باثولوجيا الفلسفة الإسلامية
د. عبدالحسين خسروپناه(*)
ترجمة: عبدالهادي الموسوي
تتألّف مفردة الفلسفة ـ وكما هو متعارف ـ من كلمتين يونانيتين هما: «Sophia» و«Philia»؛ حيث ظهرت في اليونان القديمة خصماً عنيداً للسفسطة التي كانت تعني إنكار الواقع والمعرفة وترسيخ الشكوكية والنسبية، وقد استعملت المفردة بمرور الأعصار في معانٍ متعدّدة، إذ أطلقت بادئ ذي بدء على جميع العلوم الحقيقية بما فيها الحكمة النظرية والعمليّة، ثمّ وبعد عصر النهضة، أطلقت الفلسفة على ما يقابل المعرفة التجريبيّة، وقد انحصر معناها في المباحث الميتافيزيقية. وكانت تطلق كذلك على الفاعلية التي تُخضع وفقها العلوم وتدرّس على ضوء معطيات نظرية المعرفة، كما شمل هذا الإطلاق الفلسفات المضافة وعلوم الدرجة الثانية؛ لأنّها تتمتع بنظرة من الدرجة الثانية لمقولات وعلوم الدرجة الأولى، مثل: العلوم التجريبية، والعلوم الإنسانية والاجتماعية، والمنطق، والرياضيات، والأخلاق و..
أمّا «فلسفة العلم»، فهي إطلاق آخر استعمله «أوغست كانت» و«كارل ماركس»؛ بغية إقصاء الفكر الفلسفي الميتافيزيقي وإنكار القوانين العقلية، وعليه تغدو مفردة الفلسفة مشتركاً لفظياً.
وقد تبنّت الفلسفة الإسلامية بدورها تعاريف متعدّدة للفلسفة، اتخذ قسم منها المعارف البشرية منطلقاً وأساساً له، مثل: «العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية»()، أو «استكمال النفس الإنسانية بمعرفة حقائق الموجودات على ما هي عليه، والحكم بوجودها تحقيقاً بالبراهين لا أخذاً بالظن والتقليد بقدر الوسع الإنساني»()، فيما خصّت تعاريف أخرى الفلسفة بالعلم الإلهي، وحصرت نشاطها في تحليل ودراسة القضايا العامة والإلهيّات، مثل: «العلم الباحث عن أحوال الموجود بما هو موجود، ويسمّى أيضاً الفلسفة الأولى والعلم الأعلى»().
لكنّ هناك خطوطاً داكنة ونقاط ضعف ومثالب في هذا العلم، توزعت بين المنهج والهيكل والمحتوى، عملت على إضعاف تألّقه، ودرجة جاذبيته، الأمر الذي حدا بنا للإضاءة ـ في هذه المقالة ـ على مثالب المنهج الفلسفي، وكبواته، ونقاط ضعف الفعل الفلسفي التي برزت على أكثر من صعيد، ثم وعلى صعيد بناء المنهج المقترح تتراءى لنا الفلسفة بوصفها العلم الضالع بمعرفة الوجود، والذي يسعى من خلال آلياته العقلية والعقلانية لاكتشاف قيم ومتغيرات المعادلات الفلسفية.
المصطلحات الرئيسة : الباثولوجيا ـ علم المنهج ـ الفلسفة الإسلامية ـــــــ
عندما يدور الحديث عن الـ «Pathology»، فإنّ المراد به في السياقات العمليّة هو «اكتشاف اللانظم والعشوائية، وتحديد المثالب والعاهات المعرفية والسلوكية»، وعلى هذا الأساس فإن الـ «Pathology» في العلوم الطبيعية تعني: اكتشاف أسباب العشوائية الفسيولوجية؛ للتمكّن من مكافحة الأمراض والأعراض الجسدية.
وقد توسّع نطاق استعمال هذا المصطلح، ليشمل الحقل الاجتماعي؛ حيث راح علماء الاجتماع يعقدون مقارنات بين الحقل البايلوجي والحقل الاجتماعي من جهة وبين الأعراض والأمراض البايلوجية والظواهر والأزمات الاجتماعية من جهة أخرى، مؤسّسين علماً جديداً يدعى «Pathology Social»، يتولّى دراسة ورصد أسباب وعوامل العشوائية والتقهقر الاجتماعي().
وهكذا نريد هنا أن نتعرّف على المثالب والصدوع والعاهات التي مُنيت بها الفلسفة الإسلامية على أكثر من صعيد، كالمنهج والهيكل والمحتوى، حيث نتعرّض ـ بشكل مختصر ـ إلى العوامل الكامنة وراء الكبوات والعاهات التي لازمت الفعل الفلسفي الإسلامي، ورصد قصور المنظومة الفلسفية على مستوى القضايا والمنهج.
ولا تعني باثولوجيا الفلسفة الإسلامية أو نقدها الحطّ من قيمتها أو محاولة تحجيمها واختزال دورها الكبير، أو تجاهل مناطق القوّة فيها والجوانب المضيئة في بُنيتها ومكوّناتها، إذ إن جذور نقد الفعل الفلسفي تمتدّ إلى حقب متقدّمة في تاريخ الفلسفة الإسلامية، بزغت مع الإرهاصات النقدية البنّاءة المبكرة التي حفرها ابن سينا في وجدان الفعل الفلسفي؛ حيث رصد عاهات المنهج والمكوّنات في المنظومة الفلسفية الفارابية، ولقد حذا حذو هذا الفعل الرائد شيخُ الإشراق والملا صدرا في حكمتيهما، وهو الجهد نفسه الذي يضطلع به اليوم الفلاسفة والمفكّرون الإسلاميون المعاصرون، محاولةً منهم لدفع عجلة تكامل الفعل الفلسفي إلى الأمام.
وتتكوّن عناصر إشكاليّات المنهج الفلسفي الإسلامي من محاور ثلاثة: توصيف المنهج الفلسفي، استعراض الإشكالات القائمة، وتقديم المنهج المقترح، واضعاً جهدي هذا بين يدي القرّاء الكرام، أملاً في أن يتلقّاه أرباب العلم والاختصاص بالقراءة الفاحصة والتحليل الموضوعي.
يُعدّ «علم المنهج» من المباحث الأساسية التي تسعى الفلسفة فيها إلى تناول أسس ومقوّمات المنهج الفلسفي بالشرح والتفصيل، وقد اضطلع الفلاسفة المسلمون بهذا النشاط ـ بصورة مباشرة أو غير مباشرة ـ واستثمروه في حلحلة المسائل الفلسفية، فيما انتهج الفلاسفة الغربيون آليّةً أخرى تمثلت بالاستقراء والاستنباط.
والمقصود من الاستنباط الاستدلالُ الذي لا تكون نتيجته أعمّ من مقدماته، وبناءً على هذا؛ فكلّ دليل استنباطي تكون نتيجته إمّا مساوية أو أخصّ من مقدماته، وعلى سبيل المثال: سقراط إنسان، وكلّ إنسان يموت، إذاً سقراط يموت، أو كلّ إنسان يفكر، وكلّ إنسان مفكّر ناطق؛ إذاً كلّ إنسان ناطق؛ ففي المثال الأول، كانت النتيجة أخصّ من المقدمات «كبرى القياس»، أما في المثال الثاني، فكانت مساويةً لها، ويعرف هذا الأسلوب في المنطق الأرسطي بالقياس.
أما الاستقراء، فهو الاستدلال الذي تكون نتيجته أعمّ من مقدماته، وعلى سبيل المثال، لو أخضع الماء لعدّة تجارب وغلى في كل تجربة عند 100مه، فإنه يمكننا الحكم بأنّ كلّ ماء يُسخّن إلى 100مه يتحوّل إلى بخار؛ وهي نتيجة أعمّ من المقدمات التي أدّت إليها؛ لأنّها حركة من الخاصّ إلى العام، ومن العيّنات إلى القاعدة العامة.
لقد آمن التجريبيون أن التجربة الحسية هي المصدر الوحيد لمعرفة البشرية، وليس هناك أيّ لون من ألوان المعرفة القبلية المستقلّة عن عالمي: التصور والتصديق لدى الإنسان.
ويسري هذا الأمر على صعيدي: التصوّر والتصديق؛ وعلى سبيل المثال، يرى «جون لوك» أن منبع التصورات هو الرؤية الباطنية «الوجدان»، والأحاسيس البرّانية()، أمّا «هيوم» فيُقسّم الإدراكات ـ وفق أسس المذهب التجريبي ـ إلى الانطباعات والتصورات()، غير أنّ لهؤلاء الفلاسفة نزعات عقلية في الحقل التصديقي؛ فها هو لوك يتمسّك بالبراهين العقلية لإثبات وجود الله تعالى()، وكذلك «هيوم» عبر تقسيمه لمتعلّقات الإدراك إلى «النسبة بين التصورات» و«القضايا الواقعية اليقينية»، واعتقاده أنّ المجموعة الأولى ضرورية، والمجموعة الثانية غير يقينية، فإنّ هذا يُلزمه بالاعتراف بجملة من الأسس العقلية «غير التجريبية»، كمبدأ استحالة التناقض.
والأصل الوحيد الذي يمكن الحديث عن تجريبيّته الصرفة وعدم شوبه بشائبة المدركات القبلية هو أصل العليّة الذي عزاه هيوم إلى تعاقب الظواهر وتتابعها الذي يعمل على تداعي المعاني المستند بدوره إلى فاعليات نفسانية، منكراً ضرورة العلية والمعلولية في تكوينه()، وقد صرّح «جون ستيورات مل» هو الآخر بعقلانية أصل التناقض()، بل إنّ الوضعيين تلقوا تحليلية الأسس الرياضية بالقبول وأمضوها.
لقد أجمع العقليون ـ القدماء منهم والجدد ـ على وجود قضايا مستقلّة منفصلة عن الحسّ والتجربة، واعتبروها أساساً للمعرفة وحجر زاويتها؛ فقد عدّ الأرسطيّون البديهيات، والديكارتيون الإدراكات الفطرية، مصداقاً للقضايا العقلية المستقلّة عن التجربة()، وفيما ارتاب التجريبيون في جملة من القضايا العقلية، نفى العقليون ـ كـأفلاطون وديكارت ـ القيمة المعرفية للمعارف الحسية ولم يأبهوا بها إلاّ على الصعيد العملي التطبيقي، غير أنّ الاتجاهين كليهما لم يبلغا حدّ التعصّب والتحجّر في رفض الآخر، وكان كلّ منهما يستمدّ ويستقي بين الفينة والأخرى معطيات خصمه المعرفي وآليّاته.
وقد تلقى الفلاسفة المسلمون ـ وعلى اختلاف مشاربهم: المشائية والإشراقية والصدرائية، أي الحكمة المتعالية ـ الاتجاهَ العقليّ بالقبول، إلاّ أنّ الاتجاه العقليّ الإسلاميّ يختلف اختلافاً جوهرياً عن الاتجاه العقلي الغربي؛ إذ يجاري القاعدة الأرسطية القائلة: «من فَقَدَ حسّاً فَقَدَ علماً»، فهو في حقل التصورات حسيّ المنهج، وللحسّ عنده معنى يتجاوز المعنى المتعارف، حيث يشمل الحسّ الظاهر والباطن، فهم يرون أنّ المنشأ الأساس لجميع المعقولات الأولية والثانويّة المنطقية والفلسفيّة هو الإدراكات الحسيّة، غير أنّهم كانوا عقلانيين في حقل التصديقات، بمعنى أنهم يقدّمون التصديقات العقلية على التصديقات التجريبيّة، رغم أنهم لا يصرّون على نظرية «الإدراكات الفطرية» التي تعني حضور مجموعة من الإدراكات ـ وبشكل فعلي ـ في الأيّام الأولى للولادة.
ومن الجدير بالذكر أنّ «علم المنهج» لدى الحكماء المسلمين اتصف بالتمايز والاختلاف على مستوى الفاعلية العقلية والاستنباط الاستدلالي، والاعتماد على المعارف الأوليّة والقبليات المشتركة، بل لم يكن متجانساً في أغلب أساليبه ومناهجه، وعلى سبيل المثال، يرى ابن سينا أنّ البرهان والاستدلال هو المصدر الوحيد لبناء شكل الاستنتاج، وأنّ المعارف الأولية والقبليات هي التي تشكّل محتوى الاستدلال، فيما يرى السهروردي عدم إمكان حصر توالد المعارف والعلوم البشرية كافّة من المعارف الأوليّة والمعلومات القبلية! ووفق هذا الاعتقاد احتلَّ الكشف والشهود مكانةً سامية في الفلسفة الإشراقية التي اعتمدت هذه الآلية الجديدة في التكوين المفاصلي لمباحث حكمة الإشراق.
أمّا صدر المتألهين الشيرازي، فلم يقف عند هذا الحدّ، بل راح يضيف ويعزّز الفاعلية الفلسفية بعنصر آخر جنباً إلى جنب مع عنصر الكشف والشهود، ذلك هو المنهج النقلي ـ القرآني الروائي ـ ومن خلال سعيه الدؤوب لترسيخ النشاط العقلي حقّق نجاحات مذهلة على صعيد تسامي البعد العقلي، واستنتاج أفكار جديدة، وبسط عناصر الفعل الفلسفي وأدائه.
ثمّة ملاحظات تتناول «علم المنهج» في الفلسفة الإسلامية، نسجّلها هنا، آخذين بعين الاعتبار تنامي المعارف الفلسفية.
1 ـ إنّ مطالعةً شاملة متأنية للفلسفة الرصينة تكشف عن أنّ جملة من مقدّمات المسائل الفلسفية قائمة على المنهج الاستقرائي الحسّي؛ فعلى سبيل المثال، عندما يُصار إلى محاولة إثبات حدوث العالم المادي، يتمّ الاستناد في ذلك إلى التغيّر والحركة، في الوقت الذي لا يمكن الإمساك بخيوط هذه المقدمة إلاّ عبر الآليات الحسيّة والأساليب التجريبية، بل في بعض الحالات يُصار إلى العقل والفهم العام أو العقل الجمعي.
من هنا، يدفع هذا اللون من الاستنتاجات، الذهنيةَ المتوقّدة الناقدة إلى تكوين انطباع عام، مؤدّاه أنّه ورغم إصرار الفلاسفة ـ لدى تعريفهم الفلسفة ـ على المنهج الاستدلالي والقياسي الصرف واعتماد الآليات العقلية، غير التجريبية، إلاّ أنهم وعند تشكيل وصياغة العناصر والمكوّنات الفلسفية وبناء صرح المعرفة العقلية يلجؤون إلى آليات ومواد عُقلائية، وكذلك إلى الفهم العام، بل الأساليب الحسيّة التجريبيّة.
2 ـ إذا كان المنهج الفلسفي منحصراً بالمنهج العقلي والاستدلال البرهاني، وكانت مبادئ الاستدلال متمثلةً بالأوليات، والمحسوسات بالحس الظاهر والباطن، والتجريبيّات، والمتواترات، والحدسيات، والفطريات، فإنّ النتائج اليقينية لا تتأتى إلاّ عن طريق المقدّمات اليقينية السابقة، وعلى الفلسفة أن تنأى بنفسها عن القضايا الأخرى كالمظنونات، والمشهورات، والمسلّمات، والمقبولات، والوهميّات، والمشبهات، في مقدماتها الاستدلاليّة، وعليه فلن تنشأ أيّ إشكالية حول توالد المعارف الفلسفيّة وازديادها، بمعنى تبرير هذا التوالد وقبوله. غير أنّه لو انحصرت البديهيات بالأوّليات، والوجدانيات، والفطريات، وجرى التعامل مع التجريبيّات، والحدسيّات، والمتواترات، والحسيّات، على أنّها قضايا نظرية، وهي لا تعدو كونها قضايا نظرية ظنية لا ترقى إلى مستوى اليقين المنطقي والرياضي، ففي هذه الحالة يصعب ويتعسّر تبرير توالد عناصر الفعل الفلسفي وفق هذه المبادئ المحدودة، ولعلّه من هنا يُفسّر عدم التزام الفلسفات الناضجة: المشائية والإشراقية، والمتعالية، بهذا اللون من المنهجيّات واستمدادها من الاتجاهات الحسيّة والشهودية والنقلية عناصرَ إضافية تعمل على توسيع نطاق التوالد الفلسفي.
وهذا الملحظ بدوره يضطرّ إلى إمعان النظر وإطالة التأمّل في «علم المنهج الفلسفي»، ويلقي على عاتقنا مهمّة بناء «المنهج المختار» على ضوء أحدث وأدقّ المعطيات الفلسفية، بحيث يكون له الأثر الأكبر في دفع عجلة العلوم وتلبية حاجات المجتمع الملحّة، وأن نستيقن دوره الفاعل في تشييد صرح الفلسفة وازدهارها.
3 ـ ثمّة مجموعة من الدعاوى والاستدلالات الفلسفية إذا ما أخضعت لقراءةٍ تحليلية فاحصة، يبين لنا أنها لا تتمتع بمعايير الاستدلال المنطقي الدقيقة، كما تفتقد إلى المضمون والمحتوى الرصين للبديهيات والأوليات، فيمسي الموضوع الفلسفي في سياقاتها أشبه بالخطابة منه بالبرهان؛ وبعبارة ثانية: إذا كانت الدعاوى الفلسفية مسكوبة ضمن سياقات وقوالب رياضية رصينة بمقدّمات استدلالية منفصلة وغير متداخلة، فإنّ نقدنا الثالث يمسي بمنتهى الوضوح، وهو عدم إمكانية عود الدعاوى الفلسفية كافة إلى الأوليّات.
يبقى الهدف الأصيل الذي نشده الفلاسفة متمثلاً ببناء صرح اليقين الشامخ، واليقين بدوره يندرج تحت نوعين: المبرّر، وغير المبرّر «الذاتي»، واليقين الذاتي ينقسم بدوره إلى قسمين: اليقين المنطقي أو الرياضي، واليقين العقلائي، أمّا اليقين غير الذاتي، فهو اليقين النفساني المعلّل.
ولتوضيح هذا الأمر نقول: إنّ اليقين المنطقي أو الرياضي عبارة عن اليقين المذكور في المنطق الأرسطي، والذي يتضمّن ـ بالإضافة إلى الجزم بثبوت المحمول للموضوع ـ الجزمَ باستحالة سلب المحمول عن الموضوع، إذاً فاليقين المنطقي مؤلَّفٌ من جزمين، والجزم فيه مطابق ٌللواقع، وهذا اللون من اليقين لا يحصل إلاّ عبر الأوليات، أمّا اليقين العقلائي فهو ما تضمّن جزماً بثبوت المحمول للموضوع مع إمكان سلبه عنه، رُغم أنّ الإنسان يستيقن معه إلى الحدّ الذي تضمحل فيه كلّ احتمالات الخلاف، فمثلاً، يستيقن شخصٌ بوفاة جاره، لكنّه لا يرى أنّ عود الحياة له أمراً مستحيلاً، وهذا اللون من اليقين لم يأتِ عبر الأوليّات، غير أنّه ـ علاوة على اتصاف القضيّة فيه باليقين ـ نراه يتمتّع بدرجة تصديقية عالية، ينتفي معها مطلق الخلاف، غير أنّه لا ينبغي تناسي افتقار كل ألوان التصديق إلى الرجوع إلى أصل التناقض، وبناءً على هذا، يتمّ تناول نوعين من الصدق والكذب في اليقين العقلائي:
أحدهما: الصدق والكذب في جهة القضيّة التي يتعلّق بها اليقين، وملاك الخطأ والصواب في هذا البعد انطباق القضية على الواقع أو عدم الانطباق. فإذا كانت القضية مطابقة فهي صادرة وإلاّ كانت كاذبة.
الثاني: الصدق والكذب في الدرجة التي يكشف عنها التصديق؛ إذ يتطابق اليقين ـ أحياناً ـ مع الواقع ويكشف عن الحقيقة، غير أنّه يكون من جهة درجة التصديق خاطئاً، وعلى سبيل المثال: لو اعتقد شخصٌ بسقوط قطعة نقدية ألقاها في الهواء على جهةٍ معينة ولتكن «م»، وتحقّق هذا الأمر عن طريق الصدفة والاتفاق، ففي هذه الحالة يتمتع هذا الخبر بصدق أوّلي، لكنّه لا يتمتع بصدق درجة التصديق، حيث إنّه ليس بوسع هذا الشخص أن يحظى بهذا التصديق على أساس ميولاته الباطنية؛ وعليه، فإذا لم تحصل درجة التصديق عن طريق الأوليات، لكنّها كانت كما لو تحقّقت عبر الاستقراء والتجربة المتكررة، فهذا اليقين عقلائيٌّ.
أمّا اليقين الذاتي، فهو ذلك اليقين النفساني الذي يجزم الإنسان على ضوئه جزماً واقعياً بثبوت المحمول للموضوع، لكنّ درجة تصديقه ليست صادقة، كما لو أنّ شخصاً جزم بقرب موته عبر حلم رآه في نومه، رغم أنّه لا يرى بقاءه حياً أمراً مستحيلاً، غير أنه لا يستوفي احتمالات هذا الأمر، لأن الشيء إذا أمسى لا يُطاق، فهذا لا يعني استحالته وامتناعه.
لقد عبّر الشهيد الصدر عن اليقين غير المبرّر باليقين الذاتي، وعن اليقين المبرّر العقلائي باليقين الموضوعي.
ووفق هذا التفصيل، فالمنهج الذي نقترحه هو: إذا اعتبرنا الفلسفة العلمَ بالموجود بما هو موجود، وسعينا في حلحلة قضاياها وعناصرها وفق منهج عقلي عقلائي للحصول على اليقين غير «الذاتي»، ففي هذه الحالة بالإضافة إلى صيانة المنهج الفلسفي من الإشكالين المتقدمين، سيتسنّى لنا الدفاع عن «علم منهج الفلسفة المحقّقة»، ومن ثمَّ يتسع نطاق صيرورة الفعل الفلسفي ليشمل القضايا الفلسفية برمتها().
تضطلع الفلسفة الإسلامية التي ظهرت منظومةً عقلية رصينة هادفة مع انبلاج فجر الفارابي، تضطلع اليوم بمسائل متنوّعة في معرفة الوجود، وعلم النفس، وعلم المبدأ؛ ففي مباحث الوجود تتعرّض إلى المسائل والأحكام العامة المرتبطة بالوجود والعدم والماهيّة، كأصالة الوجود واعتبارية الماهيّة، بداهة مفهوم الوجود، ترابط الوجود والماهية، واعتبارات الماهيّة، والكلي الطبيعي، وتشخُّص الماهية، وكذلك أقسام وتقسيمات الوجود، مثل: الوحدة والكثرة، الذهني والخارجي، العلة والمعلول، المادي والمجرّد، الواجب والممكن، المتقدّم والمتأخر، الحادث والقديم، الجواهر والأعراض، الثابت والمتغير، الحركة والزمان و.. متناولةً في خضمّ حركتها الشاملة وعبر مباحث علم المعرفة الفلسفي أو معرفة الوجود العلمي، أحكامَ وعوارض العلم والعالم والمعلوم، مثل: تجرّد العلم، أقسام ومراتب العلم، جوهرية أو عرضية العلم، اتحاد العلم والعالم والمعلوم، وكذلك أقسام العالم والمعلوم.
ويحتلّ علم النفس الفلسفي أو معرفة النفس، قسماً آخر من نصوص الفلسفة الإسلامية، ويختصّ ببحث ماهية ومراتب وقوى النفس وأحكامها، كتجرّدها.
أمّا «علم المبدأ»، فهو آخر مباحث الفلسفة، وتدور أبحاثه حول: الطرق والبراهين العقلية لإثبات واجب الوجود، والتوحيد والمراتب الذاتية والصفاتية والأفعالية، والصفات الإلهية أعمّ من الصفات الذاتية والفعلية، خصوصاً العلم، والقدرة، والحياة، والإرادة، والحكمة، ثم الكلام الإلهي، والهدف من خلق العالم، وتبيين العوالم الثلاث، ثمّ القدر والقضاء الإلهي، ومسائل الشرّ والعناية الإلهية.
وبعد أن تعرّفنا ـ بشكل إجمالي ـ على مسائل الفلسفة الإسلامية وموضوعاتها، نشير إلى إشكاليّات المحتوى ومعضلات المكوّن الفلسفي:
أول نقدٍ يوجّه إلى مسائل الفلسفة الإسلامية هو وصفها بالإسلاميّة؛ لأنّ صفة الإسلامية غير ناظرة إلى المنهج أو الفلاسفة، بل إلى الفلسفة نفسها، إنّ هوية علم الفلسفة تتكوّن وفق مبادئ الفلسفة نفسها ومسائلها.
لنتسائل الآن عن سبب أسلمَة مسائل الفلسفة فرداً فرداً؟ ثمَّ لو كانت الأسلَمة انحصرت في مسائل معرفة الله تعالى لكان لذلك وجهٌ وجيه يتمثل في وضوح مدى التطابق بين الدعاوى الفلسفية ومقوّمات علم المبدأ التي تبنّتها النصوص الدينية، أمّا أن تصل الأسلمة إلى مسائل معرفة الوجود ومعرفة العلم وعلم النفس كافّة، والتي تعود العناصر الأوّلية لجملةٍ منها إلى سياقات الفلسفة اليونانية ونماذجها التي خضعت لعمليات ترميم وصقل وتكميل، فبأيّ وجه يكون ذلك؟! وعندما نعمل على توسيع نطاق هذا التساؤل نكتشف أنّ كثيراً من هذه المسائل حاضرة في الفلسفات المسيحية مثل فلسفة توما الأكويني، والفلسفة التومائية المحدثة، كفلسفة جيلسون.
لا أدّعي أنّ نعت مسائل معرفة الوجود بالإسلاميّة لا وجه له؛ إذ من الممكن تعليل ذلك بمقدّمتيها لمباحث «معرفة الله» على أقلّ تقدير، لكنّ ما يتحتّم على الفلاسفة الإسلاميّين الإشارة إليه هو وجه أسلمة المكوّنات الفلسفيّة برمّتها.
2 ـ العزوف عن البعد العملي والغرق في التجريد الميتافيزيقي ـــــــ
إنّ هوية الفلسفة الإسلامية ـ وكذلك مسائلها ـ أمورٌ انتزاعيّة؛ ذلك أنّ المعقولات الثانية الفلسفية تشكّل موضوع الفلسفة ومسائلها، وهي ذات حيثية انتزاعية صرفة؛ انطلاقاً من عروضها الذهني واتصافها الخارجي.
إنّ المفاهيم الفلسفية لا يمكن تحصيلها إلاّ عبر ولادات قيصرية معقّدة، تعتمد التحليل العقلي، وعندما تُحمل على الموجودات فإنما تحكي عن أنحاء وجودها لا عن حدودها الماهوية، وكمثال على ذلك مفهومُ العلة الذي يطلق على النار، فإنّه لا يحدّد ماهيتها الخاصّة أبداً، بل يحكي ـ نحو حكاية ـ عن لون العلاقة القائمة بين النار والحرارة، والتي هي علاقة تأثير، كما وأنّ العلاقة القائمة بين الأشياء الأخرى هي كذلك.
الخصوصيّة الأخرى للمفاهيم الفلسفية أنه لا يوجد بإزائها مفاهيم وتصوّرات جزئية، فليس في أذهاننا ـ مثلاً ـ صورة جزئية للعليّة ومفهوم كلّي لها، وهكذا مفهوم المعلول وسائر المفاهيم الفلسفية؛ وبناءً على ذلك، فكلّ مفهوم كلي يوجد بإزائه تصوّر حسي أو خيالي أو وهمي ـ شرط أن يقتصر الفرق بينها على الجزئية والكليّة ـ فسيكون مفهوماً ماهوياً لا فلسفياً().
وخلاصة القول: إنّ المفاهيم الفلسفية مفاهيم انتزاعية، وانتزاعيتها هذه تفتقر إلى المماحكات الذهنية، ومقارنة الأشياء بعضها مع بعضها الآخر، كما هي الحال مع مفهوم العلة والمعلول، الذي يتبلور بعد المقارنة بين شيئين يتوقّف وجود أحدهما على وجود الآخر()، وعليه تُمسي الانتزاعية بُعداً ذاتياً لكثير من المسائل الفلسفية.
وأمّا إشكالات بعض الكُتّاب على انتزاعية المسائل الفلسفية فلا وجه له، غير أنّه يمكن الإشارة إلى ضرورة النظر إلى المسائل الفلسفية وفق آليّتين:
1 ـ آلية إيبستمولوجية، تسعى إلى اثبات أو نفي هذه المسألة عبر المنهج المتقدّم.
2 ـ آليّة شرح تأثير المسائل الفلسفية وفق رؤية عَمَلانية وتحديد الكفاءة العلميّة والثقافية والاجتماعية لها، وقد برزت هذه الخصوصية بشكل واضح في فلسفة الفارابي وابن سينا؛ حيث خاض هذان الفيلسوفان ـ إضافةً إلى تناولهما مباحث الوجود الانتزاعيّة ـ مختلفَ الاتجاهات الفلسفية، كالفلسفة السياسية وفلسفة الأخلاق و.. وقد أبدوا دوراً للمباحث الانتزاعية في الاجتماعيّات والأخلاقيّات.
غير أنّ الفلسفة وفي الفترة التي تلت عصر شيخ الإشراق، ثمّ الملا صدرا اقتصرت على الإلهيّات التي قَصَرت فاعليتها هي الأخرى على مباحث الوجود، فيما غابت النشاطات الأخرى. وعليه فالمثلب الآخر الذي يسجّل على الفلسفة الإسلامية عزوفُها عن المباحث الدنيوية والعملية، وإغراقها في الموضوعات الميتافيزيقية والطوبائيّات؛ فضرورة حضور الفلسفة في الحقول الاجتماعية والعلميّة والأخلاقية ليست وصيّةً أخلاقية فحسب، بل ضرورة فلسفيّة ومنطقية؛ فقد برهنت معطيات الفلسفات المضافة على أنّ الأسس النظرية كافّة للعلوم التجريبية والطبيعية والإنسانية بفروعها المتنوعة، من علم النفس، والاجتماع، والاقتصاد والإدارة، والتربية و.. والمبادئ الأخلاقية والسلوكية.. قائمة على النظريات الفلسفية.
إنّ إطلالةً متواضعة على المذاهب الرأسمالية، والاشتراكية الاقتصادية، والأيديولوجيات السياسية، مثل الليبرالية، والاشتراكية، والاشتراكية المُعدّلة، والفاشية، والفوضويّة و.. ترافقها قراءة واعية لأسس ومقوّمات هذه المذاهب والأيديولوجيات، تقودنا إلى اكتشاف التأثير الكبير للفلسفة واتجاهاتها مثل النزعة الفردية، المجتمع، محورية الإنسان أو الله، على الاتجاهات الاقتصادية والسياسية كافّة، كما أنّ حاجة مذاهب علم النفس، والاجتماع، والإدارة والتربية.. إلى المسائل الرئيسية الفلسفية أمر في غاية الوضوح؛ إذ يعتقد كثير من فلاسفة العلم أنّ العلوم الطبيعية تعتمد على الأسس الفلسفية والميتافيزيقة في حركتها، وأن أصول المسائل الفيزيائية والرياضية تستند إلى أمّهات القضايا الفلسفية().
3 ـ قلّة تواصل الفلسفة مع النصوص الدينية! ـــــــ
قد الفلسفة تحتاج إلى النصوص الدينية، لكن ذلك ينبغي أن يتم وفق النمطية التي يذكرها التاريخ الإسلامي لفلاسفة مثل الفارابي وابن سينا والسهروردي والميرداماد، وبالأخص الملاّ صدرا، حيث سعوا وناضلوا لشرح وبسط الفعل الفلسفي، دون أن يعني ذلك انقلاب الفلسفة إلى علم كلام؛ لأنّ الكلام يسعى وفق أسس نقلية لإثبات المدّعيات الدينية في الوقت الذي تستطيع فيه الفلسفة، وبما تستلهمه من الآيات والروايات إنجاز الآتي:
أ ـ تخليق مسائل فلسفية جديدة ليس لها وجود في مصنّفات ومؤلفات الفلاسفة السابقين.
ب ـ دعم وتأييد المسائل الفلسفية التي تتمتع بأهميّة خاصة بالاقتباس من النصوص الدينية.
ج ـ تفعيل الأدلة العقلية والمنطقية التي يُشار لها في النصوص الدينية ضمن السياقات الفلسفية.
هـ ـ قد يقع العقل الإنساني ـ بسبب الهواجس، لا الأدلة والبراهين ـ فريسة الانحرافات الفكرية وأسير الأوهام والخيالات، وهذا الأمر هو السبب المباشر وراء التفاوت الكبير بين العقول البشرية، والذي يؤدي بدوره إلى ظهور الاتجاهات العقلانية المتنوعة، وهنا يأتي دور الدين الحقّ الأصيل ليدقّ نواقيس الخطر عند طروء أي انحراف فكري، ويضع المسيرة الفكرية على صراطها المستقيم.
من المثالب التي تسجّل على الفلسفة الإسلامية قلّة تواصلها مع النصوص الدينية، وضعف أدائها في اقتناص الومضات الفلسفية من السياقات الدينية؛ فعلى سبيل المثال، تناول كتاب «غرر الحكم» والذي يضمّ بين دفتيه درر كلام أميرالمؤمنين×، جملةً من القضايا الفلسفية الخطيرة المرتبطة بالإنسان وقضاياه الكبرى المصيرية، كالحرية، والموت والحياة، والخوف والرجاء، والخير والشر، والعلاقة بين الخوف والعرفان، ومعرفة الله، وكمال العلم، والإحساس بالأمان، ونبذ الظلم، وحقيقة المصائب والابتلاءات، بوصفها موضوعةً بالغة الأهميّة، لأننا نجد أنّ حياة الإنسان حافلة بألوان العذاب والبلايا إلى الحدّ الذي تصبح فيه لبعض الناس مستحيلة التحمّل؛ مما يدفعهم إلى الشعور بالعدميّة والانتحار، وهو ما أدّى إلى ظهور اتجاهات فلسفية للحيلولة دون وقوع الإنسان فريسة العدمية وأنفاقها المظلمة، وقد مثّل العدميّة الفلاسفة الغربيون الذين اختزلوا الحلّ في اللجوء إلى التراجيديا، والفنّ، والعلم، والغرائز الحيوانية، والسوبرمان، فيما مثل الاتجاه الآخر أئمة الدين الإسلامي وقادته الذين فسّروا الحياة وفلسفوها، مؤكّدين على شمول البلايا والرزايا لجميع الناس فيها، فقد حثوا على التحلّي بالصبر والاستقامة للسلامة من آفاتها، ونماذج هذا الأمر ومفاهيم الفلسفة والحكمة في النصوص الدينية كثيرة جداً.
4 ـ عدم الاهتمام بجدّية التعارض بين الفلسفة والنصّ الديني!! ـــــــ
عدم إيلاء الفلاسفة المسلمين التعارض الظاهري بين المعطيات الفلسفية والتعاليم والنصوص الدينية عنايةً تتناسب مع أهمية هذا التعارض، كما أشار إلى ذلك المتكلّمون والفقهاء والأصوليون في بعض الأحيان، وعلى سبيل المثال، يعتقد الفلاسفة بالحدوث التزامني للنفس مع البدن أو حدوثها بعد حدوث الأبدان من خلال حركة الأبدان الجوهرية، كما أشار إلى ذلك الفيلسوف الكبير العلامة الطباطبائي في «نهاية الحكمة» بقوله: «بما تحقّق في علم النفس من حدوث النفوس بحدوث الأبدان على ما هو المشهور أو بحركة جواهر الأبدان بعد حدوثها»()، غير أنّ الروايات صوّرت حدوثاً للأرواح يسبق حدوث الأبدان، كما جاء في كتاب «توحيد الصدوق» باب «إنّ الله تعالى لا يفعل بعباده إلاّ الأصلح»، الرواية التاسعة، وقد أشير إلى هذا المعنى في روايات أخرى().
أمّا أنّ لفظ الروح الوارد في تلك الروايات يرادف لفظ النفس الجاري على ألسنة الفلاسفة أو يشير إلى حقيقة أخرى؟ فذلك أمر متروك إلى محلّه.
ويتمثّل الأمر الآخر فيما تبنّته الفلسفة حول السلسلة الطولية للموجودات والصادر الأول والعقول العشرة، يقول العلامة الطباطبائي: «فتبيّن أنّ الصادر الأول الذي يصدر من الواجب تعالى عقلٌ واحد، هو أشرف موجود ممكن، وأنّه نوع منحصرٌ في فرد.. وكلّما وجد عقل زادت جهة أو جهات، حتى يُنتهى إلى عقل تحقّق به جهات من الكثرة يفي بصدور النشأة التي بعد نشأة العقل، فهناك أنواع متباينة من العقول، كلّ منها منحصرٌ في فرد، وهي مرتبة نزولاً..»().
غير أنّ الروايات طرحت تراتبيةً أخرى، فقد ورد في كتاب «توحيد الصدوق» في باب ذكر مجلس الرضا «الرواية الآتية: «فالخلق الأول من الله عزّوجلّ الإبداع لا وزن له ولا حركة ولا سمع ولا لون ولا حسن، والخلق الثاني الحروف لا وزن لها ولا لون، وهي مسموعة موصوفة غير منظور إليها، والخلق الثالث ما كان من الأنواع كلّها محسوساً ملموساً ذا ذوق منظوراً إليه»().
يضع الفلاسفة في بحث العقول العشرة عالمَ المادة والمحسوسات بعد العقل الفعّال، أي العقل العاشر، في الوقت الذي تضع فيه الرواياتُ المحسوسات في المرتبة الثالثة، وكذلك في بحث العلة الفاعلية؛ حيث يرى الفلاسفة أنّ العناصر الطبيعية جزءً من الفواعل غير العلميّة فاقدة الشعور، يقول العلامة الطباطبائي: «والأنواع في ذلك على قسمين: منه ما يصدر عنه أفعاله لطبعه من غير أن يتوسّط فيه العلم كالعناصر، ومنها ما للعلم دخلٌ في صدور أفعاله عنه كالإنسان»()، لكنّ بعض الروايات فسّرت قول: «أشهد أن لا إله إلاّ الله» بالآتي: «أما قوله أشهد أن لا إله إلاّ الله، فإعلام بأنّ الشهادة لا تجوز إلاّ بمعرفةٍ من القلب.. وأشهد سكّان السموات وسكّان الأرضين وما فيهنّ من الملائكة والناس أجمعين، وما فيهنّ من الجبال والأشجار والدواب والوحوش، وكلّ رطب ويابس بأني أشهدُ أن لا خالق إلاّ الله»()، وعليه يثبت أنّ كلّ الموجودات المادية ـ حتى الجمادات ـ تتمتع بشعور خاص ينسجم مع رتبتها الوجوديّة.
أمّا المنظومة الفلسفية الصدرائية، فقد نأت بنفسها بعيداً عن الإشكاليات المتقدّمة بالاعتماد على العناصر الفلسفية المتينة التي تمتّعت بها، خصوصاً «أصالة الوجود» و«الوجود المشكّك»، وبدت معطياتها متطابقة إلى حدّ كبير مع التعاليم والدعاوى الدينيّة، رغم أنّ الفعل الفلسفي بشكل عام وكذلك الحكمة الصدرائية، لم يتحرّكا وفق آليّة شمولية لتحقيق ذلك.
5 ـ غياب أو تغييب الجهود الفلسفية الغربية عن الفلسفة الإسلامية!! ـــــــ
عنصرٌ آخر يتحتّم إشراكه في الفعل الفلسفي الإسلامي، يتمثل بالمعطيات الفلسفية الجديدة التي بلغها الجهد الفلسفي الغربي المثابر، فقد خَطَّتْ الفلسفة الغربيّة لها طريقاً اتّسم بالجدة والحداثة، وبشكل كامل بدءاً من القرن السابع عشر الميلادي وما تلاه وإلى يومنا هذا، حتى تكامل بناء صرح رؤية كونية شاملة تتناغم مع تساؤلات الإنسان المعاصر الهادرة، متخطيةً بذلك مكوّنات المنظومة الفلسفية الموروثة من اليونان القديمة أو القرون الوسطى، ومتجاهلةً لدورها، ذلك الدور الذي أسهم الفلاسفة المسلمون إسهاماً كبيراً في حفظه ونضجه في الفترة ما بين (800 ـ 1200م)، والذي فقد بريقه ومكانته لدى الفلاسفة الغربيين الجدد، رغم أنه لا يمكن إنكار أنّ النظام الفكري الذي فسّرت وأوّلت في ضوئه الشعوب الإسلاميّة الكونَ والعالم وما تزال، جديرٌ بالاهتمام من جانب القيّمين على دراسة الثقافة والفكر البشري().
لقد تحوّلت الساحة الفكرية الإسلامية إلى حاضنة لمجموعة من العلوم اليونانية، كالمنطق، والرياضيات، والطبيعيّات، والإلهيّات، والأخلاق، والسياسية، وذلك نتيجة استمدادها في مراحلها الأولى من الفلسفة اليونانية، ولمعت أسماء كبيرة في سماء الفلسفة، مثل أبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي، الذي يُعدُّ بانياً ومبدعاً للفلسفة في العالم الإسلامي في القرن الثالث الهجري.
لقد دافع الكندي بحزم عن ثورة ترجمة المؤلفات اليونانية والهندية، والإيرانية و.. إلى العالم الإسلامي، غير أنّ نشاطه لم يقتصر على الترجمة، بل امتدّ ليُسهم على أكثر من صعيد كتلخيص وتنقيح الرسائل الفلسفية، وتوزعت رسائله ومقالاته الفلسفية ـ وحسب تصنيف ابن النديم ـ على أكثر من حقل، كالمنطق، والفلسفة الأولى، والحساب، والكرويات، والموسيقى، والنجوم، والهندسة، والطبّ، والتنجيم (الأحكاميات)، والكلام (الجدليات)، وعلم النفس (النفسيات)، والسياسة، والآثار العُلويّة (الاحداثيات)، وعلم الأقاليم (الأبعاديات)، والتقدّميات، والكيمياء().
لقد حاكت كتابات الكندي جميعها جوهر الفلسفة اليونانية، واستمدّت منها حتى في تعريف الفلسفة، فقد حذى الكندي حذو اليونانيين في تعريفها استناداً إلى رسالة الفلسفة الأولى ـ التي أعدّها للخليفة المعتصم ـ حيث حدَّ الفلسفة بالعلم بحقائق الأشياء على قدر الطاقة البشرية، وعدّ الفلسفة الأولى: العلم بالحقيقة الأولى التي هي علّة العلل()، وبعبارة أخرى: اعتبر الكندي الميتافيزيقيا ـ وبنمطية أرسطية ـ علماً بعلل الأشياء، وهكذا في المفصليات الفلسفية الأخرى كالعلل الأربع: المادية، والصورية، والفاعلية، والغائية، وكذلك الاستفهام بـ (هل، ما، أي، لم)، ومثلها الأبحاث المرتبطة بالمقولات العشر، والكليات الخمس، والمباحث الأخرى، حيث بدت إسقاطات الفلسفة اليونانية على جميع السياقات بارزةً.
لقد كان الكندي يجهر بهذا الاقتباس من الفلسفة اليونانية، ويُكثر من الثناء على آباء الفلسفة الأوائل، وكان يُصرّ على أن الهدف هو بلوغ الحقيقة والظفر بها مع غض النظر عن لون الاتجاه الذي يتبنّاها أو تتكوّن في سياقاته المعرفية().
وما يُسجّل على فلسفة الكندي بوجهٍ خاص يتجسّد في ابتعادها عن الحكمة العلويّة وعناصرها المتألّقة، وهو ما يبرهن تسرّب الشكوك الدينية لتلميذه أحمد بن طيب، والتي تبلورت على شكل زندقة عقائدية راح يعرضها على الخليفة آنذاك، وقد تحدّث وبشكل دوري ومن خلال رسائل متعدّدة عن «دجل الأنبياء»، أعاذنا الله.
ولم تتوقّف الحركة السلبية للفعل الفلسفي عند ابن طيب، بل تمثّلت هذه المرّة بمن هو أشدّ إيغالاً في تبنّي الأضاليل والزندقيات، والمعروف بابن الراوندي، الذي ظهر قرابة عام (297هـ)؛ حيث أبدى إنكاراً للمنظومة الدينية العقيديّة برمتها، ورأى أنّ صياغة أجوبة عقلانية مقنعة حول وجود الله أمر مستحيل، هذا فضلاً عمّا تملّكه من شك وارتياب في الوحي والمعجزة، واعتقاده ببطلان الحكمة الإلهيّة وبقِدَم العالم، وتفضيله المبادئ الثنوية على الأسس التوحيدية().
بعد ذلك، ارتسمت على مُحيّا الفعل الفلسفي الإسلامي خطوط الأفلاطونية المحدثة، عبر السياقات الفلسفية التي نحتها الفيلسوفان الكبيران: الفارابي وابن سينا، اللذان يسجّل لهما قَدَم السبق في صياغة القضايا الميتافيزيقية، وبنائها ضمن نظام فلسفي رصين شديد التعقيد والتفصيل، وبالإضافة إلى انتهالهما من الفلسفة الأفلاطونية والأرسطية، سعى هذان الفيلسوفان اللامعان إلى بناء منظومة فلسفية جديدة، بالاعتماد على المعطيات والتعاليم الدينية، والعمل على ترميم صدوع المعرفة الدينية التي تكوّنت عبر ثغرات فلسفة الكندي.
وقد تألّق إبّان الحكم البويهي، في القرن الرابع الهجري، وفي مدينة البصرة بالتحديد، نجمٌ آخر في سماء المعرفة الفلسفية، تمثل في الحركة الفلسفية ـ الدينية، التي أطلقت على نفسها اسم «إخوان الصفا»، وقد تشكّلت هذه الحركة من علماء إسماعيليين بارزين، أخذوا على عاتقهم تأليف اثنتين وخمسين رسالة فلسفيّة ورسالة جامعة موسوعية، وقد طفحت هذه الرسائل بالأفكار الإفلافيثاغورية المحدثة، وتمّ تقسيمها إلى أربع مجاميع: المجموعة الرياضية، والمجموعة الطبيعية، ومجموعة علم النفس، والمجموعة العقلية الكلامية ـ الشرعية، وقد كان لهذا النشاط الفلسفي دورٌ كبير في انتعاش الثقافة الفلسفية في القرن الرابع الهجري، وممّا لا شك فيه هناك شخصيات مبرّزة كانت قد أسهمت في هذا الازدهار مثل أبي حيان التوحيدي ومسكويه ويحيى بن عدي.
إنّ مسيرة الفلسفة في العالم الإسلامي تظهر أنّه ورغم التقدّم الكبير الذي شهدته الفلسفة عمّا كانت عليه في عصر الكندي، غير أنّ معدّل تواصل وارتباط الفلاسفة الإسلاميين بالحكماء اليونان المبرّزين كان يشهد تزايداً ملحوظاً، يواكبه ـ من جهة ثانية ـ تصاعدٌ كبير وارتفاع ملفت في حجم ارتباط هؤلاء الفلاسفة بالإسلام وبالتعاليم الدينية، وقد تجلّت ذروة هذه العلاقة الثنائية في مصنّفات الملا صدرا الشيرازي، علماً أنّ تنامي الفاعلية العقلانية في حقلي: الفلسفة والكلام كان مُستمداً من مصنفات الفارابي وابن سينا والسهروردي.
لقد بلغت العلاقة والتأثّر بالفلاسفة اليونان حداً دفع فيلسوفاً بمكانة ابن رشد الأندلسي، شيخ فلاسفة القرن السادس الهجري، ليقف مدافعاً بوجه الحملة التي شنّها الغزالي على فكر ابن سينا الأفلارسطي الجديد، حيث راح يذبّ عن فلسفة أرسطو، بل تجاوز نشاطه في هذا الإطار حدود الدفاع ليتبلور على هيئة نشطة دؤوبة متنوّعة تجمع بين الشرح والتفصيل في تناول غوامض الفلسفة المشائية، ممّا أدى إلى بعث الحياة فيها مجدّداً.
الآن، وبعد أن اقتفينا أثر النشاط الفلسفي وظروفه وحجم الرهانات والتحديات التي أحاطت بعملية نضجه وتحوّله، أرى ضرورة امتداد آفاق آليات القراءة الفاحصة وأدوات التحقيق المثابر إلى ما هو أبعد من نطاق سياقات الفلاسفة اليونان وشروحات مصنّفاتهم؛ ليشمل هذا التنقيب المعرفي مكوّنات الفلسفة الغربية الحديثة، ويتواصل مع معطيات الاتجاهات المتنوعة للفلاسفة العقليين والتجريبيين، بل وحتى الشكوكيين والنسبيين وصيانة مكتسباتهم. والصيانة لا تعني بالضرورة قبول وتبنّي هذه المعطيات بقدر ما تسهم في توسيع وتنضيج مديات الفعل الفلسفي الإسلامي، ومن النماذج البارزة في هذا السياق التأمّلات الهادرة لديكارت وجون لوك وهيوم في حقل علم المعرفة على المستويين: التصوري والتصديقي، ونتاجات الفلسفة السياسية مع هوبز وهيوم، وموضوعات فلسفة الأخلاق مع كانط، والتصورات المعمّقة حول معرفة الإنسان للمفكّرين الفرنسيين، كروسو، وظهور فلسفة التاريخ على يد بوسيه وفيكو ومونتسكيو وفلتر، ومباحث فلسفة الدين مع شلايرماخر وشوبنهاور، وكذلك الرؤى والتصوّرات التي تبناها الفلاسفة الوجوديون حول معرفة الإنسان والمواقف الكبرى تجاهه، ثمّ النشاطات العلمية في حقل الألسنيات والتأثيرات اللغوية في الفلسفة التحليلية، ثُمّ عَمَلانية الفلاسفة البراغماتيين مثل ببرس، وجيمز، وشيلر، وجون ديوي، والمواجهة الكبيرة التي خاضها المذهب الواقعي أمام المذهب المثالي على يد فلاسفة الواقعية كمور وراسل في إنجلترا وأمريكا، فممّا لا شك فيه أنّ دراسة وسَبر أغوار هذه الاتجاهات وحَلحَلة عناصرها يعود بالنفع الكبير على الفلسفة الإسلامية، ويسهم بشكل بالغ في نضجها وتطويرها.
قد يبدو التجاهل الكبير الذي تبديه الفلسفة الإسلامية لوضع إجابات محدّدة وموضوعيّة للتساؤلات الكبرى التي تتبنّاها الاتجاهات الفلسفية الغربية الحديثة كالماركسية والليبرالية والفيمينية وغيرها أحدَ الأسباب البارزة وراء جنوح المفكّرين المحليين نحو تلكم المذاهب، ومن الشواهد البارزة على ما أدّعيه أنّه ما إن شمّر الفيلسوف العلامة الطباطبائي عن ساعدي الهمّة وراحت تتكامل على يديه بُنية الفلسفة الصدرائية المحدثة واضطلاعه من جهة أخرى بوضع إجابات رصينة على إشكاليات علم المعرفة ومعرفة الوجود الماركسية من خلال رائعته الشهيرة «أسس الفلسفة والمذهب الواقعي»، حتى اتجهت أنظار عدد كبير من المفكّرين المحليين نحو هذه الفلسفة ومكوّناتها الرصينة، والإفلات من قبضة فخاخ ودهاليز الفلسفة الغربية الموبوءة.
ولست أحلّق بجناحي تصوراتي إلى الفضاءات المستحيلة عبر الاعتقاد بأنّ الفلسفة الإسلامية إذا ولجت ميادين الفلسفة الغربية العظيمة فإنّ بوسعها أن تأتي بمعجزة موسى الكليم× وتدفع بعجلة الفلسفة الغربية الغارقة في وحل الشكوكية، ومتاهات أنفاقها المظلمة، إلى سماوات القطع واليقين، وتسجّل انسحاب آخر عنصر فلسفي غربي من ساحة المعترك الفكري العالمي، لكن ما لا شك فيه أيضاً أنّ المواكبة والحضور والتواصل مع الفعل الفلسفي الغربي يسهم إسهاماً كبيراً في انتشال المثقفين والمفكّرين من متاهات الحيرة والتردّد، ويعمل على تحريرهم من أصفاد الأفكار الضالة المرهقة.
كما أنّ الاهتمام بالفلسفات الغربية المضافة مثل: الفلسفة الرياضية، وفلسفة العلم، وفلسفة الأخلاق، وفلسفة العلوم الاجتماعية و.. بوسعه أن يلعب دوراً كبيراً في تنضيجها؛ إذ إنّ في آليات الفعل الفلسفي الإسلامي مثل المنطق، والفلسفة، والكلام، والأصول و.. جملة من المعطيات والمنجزات التي يمكنها أن تجيب على عدد من تساؤلات الفلسفات المضافة وعلوم الدرجة الثانية، وتعمل على تكوين أرضية خصبة بوسعها بلورة مجموعة إجابات تستوعب التساؤلات الأخرى.
وعليه؛ فالمقترح الخامس يتجسّد في ضرورة متابعة الآباء الأوائل للحكمة، استطاعوا بجهودهم الجبارة وروحهم المغامرة التماهي مع الفلسفة اليونانية القديمة، والتوفر على رؤى ونظريات فلاسفتها الكبار؛ ليؤسّسوا بذلك صرح منظومة فلسفية جديدة، ثم ليتركوا بصماتهم واضحة ـ عبر هذا المنجز العظيم ـ على الفلسفة الغربية، مما يلقي بمسؤولية كبيرة على عاتق فلاسفة الإسلام المعاصرين تتمثّل في ضرورة مواكبة الفعل الفلسفي الغربي والاقتباس ـ على أقلّ تقدير ـ من تساؤلاته الهادرة التي تنبثق من عمق الهمّ الإنساني المعاصر، ليُسهموا في نضج الفلسفة الإسلامية وعصرنتها؛ كي يتمكّنوا في المستقبل من التأثير في الفلسفة الغربية الحديثة.
ورغم إدراجنا المقترح المتقدّم تحت إطار إشكالية الآلية المعرفية في الفلسفة الإسلامية، إلاّ أن المحنة العظمى تكمن في الأزمة التي تنشأ من غربة الذات، والتغرّب والتقليد الأعمى للغرب، والذي ابتلي به قطاع كبير من المثقفين المحلّيين؛ مما يجعل المسؤولية مضاعفة على المفكرين والعلماء ذوي الاطلاع على الفلسفة الغربية والإسلامية، في ضرورة حث الخطى ومضاعفة الجهود والحذو حذو الفارابي وابن سينا وشيخ الإشراق، والملا صدرا، في الاستمداد من فلاسفة الأمم لِيُنْضِجوا ويُعلوا صرحَ الفلسفة الإسلامية، وألاّ يقعوا ـ كما وقع السرخسي وابن الراوندي ـ فريسة الشك والارتياب وضحايا العدميّة والإلحاد.
مقترحات ختاميّة للنهوض بالفلسفة الإسلامية المعاصرة ـــــــ
إنّ القيام بأيّ نشاط مفصلي جذري يستهدف إحداث نقلة وتطوير في الفعل الفلسفي الإسلامي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بإنجاز المحاور البحثية التالية:
1 ـ استنباط المفاهيم والمعارف العقلية، مثل علم النفس، معرفة الله، علم الدلالة، معرفة المعاد، معرفة الوجود، معرفة العالم، علم المعرفة و.. من النصوص الدينية، وفق منهجية علمية موضوعية بعيدة كلّ البعد عن أساليب التحميل والتطويع القهري للرؤى والنظريات العلمية على النصوص الدينية، والعمل على إجراء مقارنات متقنة بين المعارف الدينية والمعطيات الفلسفية، وفق المدارس الثلاث: المشائية، والإشراقية، والمتعالية.
2 ـ العمل على إخضاع الفلسفة الإسلامية لدراسة فاحصة بآليات عصرية، وإعادة هيكلة المكوّنات بغية استخراج وتنظيم أبحاثها وفق نسق منطقي، والكشف عن نقاط الضعف والمثالب، ومحاولة بناء نظريات تنبثق من رحم الرؤية الفلسفية الإسلامية.
جدير بالذكر أنّ مقدّمة هذه الدراسة ينبغي أن تستند إلى رصد وقراءة الفلسفة القائمة وفق آلية فلسفية، ثم حلحلة الفلسفة الإسلامية المدوّنة بآلية باثولوجية من جهة المنهج، التعريف، المحتوى، البُنية المختارة للفلسفة الإسلامية، وكذلك الكشف عن صلة الفلسفة بالعلوم الأخرى.
3 ـ استلال الفلسفات المضافة من العلوم العقلية الإسلامية بغية توظيفها في مقولات وعلوم، كالمنطق، والفقه، والقانون، والعلم، والأخلاق، والسياسة و.. وفق رؤية تاريخية تحليلية من الدرجة الثانية.
4 ـ القيام بعملية دراسة وتحليل قيميّة لآراء ومصنفات نُقّاد الفلسفة، مثل التجربيين والوضعيين والوجوديين والقشريين والعقليين الجدد والصوفيين والتفكيكيين والفلسفة التحليلية الألسنية، بغية توظيفها في عملية تجديد بُنية الفلسفة الإسلامية.
5 ـ قراءة المباحث الفلسفية الإسلامية قراءة عملية تتناغم ومتطلبات العصر السياسية، والاقتصادية، والقانونية، والثقافية، والحضارية، والروحية، والنفسية، والأخلاقية و..
6 ـ قراءة تاريخ نقد وتحليل الفلسفة الإسلامية، والتدوين الدقيق الموثق لآراء الحكماء والمسيرة التاريخية للفكر، وفرزها وتحليلها من خلال تصنيفها إلى المسألة المحورية والفيلسوف المحور.
7 ـ الدراسة المقارنة للمذاهب الفلسفية، كعقد المقارنات بين مذاهب الفلسفة الإسلامية وبين المذاهب الكلامية، ومذاهب اليونان القديمة، والمذاهب العرفانية، والمذاهب الفلسفية الحديثة والمعاصرة، ومعطيات العلم الحديث، ثم توضيح وتبويب مدارس الفلسفة الإسلامية، وعقد المقارنات بينها بغية تحديد الفوارق، ونقاط القوة والضعف في الفلسفة الإسلامية.
الهوامش
(*) أستاذ جامعي، وعضو الهيئة العلمية لمركز الثقافة والفكر الإسلامي، قسم الفلسفة والكلام، له مؤلفات عدّة في فلسفة الدين والكلام الجديد.
() راجع: علي سليمي ومحمد داوري، جامعه شناسي كجروي، منتدى الحوزة والجامعة، قم؛ ومحمد حسيني فرجاد، الباثولوجيا الاجتماعية وباثولوجيا الانحرافات، نشر همراه، طهران.
() فرديك كابلستون، تاريخ الفلسفة 5: 91 ـ 93، الفلاسفة الإنجليز، ترجمة: أمير جلال الدين أعلم، طهران، دار العلم والثقافة ودار النشر سروش، 1996م.
() محمد علي فروغي، سير حكمت دار اروبا: 468 وما بعدها، تصحيح: امير جلال الدين اعلم، طهران، دار نشر البرز، 1998م.
() لقد اعتمدنا هنا على المصادر التالية: فلسفة عمومي بل فولكيه، وأسس الفلسفة والمذهب الواقعي، للعلامة الطباطبائي مع تعليقات الأستاذ مطهري؛ وتاريخ الفلسفة، لفرديك كابلسون ج4 و5؛ والأسس المنطقية للاستقراء، للشهيد الصدر.
() يسعى كاتب المقال إلى تقديم دراسة موسّعة بهذا الصدد، تستهدف الإلمام بعدد أكبر من الأدلة والشواهد التي تثبت تأثير الفلسفة على بقية العلوم، إن شاء الله.
() الطباطبائي، نهاية الحكمة: 263، المرحلة الحادية عشر، الفصل الرابع عشر.
() توحيد الصدوق: 293، باب تفسير حروف الآذان والإقامة، الحديث الأوّل.
() ماجد فخري، تاريخ الفلسفة الإسلاميّة: 5 ـ 6، بيروت، دار المشرق، 1986م.