الجهل ليس مجرد غياب للمعرفة، بل هو حالة وجودية تملأ الفراغ بالوهم، وتخيط ثوبًا من الطمأنينة الكاذبة على جسد العقل الكسول. إنه اختزال معقّد للفكر في قوالب جاهزة، ورفض عنيد لأي استفهام يهدد جدار اليقين المُعلّب. والجهل في أكثر صوره فتكًا ليس ذاك الذي يعترف بصمته، بل ذاك المتلبس بلباس العلم، المتخفي وراء سطوة النصوص ووجاهة التراث.
حين يقترن الجهل بالتقليد الأعمى، يصبح العقل أسيرًا في زنزانة مظلمة، يلوك أحكام السلف دون وعي بالسياق الذي وُلدت فيه تلك الأحكام. يتحول النص من كونه حاملاً لمقاصد عليا إلى صنم لغويّ يُعبد، وتصبح الحكمة التاريخية إرثًا جامدًا يُفرض قسرًا على الأزمنة المتحركة. هنا تتبدّى مأساة الفكر: حين يتحوّل الإنسان إلى مجرد صدى لأصوات الماضي، يكرر ما قاله السلف دون أن يتساءل عن ملاءمته لعصره، وكأن الحقيقة أغلقت أبوابها بعدهم.
وليس التقليد في حد ذاته مرفوضًا إذا كان استلهامًا نقديًا يوازن بين وفاء للأصول وحاجة للتجدُّد. لكنه يصبح عاهة فكرية حين يتحول إلى انغلاق، إلى ترديد ببغائي يستعذب العجز عن إنتاج فهم جديد. في هذه الحالة، تُلغى الذات العاقلة لحساب جماعة متخيّلة تعيش في حاضرها بعقل غيرها، ويصبح السؤال خيانة، والاجتهاد بدعة، والاختلاف شرًا مستطيرًا.
يقول ابن خلدون إنَّ “العقل ميزان صحيح، فأحكامه يقينية لا كذب فيها”، لكن هذه اليقينيات تهتز حين نرتدي عقل غيرنا دون تمحيص. فالجمود في التقليد لا يحفظ التراث بل يقتله؛ إنه يحنّط المعنى ويمنعه من التنفس داخل زمانه الجديد. هكذا يُختزل الدين، مثلًا، إلى طقوس خاوية وأحكام مغتربة عن واقعها، ويُختصر الفكر إلى آليات استنساخية، لا تجرؤ على تجاوز الخطوط التي رسمها السابقون.
إنَّ تحرير العقل من عبودية التقليد الأعمى ليس دعوة إلى القطيعة مع التراث، بل هو استدعاء أصيل لروح النقد وإعمال الفكر. فالسلف أنفسهم، في لحظاتهم الكبرى، لم يكونوا مقلدين، بل كانوا مجتهدين، مغامرين في أفق المعنى. وما من سبيل لاستئناف تلك الروح إلَّا بالانفكاك عن حالة التقديس المرضي للآراء القديمة، وإعادة فتح النصوص على آفاق السؤال.
لعل أخطر ما في الجهل المقترن بالتقليد هو أنه يمنح أتباعه يقينًا لا يتزعزع، يجعلهم مطمئنين إلى أنهم يمتلكون الحقيقة الكاملة. وهذا اليقين الزائف هو ما يحوّل الدين أو الفكر إلى أداة صراع، ويُلبس الجهل ثوب القداسة. فلا يبقى حينها إلَّا جمود يجرّد الإنسان من مسؤوليته الوجودية الأولى: أن يفكر.
الجهل، إذًا، ليس مجرد نقص في المعلومات، بل هو موقف سلبي من العقل نفسه، يُقصيه لصالح تكرار الأصوات القديمة. والخلاص لا يكون إلَّا بالوعي النقدي، الذي يُبقي العقل يقظًا، والسؤال مفتوحًا، ويجعلنا نمتلك تراثنا بدل أن يمتلكنا.
غير أنَّ الجهل المقنّع والتقليد الأعمى لا ينبعان فقط من ضعفٍ فردي في الجرأة على التفكير، بل هما ظاهرتان سوسيوثقافية تتغذّيان من بنيات السلطة والمعرفة في المجتمعات التقليدية. فالمؤسسات الدينية، والتربوية، وحتى السياسية، تتواطأ ـ بوعي أو بدونه ـ على تكريس هذه الحالة من الانغلاق، لأنها تضمن استمرار الهيمنة واستقرار النظام القائم. وكلما كان العقل الجمعي مروضًا على الطاعة والانقياد، كان أكثر قابلية للتلقين وأقل استعدادًا للتمرد الفكري.
وهكذا يغدو الجهل نظامًا معرفيًا قائمًا بذاته، لا مجرد خلل طارئ، ويصبح التقليد الأعمى جزءًا من “أخلاقيات” الجماعة، يُمنح فيه الامتثال صفة الفضيلة، بينما يُوسَم الخارج عن النسق بالخيانة أو الضلال. وفي هذا السياق، يتشكّل ما يسميه بيير بورديو بـ “العنف الرمزي”، حيث تُفرض أنماط التفكير المهيمنة باعتبارها حقائق طبيعية لا يجوز مساءلتها، ويتم تحويل السلطة الرمزية إلى حقيقة موضوعية مستقلة عن أهواء البشر.
المعضلة العميقة هنا أنّ الإنسان ـ في ظل هذا الوضع ـ لا يفقد فقط قدرته على التفكير النقدي، بل يفقد وعيه بفقدانه لهذه القدرة. إنه ينسحب إلى منطقة الراحة الذهنية، حيث تصبح إعادة الإنتاج الميكانيكية للأفكار طقسًا يوميًا، ويُنظر إلى السؤال كفيروس يهدد نقاء الإيمان أو صفاء الهوية. والنتيجة: ذات منزوعة السيادة، تتحرك وفق بوصلة الآخرين، وتجد في عبوديتها الفكرية ما يُشعرها بالطمأنينة والاستقرار.
ومع ذلك، يبقى السؤال الوجودي الكبير: هل يمكن للإنسان أن يتحرر فعليًا من أسر هذه البنيات الثقيلة؟ هل يمكن للعقل، وقد شُحِذ لعقود على الامتثال، أن يستعيد جذوته الأولى ويخترق جدار اليقين المعلّب؟ الجواب، ربما، يكمن في وعي الأفراد بضرورة إحداث قطيعة معرفية مع أنماط التفكير الموروثة، ليس عبر رفضها الجذري، بل عبر تعريضها لاختبار المعنى والسياق. وهذا ما يجعل من النقد مشروعًا مستمرًا، لا هدفًا لحظيًا.
إنّ إعادة أنسنة الإنسان تقتضي إعادة الاعتبار لقدرته على إنتاج المعنى، لا استهلاكه فحسب. وتعني، في العمق، تحريره من الفخاخ السوسيوثقافية التي تُكبّله، وإعادته إلى مركز الفعل التاريخي، حيث يصبح مسؤولًا عن تجديد فهمه لذاته وللعالم. هنا فقط تستعيد الحقيقة بعدها الديناميكي، ويعود التراث حيًّا نابضًا، لا كجثة محنّطة نعبدها خوفًا من الفراغ.
في نهاية المطاف، ليست المشكلة في أن نرتبط بالماضي، بل في أن نسمح له بأن يصبح مستقبلنا أيضًا.