الأمّةُ لا تصيرُ خيرَ أمةٍ أُخرجت للناس حتّى تكون أمةً شاهدة (شاهدةً على الأمم)، ولا تكونُ أمةً شاهدةً حتى تكون أمةً واحدة، ولا تظلّ أمة واحدة حتى تكون أمةً وسطاً ( أي تأسَّست على الوسطية).
والوسطيةُ تتجلّى في ثلاثةِ ميادين:
1ـ الوسطيّةُ في الحقّ
لها وجهان في البيان:
فإنْ أُريد بها أن نتصرّف في جوهر الحقّ، فنُغيّرَ أو نبتدعَ أو نُبدّل، فذلك باطلٌ؛ إذ الحقّ واحدٌ ثابتٌ لا يتغيّر، قائمٌ بذاته، لا تناله يدُ البشر بزيادةٍ ولا نقصان.
وأمّا إذا أُريد بها ما يختصّ بالشقّ المعياريّ من الحقّ، وهو التشريع، فهنا الوسطية وصفٌ له لا صنعٌ لنا فيه؛ فالشريعةُ، وهي الحقّ الثابتُ الذي لا يقبل التغيير، قد أُقيمت على صراط القصد، ورُسمت سبُلها بالميزان العادل، وذلك لقيام الدلائل وتضافر البراهين. وعلى كلّ حال، زمام الحقّ جميعًا ليس في أيدينا، بل في يد من أحاط به علمًا وقدرةً.
2ـ الوسطيّةُ في الفكر
وهي أن لا يُحبَس العقلُ في زاويةٍ واحدة، ولا يُقيّد بُعدًا دون سواه، بل ينفتح على زوايا متعدّدة، ويجمع أطراف الرؤية كما تجمع الشريعةُ أبعادَ الفطرة. الفكرُ الوسطيّ لا يُقصي جانبًا ويأخذ آخر، بل يسلكُ الطريق الذي يعكسُ ما أودعه الله في الوحي، وما ألقاه في أعماق الطبع السليم.
والقرآنُ كتابُ القَصدِ والاعتدال، لا إفراطَ في آياتِه ولا تَفريط؛ من ابتغى وسطيّةَ الفكر فالزمهُ لزومَ السديد، واقتربْ من هَديه القويم.
3ـ الوسطيّةُ في السلوك
وهي أن يجري العملُ مجرى الفكر، فيُترجم الاعتدالَ إلى واقع، ويوازن بين المصالح المتنوّعة. فإن اتّبع قومٌ مذهبًا لا يرعى إلا مصالحَه الخاصّة، اتّبعت سائرُ المذاهب مصالحَها الخاصّة كذلك، فغابت المصلحةُ الكبرى للأمّة. والسلوكُ الوسطيّ هو الذي يجمع بين الدّين والدنيا، بين الماضي والحاضر، ويركز على مصالح الأمة.
فإذا غابت الوسطيةُ غابت الوحدة، وإذا حضرت الوسطيةُ تمهّدت الوحدة، وإذا تبلورت الوحدةُ ظهرت الشهادة، وإذا ظهرت الشهادةُ تحقّقت الخيرية. إنها سلسلةٌ متماسكةُ الحلقات.