تفنيد مزعمة حاجة التفسير القرآني إلى الحديث
السيد مصطفى الحسيني الطباطبائي(*)
ترجمة: نظيرة غلاب
مقدّمة ــــــ
اقترنت العلوم الإسلامية منذ البدء بالمباحثات والمناظرات. فمن تلك المجالس أخذت رونقها واستطاع العلماء وذوي الاختصاص الاستمرار في الإبداع والتكامل، حتى ابتكر جمع من العلماء، أمثال: شمس الدين السمرقندي، ما يعرف بـ «علم المناظرة»، وقد كتبت فيه العديد من الكتب والرسائل تحت عنوان «آداب البحث» و«آداب المناظرة».
وعلم المناظرة علم مستقل تماماً عن علم المنطق، الذي يجد جذوره الأولى في علوم اليونان، وتمت الإشارة إلى أنه من ابتكار الفيلسوف أرسطو.
في علم المناظرة لا يكفي تبادل الأفكار ومناقشة الآراء فحسب، بل لابد من مراعاة مجموعة من الآداب والأخلاق التي يجب على كل من دخل باب علم المناظرة الالتزام بها التزام الملكة. وقد كتب أبو حامد الغزالي في بعض تلك الآداب والأخلاق قائلاً: «على المناظر أن يكون في طلب الحق كناشد ضالّة، لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه، ويرى رفيقه معيناً لا خصماً، ويشكره إذا عرّفه الخطأ وأظهر له الحقّ»([1]).
وإنه للطف إلهي وعناية ربانية أن يتسم المتباحثون في مباحثاتهم الدينية بتلك الآداب ويتحلوا حلية أخلاق المناظرة والمباحثة. وكلنا أمل في أن تشمل تلك العناية الإلهية جميع المتباحثين والمناظرين، ولا تفرقهم.
لكن مما يؤسف له جدّاً أن يقتحم مجالس علمنا ومحراب عبادتنا أشخاص ليسوا من المدعوين لها مسبقاً، ولا ممَّنْ لهم الاطلاع على آليات البحث والمناظرة، ليعارض هذا وذاك، ويرمي أفكاره من دون أن يكون لها مستند أو دليل.
ومن بين هؤلاء الأشخاص المتطفلين على مجالس العلم بدون معرفة مدير مدرسة عرف نفسه أولاً بأنه يدعى جوادي، الذي تبينت بعد عدة جلسات هويته الحقيقية، وكان عذره «لأن لي موقفاً من أئمة الشيعة، وخصوصاً الإمام الجواد×، تنكرت باسم آخر، وأرجو أن لا يكون هذا سبباً في تضييع علاقتنا وصداقتنا»!!
لقد تبين إلى أي قدر كان هذا الشخص جاهلاً بآليات المناظرة، وكيف أنه لم يكن ممَّنْ التزموا بآدابها وأخلاقها. وأخيراً عمل السيد تكيي (جوادي) على كتابة كراسة، وافتتحها بتهمتنا أننا افترينا عليه حين قلنا: إنه كان يطالبنا في مناقشته ومناظرته بأن لا تأتوني بدليل من الكتاب»([2]).
ولعله قد نسي أن تلك الجملة كانت شعاره الذي وقف به أمامنا في أول جلسة وأمام الحضور، وكيف أنه لتطعيم دليله على شرعية بعض المسائل كان يستند إلى عمل عوام الناس في كلٍّ من مشهد وقم، وكان يردد: «أنا لست إنساناً عالماً، أنا واحد من عوام الناس، فلا تأتوني بما ذكر في القرآن، وأنا أؤمن بأن أي عمل قام به أهالي مدينتي قم ومشهد في ما يخصّ الصلاة حتماً قد وصل إليهم عن الإمام الرضا×، وهم يقلدون إمامهم».
ورغم أن الوقت آنذاك كان وقت الاستماع إلى خطبة الجمعة، ولم يكن في وسعنا مناظرته ورد حجته، إلا أننا أخبرناه أن الأحكام تؤخذ من القرآن والسنة، وليس من أهالي هذه المدينة وغيرها. فالأهالي ليسوا من المتشرِّعة حتى نأخذ عنهم ديننا. وبما أنه قد تبين أن عوام الناس ليست لهم دراية بالأمور الشرعية فإن الفقهاء لا يعتبرون حجيتهم، ولم يدرجوهم ضمن مباني الاستنباط الأربعة (القرآن، والسنة، والعقل، والإجماع). وأخبرناه أن رأي الإمام الرضا× في القضية مورد النزاع (ما يصح عليه السجود) كان ما نقلناه له من كتاب «المعتبر» للمحقق الحلي. وكما تبين من افتتاحية كراسته فإنه إما قد ابتلي بالنسيان، فنسي كل ما بيناه له؛ وإما أن تهمته لنا بالافتراء والكذب عليه من باب «تجاهل العارف»، فأنكر مقولتنا، ولم يكن من الزاهدين في تهمتنا بالافتراء.
ويظهر أنه لم يكن ممكناً أن يطرح بضاعته معنا، فيمضي في النقاش والبحث، لذا عمد إلى الكتابة ليبين مسألته. وقد استدل على رأيه بأدلة من الكتب ومستندات أخرى، وهو عمل في حد ذاته مورد قبولنا واستحساننا. ونجد أن استدلالاته بهذا النحو تفتح مجالاً لمناقشته والرد عليه رداً علمياً، خصوصاً في ما يخص موضوع طرق فهم القرآن. فهو مبحث هام؛ لأنه يتوقف على أول الأدلة الشرعية التي تستنبط منها أعمال المكلف. وبطلب من العديد من الأصدقاء ومَنْ لهم علاقة بالموضوع كانت كتابتنا لهذه الرسالة؛ حتى نبين أن فهم كلام الله ممكن بدون الرجوع إلى الأحاديث، فظاهر القرآن حجة كما بيَّن علماء الأصول. كما أننا سنتعرض إلى الشبهات التي طرحها ذاك الأخ المحترم «تكيي،جوادي».
ونحن في البدء، كما في الختام، نتوجه إلى الله ذي الجلال في طلب العون، وإلى الغني مددنا يد الحاجة والفاقة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
جدل الأخباريين والأصوليين حول فهم القرآن ــــــ
منذ القديم برز العلماء في اتجاهين مختلفين بلحاظ المباني والاتجاهات التفسيرية: اتجاه «الأخباريين»، والذين اشتهروا في مدرسة السنة بـ «الحشوية» وقد كان لهم حضور واسع، كما كان لهم في وسط الشيعة، ولازال لهم صيت في كل من إيران والبحرين؛ واتجاه «الأصوليين»، وقد برز بينهم فطاحلة علماء الأمة وعظماء فقهائها ومفكِّريها.
وأهم ما يعرف به الأخباريون اعتمادهم على الأحاديث دون غيرها، حتى عُدَّ الحديث الأصل الأول في معرفة الإسلام وأمور الدين، أما فهم القرآن فإنه لا يكون إلا من خلال الأحاديث والروايات. وقد خص العلامة الحر العاملي، أحد أكبر علماء الأخباريين، فصلاً في كتابه «الفوائد الطوسية» عنونه بعنوان طويل عريض «فصل في الاستدلال على عدم جواز استنباط الأحكام النظرية من ظواهر القرآن…» ([3]). ويرى الشيخ الحر العاملي في هذا الفصل أن ظاهر القرآن لا يمكن أن يستدل به في ما يخص الأحكام النظرية؛ وذلك لأن فهم القرآن غير ممكن ما لم ينظر إلى الأحاديث التي فسرت الآيات القرآنية، فالطريق مسدود كلياً أمام من أراد الاكتفاء بالقرآن لفهم القرآن، والأحاديث هي السبيل الوحيد لذلك.
وكذلك نجد الشيخ يوسف البحراني، الذي له باع عريض بين أصحاب الاتجاه الأخباري. ففي كتابه «الحدائق الناضرة» كتب يقول: «فمنهم من منع فهم شيء منه (أي من القرآن) مطلقاً، حتى مثل قوله: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أحَد﴾، إلا بتفسير من أصحاب العصمة»([4]).
وقد استغرب الشيخ وحيد البهبهاني، أكبر من رفع علم الأصوليين في حوزة النجف الأشرف، قول الأخباريين ذاك، واعتبره حاملاً الكثير من التناقض لميزان تعاملهم مع الأحاديث. وعبر عن تناقضهم العجيب في كتابه «الفوائد الحائرية»، وذلك في تعرُّضه لمبحث حجية القرآن، حيث قال: «هم صرّحوا مكرراً كثيراً أنه ما لم يكن حديثهم موافقاً للقرآن فاضربوه على الحائط! وإنه زخرف، وإنا لا نقول خلاف القرآن أبداً، وإنه ما لم تجدوا للحديث شاهداً من القرآن فلا تعملوا به»([5]).
فالعلامة البهبهاني يخلص إلى هذه النتيجة المنطقية: إذا كان الأئمة^ لا يرون فهم القرآن ممكناً إلا بالرجوع إلى الأحاديث فكيف يوصون الناس وطلبة العلم بعرض الأحاديث على القرآن ليعلموا صحيحها من سقيمها؟! وكيف يطلبون من الناس الإتيان بالشاهد على الأحاديث من القرآن، فأي حديث فقد الشاهد على صحته من القرآن فهو سقيم، وليضرب به عرض الحائط، وأي حديث خالف القرآن فهو كذلك سقيم، ولا يجوز العمل به مطلقاً؟!
لقد كانت استدلالات العلامة البهبهاني هي التي اجتثت قلاع الأخباريين وتسلطهم على حوزة النجف. وقد تابع طريقه ونهجه العديد من العلماء الأعلام الذين ناقشوا آراء الأخباريين وردوا عليها بشكل قاطع، ونجد من بينهم الشيخ جعفر النجفي، الملقب بـ«كاشف الغطاء»، فقد كتب رسالة واضحة في نقد ورد آراء الأخباريين عنونها بـ «الحق المبين في تصويب المجتهدين وتخطئة الأخباريين»، حيث حكم فيها عليهم بالسطحيين. لقد بحث بشكل موسع قابلية القرآن للفهم، وأن ظاهر القرآن حجة، كما عمل على الرد على شبهات الأخباريين. ومن بين النقاط التي أوردها في الاستدلال على قابلية القرآن للفهم دون الحاجة إلى الحديث:
1ـ لقد ذكر القرآن أن نفراً من الجن استمع إلى النبي الأكرم‘ وهو يتلو القرآن، فاستوعب ذاك النفر من الجن معاني الآيات وما يدعو إليه القرآن من مفاهيم التوحيد…، فحمل ما فهمه إلى قومه ليدعوهم إلى الإيمان بالقرآن وبالنبي الجديد. فيتساءل الشيخ كاشف الغطاء: كيف غدا القرآن قابلاً للفهم بالنسبة إلى الجن، من دون أن تكون هناك حاجة للحديث، بينما الإنسان لا يمكنه فهم القرآن وقد أنزل القرآن بلسانه: ﴿إنَّا أَنْزَلْنَاهُ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾. وفوق كل هذا إنما بعث القرآن لهداية الإنسانية؟
2ـ ولا يقف استدلال كاشف الغطاء عند هذه النقطة فقط، بل يتساءل مجدداً: إذا كان القرآن قد دخل في حوار مع اليهود والنصارى، وحاججهم، ودعاهم إلى الإسلام، وإلى الاعتقاد بكل ما جاء به القرآن، فكيف لأحد منا أن يأتي ويقول: إن القرآن غير قابل للفهم. فإذا كان كذلك فدعواه مناقضة للغرض، ولا يصح منه الاحتجاج عليهم؟
3ـ إن إعجاز القرآن يكمن في بلاغته وفصاحته، وكلاهما يرتبط بمعانيه، فسلاسة ألفاظه وجمالها وحسن نظم عباراته بحيث يصبح معناه واضحاً، فالألفاظ إنما تخدم المعاني. وإذا كانت تلك المعاني بدون أن تنضم إليها الأخبار غير قابلة لفهم البشر فإن القول بإعجاز القرآن يصبح لغواً وباطلاً.
4ـ في حديث «أن النبي‘ كان يتلو ما ينزل عليه من القرآن على رؤوس المنابر وعلى عامة الناس من دون أن يفسِّر لهم»([6]).
5ـ يقول الشيخ كاشف الغطاء: «ولا ثمرة لنزول القرآن في بيان الأحكام؛ لأن الحاجة إلى الإمام× في تفسير كل آية منه تقتضي أخذ الحكم من الإمام×، ولو كان الحال كذلك لكان من أعظم ما يعيبه أرباب الملل على المسلمين، ويشنعون به غاية التشنيع، وأن قرآنهم لا يفهم ولا ينتفع به، وأنه مخالف لجميع كتب الله»([7]).
إن استدلالات الشيخ كاشف الغطاء وباقي علماء الأصول الإماميين قد أضعفت جبهة الأخباريين، وحكمت عليها بالتراجع من دائرة النفوذ في أوساط الشيعة الإمامية، الا أننا لا نستطيع القول: إن جذور الأخباريين قد اجتثت بشكل نهائي، حيث إننا لازلنا حتى الوقت الحاضر نجد تأثيراً لفكر الأخباريين على بعض الأفراد من الشيعة، وإن كانوا لا يصرِّحون باتباع الأخباريين، لكن اعتقاداتهم بأن القرآن في غياب المعصوم غير قابل للفهم، وأن لا أحد يحق له تفسير القرآن، دليل على توجههم الأخباري، وانتهاجهم لدعوات أسلافهم([8]).
عودة إلى مطارحات الأخباري ــــــ
إن صديقنا المحترم السيد «تكيي، جوادي» ومَنْ يشاركونه المنهج يفكرون بعقلية الأخباريين ويقولون بعقيدة الأصوليين.
كتب السيد تكيي: «كان على النبي أن يبيّن للناس بلسانه وبيانه مفهوم الآيات القرآنية ومعانيها»([9]).
وهي دعوى تصرح بأن القرآن الذي جعله الله قرآناً مبيناً غير مفهوم ولا تفهم معانيه، وأن النبي هو الذي يبينه ويفسر معانيه. وهي دعوى تحمل في ذاتها ما يناقضها، بالإضافة إلى مخالفتها لآراء كبار المفسرين وعلماء الاتجاه الأصولي الذي يقول بأنه يعتقد بمذهبه. كتب الشيخ الطوسي، الذي يعتبر من كبار مفسِّري الشيعة الإمامية، في كتابه «التبيان»، في ذيل تفسير الآية الشريفة: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾ (النساء: 82): «هذه الآية تدل على أربعة أشياء: أحدها: على بطلان التقليد وصحة الاستدلال في أصول الدين؛ لأنه حث ودعا إلى التدبر، وذلك لا يكون إلا بالفكر والنظر، والثاني: يدل على فساد مذهب مَنْ زعم أن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول‘ له من الحشوية والمجبِّرة؛ لأنه تعالى حثّ على تدبُّره ليعلموا به»([10]).
وفي ذيل نفس الآية ضمن تفسيره «مجمع البيان» كتب الشيخ الطبرسي مقتفياً أثر الشيخ الطوسي فقال: «وهذه الآية تضمنت الدلالة على معان كثيرة، منها: بطلان التقليد وصحة الاستدلال في أصول الدين؛ لأنه دعا الى التفكر والتدبر وحثَّ على ذلك، ومنها: فساد قول مَنْ زعم أن القرآن لا يفهم معناه إلا بتفسير الرسول‘ من الحشوية وغيرهم؛ لأنه حثّ على تدبره ليعرفوه»([11]).
وأيد العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي كلاًّ من الشيخ الطوسي والشيخ الطبرسي، وشد على رأيهما بقوله في الميزان: وقد تبين من الآية أولاً: أن القرآن مما يناله الفهم العادي؛ وثانياً: أن الآيات القرآنية يفسِّر بعضها بعضاً»([12]).
فتبين من خلال كل مَنْ استدللنا بآرائهم أن اعتراض السيد تكيي على قولنا: إن القرآن قابل للفهم لم يكن اعتراضاً على شخصنا فحسب، بل هو ضمناً اعتراض على أقوال وآراء كبار علماء الشيعة الإمامية، ومخالفة صريحة لمباني الاتجاه الأصولي، الذي يدّعي أنه من أتباعه ومقلديه!!
الأخذ ببعض مغالطات الأخباريين ــــــ
ليست مغالطات الخصم دائماً ممّا لا يقبل ويردّ بقوة، فقد يصادف أن تكون مغالطات المخالف حجة عليهم، ودليلاً يؤخذون به.
فرغم زعم الأخباريين أن القرآن غير قابل للفهم، وأنه لابد من المعصوم لتفسير القرآن وفهم ظاهره، إلا أنهم يجدون أنفسهم مدفوعين إلى الاستدلال على حقانية قولهم ببعض الآيات التي لم تدل الأحاديث على معناها، فكيف فهموا معنى تلك الآيات ولا حديث يظهر معناها؟!
وقد وقع في نفس التناقض صديقنا السيد تكيي. فلكي يثبت أن القرآن لا يمكن فهمه إلا ضمن الأحاديث وكلام المعصوم استدل بالآية القرآنية: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (النحل: 44). ولم تكن هذه المرة الوحيدة، بل لقد كرر استدلاله بنفس الآية مرات عديدة، من دون أن يرفق الآية بحديث يفسِّر معناها، ويرجع ظاهر خطابها الى إثبات غرضه، بل اكتفى بذكر الآية، وهي طريقة تخالف مبناه ومبنى مَنْ يقتفي أثرهم من الأخباريين. والأكثر عجباً أنه لبيان معنى الآية ذهب إلى أقوال أشخاص مثل: الراغب الأصفهاني، ومحمد بن جرير الطبري، وابن كثير الدمشقي،على رغم أن عقيدته هي: «وجب على النبي الأكرم‘ أن يبين معاني الآيات ويفسّرها بلفظه ومعناه»([13]).
وكان عذر السيد تكيي في هذا التناقض قوله: «إن إحدى الطرق العلمية في بيان صحة الرأي للمخالف عرضه على أهل الخبرة ومقارنة رأيهم بآراء المخالفين»([14]).
و السؤال الموجَّه إلى السيد تكيي: ألا يُعدّ الشيخ الطوسي والشيخ الطبرسي والعلامة الطباطبائي من ذوي الخبرة؟ وإذا كان يقول بخبرتهم ومعرفتهم بالأمر فلماذا يخالفهم ويقول بعكس مذهبهم، فهم جميعاً متفقون على أن القرآن قابل للفهم دون حاجة إلى الحديث، وقد استدلوا بأكثر من آية من القرآن؟!
خلاف حول معنى الآية الشريفة: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ ــــــ
لقد كانت الآية قيد الدرس محطة مهمة في استدلالات السيد تكيي على طول كتاباته، وذلك لإثبات كون القرآن غير قابل للفهم إلا من طريق المعصوم، رغم أنه ورد في الآية معنيان:
الأول: إن الغرض من قوله تعالى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ تبيين وظيفة النبي في أنها تفسير وتوضيح معاني الآيات القرآنية.
الثاني: إن وظيفة النبي‘ أداء وتبليغ القرآن بشكل واضح وعلني لجميع الناس، وذلك بعد أن كانت الآية: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاّ البَلاغُ المُبِينُ﴾ (النور: 54) قد حصرت وظيفة النبي الأكرم‘ في الإبلاغ فقط.
وقد استغرب السيد تكيي أن يكون أحد من العلماء قد قال بالمعنى الثاني، بينما الثابت أنه قول العديد من علماء السنة في كتبهم([15])، كما تبناه العديد من كبار علماء الشيعة. فقد ذكره السيد المرتضى المعروف بعلم الهدى، وذلك في كتابه «الذريعة إلى أصول الشيعة»، حين قال: «إن المراد هاهنا بالبيان التبليغ والأداء، حتى يكون القول عامّاً في جميع المنزّل»([16]).
أما قولنا: إن المراد بـ «لتبين» الإبلاغ والأداء، ولم نقُلْ بالتوضيح والتفسير، فقد أجاب السيد علم الهدى بشكل بين حيث قال: «أما لماذا قلنا أن «لتبين» بمعنى الأداء والتبليغ، ولم نقل بأنها بمعنى التوضيح والتفسير؟ فدليله أن متعلق «لتبين» كل القرآن، لتبين للناس ما نزل إليهم، ولم يثبت أن النبي الأكرم‘ قد فسَّر كل القرآن، بينما الثابت مطلقاً أنه قد بلَّغ كل القرآن وأدّاه للناس»([17]).
لكن السيد تكيي رد هذا الرأي بشكل يسفر على قلة بضاعته في علم الأصول، فقال: إن الآية «لتبين» جاءت بمعنى التبيين بشكل عام، وجاء تفسيره للآيات في الأحاديث ليخصص ذلك العموم([18]).
فهو قد غفل أن القاعدة في علم الأصول ترى أن «تخصيص الأكثر» مستهجن، ولا يتناسب هذا وكلام الله سبحانه وتعالى. كما أن سيرة النبي الأكرم‘ العملية لا تتوافق وهذا التخصيص، فهل يقبل أن يأمر الله تعالى نبيه‘ بأن يبين بمعنى يفسِّر كل القرآن للناس، بينما هو قد قام بتفسير بعض القرآن؟!
ولوكان هناك تخصيص من طرف النبي الأكرم للعموم الذي قالت به الآية لكان أولى أن نقول: «تخصيص الأقل»، بمعنى أن يكون النبي الأكرم‘ قد فسَّر وأظهر معنى أكثر القرآن، ولم يبقَ إلا القليل. ولكن أين هو هذا التفسير والتفصيل لأكثر القرآن؟! فلا الشيعة يقولون بأن لديهم هذا التفسير، ولا السنة يدعون ذلك، ولا أظن أن السيد تكيي له علم بذلك، فقد ذكر في كتاباته أنه «لا يوجد في أيدينا تفسير من هذا النوع، وهو قول واضح وفاصل»([19]).
لقد ادعى السيد تكيي في كتابه أن القول بأن المراد من «تبيين الآيات» الأداء والإبلاغ الواضح لا يتناسب ولغة العرب، وقد كانت غفلته، أو قل زلته هذه، هدية ساقها إلينا، ما كنا نتوجه إليها لولا عطفه وتلطفه بنا.
فـ «بيان» و«تبيين» من مصدر واحد، كما ذكر ابن منظور في «لسان العرب»، والجوهري في «صحاح اللغة»، وجاءت كذلك في «المنجد»، والسيد تكيي قد ذكر هو نفسه لـ «تبيين» معنيين، حيث كتب يقول: «البيان في كتب اللغة يكون بمعنى توضيح المعنى وتفسيره، وقد يكون كذلك بمعنى الأداء فقط، كما جاء في سورة الرحمن: ﴿خَلَقَ الإنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ﴾([20]).
لكن ننبه صديقنا إلى أن «تبيين» لها نفس المعنيين؛ فقد تكون بمعنى التفسير وإظهار المعنى؛ كما تكون بمعنى الأداء والإبلاغ، بلحاظ أن «بيان» و«تبيين» من مصدر ومعنى واحد، فيصبح غريباً كل ما صدر من صديقنا من إهانة ورمي بالجهل ووسم بالتهمة لنا ولمن كان شاركنا الجلوس معه، وفعلاً صدق مَنْ قال: رحم الله مَنْ عرف قدره ولم يتعدّ حدّه.
ولو افترضنا أننا قلنا بخلاف ما قال به أرباب الصنعة، فذكرنا أن «تبيين» لا تحمل سوى معنى «التفسير والتوضيح»، لألزمنا قبول أن القرآن الكريم مبهم، ووجب على الرسول الأكرم‘ تفسيره وتوضيحه، وهو ادعاء يخالف الكثير من الآيات القرآنية نفسها، التي تصرح بأن القرآن قد فسَّر نفسه بنفسه، فقد قال تعالى:
ـ ﴿قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾(البقرة: 118).
ـ ﴿كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ (البقرة: 266).
ـ ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ (آل عمران: 103).
ـ ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (آل عمران: 118).
ـ ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (النساء: 176).
ـ ﴿يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (النور: 18).
ـ ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (النور: 58).
ـ ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون﴾ (النور: 61).
ـ ﴿انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ﴾ (المائدة: 75).
ـ ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (المائدة: 89).
والآيات مثلها كثيرة لا نستطيع سردها كلها في هذا المقام. فمع وجود هذه الآيات التي تتحدث عن أنّ القرآن بيَّن نفسه بنفسه، وفسَّر مراد خطابه بنفسه، لو قلنا: إن النبي الأكرم‘ قام بتفسيره لكان فعل النبي تحصيلاً للحاصل.
ولعل هناك حكمة حيث إن النبي الأكرم‘ إنما فسَّر مجملات القرآن، أمثال: ﴿أَقِيمُواْ الصَّلاةَ﴾ و﴿آتُواْ الزَّكَاةَ﴾، وليس أنه قام بتفسير شيء كان غامضاً وبعيداً عن الفهم. ألم تسمع للقرآن وهو يكرِّر أربع مرات: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ للذِكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرْ﴾ (القمر: 17 ـ 22 ـ 32 ـ40).
وخلاصة القول: إنه رغم كون لفظ «تبيين» قد أتى في الآية على وزن «تفعيل» إلا أن مصدرها اللغوي «بان يبين»، وهو يعني لغة «ظهر، يظهر».
وإظهار الخطاب يكون إما عن طريق الإبلاغ والأداء، وإما بتوضيحه وتفسيره. وفي كلا الموردين لابد من تتبع السياق الداخلي للخطاب الذي أتت فيه «تبين» ليعلم أي المعنيين هو المراد. وكما رأينا فقد اختار بعض علماء المدرستين المعنى الأول في ما يخص «تبيِّن» الواردة في (سورة النحل: 44)، بينما اختار السيد تكيي المعنى الثاني، إلا أنه وبلحاظ القرائن الداخلية والخارجية تبين أن المراد بـ «تبيِّن» المعنى الأول، خصوصاً إذا أضفنا السياق الخارجي للآية، فقد ورد نفس اللفظ في نفس السورة، فقد قال تعالى: ﴿تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (النحل: 63 ـ 64).
فقد بينت الآية أن الرسول‘ قد أمر بأن يبين للأمة ما اختلفت فيه، بأن يتلو عليهم الآيات التي اختلفوا حولها، ولا يوجد مصدر أو خبر موثَّق يشير إلى أن النبي الأكرم‘ قد عمل على تفسير وتوضيح الآيات التي تدور حولها خلافات الأمة.
التفسير الإرشادي ــــــ
قسم علماء الأصول الأحكام إلى: إمضائية؛ وتأسيسية.
فالإمضائية هي تلك الأحكام التي توصَّل إليها العقلاء، ووجدوا حسنها وقبحها، من دون أن يستندوا في إدراكهم لها إلى الشرع، كحسن أداء الأمانة، وقبح الخيانة، فجاء الشارع وأقرَّهم عليها وأمضاها.
وأما الأحكام التأسيسية فهي الأحكام التي لم يتوصل العقل إلى حسنها أو قبحها إلا بواسطة الشرع، كالصلاة، والصوم، والزكاة، والحج، وما إلى ذلك.
وتجري نفس القوانين في معرفة القرآن. فالآيات المجملات عهد الى النبي‘ تفصيلها وتفسيرها للناس. فقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ آية مجملة، وتفصيلها في عهدة النبي‘، فهو الذي يبيِّن قولاً وفعلاً شكل إقامة الصلاة، وزمانها، وليس لأحد أن يأتي بتفصيل للمجملات مهما كانت معاني ألفاظ الآية ظاهرة وفصيحة. لكن ليس كل القرآن مجملاً. وإذا قام النبي الأكرم‘ بتفسير بعض الآيات غير المجملة فتفسيره إنما هو من باب إرشاد الأفهام إلى نحو درك معانيها وبيان ألفاظها، وإلا فما هو الغرض من قوله تعالى: ﴿أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً﴾ (النساء: 82).
فإدراك عدم تواجد تعارض وتناقض في القرآن فرع فهمه وإدراك معانيه، فالمطلوب أولاً التدبر في كل القرآن حتى يقطع بعدم وجود أي اختلاف أو تناقض، وبعد ذلك يستطيع أن يفهم كل القرآن دون الرجوع إلى الأحاديث، وما قام به النبي‘ والأئمة^ من تفسير لبعض الآيات الخارجة عن دائرة المجملات إنما هو من باب التفسير الإرشادي، فالعقل السليم يستطيع التوصل إلى نفس المعنى، ولو كان غير هذا لما طلبوا منا ومن كل مسلم عاقل أن يعرض الأحاديث على القرآن، فما وافقه أخذوا به، وما اختلف معه أعرضوا ونأوا عنه.
وفي هذا السياق نذكر قول صديقنا السيد تكيي، حيث قال: «إنه طبقاً لتفسير النبي الأكرم‘، وخلافاً لما فهمه أوائل الأصحاب، فإن المراد بلفظ الظلم الذي جاء في الآية 82 من سورة الأنعام ليس كل مصاديق الظلم، فالظلم في الآية ليس يراد به العموم، ولكن تم تخصيصه بحيث عرف بأنه ظلم خاص، وهو الشرك»([21]).
و الجواب هو أن الآية ومن خلال السياق بينت أن المراد بالظلم الشرك، ولا يحتاج إدراك هذا المعنى إلى تخصيص. فالآية كانت ضمن محاججة إبراهيم× لقومه، ولهذا نقرأ في تفسير الطبري «أن سلمان الفارسي(رضي الله عنه) قال في معنى الآية: هو الشرك بالله تعالى». ونفس هذا المعنى روي عن أبي بكر، فقد فسر «بظلم» بأنه «بشرك»؛ وكذا قال حذيفة، وابن عباس، وأبيّ بن كعب»([22])، دون أن ينقل أي واحد من هؤلاء ذاك المعنى عن رسول الله‘، أو ينسبوه إليه.
فإذا كان النبي‘ قد فسر معنى الظلم في الآية لبعض أصحابه الذين لم يدقِّقوا في معناه، وأرشدهم إلى أنه الشرك، فهذا لا يعنى أن الآية غير واضحة، ولا يمكن فهم أن الشرك هو المراد بالظلم هنا، فتفسير النبي‘ إنما هو تفسير إرشادي (إمضائي).
ولابد من الإشارة إلى أن تفسير النبي‘ للظلم بالشرك إنما هو إرشاد منه‘ إلى تفسير القرآن بالقرآن، فقد جاء في آية أخرى ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (لقمان: 13)، ولعله الإرشاد الذي غاب عن السيد تكيي ولم يتوصل إليه. وحريٌّ بنا هنا أن نشير إلى ما أورده العلامة الطباطبائي في مقدمة الميزان: «قال علي× يصف القرآن، على ما في النهج: «ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض». هذا هو الطريق المستقيم والصراط السويّ الذي سلكه معلِّمو القرآن وهداته»([23]).
فحسب قول العلامة أهل البيت^ هم الآخرون قد أرشدونا إلى تفسير القرآن بالقرآن وفهمه من خلاله، فقد قالوا بعرض الأحاديث على القرآن. وبحسب قول الشيخ وحيد البهبهاني «القرآن كلام الشارع القطعي سنداً ومتناً، بخلاف مفهوم كلام لا يعلم أنه متن كلام الشارع؛ لاحتمال كونه كلام الراوي، وأنه ليس من المعصوم أصلاً»([24]).
إن الاختلاف الحاصل بيننا وبين السيد تكيي هو في الوعي التام لحجم معنى الألفاظ، فهو يرى أن الأحاديث النبوية في حكم واحد، ولم يفرق بين تفسير المجملات وبين تفسير ما سواها، بينما نعتبرها ـ ما عدا الأحاديث التي فسَّر فيها النبي الأكرم مجملات الآيات ـ من باب التفسير الإرشادي، وكلُّ ذي لُبٍّ قادرٌ على الوصول إلى نفس المعنى.
إطلالة على بعض النقاط الدقيقة في القرآن ــــــ
نحن نوافق أسلافنا القول بأن القرآن قابل للفهم، فهو سهل واضح المعاني، تبيان وبيان، نور مبين، كما أخبر هو عن نفسه:
﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾ (القمر: 17 ـ 22 ـ 32 ـ40)؛
﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ﴾ (النحل: 89)؛
﴿هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ﴾ (آل عمران: 138)؛
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً﴾ (النساء: 174).
وإلى جانب بيانه وتيسيره للفهم «تبيينه» فإن للقرآن امتيازات متنوعة، إنْ على صعيد الاستعمالات اللغوية، أو على صعيد طرق عرض المعاني. وهذه الامتيازات تتلاقى وبيانه وتبيينه. وهو الشيء الذي لم يقبله السيد تكيي البتة، بل سعى إلى التشهير بنا ليثبت اعتقاده الواهي بأن القرآن غير قابل للفهم، في حين أن تواجد التبيين وتيسير الفهم مع الامتيازات والخصوصيات البلاغية ليست مقتصرة على الكلام الإلهي فحسب، بل حتى الكلام العادي الذي يتواصل به الأفراد في حياتهم قد يراعى فيه نفس القانون، فأنت حين تقول لشخص: «لقد زارني البارحة في بيتي كلٌّ من السيدين حسن وحسين» فإن المخاطب بطبيعة الحال لن يلقى صعوبة في فهم هذا الخطاب، وسيكون بيِّناً لديه، لكن إذا دققنا في هذا الخطاب الذي ظهر سهلاً مبيناً فستجد أننا استعملنا نكات تجعل الكلام يحمل بعض الامتيازات: فقد تم تقديم اسم حسن على اسم حسين، هذا التقديم الذي نكون قد راعينا فيه الشرف كأن يكون حسن أشرف من حسين لاعتبارات، أو نكون قد راعينا فيه سنّ كليهما فحسن أكبر من حسين، أو راعينا فيه اعتبارات أخرى قد يتوصل إليها المخاطب نفسه، وقد يحتاج إلى مزيد تفكر وقراءة جميع الاعتبارات للخلوص إلى سبب التقديم والتأخير.
فهل إخضاع الكلام لاعتبارات قد تكون مستعملة في الاستعمالات اللغوية العادية من شأنها أن تجعل الكلام الذي بدا لنا مبيناً وسهلاً كلاماً معقَّداً وصعب الفهم أم أن تلك الاعتبارات ليست مانعاً من الحفاظ على بيان الكلام وتبيينه؟!
نحن نقول: إن بيان القرآن وتبيينه يتوافق مع امتيازاته البلاغية وخصوصياته في الفصاحة والبيان. وهذه الامتيازات يمكن الوصول إليها بشكل تدريجي وبالتدبّر، كما أننا لا نملك أن نقول: إن هذه الامتيازات وردت فقط في الأحاديث المنقولة عن النبي الأكرم‘ أو عن المعصومين^، بل هي من الأسرار التي تحفظ للقرآن خلوده وعالميته. وفي هذا الصدد نجد أمير المؤمنين× يقول: «لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه»([25]).
ونحن لا نجد من حاجة لذكر ما طعننا به السيد تكيي، فلا نريد مزيداً من تكدير الأجواء على قراءنا الأعزاء، بل نسعى إلى تقديم ما يزيدهم فهماً للقرآن وتعلقاً بعجائبه البلاغية وامتيازاته اللغوية. ففي سورة يوسف×، حين اتهم «بنيامين» شقيق يوسف بالسرقة تفاهم إخوته فيما بينهم، وأرسلوا أخاهم الكبير ليخبر أباهم بما وقع، ولكنهم عبَّروا عما اتهم به شقيق يوسف× بشكل عجيب، فقد قالوا: ﴿يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ﴾ (يوسف: 81)، فهم لم يقولوا: إن أخانا قد سرق، بينما لما كانوا في حاجة إلى الكيل، ولم يكن أمامهم سوى إحضار بنيامين معهم، توسلوا بأسلوب آخر مع نفس الشخص: ﴿يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ…﴾ (يوسف: 63)، ليظهر القرآن إلى أيّ قدر كان إخوة يوسف مرتبطين بالماديات، وكم كانت منفعتهم الشخصية مقدمة على أية علاقة أخوة أو علاقة أبوة.
لقد نظر السيد تكيي الى الجوانب البلاغية في القرآن، ورآها تحمل أسراراً كثيرة، فاعتقد أن سهولة فهم القرآن وتيسير فهمه للناس يتناقض وهذه الجنبة البلاغية للقرآن، فحكم على رأينا بالخطأ وعدم الصواب. وهنا لا نجد مفراً من إرجاعه إلى ما أدلى به العلامة الطباطبائي في الميزان، حيث قال: «ليس بين آيات القرآن (وهي بضعة آلاف آية) واحدة ذات إغلاق وتعقيد في مفهومها، بحيث يتحير الذهن في فهم معناها، كيف وهو أفصح الكلام، ومن شرط الفصاحة خلوّ الكلام عن الإغلاق والتعقيد، حتى أن الآيات المعهودة من متشابه القرآن، كالآيات المنسوخة، في غاية الوضوح من جهة المفهوم…» ([26]).
وأضاف صاحب الميزان في نقده لبعض التفاسير قائلاً: «ولازم ذلك ـ كما أومأنا في أوائل الكلام ـ أن يكون القرآن الذي يعرف نفسه بأنه هدى للعالمين، ونور مبين، وتبيان لكل شيء، مهدياً إليه بغيره، ومبيناً بغيره، فما هذا الغير وما شأنه؟! و بماذا يهدى إليه؟! وما هو الملجأ والمرجع إذا اختلف فيه؟! وقد اختلف واشتد الخلاف…» ([27]).
وفي نفس الوقت الذي بين العلامة الطباطبائي وضوح القرآن وسهولة فهمه أتى برواية عن النبي الأكرم‘ أنه قال: «فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن…، لا تحصى عجائبه، ولا تبلى غرائبه…» ([28]).
فالعلامة يؤكد على بيان وقابلية فهم القرآن مع وجود الجانب البلاغي، وهو الجانب الذي يحفظ له إعجازه وديمومته، وهي النقطة التي أنكرها السيد تكيي ومَنْ يشاركونه الرأي.
القرآن بين التلاوة والتدبّر ــــــ
أشرنا مراراً إلى أن للقرآن جنبة بلاغية تستدعي منا حسن التدبر وبذل الفهم. فهي نقاط تكتشف معانيها بشكل تدريجي وبالتدبر فقط. ومن بين هذه النقاط العجيبة والرائعة في القرآن أنه كلما أراد الحديث عن نزول الغيث استعمل عبارة «ماء بقدر»، كما في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً…﴾ (الزخرف: 11)؛ وكذلك قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ﴾ (المؤمنون: 18).
وقد فسَّر القدماء قوله تعالى: «بقدر» بمعنى «حسب الحاجة»، والذي لا يمكن أن يكون في حالات السيل وهطول الأمطار الغزيرة التي تسبب فياضانات وسيولاً جارفة، كما لا يكون في حالة شحّ السماء وقبضها، وهو تفسير مناسب بلحاظ الوقت، حيث لوحظ فيه الأمطار العادية، وحسب كل منطقة.
لكن علماء اليوم توصلوا إلى أن «بقدر» يعني «أن مقدار الأمطار التي تحتاجها الأرض محدد وثابت»، بمعنى أنه لا يرتبط بمنطقة دون أخرى، بل احتياج الأرض بشكل كلي، بغض النظر عن المناطق. وقد أشرنا إلى أنها من النقاط التي توصل إليها علماؤنا حديثاً، فإذا أمطرت السماء طوال السنة في منطقة قليلاً، ثم أمطرت في منطقة أخرى بشكل أكثر، فإنه يحصل التوازن بالنسبة للقدر الذي تحتاجه الأرض؛ لأن حاجة الأرض (كوكب الأرض) محددة وثابتة. وكما عادة السيد تكيي فقد كذَّب قولنا، وقال: إن قوله تعالى: «بقدر» و«بقدر معلوم» لا توحي بأن المقدار الذي تحتاجه الأرض ثابت وقارّ([29]).
ولكي يثبت معجزة القرآن في ما يخص المطر ذهب إلى الاستدلال عليها من طريق آخر، فهو يرى أن قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا﴾ (الفرقان: 50) يعني أدار بينهم المطر حتى يعتبروا، ففسَّر «صرّفنا» بمعنى «أدرنا»، أي جعلها دوّارة عليهم، ولكي يزيد من قوة استدلاله استحضر رواية الكافي([30]).
لكن السؤال: هل جعل المطر دوّاراً عليهم دليلٌ كافٍ على أن مقدار الأمطار في السنة ثابت ومعين؟ وهل استخدام عبارة «بقدر» لإثبات مقدار الأمطار أصح أم استخدام عبارة «صرّفنا»؟ ولابد من ملاحظة مسألتين في ما يخص الغيث الذي تتلقاه الأرض كل سنة: يمكن أن تعرف منطقة الجفاف وانعدام المطر طيلة سنة كاملة، وتعرف منطقة أخرى في نفس السنة هطول الأمطار حتى تمتلئ وهادها ووديانها، فهي مسألة طبيعية، بحيث إن ما نقص في المنطقة الجافة زيد وأضيف في المنطقة الممطرة، ليصبح المجموع المقدار المعين والثابت الذي تحتاجه الأرض خلال كل سنة، وهذا ما تثبته كذلك رواية الكافي التي أراد الاستدلال بها على رأيه، حيث تقول الرواية: «صرف عنهم ما كان قدّر لهم من المطر في تلك السنة إلى غيرهم». فيلاحظ أن الرواية استعملت «قدر»، والتي تعني المقدار المعين القارّ، كما استعملت «صرف» التي تعني أنه صرفها من جهة إلى جهة، لتهطل هنا وهناك، ولا أرى سبباً يدفع بالسيد تكيي إلى أن يقبل الاستدلال بـ «صرّفنا»، ولا يقبل بـ «قدر» دليلاً للمسألة؟ ولعل أقوال الأوائل كانت عن معرفة وعن وعي حين قالوا: «ليس المهم أن تنقل الحديث، بل الأهم أن تفهم الحديث، وترويه وأنت تدري محتواه، وتفهم معناه، فقد قال الإمام علي×: رواة الحديث كثير، ورعاته قليل».
الهوامش:
(*) باحث متخصّص في الحقل القرآني، ومن أبرز المناصرين للنـزعة القرآنية في الوسط الشيعي، له كتابات نقدية عديدة.
([3]) الفوائد الطوسية: 186، طبعة قم.
([4]) الحدائق الناضرة 1: 27، طبعة النجف.
([5]) الفوائد الحائرية: 172، طبعة طهران.
([6]) العديد من الأحاديث التي أشار إليها الشيخ الوحيد البهبهاني موجودة في تفاسير وجوامع أحاديث الإمامية، نذكر من بينها:
قال النبي‘: mإذا جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله، فما وافقه فاقبلوه، وما خالفه فاضربوا به عرض الحائطn (الطبرسي، تفسير مجمع البيان: 27، ط لبنان). قال الإمام الصادق×: mما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرفn (الأصول من الكافي 1: 69، ط طهران). قال الإمام الباقر×: mإذا جاءكم عنا حديث فوجدتم عليه شاهداً أو شاهدين من كتاب الله فخذوا به، وإلا فقفوا عندهn (وسائل الشيعة 18: 80، الطبعة الجديدة).
([7]) يرجع إلى رسالة mالحق المبينn: 18 إلى 26، الطبعة الحجرية، باهتمام الشيخ أحمد الشيرازي.
([10]) قد يهمس البعض بالقول: إنه مادام القرآن لم يذكر عدد الركعات لكل صلاة وما يتعلق بالصلاة من المبطلات والمستحبات وغيرها فإن القرآن غير قابل للفهم. وهي نتيجة مقدماتها باطلة، فالقرآن لم يتحدثت عن الجزئيات، وإلا وجدنا فيه خريطة كل بلد وتاريخها، وإنما تحدث عن الكليات، والجزئيات لها مكانها الذي يرجع إليه لأخذها.
([12]) الطوسي، التبيان في تفسير القرآن 1: 451، الطبعة الحجرية.
([13]) الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن 5: 173، ط بيروت.
([14]) الميزان في تفسير القرآن 5: 17، ط طهران.
([15]) تحليل المباني 2: 10 ـ 12.
([18]) للمثال: يرجع إلى كتاب المعتمد لأبي الحسن البصري المعتزلي 1: 394، ط بيروت، وكتاب التسهيل لعلوم التنـزيل، لابن الجزي 2: 154، ط بيروت.
([19]) الذريعة إلى أصول الشريعة 1: 467، انتشارات جامعة طهران.
([20]) حتى تبين للناس كل ما أنزل إليهم.
([21]) رفع الاشتباه ودفع الافتراء: 3 ـ 4.
([26]) الطبرسي، جامع البيان في تأويل آي القرآن 7: 256 ـ 258، ط مصر.
([27]) الميزان 1: 10، مقدمة الكتاب.
([29]) نحن لا نريد بهذا القول ـ والعياذ بالله ـ أن النبي الأكرم والأئمة الأطهار ليس لهم اطلاع ومعرفة بهذا، ولكن لأن الأحاديث المروية عنهم لم تُشِرْ إلى الجوانب البلاغية فمعناه أنهم أوكلوها إلى التدبُّر، وأن ينظر فيها أهل الاختصاص عبر كل زمان. وهذا ما أشرنا إليه بقولنا: إن تفسير القرآن قد وكل به العلماء والمفسرون المقتدرون، وهي النقطة التي لم يفهمها ـ للأسف ـ السيد تكيي.