كشفت عنها الأجواء المذهبية الخطيرة التي سادت في أكثر من منطقة؟
حب الله: أ ـ يفترض العمل بشكل جادّ على دراسة ظاهرة التكفير دراسة غير دينية هذه المرّة، إضافة إلى الدراسة الدينية، أي دراسة تنبع من علم النفس والاجتماع والتاريخ والسياسة والاقتصاد، لنقرأ الأوضاع التي أدّت إلى تفشي هذه الظاهرة بشكل كبير في الفترة الأخيرة، والبقاء على التفسير الديني أو المنطلق الديني لظاهرة التكفير فيه نوع من التسطيح وذرّ الرماد في العيون، فمثل هذه الظواهر لا تنبع من الدين فقط، وإنّما من الظروف التي ألجأت إلى توظيف الدين في ذلك.
ب ـ كما يفترض القيام بجهود حثيثة من جانب أصحاب الشأن والنفوذ تعبّر عن مبادرات سياسية لحلّ بعض المشكلات السياسية العالقة في المنطقة، والتي نعرف جميعاً أنّها ساهمت بشكل كبير في رفع وتيرة الخطاب الطائفي، ومطالبة السياسيين بالتوقف عن توظيف الخطاب الطائفي في معاركهم السياسية حتى لو اعتبروها محقّة، وسحب علماء الدين هذه الذريعة من يد السياسيين سيخدم مشروع التآخي الإسلامي بشكل أفضل.
ج ـ ولا يفوتنا التذكير بالعمل على رفع مستوى الوعي السياسي في الأمّة، من خلال تعريفها بدور مراكز المخابرات في العالم وقوى الهيمنة الكبرى في إيجاد الفرقة بين المسلمين، والكشف عن أرقام حقيقية في هذا المضمار من التاريخ القريب؛ فإنّ مشكلة الكثير من المسلمين ـ لاسيما أصحاب المشاريع محض الفكرية والثقافية والدينية ـ أنّهم يفتقدون الوعي السياسي؛ ممّا يقدّم لقوى الهيمنة العالمية لقمةً سائغة بجعل مشاريع هؤلاء ـ وهي مشاريع قد تكون صائبة في نفسها ـ ورقة توظيف في مواجهة الأمّة الإسلامية بأجمعها.
د ـ كما يجب العمل على بعض المظاهر السلوكية التي تعيشها بعض الأطراف من عدم احترام مقدّسات الطرف الآخر، فهذا الملف في هذه المرحلة جيد، ضمن برامج فكرية وتوعوية تحاول الخروج من ممارسة هذا النهج في التعامل مع التراث ومع معتقدات الآخر ومقدّساته.
س6: هل من كلمة توجهونها للمشاركين في مؤتمر الوحدة الإسلامية في دورته21 والذي ينعقد تحت شعار:" ميثاق الوحدة الإسلامية.. نقد ومراجعة"؟
حب الله: إنّ وضع عنوان (نقد ومراجعة) كان اختياراً موفقاً؛ فحبّذا لو نعلن هذا العام القادم للتقريبيين عاماً للنقد والمراجعة؛ لأن مشكلتنا أنّنا نستغرق في نقد الآخر حتى تغيب ذواتنا عن المشهد النقدي؛ فنطهّر أنفسنا ونرمي بالذنب على غيرنا الذي قد يشاركنا فيه ولا يستقلّ به دوننا.
حب الله: أيّ مفهوم نأخذه في الإضاءة على الموضوع سيحمل معه ملابسات، كنت سابقاً أرى أنّ مفهوم التكامل والتعاون أفضل من مفهومي: التقريب والوحدة، لكن حتى هذين المفهومين لا يمكن أن يولدا في مناخ يرى أنني كامل والآخر وحده ناقص، وأنني لست بحاجة إلى معونة الآخر، إذاً أكثر المصطلحات إما بحاجة إلى ممارسة تعدّدية فكرية مسبقة وهو أمر نفتقده في واقعنا الثقافي ومن ثم يرفض المصطلح، أو أنّها تصطدم بمحاذير لا نريدها نحن، مثل محذور الوحدة بمفهومه السلبي الذي يفضى إلى إلغاء التعدّدية الإيجابية في الأمّة.
من هنا، أفضّل استخدام أحد مصطلحين:
1 ـ المصلحة المشتركة؛ لأن هذا المصطلح يدعم الذاتية والخصوصية في الوقت نفسه الذي يدعم الآخر ويقرّبني منه، لكن مشكلة هذا المصطلح من ناحيتين:
أ ـ من ناحية نفسية إيمانية؛ ذلك أنّ مفهوم المصلحة حينما نريده أن يحكم علاقتنا فهو يشي بشيء من الأنانية والذاتية، ومن ثم ففي اللحظة التي لا تغدو فيها مصلحتي قائمةً بالمشاركة معك سوف أعود للانقسام مرةً ثانية.
ب ـ من ناحية دينية، فإن هذا المصطلح لا يتآلف مع المبادئ القرآنية ـ بحسب فهمنا لها ـ في علاقة المسلمين ببعضهم، فهذه المبادئ لا تعطي أيّ إشارة إلى أنّ علاقة المسلمين تحكمها ـ بالدرجة الأولى ـ مصالح مشتركة، ولو كان هذا هو المبدأ لوجدنا إشارة له في القرآن، بينما لم نجد.
2 ـ الأخوة الدينية؛ فهذا المصطلح تتوافر فيه سمات عديدة، منها أنّه مصطلح قرآني، ومنها أنّ السبيل الوحيد للخروج منه ليس سوى تكفير الآخر، فإذا لم أتمكّن من تكفيره، فأنا محكوم بمبدأ الأخوّة هذا، ممّا يضيق فرص التفلّت منه، ومنها أنّه لا يلزمني بالتنازل عن معتقد أو بالذوبان في الآخر، أو بإحساس النقص في الذات، أو أيّ من هذه اللوازم السلبية.
ولعلّ أفضل المصطلحات هو مصطلح الأخوّة الدينية أو الإيمانية، فالمؤسّسات التقريبية تغدو حينئذٍ مؤسّسات تآخي بين المسلمين، تريد منهم أن يعيدوا في أنفسهم إحساس الأسرة الواحدة، حتى لو اختلف أبناؤها فيما بينهم.
أمّا عن الشق الثاني من السؤال، فأظنّ أن إحدى المشاكل الأساسية ـ رغم الجهود الجبارة ـ تكمن في عدم قدرة التقريبيين على الإمساك بزمام الطوائف التي يعيشون وسطها، فما زالوا يعانون من غربة في مناخهم الطائفي؛ لهذا لا سبيل أمامهم سوى مضاعفة نفوذهم داخل جماعاتهم، بمضاعفة مشاريع رفع مستوى الوعي العام في الأمّة؛ لتقدر الأمّة على ممارسة اختيار أفضل في قضاياها الدينية.
س2: صورة الآخر في التراث الفقهي والكلامي والرجالي وفي الذاكرة التاريخية صورة نمطية في سلبيتها وقتامتها, كيف يمكن للحوار السني/ الشيعي أن يكون منتجاً دونما خلخلة أو تحوير في أبعاد هذه الصورة أو تلك (صورة الشيعي لدى السني والعكس) أو بالأحرى دون تغيير في آليات النظر إلى الآخر؟
حب الله: لا يمكن إحداث أيّ زحزحة قبل تغيير صورة الآخر، فما دامت هذه الصورة مشوّهة إذاً فهي ستشوّه كل العلاقة التي تقوم، وليست قضية التكفير سوى شكل من أشكال سوء قراءة الآخر، وليس المهم في قراءة الآخر الرجوع إلى مصادره فقط، وإنّما إيجاد مناخ تعدّدي يسمح بتعدّد الاجتهاد في القضايا الكلامية والأصولية، وليس فقط في القضايا الفقهية، إضافةً إلى إرفاق هذا التسويغ للاجتهاد بضمانات تسمح بالعمل على وفقه، سواء ضمانات تعذير أخروية أم ضمانات تعايش دنيوي مع هذا الاجتهاد الآخر، وما لم نصل إلى هذه المرحلة فلا أعتقد أنّه من السهل العبور نحو علاقات متوازنة بين المسلمين.
المشكلة أنّ ما يحكمنا هو ثقافة التطفيف التي ندّد بها القرآن الكريم، فهذه الثقافة ـ عندما نجرّدها عن مثالية المكيل والموزون التي جاءت في كتاب الله ـ تعني أن المطفّف يرى أنّ ما عنده وما له يجب أن يحصل عليه بكامله، فهو يعظّم ما عنده ويراه أثمن ممّا عند غيره، فيما يقلّل حقّ الغير، ولا يوفيه ما يستحق ولا يتعامل مع حقوق الآخرين وما عندهم من أفكار وأعمال إلا بمنطق الإنقاص والسخرية والاستهزاء والتقزيم، هذه هي المشكلة عندما يكون المذهبيون مطفّفين في وزنهم لما عندهم وما عند غيرهم، فيغدو المكيال بمكيالين هو الثقافة المهيمنة، فهذه الفتوى عند الطرف الآخر مضحكة مخزية، أمّا لو وجدت نماذج لها عندي فهي مبرّرة ومنطقيّة، وهذا الاجتهاد عندما يكون عند الآخر فهو سطحي ومنحرف، لكنّه عندما أجد له نماذج عندي فهو عميق ودقيق وهكذا.
س3: في الخلاف السياسي غالباً ما نعجز عن تدبير خلافاتنا بصورة حوارية، فنميل إلى الإلغاء و الإقصاء ومصادرة حقّ الطرف الآخر في الوجود، و في الحقل الديني والمذهبي تلعب التمثلات التاريخية دورها في إفساح المجال أمام التعصّب و لغة التكفير كوصفة جاهزة..هل ثمة ناظم معرفي ثقافي بنيوي يسمح بفهم هذه الظاهرة؟
حب الله: لا ينبغي اللهث ـ لحلّ أزمة العلاقة بين المسلمين ـ وراء وصفات من داخل المنظومة الدينية فحسب، أعني من التراث نفسه، وهي قضية أظنّ أنّها بالغة الخطورة، فالحلّ يكون ـ بالدرجة الأولى ـ من النظام المعرفي الذي نقرأ فيه الدين، وليس فقط في القضايا الدينية المبثوثة في الكتاب والسنّة، لأنّ النظم المعرفية الدوغمائية قادرة بيسر وسهولة على إفراغ النصوص الدينية التقريبية من مضمونها، بفعل جملة عناصر تاريخية ونصيّة أيضاً، فما لم نوجد مناخاً معرفياً تعدّدياً يؤمن بالتعدّدية بوصفها فكرة فلسفية وليست رؤية اجتماعية فحسب، أستبعد أن نجد في المنظور القريب حلاً للمعضل القائم؛ فالمشكلة من العقل الذي يقرأ الدين وليست من النصوص الدينية، مع الاحتفاظ بدور بعض النصوص الدينية في تمزيق المسلمين، عنيت بعض النصوص الموجودة في الأحاديث المبثوثة بين المسلمين.
يضاف إلى ذلك، ضرورة العمل على وضع حلول لأزمة الهوية التي تعيشها الأمة المسلمة اليوم، فعندما يعيش المسلم أزمة هوية وخوف على الوجود، بفعل المدّ الحضاري و.. القادم من غرب الأرض، فلن نجد شيئاً يضبط إيقاع الخوف والقلق على هذه الهوية، وهي ظاهرة ستتجلّى في المزيد من التقوقع داخل كلّ خصوصيات الهوية، سواء على الصعيد المذهبي أم القومي أم الوطني، وهو ما سيفعل فعله في خلق (كانتونات) منفصلة أو جزر غير متصلة بين المسلمين؛ لأنّ كل واحد يرى الآخر مصدر قلق على هويته ما دام يعيش في لحظته الحضارية أزمة هوية.
س4: هناك مأخذ على مشروع التقريب وهو انبناؤه على السياسي فيما يفرضه التحدي الخارجي من وحدة الصف، وبالنتيجة تلبسه بالبعد المصلحي والظرفي من كون السياسي متغير . فهل فعلاً يعيش مشروع الوحدة هذا الارتهان وتغيب عنه أو على الأقل تضمر فيه المراهنات الأخرى فقهية اجتهادية أو معرفية تأسيسية بشكل عام ؟
حب الله: سبق أن ألمحت في دراسة سابقة لي، أنّ الرهان على السياسي في قضية التقريب كان من أكبر الأخطاء التي حصلت، لا يمكنك أن تبني مشروعاً تهدف منه إلى إعادة الأوضاع الطبيعية بين المسلمين على أساس الخطر الخارجي فحسب، وإن كان هذا الأساس فعّالاً، لأنّك بذلك تكون قد ربطت الثابت بالمتحوّل، والنتيجة تتبع أخسّ المقدّمتين؛ فلابدّ ـ إذاً ـ أن يتحوّل بالتبع هذا الثابت، وهذا ما حصل بالفعل في الفترة الأخيرة؛ من هنا فالمفترض الانطلاق من التقريب المعرفي والعلمي والاجتماعي ليكون القرار السياسي خادماً لهذين التقريبين لا أساساً لهما، وهو ما سينتج تحوّلاً جذريّاً في مسيرة التقريب والتآخي؛ وحتى لو تغاضينا عن هذا الأمر، فهناك فرق بين أن يكون الواقع السياسي دافعاً لمشروع التقريب وبين أن يكون المشروع ذا صبغة سياسية وأهداف سياسية بحتة.
س5: على ضوء المنجز الذي حققته جهود التقريبيين و الذي يُختلف في تقييمه، ما هي في تقديركم الأهداف المرحلية الملحة التي ينبغي العمل عليها وذلك على خلفية بعض الثغرات التي كشفت عنها الأجواء المذهبية الخطيرة التي سادت في أكثر من منطقة؟
حب الله: أ ـ يفترض العمل بشكل جادّ على دراسة ظاهرة التكفير دراسة غير دينية هذه المرّة، إضافة إلى الدراسة الدينية، أي دراسة تنبع من علم النفس والاجتماع والتاريخ والسياسة والاقتصاد، لنقرأ الأوضاع التي أدّت إلى تفشي هذه الظاهرة بشكل كبير في الفترة الأخيرة، والبقاء على التفسير الديني أو المنطلق الديني لظاهرة التكفير فيه نوع من التسطيح وذرّ الرماد في العيون، فمثل هذه الظواهر لا تنبع من الدين فقط، وإنّما من الظروف التي ألجأت إلى توظيف الدين في ذلك.
ب ـ كما يفترض القيام بجهود حثيثة من جانب أصحاب الشأن والنفوذ تعبّر عن مبادرات سياسية لحلّ بعض المشكلات السياسية العالقة في المنطقة، والتي نعرف جميعاً أنّها ساهمت بشكل كبير في رفع وتيرة الخطاب الطائفي، ومطالبة السياسيين بالتوقف عن توظيف الخطاب الطائفي في معاركهم السياسية حتى لو اعتبروها محقّة، وسحب علماء الدين هذه الذريعة من يد السياسيين سيخدم مشروع التآخي الإسلامي بشكل أفضل.
ج ـ ولا يفوتنا التذكير بالعمل على رفع مستوى الوعي السياسي في الأمّة، من خلال تعريفها بدور مراكز المخابرات في العالم وقوى الهيمنة الكبرى في إيجاد الفرقة بين المسلمين، والكشف عن أرقام حقيقية في هذا المضمار من التاريخ القريب؛ فإنّ مشكلة الكثير من المسلمين ـ لاسيما أصحاب المشاريع محض الفكرية والثقافية والدينية ـ أنّهم يفتقدون الوعي السياسي؛ ممّا يقدّم لقوى الهيمنة العالمية لقمةً سائغة بجعل مشاريع هؤلاء ـ وهي مشاريع قد تكون صائبة في نفسها ـ ورقة توظيف في مواجهة الأمّة الإسلامية بأجمعها.
د ـ كما يجب العمل على بعض المظاهر السلوكية التي تعيشها بعض الأطراف من عدم احترام مقدّسات الطرف الآخر، فهذا الملف في هذه المرحلة جيد، ضمن برامج فكرية وتوعوية تحاول الخروج من ممارسة هذا النهج في التعامل مع التراث ومع معتقدات الآخر ومقدّساته.
س6: هل من كلمة توجهونها للمشاركين في مؤتمر الوحدة الإسلامية في دورته21 والذي ينعقد تحت شعار:" ميثاق الوحدة الإسلامية.. نقد ومراجعة"؟
حب الله: إنّ وضع عنوان (نقد ومراجعة) كان اختياراً موفقاً؛ فحبّذا لو نعلن هذا العام القادم للتقريبيين عاماً للنقد والمراجعة؛ لأن مشكلتنا أنّنا نستغرق في نقد الآخر حتى تغيب ذواتنا عن المشهد النقدي؛ فنطهّر أنفسنا ونرمي بالذنب على غيرنا الذي قد يشاركنا فيه ولا يستقلّ به دوننا.