د. بهروز أفشار(*)
الخلاصة
يتطلّع هذا المقال إلى دراسة محتوى الوصايا العشرة، ومعرفة تقييمها من وجهة نظر ابن تيمية، وابن خلدون، وسيّد قطب، وأبي عبدالله القرطبي، والفخر الرازي. فكما يقول علماء اليهود، تحوي التوراة 613 حكماً. ويمتاز عشرةٌ منها بأهمّية خاصّة؛ إذ تشكّل هذه الوصايا العشرة ركيزة الشريعة اليهودية، ومنها تتشعَّب جميع وصاياها. وفي الحقيقة قد عاهد بنو إسرائيل الله بقبولهم هذه الوصايا. كما أن عبارة «الألواح» التي وردت في الآية 145 من سورة الأعراف في القرآن الكريم يُراد بها اللوحين اللذين ضمّا الوصايا العشرة من الكتاب المقدَّس.
ولما تحمله الوصايا العشرة من شأنٍ لدى علماء اليهود، وذكر القرآن الكريم لها بإشاراتٍ رائعة دقيقة، تناولها، بعد القرون الوسطى، حكماء ومتكلِّمون ومحقِّقون، كسيّد قطب، والخطيب التبريزي، وابن تيمية، وابن خلدون، وآخرين، بالدراسة والنقد من جهاتٍ مختلفة. وسيفصِّل هذا المقال الموضوع، دراسةً وتقييماً.
المقدّمة
مصدر مصطلح الوصايا العشرة هو المصطلح اليوناني «deka Logoif»، والذي يعني «الكلمات العشرة» أو «الأقوال العشرة». كذلك المصطلح العبري «aseret ha-dvarim» واسم «Decalogue»، أي «أحكام موسى العشرة»([1])، وردا بنفس المعنى. كما أُشير بهذه الكلمة إلى آياتٍ في أسفار الخروج والتثنية: وكتب أقوال العهد، أي الأقوال العشرة، على الألواح([2]).
وكما يقول كتاب اليهود المقدّس: بعد خروج بني اسرائيل من مصر بثلاثة أشهر ذهب موسى× بأمرٍ من الله إلى جبل سيناء، وأوتي لوحين نُقشت عليهما الوصايا العشرة، وقد خُطَّتْ بـ «إصبع الله»([3]). أما سائر أحكام التوراة فقد كتبها موسى([4]). وقد تمّ ترقيم الوصايا العشرة بطرق عدّة؛ لكنّ أكثر طريقةٍ مقبولة لدى اليهودية هي: 1ـ أنا الله، إلهك. 2ـ لا يكون لديك آلهة أخرى غيري. 3ـ لا تذكر اسم الله بالباطل. 4ـ أحيي يوم السبت. 5ـ احترم أباك وأمّك. 6ـ لا تقتل. 7ـ لا تزْنِ. 8ـ لا تسرق. 9ـ لا تشهد زوراً على جارك. 10ـ لا تطمع في عرض جارك وأمواله. أما المسيحية فغالباً ما تعدّ الوصيتين الأولييين وصيّةً واحدة، وتقسِّم الوصية العاشرة إلى وصيّتين؛ حيث تحرّم الوصيّة التاسعة الشهوة الجسدية، وتنهى الوصيّة العاشرة عن الطمع في أموال الآخرين.
أما التفاسير الإسلامية في القرون الوسطى فلم تتطرّق كثيراً لمحتوى الوصايا العشرة لموسى×. فالقرآن الكريم مكمِّلٌ للشرائع المذكورة في التوراة. لذلك لم يجِدْ علماء المسلمين حاجةً إلى دراسة دقيقة لنصوص الوصايا العشرة؛ لعدم وجود صلةٍ وطيدة لها بالشريعة الإسلامية. وعلى الرغم من ذلك كان الحكيم الترمذي، والثعالبي، والسيوطي، وأبو الحسن الكسائي، والطبري، وابن كثير، وابن النديم، من الذين قاموا بنقد الوصايا العشرة، وإبداء الرأي فيها؛ انطلاقاً من أهمّيتها.
فقد كان الحكيم الترمذي، المحدِّث والعارف الشهير، من مناصري الرأي القائل بالتطابق التامّ بين الوصايا العشرة للكتاب المقدّس والقرآن الكريم. فقد اقتفى الترمذي أثر الطبري في باب «الكلمات العشرة»، مفسِّراً الوصايا العشرة في الكتاب المقدّس، ناقلاً عن وهب بن منبه. وقد كرَّر الموضوع مراراً([5]).
أما الأديب ومفسِّر القرآن أبو إسحاق الثعالبي فقد انفرد بالرأي الذي تناول به الوصايا العشرة، فقد خصَّ عدداً من صفحات كتابه الشهير: (قصص الأنبياء)، الذي قد يكون أكثر كتب القصص شمولاً، بـ «ألواح موسى»([6]).
أما السيوطي فقد ذكر بوضوح الوصايا العشرة للتوراة؛ حيث نقل ابتداءً عن أبي عبيد القاسم بن سلاّم، النحوي والباحث في القرآن الكريم، قوله: وإن اختصّت الوصايا العشرة بالنبيّ موسى× والتوراة، لكنّ هذا الجزء من التوراة هو عين الآيات العشر الأولى من سورة الأنعام، التي تبدأ بـ: ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ…﴾([7]).
كما أكّد السيوطي رأيه بذكر أقوال بعض العلماء المتَّفقين معه في الرأي، والذين يعتقدون أن آيات سورة الأنعام تحوي الوصايا العشرة التي كتبها الله لموسى× في التوراة.
أما المؤلِّف الشهير، أبو الحسن الكيساني، فقد اختلف تماماً في طريقة شرحه لموضوع الوصايا العشرة؛ إذ يفصّل في كتابه كيفية نزول جبرئيل إلى موسى×، وقوله له: قُمْ، اركَبْ فرسي حيث لم يركبه أحدٌ قبلك. ويلفت نظر القرّاء إلى أن جبرئيل أخذ موسى× إلى المكان الذي كلَّم الله فيه من قبل، وحين وصوله إلى جبل سيناء سمع صوت خطّ القلم على الألواح، حيث قال الله للقلم: اكتُبْ([8]).
وقد تناول كثيرٌ من العلماء، كأبي عبد الله القرطبي، والفخر الرازي، وابن خلدون، وابن تيمية، وسيّد قطب، وآخرين، الوصايا العشرة في الكتاب المقدّس، بعد القرون الوسطى. وسنذكرها بالتفصيل في هذا المقال.
الوصايا العشرة في التوراة
يحكي سفر الخروج في التوراة قصّة موسى× وبني إسرائيل، وخروجهم من مصر نحو أرض الميعاد. وقد ذكر هذا السفر أهمّ الشرائع والأوامر الإلهية إلى موسى×، والتي عرفت بـ «الوصايا العشرة»:
فقد قال الله تعالى:
1ـ أَنَا الرَّبُّ إِلهُكَ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ بَيْتِ الْعُبُودِيَّةِ.
2ـ لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي. لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالاً مَنْحُوتاً، وَلاَ صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ. لاَ تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ؛ لأَنِّي أَنَا الرَّبَّ إِلهَكَ إِلهٌ غَيُورٌ، أَفْتَقِدُ ذُنُوبَ الآبَاءِ فِي الأَبْنَاءِ، فِي الْجِيلِ الثَّالِثِ وَالرَّابعِ مِنْ مُبْغِضِيَّ، وَأَصْنَعُ إِحْسَاناً إِلَى أُلُوفٍ مِنْ مُحِبِّيَّ وَحَافِظِي وَصَايَايَ.
3ـ لاَ تَنْطِقْ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلهِكَ بَاطِلاً، لأَنَّ الرَّبَّ لاَ يُبْرِئُ مَنْ نَطَقَ بِاسْمِهِ بَاطِلاً.
4ـ اُذْكُرْ يَوْمَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ. سِتَّةَ أَيَّامٍ تَعْمَلُ وَتَصْنَعُ جَمِيعَ عَمَلِكَ، وَأَمَّا الْيَوْمُ السَّابعُ فَفِيهِ سَبْتٌ لِلرَّبِّ إِلَهِكَ. لاَ تَصْنَعْ عَمَلاً مَا أَنْتَ وَابْنُكَ وَابْنَتُكَ وَعَبْدُكَ وَأَمَتُكَ وَبَهِيمَتُكَ وَنَزِيلُكَ الَّذِي دَاخِلَ أَبْوَابِكَ؛ لأَنّه فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ صَنَعَ الرَّبُّ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا، وَاسْتَرَاحَ فِي الْيَوْمِ السَّابعِ. لِذلِكَ بَارَكَ الرَّبُّ يَوْمَ السَّبْتِ وَقَدَّسَهُ.
5ـ أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ؛ لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ.
6ـ لاَ تَقْتُلْ.
7ـ لاَ تَزْنِ.
8ـ لاَ تَسْرِقْ.
9ـ لاَ تَشْهَدْ عَلَى قَرِيبِكَ شَهَادَةَ زُورٍ.
10ـ لاَ تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ. لاَ تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ، وَلاَ عَبْدَهُ، وَلاَ أَمَتَهُ، وَلاَ ثَوْرَهُ، وَلاَ حِمَارَهُ، وَلاَ شَيْئاً مِمَّا لِقَرِيبِكَ»([9]).
أما الأسفار الثلاثة الأخرى، أي اللاويين والعدد والتثنية، فقد سردَتْ حكاية بني اسرائيل وعبورهم الصحراء؛ للوصول إلى أرض الميعاد. وقد اختصّ جزءٌ كبير منها بتفاصيل الأحكام الدينية. وقد أُعيد بيان الوصايا العشرة في سفر التثنية. وقد انتهى الكتاب بموت موسى×.
الوصايا العشرة في القرآن
ليس في القرآن آياتٌ تبيِّن الوصايا العشرة بتمامها. لكنْ يبدو أن في القرآن موضعين يتمّ الإشارة فيهما إلى وصايا موسى× العشرة في طور سيناء:
إحداها: في الآيتين 83 و84 من سورة البقرة، حيث ورد ذكرها بلفظ «العهد» أو «الميثاق»: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ (البقرة: 83).
وتأتي الآية التالية أيضاً بذكر «الميثاق» لفظاً: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ (البقرة: 84).
وتذكر آياتُ سورة الأعراف تجلّي الله تعالى لموسى× في طور سيناء، وأن الله تعالى عَهِدَ بالألواح الحَجَرية المنقوشة لموسى×، والتي تحوي الشرائع والإرشادات كافة. لكنْ ليس هناك تعريفٌ بجميع محتوى النصوص في الألواح. فحتّى القرآن يوجز الرواية في هذه الآيات بقوله: ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنْ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنْ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ * قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ * وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ﴾ (الأعراف: 142-145).
محاولاتٌ جادّة لإثبات التطابق
يذهب أمثال الطبري والرازي من المفسِّرين المسلمين إلى أن الآيتين 83 و84 من سورة البقرة إنما تدلّ على أحوال اليهود وخصالهم، وكيفية تعاملهم مع المسلمين. كما أنها تؤكِّد على أنّ بني إسرائيل نكثوا بعهدهم الذي عاهدوا الله عليه في طور سيناء. وتعاملُهم العدائيُّ مع النبيّ محمد| خيرُ دليلٍ على ذلك. وقد ورد تفصيل هذا الأمر في الآية 84 من سورة البقرة.
وقد كان مفسِّرو المسلمين في القرون الوسطى على اعتقادٍ بأن الوصايا العشرة وردَتْ في القرآن أيضاً، وإنْ لم ينطبق القول فيها لفظاً ومعنى من كلّ الجوانب. وقد سعَوْا في التوسيع من دائرة هذا الاعتقاد([10]).
ومن أبرز المفسِّرين الذين بحثوا وصايا التوراة العشرة في القرآن الكريم الأديب والمفسِّر أبو إسحاق الثعالبي. وقد تفرَّد برأيه، حيث خصّ عدداً من صفحات كتابه (قصص الأنبياء) ـ الذي قد يكون أوسع كتابٍ قصصيّ ـ بموضوع ألواح موسى×([11]). فعلى سبيل المثال، يقول: ثمّ بعث الله تعالى جبريل× إلى جنّة عدنٍ، فقطع منها شجرةً، فاتخذ منها تسعة ألواح، طول كلّ لوحٍ منها عشرة أذرع بذراع موسى، وكذلك عرضه. وكانت الشجرة التي اتّخذ منها الألواح من زمرّد أخضر، ثمّ أمر جبريل أن يأتيه بتسعة أغصان من سدرة المنتهى، فجاء بها، فصارت جميعاً أنواراً، وصار النور قلماً أطول ممّا بين السماء والأرض، وكتب التوراة لموسى بيده، وموسى يسمع صرير القلم. فكتب الله في الألواح من كلّ شيءٍ موعظةً وتفصيلاً، وذلك يوم الجمعة، وأشرقَتْ الأرض بالنور، ثمّ أمر الله موسى أن يأخذها بقوّةٍ، ويُقرئها قومه، فوضعت الألواح على السماء فلم تطِقْ حملها؛ لثقل العهد والمواثيق التي فيها، فقالت: يا ربّ، كيف أطيق أن أحمل كتابك الثقيل المبارك؟! وهل خلقت خلقاً يطيق حمل ذلك؟ فبعث الله تعالى جبريل×، وأمره أن يحمل الألواح، فيبلغها موسى، فلم يُطِقْ حملها، فقال: يا ربّ، مَنْ يطيق حمل هذه الألواح، بما فيها من النور والبيان والعهود؟! وهل خلقْتَ خلقاً يطيق حملها؟ فأمدّه الله بملائكة يحملونها بعدد كلّ حرفٍ من التوراة، فحملوها حتّى بلّغوها موسى، وعرضوا له الألواح على الجبل([12]).
ويخصِّص الثعالبي فصلاً في كتابه بعنوان: «فصل في نسخة العشر كلمات التي كتبها الله تعالى لموسى نبيّه وصفيّه في الألواح، وهي معظم التوراة، وعليها مدار كلّ شريعة»([13])، ويختمه بقوله صراحةً: «هذه نسخة العشر كلمات. وقد أعطاها الله جميعاً لمحمّدٍ| في ثماني عشرة آية، وهي قوله تعالى في سورة بني إسرائيل: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ [الإسراء: 23] إلى قوله ﴿ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ﴾ [الإسراء: 39]([14]).
ويجد الثعالبي أن هذه الوصايا قد لُخِّصت في ثلاث آياتٍ من سورة الأنعام، وقد بدأت بقوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (الأنعام: 151 ـ 153). إذن يرى الثعالبي أن الوصايا العشرة قد وردَتْ جميعها، وإنْ بشكلٍ مُجْمَل، في ثماني عشرة آية من سورة بني إسرائيل، ووردت مقتضبةً في ثلاث آياتٍ من سورة الأنعام.
ثمّ يقوم الثعالبي بسرد الآيات التي تذكر وصايا شريعة موسى العشرة، كما يلي:
الوصيّة الأولى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ (الإسراء: 23).
الوصيّة الثانية: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً * رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً﴾ (الإسراء: 23 ـ 25).
الوصيّة الثالثة: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً * وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمْ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً * وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً﴾ (الإسراء: 26 ـ 30).
الوصيّة الرابعة: ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً﴾ (الإسراء: 31).
الوصيّة الخامسة: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً﴾ (الإسراء: 32).
الوصيّة السادسة: ﴿ وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُوراً﴾ (الإسراء: 33).
الوصيّة السابعة: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾ (الإسراء: 34).
الوصيّة الثامنة: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾ (الإسراء: 35).
الوصيّة التاسعة: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ (الإسراء: 36).
الوصيّة العاشرة: ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً * ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً﴾ (الإسراء: 37ـ 39).
ويجد الثعالبي تطابقاً بين الآيات 151 ـ 153 من سورة الأنعام ووصايا موسى العشر. ويبين هذه الآيات على النحو التالي:
الوصيّة الأولى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَنْ لاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً﴾ (الأنعام: 151).
الوصيّة الثانية: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً﴾ (الأنعام: 151).
الوصيّة الثالثة: ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ﴾ (الأنعام: 151).
الوصيّة الرابعة: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ (الأنعام: 151).
الوصيّة الخامسة: ﴿وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (الأنعام: 151).
الوصيّة السادسة: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ (الأنعام: 152).
الوصيّة السابعة: ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا﴾ (الأنعام: 152).
الوصيّة الثامنة: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ (الأنعام: 152).
الوصيّة التاسعة: ﴿وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (الأنعام: 152).
الوصيّة العاشرة: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (الأنعام: 153).
وبناءً على ذلك، إذا تمَّتْ مقارنة محتوى آيات كلٍّ من سورتَيْ الأنعام والإسراء بالوصايا العشرة في العهد القديم من الممكن القول: هناك تطابقٌ كبير بين الوصايا العشرة في الكتاب المقدَّس وتعاليم القرآن الكريم.
وقد تطرَّق كثيرٌ من العلماء بعد القرون الوسطى إلى الوصايا العشرة في الكتاب المقدّس، ومنهم: الفقيه والمتكلِّم الحنبليّ ابن تيمية، حيث يقول: «فلا يعرف في دين الأنبياء والمرسلين، وأتباعهم من الأوّلين والآخرين، ولا كتب ربّ العالمين، أمراً أعظم من التوحيد، وهو أوّل الكلمات العشرة التي في التوراة، ونظيرها الوصايا العشرة التي في آخر الأنعام»([15]). وإضافة إلى ذلك يمكن القول: إن ابن تيميّة هو أوّل عالمٍ مسلم يذكر أوامر الكتاب المقدَّس العشرة بأسماء مختلفة، كالكلمات العشرة والوصايا العشرة([16]).
ويكتب أبو العباس القلقشندي، الفقيه والوزير في حكم المماليك: في الحقيقة إن الكلمات العشرة أو الوصايا العشرة التي نزلت على موسى هي ملخَّص التوراة. وكالقرآن تحوي التعاليم والأوامر. وحَسْب التعبير القرآني: تبيانٌ لكلّ شيءٍ([17]). ومن اللافت أن القلقشندي لا يتّفق مع سائر علماء العصور الوسطى في التطابق الصريح لوصايا الكتاب المقدَّس العشرة مع آيات القرآن.
أما المحدِّث المعروف الآخر، الخطيب التبريزي، فلم يتناول مباشرةً أحكام موسى× العشرة، لكنْ يوليها اهتماماً فائقاً؛ إذ يتطرَّق لها في ذكره للحديث التالي: «عن صفوان بن عسّال: قال يهوديٌّ لصاحبه: اذهَبْ بنا إلى هذا النبيّ|…، فأتيا رسول الله|، فسألاه عن تسع آياتٍ بيّنات، فقال رسول الله|: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرَّم الله إلاّ بالحقّ، ولا تمشوا ببريءٍ إلى ذي سلطانٍ ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الرِّبا، ولا تقذفوا محصنةً، ولا تولّوا للفرار يوم الزَّحْف، وعليكم خاصّة اليهود أن لا تعتدوا في السبت»([18]).
ويقول المؤرِّخ وعالم الاجتماع ابن خلدون: [بعد أن خرج بنو إسرائيل من مصر، وأتبعهم جنود فرعون، واجتازوا البحر، ونزلوا بجانب الطور]، ثمّ كانت المناجاة على جبل الطور، وكلام الله لموسى، والمعجزات المتتابعة، ونزول الألواح. ويزعم بنو اسرائيل أنها كانت لوحَيْن، فيها الكلمات العشرة، وهي: كلمة التوحيد، والمحافظة عل السبت بترك الأعمال فيه، وبرّ الوالدين؛ ليطول العمر، والنهي عن القتل، والزنا، والسرقة، وشهادة الزُّور، ولا تمتدّ عينٌ إلى بيت صاحبه، أو امرأته، أو لشيءٍ من متاعه. هذه الكلمات العشرة التي تضمَّنتها الألواح([19]).
ويعدّ العالم والمفسِّر المالكي أبو عبد الله القرطبي، حين تفسيره للآيات 151 ـ 153 من سورة الأنعام، أنها مفتتح التوراة، مستنداً في ذلك على حديث كعب الأحبار، اليهودي الذي أسلم فيما بعد([20]). وينقل القرطبي عن ابن عبّاس قوله: «هذه الآيات المُحْكَمات التي ذكرها الله في سورة آل عمران أجمعت عليها شرائع الخلق، ولم تنسخ قطّ في ملّةٍ. وقد قيل: إنها العشر كلمات المنزَّلة على موسى»([21]).
ويذهب القرطبي، بعد تبيين أن هذه الآيات تمثِّل أوامر الله لنبيّه موسى×، إلى أن الله أمر موسى× بدعوة كافّة الناس إلى اتّباع هذه التعاليم، ويقول: «هذه الآية أمرٌ من الله تعالى لنبيِّه موسى× بأن يدعو جميع الخلق إلى ما حرَّم الله تعالى»([22]).
ويلفت الفخر الرازي الأنظار برأيه الذي طرحه قبل القرطبي بقرنٍ، حيث يميِّز بين الأوامر الواردة في الآيات 151 ـ 153 من سورة الأنعام وكتاب موسى، الذي ذكر في الآية التي تليها، أي الآية 154؛ إذ يقول: إن تعاليم القرآن أبديّةٌ، ولكافّة الناس في جميع الأزمان. لكنّ التوراة لموسى خاصّة، وتخصّ زمانه. لذلك نجد الفخر الرزاي يؤكِّد في تفسيره للآيات 23 ـ 39 من سورة الإسراء على أن أحكام القرآن وشرائعه للعالم كافّة، ويقول: «إن الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان»([23]).
أما العالم المغربي محمد الأمين الشنقيطي فيتناول الموضوع بعد نقله عن ابن مسعود قوله: «مَنْ أراد أن يقرأ صحيفة رسول الله| التي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات»([24])، وهي الآيات 151 ـ 153 من سورة الأنعام، التي تبيِّن الوصايا العشرة. ويستند الشنقيطي في رأيه هذا إلى حديث عبد الله ابن مسعود، وهو من أقرب الصحابة لرسول الله|، ومن طليعة المفسِّرين للقرآن.
ويعتقد عبد الحميد صديقي، من علماء المسلمين المعاصرين، أن الوصايا العشرة في الكتاب المقدّس قد أُوتِيَها النبيّ إبراهيم× الموحِّد المسلم من قبلُ، ومن ثمّ أُنزلَتْ على النبي موسى×([25]).
ويؤيِّد هذا الرأي المعتقد القائل بأن الأديان سواء، ويتبع كافّة الرسل نفس الأصل، وهو التوحيد. كما يستعين في شرح الوصايا العشرة في الكتاب المقدّس بآيات سورة الأنعام([26]).
ويقول السيد مير أحمد علي، العالم المعاصر الشيعي الهندي، في هذا الموضوع: «يذكرنا العهد القديم بالأوامر الواردة في الآية 84 من سورة البقرة، حيث وردت في سفر الخروج([27])، وجميع المسلمين مكلَّفون بها»([28]).
أما المفكِّر السوري الحرّ محمد شحرور فيلقي الضوء على أبديّة كلام الله، وأنه لا يخصّ زماناً دون آخر، وتجلّي ذلك في القرآن الكريم. فقد كتب في مؤلَّفه (الكتاب والقرآن، القراءة المعاصرة)، قائلاً: «لو تأمَّلنا هذه الآيات لم يكن من الصعوبة أن نستنتج أنها هي الوصايا العشرة»([29]).
ويقول السيد أبو الأعلى المودودي، المفكِّر السياسي المسلم، وصاحب النفوذ في حيدرآباد: الأوامر التي وردت في سورة الإسراء تبيِّن الأصول والتعاليم الأساسية لدين الإسلام، وهي الأسس التي يريد الإسلام بناء مجتمعٍ وحياةٍ بشرية عليها، وتحوي تعاليم على كافّة الأصعدة، كالحكومة، والمجتمع، والأسرة. وقد نزلت على النبيّ| قبل هجرته بقليلٍ. وتأسّس المجتمع والحكم الإسلاميّ الحديث في مستهلّ هذا العصر الجديد على هذه القواعد القانونية، والأخلاقية، والثقافية، والاقتصادية، والأيديولوجية([30]).
وفي النهاية نأتي بنظريّة سيّد قطب، حيث يقول هذا العالم في تفسير الآيات 151 ـ 153 من سورة الأنعام: «وننظر في هذه الوصايا فإذا هي قوام هذا الدِّين كلّه… إنها قوام حياة الضمير بالتوحيد، وقوام حياة الأسرة بأجيالها المتتابعة، وقوام حياة المجتمع بالتكافل والطهارة في ما يجري فيه من معاملاتٍ، وقوام حياة الإنسانية وما يحوط الحقوق فيها من ضماناتٍ مرتبطة بعهد الله»([31]).
ويجدر التذكير هنا بأن سيّد قطب يبحث في هذا الكتاب عالميّة الإسلام، ويستنتج من دراسة هذه الآيات أنها تعاليم أساسيّة وواضحة. فالتعاليم التي وردَتْ في الآيات 151 ـ 153 من سورة الأنعام إنما هي ملخَّص الإيمان والقواعد الاجتماعية من وجهة نظر الإسلام: «هذه القواعد الأساسية الواضحة التي تلخِّص العقيدة الإسلامية وشريعتها الاجتماعية مبدوءةٌ بالتوحيد، ومختومةٌ بعهد الله»([32]).
الخاتمة
نستنتج ممّا سبق:
أقدم كثيرٌ من المحقِّقين بعد القرون الوسطى على دراسة الوصايا العشرة في الكتاب المقدّس والقرآن الكريم، وبذلوا جهداً في تبيين تطابقهما، ومنهم: ابن تيميّة، وابن خلدون، وأبو عبد الله القرطبي، ومحمد أمين الشنقيطي، وعبد المجيد صديقي، والسيد مير أحمد علي، وسيّد قطب، والخطيب التبريزي.
وقد أيَّد كثيرٌ من هؤلاء العلماء، كابن تيميّة، وابن خلدون، وأبو عبد الله القرطبي، ومحمد أمين الشنقيطي، وعبد المجيد صديقي، والسيّد مير أحمد علي، وآخرين، أيَّدوا نظريّة تطابق الوصايا العشرة في الكتاب المقدّس مع ما ورد في القرآن الكريم. وأما بعض العلماء الآخرين، كسيّد قطب، وأبي الأعلى المودودي، والخطيب التبريزي، وشهاب الدين القلقشندي، فقد أيَّدوا هذه النظرية ضمناً، لا صراحةً.
لكنّ قلّةً منهم، كالفخر الرازي، لديهم نظريّةٌ متباينة؛ إذ يعتقد الرازي وجود اختلافٍ بين الأوامر في الآيات 151 ـ 153 من سورة الأنعام وما ورد في كتاب موسى، الذي ورد في ما تلاها، أي الآية 154 من سورة الأنعام. كما يقول: إن تعاليم القرآن أبديّةٌ، وللناس كافّةً في جميع الأزمنة؛ لكنّ التوراة نزلت على موسى، ويختصّ بزمانه.
الهوامش
(*) أستاذٌ في الجامعة الإسلاميّة الحرّة، فرع بابل.
([1]) Harrelson, W.J, 1962, Ten Commandments In The Interpreters Dictionary of The Bible, v.4, Abingdon Press, New York, p. 569.
([2]) الخروج 34: 28؛ التثنية 4: 13؛ 10: 4.
([3]) الخروج 31: 18؛ التثنية 5: 22.
([5]) الترمذي، نوادر الأصول في أحاديث الرسول 4: 20، بيروت، دار الجليل، 1992م.
([6]) الثعالبي، قصص الأنبياء المسمّى بعرائس المجالس: 825، القاهرة، دار الإحياء، 1411هـ.
([7]) السيوطي، الإتقان في علوم القرآن 1: 116، بيروت، دار الفكر، 1416هـ.
([8]) محمد بن عبد الله الكيساني، قصص الأنبياء: 220، سوريا، جامعة دمشق، 1992م.
([10]) William, Marmaduke, 1930, The meaning Of The Glorious Quran: An Explantory Translation, Kenopf Press, Londen, p. 67.
([11]) الثعالبي، قصص الأنبياء المسمّى بعرائس المجالس: 825.
([15]) ابن تيميّة، تلخيص كتاب الاشتقاق المعروف بالردّ على البكري 1: 296، المدينة، مكتب الغرباء، 1997م.
([17]) أبو العباس القلقشندي، صبح الأعشى في كتابة الإنشاء 2: 465، دمشق، وزارة الثقافة، 1981م.
([18]) الخطيب التبريزي، مشكاة المصباح 1: 58، بيروت، دار الفكر، 1991م.
([19]) ابن خلدون، تاريخ ابن خلدون أو تاريخ العبر 2: 94 ـ 95، بيروت، 1984.
([20]) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 7: 131، بيروت، دار الفكر، 2001م.
([23]) الفخر الرازي، التفسير الكبير 10: 171، بيروت، 1411هـ.
([24]) ابن كثير، تفسير القرآن الأعظم 2: 188، بيروت، دار الفكر، 1389هـ.
([25]) Peters, F.E, 1990, Judaism, Christianity, And Islam, Princeton University Press, vol.2, p. 22.
([26]) Siddgi, Abdul Hameed, 1976, The Hole quran, Lahore, Islamic Book Center, p.530.
([27]) سفر الخروج 20: 11 ـ 17.
([28]) Mir Ahmed Ali, syed, 1964, A Commentary on The Holy Quran, With English Translation Of The Arabic Text, Karachi, Sterling Printing, p. 123 ـ 124.
([29]) محمد شحرور، الكتاب والقرآن: 65، دمشق، الأهالي للطبع والنشر والتوزيع، بلا تاريخ.
([30]) المودودي، تفهيم القرآن: 130 ـ 136، لاهور، النشر الإسلامي، بلا تاريخ.
([31]) سيّد قطب، في ظلال القرآن 3: 1229، بيروت، دار الإحياء للتراث العربي، 1999م.