دراسةٌ في العوامل السياسية والاجتماعية
الشيخ أبو الفضل سلطان محمّدي(*)
مقدّمة ــــــ
تُعتبر ثورة عاشوراء عند المسلمين عامّة، والشيعة منهم خاصّة، مِنَ الحوادث المصيريّة التي سجّلها التاريخ الإسلاميّ، فكانت من الحوادث التي أعقبتها مجموعة من التأثيرات على النواحي التربويّة، وعلى تحديد وجهة الفكر والعمل عند الأجيال بمختلف أزمنتها، سواءً تلك التي تسبقنا أم في الجيل الحاضر أم عند الجيل اللاحق. كما أنّ هذه الثورة كانت المصدر الذي أَلْهَم الثورات «السيواجتماعيّة»([1]) العظيمة، كالثورة الإسلاميّة في إيران، والتي تعتبر من أهمّ تلك الثورات.
إنّ أهميّة واقعة كربلاء تتطلَّب بيان ماهيَّتها وأبعادها المختلفة بشكل علميّ؛ لأنّ الفاصلة الزمنيّة لهذه الثورة، مع تعدُّد العناصر المؤثّرة في تكوينها ونشأتها، جعلت عمليّة تحليل هذه الحادثة الإسلاميّة العظيمة أمراً معقّداً. وهذا التعقيد هو السبب الذي جعل كلّ التحليلات القيِّمة لعاشوراء تصبّ اهتمامها على واحدٍ من العوامل فقط، أو على بعضها في أفضل الأحوال؛ فتجد أنّ تلك التحليلات تقلِّل من أهمّيّة العوامل الأخرى، أو تراها غير منظورة أصلاً، وتصل في كثير من الأحيان إلى نتائج ونظريّات غير صحيحة، وغير منطقيّة؛ أو ستجدها قد عمدت إلى نقد النظريّات الأخرى والإشكال عليها بشكلٍ مُفرِط، وأحياناً بشكلٍ إحساسيّ، لا موضوعي([2]).
وممّا ينبغي الإذعان له أنّ إدراك واقعيّة ثورة الإمام الحسين× وتحديد علل نشوئها لا يتحصَّلان من دون التحليل الشامل، أو من دون دراسة جميع الجوانب، لكلّ العناصر المؤثِّرة في تلك الثورة.
وقد انصبّ جهدنا في هذه المقالة على إبراز وبيان هذه المسألة المهمّة. فالمنحى الذي ستَّتخذه هذه المقالة هو البحث والتحقيق في العلل والعوامل التي أثّرت في ثورة عاشوراء، ساعين إلى استقصائها من رسائل وخطب الإمام الحسين×، ولا شكّ أنّ معرفة علل الثورة الحسينيّة من لسان الشخصيّة الأولى في هذه الثورة سيكون أبلغ الطرق، وأكثرها بعثاً على الطمأنينة.
من هنا سوف يتمّ البحث في هذه المقالة عن العلل والعوامل «السيواجتماعية» لثورة عاشوراء، وذلك تحت ثلاثة عناوين كلّيّة، مع ما يندرج تحتها من عناوين فرعيّة.
وهذه العناوين عبارة عمّا يلي:
1ـ الانحرافات «السيواجتماعيّة» و….
2ـ طلب البيعة.
3ـ دعوة أهل الكوفة.
1ـ الانحرافات «السيواجتماعيّة» و… ــــــ
يرى بعض المحلّلين أنّ مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي إحدى أهمّ العلل والأسباب، بل ليست إلاّ العلّة الأساسيّة لثورة عاشوراء. فالأستاذ الشهيد مطهري من جملة الكتّاب الذين أكَّدوا على دور هذا السبب في حصول الثورة العاشورائيّة، أكثر من أيِّ سبب آخر([3]).
وفي اعتقادي أنّ الذي يقف وراء جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبباً لثورة عاشوراء ليس إلاّ التسامح والمجاز في التعبير؛ لأنّه إنْ كان الهدف من البحث في الغايات والعلل والعوامل التي أنتجت عاشوراء هو تحصيل العلل الواقعيّة والحقيقيّة والعينيّة فلن يكون بالإمكان ـ ولا بأيِّ نحوٍ من الأنحاء ـ جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علّةَ إيجاد تلك الثورة، ولا حتّى علّةً مؤثِّرةً في حصولها؛ لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الأحكام الشرعيّة، ومن جملة الفروع الفقهيّة، ومن الواضح أنّ الحكم الشرعي ـ بما يعمّ الوجوب وغيره ـ هو من الاعتباريّات التشريعيّة، ولا يمكن للأمور الاعتباريّة أن تكون علّةً لحصول الأمور العينيّة والخارجيّة. هذا بالإضافة إلى أنّ النظرة التحليليّة للفقه تقتضي القول بأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يصير واجباً إلاّ عندما يتمّ ترك فردٍ أو أفراد من المعروف، أو تحقُّق فردٍ أو أفراد من المنكر في المجتمع. والنتيجة: ما نجده بحسب الترتيب المنطقيّ هو أنّ الانحرافات «السيواجتماعيّة» وغيرها… تسبق هذا الحكم الشرعيّ رتبةً، فهي علّة له. وثورة عاشوراء ـ التي تمثّل أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر من النوع القوليّ والفعليّ ـ ناتجةٌ عن الواقع «السيواجتماعي»؛ أي هي معلولةٌ لما قام به بنو أميّة من أفعال، وللانحرافات الناجمة عنها.
فالعلّة الأساسيّة لثورة عاشوراء ـ في رأينا ـ هي أنواع الانحرافات التي كانت موجودة. وهذه الانحرافات لم توجد في المجتمع الإسلامي إلاّ بواسطة أجهزة بني أميّة، بدءاً بخلافة عثمان، وصولاً إلى خلافة يزيد بن معاوية. وقد عبَّر الإمام الحسين× في خطبه ببعض العبارات التي تدلّ على هذا الفهم، وذلك حين استخدم عبارة «الإصلاح»، حيث استخدم الإمام× هذه العبارة ـ التي لها مدلولها السياسيّ ـ في مَوطِنَيْن اثنين، وكان يريد فيهما بيان علل قيامه وأهدافه:
الأوّل: حين خرج من المدينة، فكتب في وصيّته لأخيه محمّد ابن الحنفيّة: إنِّي لَمْ أَخْرُجْ أَشِراً وَلا بَطِراً، وَلا مُفْسِداً وَلا ظَالِماً، وَإِنَّمَا خَرَجْتُ لِطَلَبِ الإِصْلاحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي؛ أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَأَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَسِيرَ بِسِيرَةِ جَدِّي وَأَبِي([4]).
لقد جعل الإمام ـ في حديثه هذا ـ العلّة الغائيّة من تحرُّكه منحصرةً في طلب الإصلاح، وجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحياء السيرة العمليّة والحكومتيّة للنبيّ| وأمير المؤمنين عليّ× بمثابة الطريقة التي سيستخدمها في عمليّة الإصلاح المراد.
ومن الواضح جدّاً أنّه لن يكون لعبارتَيْ «الإصلاح» و «طلب الإصلاح» أيّ معنى إذا استُخدمتا في موطن لا يكون فيه خلل، سواءٌ أكان الخلل في الأنظمة السياسيّة أم في مؤسّسة اجتماعيّة معيّنة، وإلاّ فلا داعي للقيام بعمليّة إصلاح أو إصلاحات.
هذا وقد تعرَّض الإمام الحسين× لهذا الأمر في خطبة أخرى، وذلك حين أراد بيان الأمور التي نزَّه ثورته عنها ـ من قبيل: المنافع المادّية والأهداف الاعتياديّة في الصراعات السياسيّة للسياسيّين التقليديّن ـ، فنفاها جميعاً، ثمّ شرع في بيان الجوانب الإيجابيّة والصحيحة التي تتَّصف بها ثورته، فتعرَّض للنقاط الاجتماعيّة القبيحة التي تحتاج إلى علاجٍ وإصلاح، حيث قال: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَا كَانَ مِنَّا تَنَافُساً فِي سُلْطَانٍ، وَلاَ الْتِمَاساً مِنْ فُضُولِ الْحُطَامِ، وَلَكِنْ لِنُرِيَ الْمَعَالِمَ مِنْ دِينِكَ، وَنُظْهِرَ الإِصْلاحَ فِي بِلادِكَ، وَيَأمَنَ الْمَظْلُومُونَ مِنْ عِبَادِكَ، وَيُعْمَلَ بِفَرَائِضِكَ وَسُنَّتِكَ وَأَحْكَامِك([5]).
وعند التدقيق في هذه العبارات يتّضح أنّ الإمام× جعل السبب والمنشأ الأصلي والأساسي لقيامه هو الانحرافات التي أوجدها بنو أميّة على مستوى المجتمع بأكمله في مختلف المجالات. وبناءً على هذا الفهم يصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحد الأساليب العَمَليّة والإجرائيّة للإصلاح. وبالتالي هما عبارة عن الوسيلة التي ينبغي أن يُتوسَّل بها لتحقُّق الإصلاح في المجتمع الإسلامي، لا أنّهما العلّة المنشئة لثورة الإمام الحسين الإصلاحيّة. وبعبارة أخرى: إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ اللذين يمثِّلان حكماً شرعيّاً ـ هما بنفسهما معلولان لظاهرة اجتماعيّة تمثِّل مختلف الانحرافات السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة والاقتصاديّة، وليسا عاملين أو علّتين «سيواجتماعيّتين» نشأت بسببهما ظاهرةٌ اجتماعيّةٌ أخرى.
ومن جهةٍ أخرى إنْ لم نعتبر أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من سِنْخ الأحكام الشرعيّة، واعتبرناهما في التحليل الـ «سيواجتماعي» عنواناً ينطبق ويتحقَّق بشكله العيني على الأفعال الخارجيّة للإمام الحسين× ـ أمثال: الخطب والتصرّفات ونحوها ـ، عند ذلك سيتّضح كونهما معلولَين بشكلٍ جليّ؛ لأنّ حديث الإمام الحسين× وحربه وشهادته ستصبح بأجمعها مصاديق للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بنوعَيْه القوليّ والعمليّ. وبتعبير آخر: هناك ظاهرة «سيواجتماعيّة» قد وقعت، وعلّة حصول هذه الظاهرة الـ «سيواجتماعيّة» (أي تصرّف الإمام) هو نفس تلك الانحرافات المختلفة المذكورة.
وبعد هذا التوضيح نشرع في بيان الانحرافات التي أوجدها الأمويّون داخل المجتمع في عصر الإمام الحسين×؛ فهذا الأمر هو الذي دَعا الإمام وألزمه الصَّدْح بالثورة؛ طلباً لإصلاح هذه الانحرافات، ومكافحاً لبني أميّة حتّى الشهادة. ويمكن بيان هذه الانحرافات في مختلف المجالات الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، إلاّ أنّ أهم بدعة وتحريف ابتدعها بنو أميّة على المستوى السياسيّ، وداخل الحكومة الدينيّة، هي بدعة مَسْخ الخلافة وتحويلها إلى سلطان (عبر التوريث).
إنّ حكومة بني أميّة كانت حكومة استبداديّة، وهي سلطانيّة الجوهر والماهيّة. فلم يكن استخدام اسم الخلافة فيها إلاّ من باب الظاهر وخداع الناس والتسلُّط عليهم. وكان معاوية قد استخدم دهاءه الخاصّ للاستفادة من جميع أدوات السلطة في تثبيت سلطانه، ثمّ توريث الخلافة بعد ذلك لبني أميّة. فاستغلّ المال والقمع والتزوير أحسن استغلال في سبيل ذلك. وبما أنّه كان خالي الوفاض من التقوى لم يألُ جهداً في استغلال الفنون الإعلاميّة والدعائيّة وتوظيفها لمصلحته، مُسخِّراً الرأي العامّ لمنافعه الخاصّة، وهو ما عبَّر عنه الإمام عليّ× بقوله: «حَتَّى يَظُنَّ الظَّانُّ أَنَّ الدُّنْيَا مَعْقُولَةٌ عَلَى بَنِي أُمَيَّة»([6]).
لقد كانت حكومة بني أميّة فتنةً ظلماء مدلهمّةً، أرخَتْ بظلالها على العالم الإسلامي، وكان غَوْرها من العمق إلى الحدّ الذي لا يتيسَّر لغير الأئمّة المعصومين^ إدراك حقيقتها. لذا قال أمير المؤمنين عليّ× في وصفه لابتلاء الأمّة بهذه الفتنة العظيمة: أَلا وَإِنَّ أَخْوَفَ الْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ؛ فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ، عَمَّتْ خُطَّتُهَا، وَخَصَّتْ بَلِيَّتُهَا، وَأَصَابَ الْبَلاءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا، وَأَخْطَأَ الْبَلاءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا([7]).
لذا يعدُّ تصيير الخلافة الإسلاميّة سلطنة استبداديّة واحداً من أهم الفتن والانحرافات التي أوجدها بنو أميّة على المسرح السياسيّ الإسلاميّ. وأمّا العقل المدبِّر لهذه الخطّة فكان أبو سفيان([8])، في حين لم يكن ولده معاوية إلاّ المنفِّذ لتلك الداهية. وقد برزت بوادر وإشارات هذا الانحراف السياسيّ، المتمثِّل بتحويل الخلافة السياسيّة إلى سلطنةٍ مَلَكِيّة، مع بداية ارتداء زيّ الخلافة، حيث قام معاوية ـ تدريجاً ـ بإدخال أبرز عناصر الحكومة السلطانيّة ومظاهرها الأساسيّة إلى الخلافة الإسلاميّة، عبر تقليده لأسلوب سلطنة القياصرة الفرس والأباطرة الروم، ولم يكن لاعتراض الخليفة الثاني وتأنيبه له أيّ أثر في تغيير تصرّفاته.
إذن في الواقع كان معاوية هو المبادر الأوّل إلى تصيير الخلافة سلطنةً، بل إمبراطوريّةً تقبع في العالم الإسلامي. فوصوله إلى الخلافة لم يكن إلاّ بعد سنوات متمادية من الجهد المضني في سبيلها، وبالتالي لم يكن ليستسيغ أن تخرج من قبضته أو قبضة أهله وعشيرته بهذه السهولة. ومن هنا نجده قد عمل في أواخر عمره ـ من خلال استشارة أهل المشورة، وتداول الأمر معهم، وعبر الإغداق على المحيطين به، مضافاً إلى تهديد المخالفين له ـ على تمهيد الأرضيّة لتولية ابنه يزيد ولاية عهده، مع أنّه كان ماجناً يلعب بالكلاب، ويشرب الشراب. ثمّ قام بعد ذلك بتنصيبه وليّاً للعهد بشكلٍ رسميّ، رغم مخالفة أشراف أهل المدينة وأكابرها، كالإمام الحسين بن عليّ×.
وممّا لا شكّ فيه أنّ أصل انحراف مسيرة الخلافة عن جادّتها وجذورها تعود ـ من الناحية التاريخيّة ـ إلى حادثة «السقيفة». ويشير إلى ذلك ما نقله المرحوم المجلسي في (بحار الأنوار) من اعتراض عبد الله بن عمر على يزيد في قتله للإمام الحسين×، وجواب يزيد له ـ بحسب هذا النقل ـ أنّه (أي يزيد) إنّما اعتمد على وصايا الخليفة الأوّل لمعاوية! وهو الجواب الذي جعل عبد الله بن عمر مبهوتاً مُبكَّتاً في هذه الحادثة.
ويرى العلاّمة المجلسي ـ بعد نقله لهذه الرواية ـ أنّها تؤيِّد المقولة المشهورة التي تقول: «ما قتل الحسين إلاّ في يوم السقيفة»، ويعتبر أنّ حَرْفَ مسار الخلافة كان هو السبب الأصليّ والعامل الأساسيّ لثورة عاشوراء واستشهاد الإمام الحسين×([9]).
ومن الجيِّد هنا الالتفات إلى أنّ اعتراض الإمام الحسين× على خلافة يزيد ينطوي على جنبة إثباتيّة ـ فضلاً عن استخدامه البيانات السلبيّة المتجلّية بإظهاره فقدان سلطة يزيد للشرعيّة، وسعيه لإثبات ذلك، ورفضه لحكومة الجَوْر والطاغوت ـ، وهي أنّ الإمام سعى إلى تنبيه المسلمين للشروط والصفات الضروريّة التي ينبغي أنْ يتمتَّع بها الحاكم الإسلاميّ.
لذا وجدنا الإمام الحسين× يبيّن خصائص الإمام، ويُؤكّد عليها، في جوابه على الدعوة المرسَلة من أهل الكوفة، حيث قال: فَلَعَمْرِي مَا الإِمَامُ إِلاَّ الْحَاكِمُ بِالْكِتَابِ، والقَائِمُ بِالْقِسْطِ، والدَّائِنُ بِالْحَقِّ، والْحَابِسُ نَفْسَهُ عَلَى ذَاتِ اللهِ([10]).
وهذا المعنى بعينه تكرَّر في الخطبة التي خطبها أمام جيش الكوفة، حين بيَّن لهم أنّهم (أي أهل البيت) هم أصحاب الولاية الأصيلين على الناس، وكشف لهم مَنْ هو الغاصب لها، حيث قال: نَحْنُ أَهْلُ البَيْتِ أَوْلَى بِوَلايَةِ هَذَا الأَمْرِ مِنْ هَؤُلاءِ الْمُدَّعِينَ مَا لَيْسَ لَهُمْ، وَالسَّائِرِينَ فِيكُمْ بِالْجَوْرِ وَالْعُدْوَان([11]).
وإذا أردنا إبراز هذه الحقيقة، وهي أنّ السبب الأساس وراء قيام الحسين× لم يكن إلاّ الانحرافات والبِدَع التي أدخلها معاوية بن أبي سفيان إلى الساحة السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة، فينبغي لنا أن نحيل إلى رسالة الإمام الحسين× التي أرسلها إلى معاوية، وذلك إثر وشاية مجموعة من الأشخاص عند معاوية ضدّ الإمام. ورغم أنّ الإمام الحسين× قد أنكر في رسالته تلك مخالفته أو إقدامه بنحو عمليّ على محاربة حكومة معاوية، إلاّ أنّه لم يُغفِل فيها ذكر بعض الأعمال المخالفة للدين، أو التعرُّض للانحرافات الاجتماعيّة الحاصلة، فبيَّنها وطرحها في ثلاثة محاور عامّة:
1ـ إيذاء شيعة عليّ بن أبي طالب× وتعذيبهم وقتلهم وملاحقتهم.
2ـ إحداث البِدَع في الدين، ونقض سُنن رسول الله| وأحكامه.
3ـ تنصيب يزيد في ولاية العهد على المسلمين.
وكان الإمام الحسين× يرى أنّ الانحرافات المذكورة تكفي بحدِّ ذاتها للقيام وتغيير الوضع الموجود، ومن ثمّ العمل على الإطاحة بحكومة معاوية. لكنْ لمّا كانت أرضيّة الثورة والقيام العمليّ غير متوفِّرة له كان يطلب العذر من الله عزَّ وجلَّ؛ لعدم نهوضه([12]). كما ينبغي ملاحظة جواب الإمام الحسين× على تهمة معاوية ـ عندما اتّهم الإمام بأنّه يعمل لإيجاد الفتنة والتفرقة بين أفراد الأمّة؛ لكي يصوّر في أذهان عموم المسلمين بأنّ الإمام مخطئٌ في عمله ـ، حيث كان جوابه عبر تعداده للأعمال الخاطئة الصادرة عن الحكومة الأمويّة، جاعلاً معاوية في معرض التقييم والحكم من قِبَل عموم الناس، أي إنّه كان يطلب من المسلمين أن يحكموا بأنفسهم على الأمر؛ حتّى يتيسَّر لهم أن يتَّخذوا قرار مصيرهم ـ بعد رحيل معاوية ـ بكامل الحريّة والاطّلاع، فيختاروا وينتخبوا الإمام اللائق لتدبير شؤونهم السياسيّة والاجتماعيّة([13]).
وكما ذكرنا فإنّ معاوية بن أبي سفيان كان قد أدخل العديد من الانحرافات خلال سنوات حكمه الخمسين، ولم يقتصر ذلك على مجال واحد، بل تعدّاه إلى مجالات متعدِّدة: من الدين، والسياسة، والحياة الاجتماعيّة، إلى الثقافة، و…. وهذه الانحرافات صارت العامل والسبب للعديد من الحوادث الفظيعة والمُنكَرة في التاريخ الإسلاميّ، والتي تتربَّع على رأسها ـ من حيث الأهمّيّة ـ «ثورة عاشوراء». ويمكن إيضاح تلك الجنايات عبر إلقاء نظرة إجماليّة على الأعمال المخالفة للدين، والجنايات العظيمة التي ارتكبها. وهذه قائمةٌ ببعضها:
1ـ شرب الخمر([14]).
2ـ الاستماع إلى الغناء «اللهو واللعب»([15]).
3ـ استعمال آنية الذهب والفضّة([16]).
4ـ لبس الحرير([17]).
5ـ الحكم بغير أحكام الإسلام([18]).
6ـ ترك الجزاء على السرقة([19]).
7ـ وضع الأحاديث في ذمّ عليّ× ([20]).
8ـ الأمر بلعن عليّ× في خُطبِ صلاة الجمعة وعلى المنابر([21]).
9ـ وضع الأحاديث في مدح عثمان([22]).
10ـ قتال عليّ بن أبي طالب×؛ ممّا أدى إلى إزهاق أرواح ما يقرب من 75 ألف شخص، بحسب ما نصّ عليه كتّاب التاريخ([23]).
11ـ القتل والإغارة على شيعة أمير المؤمنين×([24]).
12ـ اغتيال مالك الأشتر([25]).
13ـ قتل الإمام الحسن المجتبى×([26]).
14ـ التعدّي على مصر وقتل محمّد بن أبي بكر المولّى عليها من قبل الإمام عليّ×([27]).
15ـ إقامة صلاة الجمعة يوم الأربعاء([28]). و…
إنّ الانحرافات التي ظهرت في عصر معاوية كانت تقتضي من الإمام الحسين× أن يقوم على حكومة معاوية أيضاً، لكنَّ تظاهر معاوية بالتديُّن، وأسلوبه في التعامل مع الإمام الحسين× ـ فقد كان يراعي حرمته الظاهريّة على الدوام ـ، بالإضافة إلى تعهّد الإمام الحسين× بالصلح الذي عقده أخوه، والحصار الشديد للشيعة، المرافق لسلبهم كلّ أنواع النشاط السياسيّ…، كلّ ذلك كان من الموانع التي ثنت الإمام عن مواجهة حكومة ابن أبي سفيان. وبالطبع كانت هذه الموانع قد زالت بأجمعها في عهد يزيد. ونتيجةً لذلك فقد صارت أرضيّة الثورة مهيَّأة للإمام؛ فيزيد كان يتجاهر بارتكاب المعاصي، ونقض قوانين الشريعة.
كما أنّ تصرُّفاته مع الإمام كانت تتَّسم بالغلظة والقسوة.
ثمّ إنّ صلاحيّة العهد المعقود في صلح الإمام الحسن× كانت قد انقضت بموت معاوية.
أضِفْ إلى ذلك حصول انفراج محدود في التضييق الحاصل من قِبَل والي بني أميّة، وانفراج مماثل في الجوّ السياسيّ ـ على الأقلّ في الكوفة ـ، فوالي هذه المدينة ـ قبل مجيء ابن زياد إليها، وتولّي شأنها ـ كان ضعيفاً جدّاً؛ ما شجَّع أهل ذلك المِصْر على التمرّد والانقلاب على يزيد.
هذا وقد صرّح الإمام الحسين في رسائله وخطبه مراراً وتكراراً بأنّ السبب الرئيس وراء ثورته هو الانحرافات التي أوجدها بنو أميّة في ميادين الدين والسياسة والمجتمع. ففي موسم الحجّ، وفي «مِنى» على وجه التحديد، نجد أنّ الإمام كان في جلسة حضرها الوُجَهاء من صحابة النبيّ| ورجالات المجتمع والتابعين، ثمّ وبَّخ الحاضرين في تلك الجلسة، مظهراً قلقه من عدم مبالاتهم بما تقوم به الطغمة الحاكمة، وبيَّن لهم أنّ الوضع المعوجّ في المجتمع الدينيّ والسياسي ّللمسلمين لا يمكن تحمُّله، وحذَّرهم من أن يتركوا الضعفاء بيد الجبابرة، حتّى يصيروا بين مقهور أو مستضعف مغلوب على معيشته، ثمّ تأسَّف بعدها من حكومة الجبابرة الأشرار الذين يكذبون ويزوِّرون، الذين لا يعرفون المُبدئ، ولا يؤمنون بالمعاد([29]).
كذلك نجده يحتجّ فيما بعد على جيش الكوفة، فيعلن لهم بأنّ ترْك الحقّ ورواج الباطل كانا الدافع وراء خروجه وثورته([30]).
وبالنتيجة كان الإمام الحسين× يبيِّن أنّ أعمال السلطان الجائر الذي عاصره ـ المجاهر بنقض السنّة، وترويج البدعة، وتعطيل أحكام الشريعة ـ هي السبب الرئيس لثورته، مستنداً في ذلك إلى أقوال النبيّ|، الداعية إلى الوقوف في وجه هذا النوع من الحكّام([31]).
إذن تُعتبر هذه التحريفات الحاصلة، والانحرافات السياسيّة والاجتماعيّة والدينيّة القائمة، عوامل مهمّة ومؤسّسة لقرار الإمام الحسين×، الذي قضى بالعمل على تغيير الوضع الموجود، وبالنهوض بثورة عاشوراء. وبالطبع كان الانحراف الأساس والأهم منها ـ والذي أرخى بظلاله على تلك الأوضاع ـ هو الانحراف الحاصل في المجال السياسيّ، أي «إسناد ولاية العهد ليزيد بن معاوية»، فقد كان لهذا الأمر التأثير الأعظم في إشعال الثورة الحسينيّة؛ إذ إنّ طلب البيعة ليزيد، وامتناع الإمام الحسين× عنها، يعدّ واحداً من خصوصيّات هذا الانحراف المهمّ. وحيث كان لعامل البيعة تلك الأهميّة البالغة فإنّنا سنفرده بعنوان كونه عاملاً مستقلاًّ، وسنعمل على بحثه بنحو وافٍ إنْ شاء الله.
2ـ طلب البيعة ليزيد ــــــ
ممّا لا شكّ فيه أنّ أحد الأسباب الرئيسة لثورة عاشوراء هو طلب المبايعة ليزيد بن معاوية ابتداءً، ثمّ امتناع الإمام عن بيعة يزيد تالياً. فقد ظنّ يزيد وأصحاب مشورته الفاقدون للفهم والدراية، وتخيّلوا بأذهانهم الفارغة، أنّ بإمكانهم أن يغتنموا الفرصة بعد موت معاوية، وقبل انتشار خبر مَوْته بين الناس، فيقطعوا الطريق على الحسين بن عليّ×. ولذا أرادوا أن ينتزعوا البيعة ليزيد من الأشخاص الذين لم يستطِعْ معاوية نفسه أن يأخذها منهم في حياته. وحيث إنّ الحسين بن عليّ× كان على رأس المخالفين لخلافة يزيد فقد كانت حساسيّة يزيد منه وغلظته عليه أشدّ من الجميع وأبلغ. وهذا ما يوضِّح لنا سبب الأمر الذي أصدره إلى والي المدينة (الوليد بن عتبة) عبر رسالةٍ سِرّيةٍ، وبكلامٍ شديد اللهجة، تتضمَّن ما يلي: أمّا بعد فخُذْ الحسين بن عليّ… بالبيعة أخذاً ليس فيه رخصةٌ([32]).
ومضافاً إلى ذلك كانت رسالة يزيد إلى الوليد تتضمَّن أمراً آخر، وهو: وليكن مع جوابك إليَّ رأس الحسين بن عليّ([33]).
أمّا جواب الإمام الحسين× على طلب الوليد ومروان بن الحكم فكان بيان فضائل أهل البيت^، وعرض منزلته الدينيّة والاجتماعيّة، والتعريض بذكر رذائل يزيد الأخلاقيّة، ثمّ قال لهم: …ومِثْلِي لا يُبَايِعُ مِثْلَهُ! وَلَكِنْ نُصْبِحُ وَتُصْبِحُونَ، وَنَنْظُرُ وَتَنْظُرُونَ أَيُّنَا أَحَقُّ بِالْخِلافَة وَالْبَيْعَةِ([34]).
إنّ مبايعة يزيد ودعم خلافته تعني في منطق الإمام الحسين× سدّاً لباب الدين، وهَدْماً لأركان الإسلام. ومن هذا المنطلق امتنع الإمام أشدَّ الامتناع عن البيعة ليزيد من أوّل ثورته إلى آخرها. وكان كلّما ازداد أزلام حكومة بني أميّة وأتباعها إصراراً على طلب البيعة منه ازداد الإمام الحسين× رفضاً للخضوع والاستسلام. وفي نهاية المطاف استطاع الإمام من خلال روحه العالية التي يمتلكها، وشجاعته الكبيرة، وإرادته القاطعة، وعدم خضوعه للباطل، استطاع أن يخيِّب آمال حكومة بني أميّة في الوصول إلى مطامعهم وأمانيهم.
ولبيان قيمة هذا العامل ودوره ومدى تأثيره في الثورة العاشورائيّة سنطرح مجموعة من المباحث التي تساعد على فهم هذا الأمر بشكلٍ أفضل، من قبيل: مفهوم البيعة، خلفيّات البيعة، اشتمال أسباب امتناع الإمام الحسين عن البيعة ليزيد على أمور متعدِّدة، منها: فساد يزيد الأخلاقيّ، ترويج البِدْعة في المجتمع الإسلاميّ من قبل الزمرة الحاكمة، عدم شرعيّة الحكومة، وظلم الحاكم وجَوْره ولزوم مجابهته. ثمّ عرض الآثار المترتِّبة على بيعة الإمام الحسين على فرض حصولها، مثل: الخضوع للذلّ، هَدْم الإسلام، وتثبيت حكومة الطاغوت.
2ـ 1ـ مفهوم البيعة ــــــ
تعتبر كلمة «البَيْعَة» من مشتقّات «البَيْع». وهي تعني في الثقافة السياسيّة الإسلاميّة: «العهد والميثاق الثنائي الطرف»، فكأنّ كلّ طرف من الطرفين قد باع ما عنده من صاحبه، وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره([35]). وبتعبير آخر: البيعة هي: «أن يتعاون فردٌ من الأفراد مع آخر، فيعاهده ويعقد معه ميثاقاً على أن يشاركه وأن يلتزم معه بذلك العمل»([36]). كذلك تعتبر البيعة ـ كعقد البَيْع والإجارة ـ من العقود اللازمة والمُلزِمة، ونقضُها حرامٌ. والبَيْعة على عدّة أقسام، فمنها:
1ـ بيعة الاتِّباع: في هذا القسم يلتزم المُبايِع بقبول الأوامر التي يأمره بها المبايَع. ومن أمثلتها: بيعة النساء اللائي أسلمْنَ في عصر النبيّ|، فبايعنه على الالتزام بقوانين الإسلام، واجتناب الشرك والفسق.
2ـ بيعة الجهاد: يعلن المبايِع في هذا القسم عن استعداده لقتال الأعداء تحت إمرة الشخص الذي بايعه. وبيعة أهل الكوفة مع مسلم بن عقيل كانت بَيْعة جهاد.
3ـ بيعة الخلافة: في هذا النوع ينبغي على المُبايِع أن يعترف بخلافة الخليفة الجديد، ويعلن عن تأييده له. والبيعة التي كان يزيد بن معاوية يطلبها من الإمام الحسين× هي نفسها بَيْعة الخلافة؛ أي الاعتراف به خليفةً بنحوٍ رسمي. ولو بايع الإمام الحسين× تلك البيعة لكان مُلزَماً بطاعة أوامر حكومة يزيد. ونتيجة ذلك أنَّه سيلتزم ـ قهراً ـ بالآثار التي تنتج عن هذه القرارات، والتي كان من جملتها سبُّ عليّ×([37]).
2ـ 2ـ سوابق طلب المبايعة بالخلافة ليزيد ــــــ
يعود طلب البيعة بولاية العهد ليزيد إلى عصر معاوية. فمعاوية ـ الذي كان يميل في دخيلة نفسه إلى منح ولاية العهد ليزيد ـ كان قد أظهر مكنون خاطره إلى العلن، اعتماداً على مشورة المغيرة بن شعبة، فعمل على تهيئة الأرضيّة المطلوبة لمنح ولده ولاية العهد، وأخذ البيعة من أهل الشام والعراق (الكوفة والبصرة) وزعمائهم، مستعيناً بوُلاته على الأقطار، وخصوصاً أنّ البعض منهم كان من بني أميّة أنفسهم. إلاّ أنّ أشراف المدينة اعترضوا على رغبة معاوية في إسدائه ولاية الأمر ليزيد، ما حدا بمعاوية إلى المجيء بنفسه إلى المدينة؛ لكي ينتزع البيعة من زعمائها. لكنَّ جهوده باءت بالفشل؛ بسبب الاعتراض الشديد من الإمام الحسين×. وقد روي أنّ الإمام× أجاب على كلام معاوية، الذي قال فيه: لو أنّي أعرف حاكماً على الناس خيراً من يزيد لأخذت البيعة له….، بهذا الجواب: وفَهِمْتُ مَا ذَكَرْتَهُ عَنْ يَزِيد، مِنْ اكتِمَالِهِ وَسِيَاسَتِهِ لأُمَّةِ مُحَمَّدٍ|، تُرِيدُ أَنْ تُوهِمَ النَّاسَ فِي يَزِيدَ كَأَنَّكَ تَصِفُ مَحْجُوبَاً، أَوْ تَنْعَتُ غَائِبَاً، أَوْ تُخْبِرُ عَمَّا كَانَ مِمَّا احْتَوَيْتَهُ بِعِلْمٍ خَاصٍّ. وَقَدْ دَلَّ يَزِيدُ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى مَوْقِعِ رَأْيِهِ، فَخُذْ لِيَزِيدَ فَي مَا أَخَذَ بِهِ، مِنْ اسْتِقْرائِهِ الكِلابَ المُهَارِشَة عِنْدَ التَّهَارُشِ، وَالحَمَامَ السَبِقَ لأَتْرَابِهِِنَّ، وَالقِينَاتِ ذَوَاتِ المَعَازِفِ وَضُرُوبَ المَلاهِي…([38]).
2ـ 3ـ هدف البيعة: إقصاء الرقيب السياسيّ ــــــ
لم يكن يزيد بن معاوية يحتمل وجود الإمام الحسين× وحضوره في الأمّة الإسلاميّة؛ لأسباب عديدة. لذا نرى أنّه عندما أراد إيجاد ذريعةٍ تُمهّد إقصاء الإمام× عن المجتمع الدينيّ والسياسيّ للمسلمين حاول انتزاع البيعة منه. فيزيد ـ الذي كان يعلم مسبَقاً بأنّ الإمام الحسين× يعارض ولايته للعهد ـ حاول ـ من خلال طلبه البيعة من الإمام ـ استفزازَه بذلك؛ بغيةَ القيام بردَّة فعل تُبرِّر قتله للإمام في أعين الناس، وتُضفي الصِّبغة القانونيّة على همجيّته ووحشيّته تجاهه. من هنا نفهم أنّ الهدف الأهمّ وراء طلب يزيد للبيعة هو إقصاء الرقيب السياسيّ المقتدِر عن المسرح السياسيّ([39]).
لقد كرّر الإمام الحسين× في خُطبه هدف الحكّام الأمويّين المشؤوم؛ بالكناية تارة؛ وبالتصريح أخرى. فحين حاول محمّد ابن الحنفيّة صدّه عن الخروج إلى الكوفة قال له: وَاللهِ، يَا أَخِي، لَوْ كُنْتُ فِي جُحْرِ هَامَّةٍ مِنْ هَوَامِّ الأَرْضِ لاسْتَخْرَجُونِي مِنْهُ، حَتَّى يَقْتُلُونِي([40]).
وكذلك كان الأمر مع ابن عبّاس، حين حذَّره من الذهاب إلى العراق، فما كان جوابه إلاّ أنْ أخبره بعزم الحكومة القاطع على قتله، فقال له: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ! يَا ابْنَ عَبَّاس، إِنّ القَوْمَ لا يَتْرُكُونِي، وَإِنَّهُمْ يَطْلُبُونِي أَيْنَ كُنْتُ، حَتَّى أُبَايِعَهُمْ كُرْهاً، وَيَقْتُلُونِي. وَاللهِ، إِنّهُمْ لَيَعْتَدُونَ عَلَيَّ كَمَا اعْتَدَتْ اليَهُودُ فِي يَوْمِ السَّبْتِ([41]).
ورغم أنّ معاوية كان قد أوصى يزيداً بعدم التعرُّض للإمام الحسين، وأنْ لا يأخذه بالشدّة([42])، بناءً على ما نقلوه عن معاوية، من أنَّه «كان يوصي ولده اللعين بعدم التعرُّض للحسين×؛ لأنّه كان يعلم أنّ ذلك يصير سبباً لذهاب دولته»…، فلا شكّ أنّ غلظة عمّال يزيد ـ أمثال: عبيد الله بن زياد، وعمر بن سعد ـ، وخبرته الضئيلة في السياسة، مضافاً إلى رغبته في الانتقام القبلي والعشائري([43])، واستحكام الخصومة الشخصيّة في قلبه تجاه الإمام الحسين×؛ لِما وضعه الإمام من عَقَبات تَحُول بينه وبين بلوغه شهواته النفسانيّة، هذه الأمور جميعُها لعبت دوراً كبيراً في سرعة إنجاز أهدافه، وكان لها تأثيرٌ بالغٌ في كيفيّة تحقيقها([44]).
2ـ 4ـ أسباب امتناع الإمام الحسين× عن البيعة ليزيد ــــــ
أـ تعارض خلافة يزيد مع ميثاق صلح الإمام الحسن× ــــــ
تدلّ الشواهد التاريخيّة على أنّ أغلب بنود الصلح الذي جرى بين الإمام الحسن× ومعاوية قد تمّ نقضُها، حتَّى أنّ معاوية ذهب بعد عقده الصلح مع الإمام الحسن× مباشرةً إلى النّخيلة (وهو معسكر جيش الكوفة)، وأعلن للكوفيّين صراحةً عن نيّته، قائلاً: ألا إنّ كلَّ شيء أعطيتُه الحسن بن عليّ تحت قدميَّ هاتين، لا أفي به([45]).
وكان من أهمّ بنود العقد، هذا البند: «…وَلَيْسَ لِمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ أَنْ يَعْهَدَ إِلَى أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ عَهْداً، بَلْ يَكُونُ الأَمْرُ مِنْ بَعْدِهِ شُورَى بَيْنَ المُسْلِمِين»([46]).
لكنَّ الملاحَظ أنّ معاوية التزم بهذا البند في حياة الإمام الحسن×، إلاّ أنّه نقضه ـ كما هو واضحٌ ـ بعد استشهاد الإمام×، عبر تعيين ولده يزيد وليّاً للعهد. وكان الإمام الحسين× قد صرّح في حديثه للوليد بن عتبة ومروان بن الحكم بأنّ أحد أسباب معارضته لخلافة يزيد هو أنّ في ذلك نقضاً للعهد، من جهة تعيين الخليفة، حيث قال لهم: إِنِّي لا أُبَايِعُ لَهُ أَبَدَاً؛ لأَنَّ الأَمْرَ إِنَّمَا كَانَ لِي مِنْ بَعْدِ أَخِيَ الحَسَن، فَصَنَعَ مُعَاوِيَةُ مَا صَنَعَ، وَحَلَفَ لأَخِيَ الحَسَنَ أَنّهُ لا يَجْعَلُ الخِلافَةَ لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ…. وَاللهِ، لا يَكُونُ ذَلِكَ أَبَدَاً([47]).
ب ـ خصائص يزيد بن معاوية الأخلاقيّة ــــــ
ـ فقدان يزيد لشروط الخلافة: ممّا لا شكّ فيه أنّ خصوصيّات يزيد بن معاوية الأخلاقيّة كانت من أهمّ الأسباب في امتناع الإمام الحسين× عن البيعة له. فلم يكن لدى يزيد شِمّةٌ من عِلْمٍ أو تقوى، ولا حظٌّ في الدراية أو العدالة ـ ومن الواضح أنّها من الشروط المهمّة لتولّي الخلافة ـ، بل كانت رذائله لا تُحصى. فهو عديم المبالاة، ماجنٌ، سيّئُ السمعة، منغمسٌ في اللهو واللعب، يُلاعب الحيوانات (الكلاب والقِرَدة والصقور). لذا كان فساده الأخلاقيّ بادياً للعَلَن أمام معظم الناس، وأمّا الإمام الحسين× على الخصوص فلم يكن ليخفى عليه هذا الأمر. من هنا نجد أنّ الإمام استند في العديد من خطبه على أنّ صفات يزيد الرذيلة كانت السبب وراء امتناعه عن البيعة له. ومن الجدير ملاحظة النماذج التالية في هذا الخصوص:
ـ أخلاق أهل البادية: إنّ الخليفة الأمويّ هذا كان قد قضى مرحلة طفولته وشبابه في البادية، فاكتسب من ساكنيها أخلاقهم، ولم يكن له حظٌّ من المعرفة الدينيّة، ولا تربية أهل المدن([48]). لذا ترى أنّ حُكمه اتَّسم ـ في المدّة القصيرة التي استلم فيها زمام الأمور ـ بالغلظة والشدّة والقسوة. وعليه فلم يكن قد رُبّيَ تربية مَنْ سيتصدّى للخلافة، فضلاً عن عدم امتلاكه حظّاً من اللياقة السياسيّة([49]).
ـ المجون: كان شرب الخمر من الأمور الواضحة في خصوصيّات يزيد، بل لم يكن يستحي من ذلك، حتّى في حضور الآخرين. وقد بيَّن ذلك الإمام الحسين× في مجلس الوليد، وجعلها من جملة الأسباب التي عرضها لامتناعه عن البيعة له، فقال له: يَزِيدُ رَجُلٌ فَاسِقٌ، شَارِبُ الخَمْرِ، قَاتِلُ النَّفْسِ المُحَرَّمَةِ، مُعْلِنٌ بِالفِسْقِ، وَمِثْلِي لا يُبَايِعُ مِثْلَه([50]). بل إنّ يزيد تجاوز في مجونه كلَّ الحدود، فلم يتورَّع عن اقتراف مجونه وآثامه حتّى في مدينة النبيّ الأكرم|([51]).
ـ انغماسه في اللهو واللعب: لقد كان منغمساً في أنواع اللهو واللعب والترف والتبذير في الملذّات. فكان من عاداته القبيحة سماع الغناء وأصوات القانيات والمغنِّيات([52]).
وحيث إنّه كان يمتلك فصاحة أهل البادية فقد كان ملمّاً بما كان يلقيه شُعراء العَبَث وأهل الباطل، بل هو نفسه كان ينشد الشعر أحياناً في وصف الخمر، وأخرى في بيان حقيقة عقيدته الشِّرْكيّة والمنحرفة والكافرة([53]).
ـ ملاعبة الحيوانات: كانت أفضل طرق الترفيه عند يزيد ركوب الفرس وتربية الحيوانات، وخصوصاً الكلاب منها. وكلّ ذلك يعود إلى خصاله وأخلاقه البدويّة([54]). ومن هنا كان جواب الإمام الحسين× ـ عندما أتى معاوية إلى المدينة لأخذ البيعة ليزيد، فمجّده وعظَّمه ـ بالإشارة إلى لعبه بالكلاب والحمام، حيث قال: …وَقَدْ دَلَّ يَزِيدُ مِنْ نَفْسِهِ عَلَى مَوْقِعِ رَأْيِهِ، فَخُذْ لِيَزِيدَ فَي مَا أَخَذَ بِهِ، مِنْ اسْتِقْرائِهِ الكِلابَ المُهَارِشَة عِنْدَ التَهَارُشِ، وَالحَمَامَ السَّبِقَ لأَتْرَابِهِِنَّ، وَالقِينَاتِ ذَوَاتِ المَعَازِفِ وَضُرُوبَ المَلاهِي، تَجِدْهُ نَاصِرَاً([55]).
ولا ننسى أن نذكر أنّ يزيد قام بتربية قردٍ من القرود، وتعليمه، وكنّاه بأبي قَيْس([56])، ثمّ إنّه كانت بينه وبين هذا القرد علاقةٌ قويّة؛ فألبسه الحرير والديباج والزبرجد، وجعله يحضر في مجالس شُرْبه، وأشركه في سباقات الخيل([57]).
ـ ارتكاب الفحشاء والمنكر: إنّ الرذالة وارتكاب المحرَّمات والزنا مع المحارم كانت من أسوأ خصال الخليفة الأمويّ. واطّلاع أهل المدينة على هذه الخصال القبيحة عند يزيد كان الباعث لهم للقيام بردَّة فعل عكسيّة تجاهه عقب استشهاد الإمام الحسين×؛ حيث قاموا عليه بعد ذلك. فقد ذهب عبد الله بن حنظلة إلى الشام مع مجموعة من الأشخاص نيابةً عن أهل المدينة، وبعد عودته عبَّر عمّا شاهده من القبائح عند يزيد بهذه العبارة: واللهِ، ما خرجنا على يزيد حتّى خِفْنا أن نُرمى بالحجارة من السماء. إنّه رجل ينكح أمهات الأولاد والبنات والأخوات، ويشرب الخمر، ويَدَعُ الصلاة، واللهِ، لو لم يكُنْ معي أحدٌ من الناس لأبلَيْتُ فيه بلاءً حسناً([58]).
والنتيجة: لو استمرّ يزيد بن معاوية في الحكومة لسنوات أخرى، مع اتّصافه بكلّ هذه الصفات التي تتعارض تعارُضاً تامّاً مع منصب الخلافة، لكانت شعائر الدين ومعارفه وآثاره قد اضمحلّت وزالت من الدولة الإسلاميّة. ولمّا كان الإمام الحسين× على اطّلاع تامّ على شخصيّة يزيد هذه، وعلى انحرافاته الأخلاقيّة، فقد استرجع عندما تناهى إلى سمعه أنّ الخلافة وصلت إلى يد يزيد، فقال: ﴿إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾، وَعَلَى الإِسْلامِ السَّلامَ إِذَا بُلِيَتِ الأُمَّةُ بِرَاعٍ مِثْلِ يَزِيد([59]).
ج ـ عدم شرعيّة حكومة يزيد ووجوب القيام عليها ــــــ
تنقسم الحكومات ـ بكلّ أنواعها وأقسامها ـ في الفكر السياسيّ الشيعيّ إلى قسمين رئيسيّين: حكومة شرعيّة؛ وحكومة غير شرعيّة. والمدار على الحكم بشرعيّة الحكومة وعدمه هو صدق عنوان العَدْل والجَوْر عليها. كما أنّ عدل الحكومة أو الحكّام وجورهما تابع أيضاً للمتغيِّرات التي تمّ بيانها في النظام السياسيّ الشيعيّ على أنّها عمدة تلك المتغيِّرات، وهي عبارة عن: العلم، والعدالة، والأفضليّة في الصفات.
ومحور شرعيّة الحكومة في الفكر الشيعيّ هو الإمامة والتنصيب الإلهيّ. كما يرتبط قوام الإمامة بشخص الإمام أيضاً. وبالتالي تنشأ شرعيّة الحكومة وعدم شرعيّتها وعدلها وجَوْرها بشكلٍ أساس من أوصاف الإمام والحاكم الإسلاميّ وتصرُّفاته. وبهذا التوضيح نستطيع القول: إنّ هذا الخليفة الأمويّ كان حاكم جَوْرٍ بتصرُّفاته، بالإضافة إلى عدم شرعيَّته؛ لفقدانه شروط الحاكم الإسلاميّ أيضاً، وبالتالي فحكومته تعتبر حكومة جَوْر. أضِفْ إلى ذلك عدم الرغبة الشعبيّة به. فالبيعة التي أوصلت يزيد إلى سدّة الحكم، وجعلته خليفةً، حصلت بالتطميع تارةً؛ وبالتهديد والرُّعْب أخرى، ولم يكن في الواقع للناس أيّ حرّيّةٍ في اختياره أبداً.
بل حتّى لو فرضنا أنّ الناس كانوا راضين بيزيد، وأنّهم اتّفقوا على بيعته، لكنْ لا قيمة لهذه البيعة بنظر الشيعة، ويجب محاربة الحكومة التي تشكَّلت بهذا الشكل الخارج عن التنصيب الإلهيّ.
وقد بيَّن العلاّمة الوحيد البهبهاني ـ وهو أحد علماء الشيعة الكبار ـ في عرضه للثورة الحسينيّة أنّ أحد علل هذه الثورة هو فقدان حكومة يزيد للشرعيّة، وصرَّح بأنّه لا أثر لمبايعة الناس ليزيد بن معاوية في إضفاء صبغة الشرعيّة على خلافته. وبالتالي فإنّ قتال حكومة كهذه ومعارضتها واجبٌ بنظر العقل والشرع والعُرْف. ولبيان هذا الأصل نقل الإمام الحسين الرواية التالية عن النبيّ|، حيث يقول: مَنْ رَأَى سُلْطَاناً جَائِراً، مُسْتَحِلاًّ لِحُرُمِ اللهِ، نَاكِثاً لِعَهْدِ اللهِ، مُخَالِفاً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ، يَعْمَلُ فِي عِبَادِ اللهِ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، ثُمَّ لَمْ يُغَيِّرْ بِقَوْلٍ وَلا فِعْلٍ، كَانَ حَقِيقاً عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مَدْخَلَهُ([60]).
إنّ قول الحقّ عَلَناً عند السلطان الجائر يُعتبر في الثقافة الإسلاميّة من أعظم الجهاد وأفضله، فكيف إذا وصل إلى حدِّ الإقدام العمليّ ضدّ الجَوْر. قال رسول الله|: أَفْضَلَ الْجِهَادِ كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِر([61]).
د ـ تعطيل أحكام الشريعة وترويج البِدْعة ــــــ
من خصائص حكومة بني أميّة الجائرة، تعطيل قوانين الإسلام ومقرّراته التي تبعث الحياة في النفوس. ورغم أنّ ابتداع البدع كان قد بدأ في عهد معاوية، إلاّ أنّه استمرّ في عهد يزيد أيضاً. ولعلّ هذا السلوك الفاسد من قِبَل يزيد كان سيؤدّي ـ لو استمرّ ـ إلى إقصاء الدين، ومَحْو تعاليم الإسلام. وقد بيَّن الإمام الحسين× بشكلٍ تامّ ـ حين التقى بجيش الحُرّ بن يزيد الرياحيّ ـ أنّ تحسين الباطل في أعين الناس، وإسكات صوت الحقّ، هما الباعث له على الثورة والقيام؛ لتغيير الوضع الموجود، وهما السبب في امتناعه عن البيعة ليزيد، حيث قال: ألا تَرَوْنَ أَنَّ الحَقَّ لا يُعْمَلُ بِهِ، وَأَنَّ البَاطِلَ لا يُتَنَاهَى عَنْهُ؟! لِيَرْغَبَ الْمُؤْمِنُ فِي لِقَاءِ اللهِ مُحِقّاً([62]).
وقال لجيش الحُرّ في خطبة أخرى: أَلا وإنَّ هَؤُلاءِ قَدْ لَزِمُوا طَاعَةَ الشَّيْطَانِ، وَتَرَكُوا طَاعَةَ الرَّحْمَنِ، وَأَظْهَرُوا الفَسَادَ، وَعَطَّلُوا الْحُدُودَ، وَاسْتَأْثَرُوا بِالفَيْءِ، وأَحَلُّوا حَرَامَ اللهِ، وَحَرَّمُوا حَلالَهُ، وَإِنِّي أَحَقُّ مَنْ غَيَّرَ([63]).
كذلك نجد أنّ دليله× في مخالفة حاكميّة بني أميّة، الذي أورده في رسالته إلى أهل البصرة لمّا دعاهم للقيام والالتحاق به، كان تركهم السُّنَّة، وترويجهم البِدْعة؛ حيث قال: فإنَّ السُنَّةَ قد أُمِيتَت، وإنَّ البِدْعَةَ قد أُحْيِيَت.
2ـ 5ـ آثار مبايعة الإمام× ليزيد لو حصلت ــــــ
إنّ لبيعة الإمام الحسين× ليزيد بن معاوية ـ لو حصلت ـ آثاراً سياسيّة واجتماعيّة ودينيّة وثقافيّة متعدِّدة. وسنشير هنا إلى بعض هذه الآثار والنتائج، التي صرَّح بها الإمام× بنفسه:
أـ تأييد خلافة يزيد ــــــ
لقد تقدَّم آنفاً أنّه حتّى لو كانت البيعة قد وقعت بالإكراه، وعلى وجه التقيّة، فإنّ ذلك يعني تأييد الحكومة والتسليم لها. وحكومة يزيد لم تكن تريد من الإمام الحسين× أكثر من ذلك([64]). فيتحصَّل بذلك التأييد للفكر السياسيّ الذي أسَّسه أبو سفيان؛ لأنّه في عهد عثمان كان قد طلب منه أن يجعل الخلافة وراثةً في بني أميّة([65]). لكنَّنا نجد أنّ الإمام الحسين× ـ حتّى قبل أن يكتشف الناس ماهيّة يزيد وحقيقته ـ امتنع منذ حكومة معاوية عن القبول بولاية العهد ليزيد، ثمّ ازداد إصراراً بعد ذلك، حين طَلب منه والي المدينة البيعة ليزيد، وقال له: مِثْلي لا يُبَايِعُ مِثْلَه.
ب ـ القبول بالذلّة ــــــ
إنّ ما ورد في تعاليم الأخلاق الإسلاميّة حول عزّة نفس المؤمن وتمجيدها يقابله منعٌ وردعٌ عن الرضا بالمهانة وإذلال النفس. ومن الواضح أنّ بيعة الإمام الحسين× ليزيد لن يستتبعها إلاّ الإهانة وإذلال النفس. وقد بيَّن الإمام الحسين× في عددٍ من المواضع أنّ بيعته تعني الذلّة، وأنّ الموت مع الشرف خيرٌ من السلامة والتسليم مع حياة الذلّ.
وعندما دعَوْا الإمام ليلة التاسع من محرّم لكي يبايع ويسلِّم، قال: وَاللهِ، لا أُعْطِيكُمْ بِيَدِي إِعْطَاءَ الذَّلِيلِ، وَلا أَفِرُّ فِرَارَ الْعَبِيد([66]).
كذلك نجد الإمام قد أجاب ابن زياد عندما خيَّره بين الاستسلام أو القتال بهذا الجواب: إِنَّ الدَّعِيَّ ابْنَ الدَّعِيِّ قَدْ تَرَكَنِي بَيْنَ السِّلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَهَيْهَات مِنِّا الذِّلَّة([67]).
وقال: إِنِّي لا أَرَى الْمَوْتَ إِلاّ سَعَادَةً، وَالْحَيَاةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إِلاَّ بَرَماً([68]).
وقال: مَوْتٌ فِي عِزٍّ خَيْرٌ مِنْ حَيَاةٍ فِي ذُلٍّ([69]).
وقال في يوم عاشوراء: أَمَا وَاللهِ، لا أُجِيبُهُمْ إِلَى شَيْءٍ مَمَّا يُرِيدُونَ حَتَّى أَلْقَى اللهَ تَعَالَى وَأَنَا مُخَضَّبٌ بِدَمِي([70]).
ج ـ خطر انهدام الدين الإسلامي ــــــ
مَنْ يلتفت إلى كيفيّة عمل حكومة بني أميّة على هدم الدين ـ وبالخصوص حكومة معاوية ـ سيجد أنّ خطرها على الدين كان جدّياً. وكان الإمام الحسين× يحسّ بهذا الخطر أكثر من أيّ شيء، ويراه أكثر من كلّ شخصٍ آخر، وكان يعتبر أنّ خلافة يزيد آفةٌ وطامّة كبرى على الدين الإسلاميّ، وعلى وحي النبيّ|، وعلى رسالته. ومن هنا أجاب الإمام مروان بن الحكم، عندما نصحه بالقبول ببيعة يزيد، بقوله: وَعَلَى الإِسْلامِ السَّلامُ إِذْ قَدْ بُلِيَتِ الأُمَّةُ بِرَاعٍ مِثْلِ يَزِيد([71]).
لقد برز الوجه الحقيقي ليزيد واضحاً للجميع بعد استشهاد الإمام الحسين×. فبعد أن انتشى بغَلَبته الظاهريّة على الحسين بن عليّ× قام بالكشف عمّا في دخيلة نفسه، من قصده مَحْو الدين والوحي والنبوّة، وأعلن نواياه على الملأ، وذلك عبر إنشاد أشعار الكفر والزندقة عندما كان الرأس المبارك أمامه، حيث راح ينشد من دون مواربة:
ليتَ أشياخي ببدرٍ شَهِدوا *** جزْعَ الخزرجِ فِي وَقْعِ الأَسَلْ
قَدْ قَتلنَا القَرْمَ منْ أشياخِهمْ *** وعدلناهُ ببدرٍ فاعتَدَلْ
لَعِبتْ هاشمُ بِالملكِ فَلا *** خبرٌ جاءَ ولا وحيٌ نَزلْ
لستُ مِن خَندفٍ إِنْ لم أنتقمْ *** مِن بَني أحمدٍ مَا كَان فَعَلْ([72])
3ـ دعوة أهل الكوفة ــــــ
تُعتبر دعوة أهل الكوفة للإمام الحسين× من المطالب الجديرة بالبحث والدراسة لمَنْ يريد الوقوف على أسباب الثورة الحسينيّة. وقد اتَّفق أكثر المؤرّخين والمحقّقين الكبار، الذين كتبوا في تاريخ عاشوراء، على تأثير هذا العامل في قيام الإمام الحسين×، على الرغم من عدم إجماعهم على تحديد مقدار تأثير هذه الدعوة ودورها في ذلك. فترى أنّ بعض العلماء، أمثال: السيد المرتضى (علم الهدى)([73])، والشيخ الطوسي([74])، وابن خلدون([75])، والقاضي ابن العربي([76])، و مؤلِّف كتاب «شهيد جاويد»([77])، اعتبروا أنّ دعوة أهل الكوفة تمثِّل السبب الرئيس والعامل الوحيد لثورة عاشوراء؛ بينما نجد مجموعة أخرى، أمثال: الشهيد مطهري، يهبط بهذا العامل ليضعه في الرتبة الثالثة، ويرى أنّ تأثيره في حصول ثورة عاشوراء كان ضئيلاً جدّاً([78]).
ولتوضيح قيمة دعوة أهل الكوفة في الثورة الحسينيّة، ودورها، وتأثيرها، يتحتّم علينا أن نبحث في مجموعة من المواضيع، من قبيل: خلفيّة دعوة أهل الكوفة، الامتداد الزمانيّ ومدى تأثيره، ردّة فعل الإمام الحسين× في مقابل هذه الدعوة، أسباب نقض الكوفيّين للعهد، الحلول والاحتمالات المطروحة أمام الإمام بعد نقضهم البيعة، ومقارنتها مع باقي الأسباب والعوامل الأخرى للثورة الحسينيّة.
3ـ 1ـ خلفيّة هذه الدعوة ــــــ
إنّ إقبال أهل الكوفة نحو الإمام الحسين×؛ لكي يتصدّى لمنصب الحكومة وقيادة المواجهة مع بني أميّة، تعود إلى خلفيّات وعهود طويلة، ترجع إلى زمن صلح الإمام الحسن المجتبى× مع معاوية. ومن هنا يمكن لنا أن نبحث دعوة أهل الكوفة في ثلاث مراحل تاريخيّة:
أـ ما بعد صلح الإمام الحسن× ــــــ
ذهب بعض الشيعة من أهل الكوفة ـ الذين كانوا يخالفون صلح الإمام الحسن× مع معاوية ـ منذ اليوم الأوّل للصلح إلى الإمام الحسين×، طالبين منه أن ينضووا تحت جناحه في قتال معاوية. لكنَّ الإمام الحسين رفض دعوتهم، وأكّد على الالتزام بصلح أخيه([79]).
ب ـ ما بعد استشهاد الإمام الحسن× ــــــ
بعد أن استشهد الإمام الحسن× بالسمّ المدسوس إليه من قِبَل معاوية كتبت مجموعة من أهل الكوفة إلى الحسين رسالةً، وطلبوا منه القيام على معاوية. إلاّ أنّ الإمام الحسين× أمرهم بالسكوت إلى حين موت معاوية. وفي هذه المرحلة قلَّص الإمام الحسين ـ نوعاً ما ـ علاقته بأهل الكوفة؛ لكي لا يُصاب معاوية بالذُّعْر، فيُجبَرَ على القيام بردَّة فعلٍ معاكسة تجاههم([80]).
ج ـ ما بعد وفاة معاوية بن أبي سفيان ــــــ
بعد أن سمع شيعة الكوفة بخبر وفاة معاوية، وعلموا بأمر مخالفة الإمام الحسين ليزيد، وأنّه ذهب إلى مكّة، اجتمعوا فيما بينهم، وطرحوا مسألة دعوة الإمام إلى الكوفة. وكان منهم: سليمان بن صرد الخزاعي، والمسيّب بن نجبة، وحبيب بن مظاهر، ورِفاعة بن شدّاد، وعبد الله بن وال، وآخرون. وقد اتّفقوا على أن يكتبوا رسالةً إلى الإمام، وأن يطالبوه فيها بالمجيء إلى الكوفة([81]). ثمّ إنّهم أرسلوا عقب هذه الرسالة رسائل أخرى كثيرة، بالإضافة إلى الرسائل المشافهة عبر الرسل. وقد بلغ عدد الرسائل حدّاً بحيث إنّ الإمام وضعها في موضعٍ معيَّن حتّى يقرِّر ما سيفعله تجاه هذه الدعوة؛ إتماماً للحجّة عليهم([82]). وبناءً على هذه الرسائل قام بإرسال مسلم بن عقيل سفيراً ينوب عنه؛ ليرى حقيقة أوضاع الكوفة، ويحقِّق في حقيقة دعوتهم. وأرسل معه إلى أهل الكوفة جواب رسائلهم، وأمره أن يأخذ البيعة له إذا لمس منهم الجدّيّة في متابعته([83]).
3ـ 2ـ ردّ الإمام الحسين× على دعوة الكوفيّين ــــــ
بالنظر إلى سابقة أهل الكوفة في نقض العهود وعدم الوفاء، كان على الإمام الحسين× أن يتَّخذ موقفاً من موقفين تجاه دعوتهم له:
أـ موقف المخالفين لحركة الإمام الحسين× نحو العراق ــــــ
الموقف الأوّل: هو غضّ الطرف عن دعوتهم، وعدم الاعتناء بها. وكان العديد ممَّنْ تكلّم مع الإمام قد نصحوه بذلك، وطلبوا منه عدم الخروج.
والأشخاص الذين كانوا متخوِّفين من تحرّك الإمام نحو الكوفة هم:
1ـ عبد الله بن عباس: وكان من المخالفين لقبول الإمام دعوة أهل الكوفة. لذا تراه قد عرض المسألة بالمنطق العقليّ العادي، مراعياً المصالح الظاهرية، ومن جملتها: حفظ روح الإمام من الأحداث الخطرة، فخاطب الإمام ونصحه قائلاً: إنّي أتخوَّف عليك في هذا الوجه الهلاك. إنّ أهل العراق قوم غدرٍ، أقِمْ بهذا البلد فإنَّك سيّد أهل الحجاز، فإنْ كان أهل العراق يريدونك كما زعموا فلينفُوا عدوَّهم، ثمّ اقدِمْ عليهم([84]).
2ـ الفرزدق، الشاعر المعروف: وكان قد حدّث الإمام الحسين× عن تقييمه لقبول أهل الكوفة دعوة الإمام، ومدى هشاشة ثباتهم، مشيراً بذلك إلى نفاقهم، فقال: قلوب الناس معك، وسيوفهم مع بني أميّة، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء([85]).
3ـ مجمع بن عبيد الله العامري: وقد قام هو الآخر ببيان موقف الخواصّ والعوام في الكوفة، فقال: أمّا أشراف الناس فقد أُعظمت رشوتهم، ومُلئت غرائزهم، فهم إلبٌ واحد عليك؛ وأمّا سائر الناس بعدهم فإنّ قلوبهم تهوي إليك، وسيوفهم غداً مشهورة عليك([86]).
4ـ عبد الله بن عمر([87])؛ 5ـ عبد الله بن الزبير([88])؛ 6ـ عبد الله بن جعفر([89])، وجمع غيرهم من أصحاب النظر والاطّلاع على الأوضاع السياسيّة والاجتماعيّة. وجميع هؤلاء حذّر الإمام× من أهل الكوفة، كما فعل ابن عبّاس، وكان هدف الجميع من نصائحهم تلك أن يثنوا الإمام× عن الذهاب إلى الكوفة. لكنّنا من جهة أخرى لا نجد في ما نقله التاريخ لنا من أحداث عاشوراء إشارةً إلى أيّ شخصيّةٍ كانت توافق الإمام الحسين× في مسيره نحو الكوفة.
من هنا كان ينبغي أن نطرح السؤال التالي: لماذا أصرّ الإمام الحسين× على الذهاب إلى الكوفة، رغم معارضة وجوه أهل مكّة والمدينة لهذا السفر، ورغم موافقة أهل الرأي لتلك النصائح التي أسدَوْها له([90])؟
إجابةً عن هذا السؤال نقول: إنّ الإمام الحسين× لم يرتضِ رأي الناصحين؛ لأسباب عديدة:
أـ إنّ الإمام كان عالماً ومتيقِّناً بأنّه سيستشهد. فهو كان يعلم عن طريق الغيب أنّ جلاوزة الحكومة سيسفكون دمه الزكيّ، فلم يشأ أنْ تُستباح حرمة الحَرَم الإلهي بقتله. وهذا سبب عزمه على الخروج من مكّة([91]).
كما يمكن لنا أن نضيف إلى احتمال سفك دم الإمام في مكّة احتمالاً آخر، وهو إلقاء القبض على الإمام وإرساله إلى الشام([92])؛ فعمرو بن سعيد كان مأموراً مع جيشه بأن يُنفِّذ هذه المهمّة([93])، وبالتالي يصبح السبب الأوّل والرئيس في خروج الإمام من مكّة هو الحفاظ على روحه وحياته.
ب ـ تعدّ ثورة الإمام الحسين× بمثابة تصدٍّ دفاعيّ، وهذا الوضع يماثل القيام الابتدائيّ من حيث لزوم إعداد القوّة ووجوبه، حتّى لو علم المُدافِع وتيقَّن بأنّه سيُقتل. لذا لا تأمر الشريعة المُدافِع في حالة التصدّي والدفاع أن يسلِّم نفسه للعدوّ. وبما أنّ أهل الكوفة كانوا قد بايعوا الإمام فقد كان احتمال دفاعهم عنه وحمايتهم له أكثر من سائر المناطق الأخرى، ولذا نجد أنّ الإمام قصد الكوفة بعد عزمه على الخروج من مكّة. كما أنّ بعض القرائن التاريخيّة تدلّ على أنّ الإمام كان يريد الذهاب إلى الكوفة منذ بداية ثورته وقيامه([94]).
ج ـ من المحتمل أن تكون نصائح أصحاب الرأي والنصيحة، أمثال: ابن عبّاس ـ الذي اعتبر نفسه ناصحاً للإمام ـ، نتيجة عدم اطّلاعهم على رسائل أهل الكوفة ورسلهم، وخاصّةً أنّ علاقة الإمام بأهل الكوفة كانت سرّيّة، ولم يكن الناس مطَّلعين عليها([95]).
د ـ إنّ خروج الإمام الحسين× نحو الكوفة لم يكُنْ إلاّ بناءً على أمرٍ خاصّ من النبيّ| له، تلقّاه في عالم الرؤيا، إلاّ أنَّه لم يبيّن لأحدٍ ماهيّة هذا الأمر([96]). فقد رويّ أنّ الإمام الحسين× قال لأخيه محمد ابن الحنفيّة، حين كان يحاوره ويعترض على خروجه من مكة تجاه الكوفة: أَتَانِي رَسُوْلُ اللهِ| فَقَالَ: يَا حُسَيْنُ، اخْرُجْ؛ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ شَاءَ أَنْ يَرَاكَ قَتِيْلاً([97]).
وبالنظر إلى هذا السبب يمكن لنا الجمع بين سفرِ الإمام إلى الكوفة مع علمه بنقض أهلها للبيعة وعلمه بأنّه سيستشهد.
ب ـ موقف الإمام الحسين× الخاصّ تجاه دعوة الكوفيّين ــــــ
إنّ الموقف الثاني تجاه دعوة أهل الكوفة منبثقٌ عن نفس موقعيّة الإمام الحسين×، فهو لا ينحاز إلى طرف من الناس (أعمّ من الخواصّ أو العوام). وهذا النوع من ردّة الفعل التي قام بها الإمام ـ كما بيّنّا سابقاً ـ كانت مبنيّة على أساس الحكم الشرعيّ، والمسؤوليّة المنوطة بمنصب الإمامة، وبالتالي كان ينبغي على الإمام أن يستجيب لدعوة أهل الكوفة طالما أنّهم لم ينكثوا العهد والميثاق بعدُ، وما داموا ثابتين عليه؛ حتّى يُتمّ حجّته عليهم. ومن هنا نلاحظ أنّ الإمام أرسل مسلم بن عقيل إلى أهل الكوفة؛ ليتأكَّد من ثباتهم على دعوتهم وبيعتهم، ولكي يتحقّق من حقيقة أوضاع الكوفة([98]). وتحرُّك الإمام كان مبنيّاً على التقرير الذي أرسله إليه مسلم بأنّ ظروف الكوفة إيجابيّة ومساعِدة([99]). ومع إضافة الرسالة الإيجابيّة لمسلم إلى التعليلات الأربعة المذكورة يتَّضح المبرِّر وراء تحرّك الإمام الحسين نحو الكوفة بشكلٍ جليّ.
3ـ 3ـ أسباب نقض أهل الكوفة للبيعة ــــــ
يمكننا أن نعدّد مجموعةً من العلل والأسباب المختلفة، التي توضّح سبب عدم ثبات أهل الكوفة على العهد، ونقضهم للبيعة تالياً، ومن جملتها:
أـ الصفات النفسيّة للكوفيّين ــــــ
من الأسباب الأساسيّة لتزلزل أهل الكوفة هي خصائصهم وصفاتهم النفسيّة. فأهل الكوفة كانوا معروفين منذ صدر الإسلام بضعف رأيهم، ونقضهم للبيعة، ومشهورين بالمكر والخديعة. وقد شكا الإمام عليّ× من رأيهم الضعيف، وتزلزلهم وعدم ثباتهم، مراراً([100]).
وأمّا في عهد الإمام الحسن× فقد أدّى خداعهم ومكرهم إلى إجبار الإمام الحسن× على مصالحة معاوية، والتسليم له. وقد وبَّخهم الإمام الحسن× أيضاً على هذه الصفة المذمومة([101]).
وفي عصر الإمام الحسين× ظهرت هذه الصفة بأوج تجلّياتها، بحيث صاروا على مرّ التاريخ مضْرَباً للمثل في نقض العهد والخداع، حتّى ذاع صيتهم في الآفاق.
ومن هنا نجد أنّ الإمام الحسين والإمام السجّاد والسيّدة زينب^ أماطوا اللثام في مواطن متعدّدة عن هذه الظاهرة الروحيّة عند أهل الكوفة، وأبرزوا وجهَ نفاقهم الملوَّث بالمكر والخديعة([102]).
ب ـ الحرص على الدنيا ــــــ
يعدّ الحرص على الدنيا، وحبّ المال، النبع والعين الذي تستقي منه العديد من الانحرافات الاجتماعيّة التي أغرقت الكثير من الأُمم. فالإنسان عندما يكون ضعيف الإرادة تجده يبيع دينه بالدنيا عند أدنى اختبار. ولطالما استفاد زعماء الباطل من هذه النقطة، التي تمثّل ضعفاً معنويّاً وروحيّاً عند الناس. لذا تُعدّ من أهمّ أسس سلطة أصحاب الباطل وأدواتهم التي تمكِّنهم في تسلّطهم على المجتمعات البشريّة، وتعتبر عاملاً مهمّاً في انتصارهم في الصراع مع أهل الحقّ. وقد استفاد عُبيد الله بن زياد، في قمعه لأهل الكوفة، ومواجهته لثورة عاشوراء، من هذه الأدوات بأفضل وجهٍ ممكن، فاشترى العديد من كبار القبائل وزعمائهم وأشرافهم بالدرهم والدينار، وجعلهم يقفون إلى جانبه، حتّى عبَّأهم لمحاربة الإمام الحسن×. وقد ذكر الإمام الحسين× في خطبته المشهورة: النَّاسُ عَبِيدُ الدُّنْيَا، وَالدِّينُ لَعْقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ، فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلاءِ قَلَّ الدَّيَّانُونَ([103]).
إنّ هذه الخصلة القبيحة تنبئ عن دناءة أهل الدنيا في انحنائهم وطأطأتهم أمام أدنى متاعٍ زائل من الدنيا، واستهتارهم بالدين. وسنتعرَّض لذكر بعض الشواهد التاريخيّة التي تدلّ على أنّ ابن زياد كان قد اعتمد على ترغيب أهل الكوفة وزعمائها وتطميعهم بالمال؛ لكي يهبّوا إلى حرب الإمام الحسين×:
1ـ عندما سأل الإمام الحسين× مجمع بن عبيد الله ـ وكان أحد أصحاب الإمام، ومن أهل الكوفة، فالتحق به ـ عن أوضاع الكوفة وأهلها أجابه مطمع: أَمّا أَشْرَافُ النَّاسِ فَقَدْ أُعْظِمَتْ رِشْوَتُهُم، وَمُلِئَتْ غَرَائِزُهُم، فَهُمْ إِلْبٌ وَاحِدٌ عَلَيْكَ([104]).
2ـ بعدما ظفر ابن زياد بمسلم بن عقيل، وصارت الكوفة تحت سيطرته، قال في إحدى خطبه، التي اجتمع فيها مع أهل الكوفة، بعد أن أثنى على معاوية: …وهَذَا ابْنُهُ يَزِيدُ مِنْ بَعْدِهِ، يُكْرِمُ العِبَادَ، وَيُغْنِيهِمْ بِالأَمْوَالِ، وَيُكْرِمُهُمْ، وَقَدْ زَادَكُمْ فِي أَرْزَاقِكُمْ مِائَةً مِائَةً، وَأَمَرَنِي أَنْ أُوَفِّرَهَا عَلَيْكُمْ، وَأُخْرِجَكُمْ إِلَى حَرْبِ عَدُوِّهِ الْحُسَيْنِ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَ أَطِيعُوا. ثُمَّ نَزَلَ عَنِ الْمِنْبَرِ، وَوَفَّرَ للنَّاسَ الْعَطَاء([105]).
3ـ وأخيراً ينقل لنا التاريخ الكثير من الأحداث التاريخيّة التي وقعت في عاشوراء وبعدها، والتي تنبئ بأنّ العديد مِن أهل الكوفة كانوا يتسابقون في المشاركة في قتل الإمام الحسين× وأصحابه؛ ليحصلوا على الجوائز والعطايا الموعودة (أعمّ من المال والمناصب الدنيويّة)، وكانوا سعيدين بذلك، يفخرون به([106]).
وإحدى أهمّ تجلّيات حبّ الدنيا والتكالب على الرئاسة ـ بل يعدّ الأنموذج الأتمّ لهذا النوع من حبّ الدنيا ـ هو الذي تجلّى في وجود عمر بن سعد في واقعة كربلاء. فعلى الرغم من أنّ عمر بن سعد لم يكن ممَّنْ دعا الإمام الحسين إلى الكوفة، إلاّ أنّه كان قائداً لجيش ابن زياد في كربلاء، وكان له الدور الأوّل والأبرز في هذه الواقعة. والأمر الذي جرّه إلى قتال الإمام الحسين× هو حبّ الرئاسة؛ لأنّ ابن سعد كان مسحوراً ومأسوراً لرغبته في حكومة الريّ، ولذا ألقى كتاب الدِّين وصحيفة الوِجْدان في بوتقة النسيان، ولوَّث يديه بدم إمام الحقّ؛ رغبةً منه في الوصول إلى الرئاسة، التي شاءت القدرة الإلهيّة أن لا يشمّ حتّى رائحتها، وصار عبرةً من العِبَر المهمّة التي وقعت في عاشوراء، عبرةً للمجتع البشريّ أبد الدهر وعلى امتداد التاريخ([107]).
ج ـ تهديدات ابن زياد ــــــ
تُعتبر تهديدات ابن زياد أحد الأسباب المهمّة التي أدّت بأهل الكوفة إلى أن ينقضوا العهد، وعدم الثبات عليه. فابن زياد كأبيه زياد ابن أبيه في قسوة القلب وسلاطة اللسان، وكان مثالاً في تعذيبه للناس وأذيّتهم، وكان قد جعل أهل الكوفة يرتعبون منه، حتّى فزع الجميع من التجرّؤ على مخالفته، فخضعوا له وأطاعوه. وقد نقل التاريخ أنّ ابن زياد عزم على الصلاة في المسجد بعدما تخلى الناس عن مسلم بن عقيل وبقي وحيداً، فخطب في الناس، وقال: «بَرِئَتْ الذِّمة من رجلٍ من الشرطة والعُرفاء والمناكب (رؤوس العُرفاء) والمقاتلة صلّى العشاء إلاّ في المسجد»([108]).
وبراءة ذمّة الحاكم تعني هدر الدمّ، واستباحة المال. ولا يخفى ما كان لتهديدات ابن زياد من بالغ الأثر في جعل أهل الكوفة ينقضون بيعة الإمام×، إلى الحدّ الذي نقلوا فيه أنّه: «لم يبقَ بالكوفة محتلِمٌ إلاّ خرج إلى العسكر بالنخيلة»([109]).
كما أنّ مقولة الفرزدق: «قلوبهم معك، وسيوفهم عليك» حاكيةٌ عن التهديدات الشديدة التي مارستها الحكومة عليهم؛ لأنّ هذا النوع من المواقف لا يمكن تصوُّره أو تعقّله إلاّ حين يحول بين عقيدة الإنسان وسلوكه حائلٌ قويّ، فلا يستطيع الإنسان حينها أن يُطبِّق معتقداته؛ بسبب الإجبار الذي يمارس عليه، وإلاّ فمن غير الممكن أن يحصل تضادٌّ بين رغبةِ الإنسان وميله الباطنيّ وسلوكِه وتصرُّفه من دون سبب. والتاريخ شاهدٌ على أنّ عدداً كبيراً من الأشخاص الذين أُشخصوا إلى كربلاء هربوا من الجيش حين سنحت لهم فرصةٌ مناسبة لذلك([110]).
د ـ الدعاية السياسيّة عند بني أميّة ــــــ
لقد استطاعت حكومة بني أميّة من خلال امتلاكها لأمهر مخرجي الدعاية والإعلام ـ وقد تربَّع على رأسهم معاوية وعمرو بن العاص ـ، وعبر استخدام الفنون والمهارات الدعائيّة والتبليغيّة طيلة خمسين عامٍ من حكمهم، استطاعوا أن يتسلّطوا على أفكار الناس وعقائدهم وآرائهم الدينيّة والسياسيّة، وحكموهم من خلال تخدير الرأي العام.
فالعمل على وضع الحديث، واغتيال أفراد أهل البيت^، واصطناع الشخصيّات الوهميّة، واختراع الفضائل لأسرة بني أميّة، والتمسُّك ببعض الأصول، من قبيل: لزوم حفظ جماعة المسلمين، واعتبار أيّ نوعٍ من المخالفة أو الاعتراض على الحكومات الأمويّة الجائرة خروجاً على الإمام، كلّ ذلك كان من الأنماط والأساليب البارزة التي استخدمها الأمويّون في التبليغ والإعلام؛ ليكتسبوا شرعيّةً دينيّة وسياسيّة كاذبة، فيمتلكوا حجّةً في معاقبة المخالفين لهم تالياً.
وبالنظر إلى أنّ تاريخ الحكومة الأمويّة كان مشحوناً بوضع الحديث، وابتداع الثقافات التي تحفظ مصالحهم، وترسي دعائم قوَّتهم السياسيّة، سنكتفي بذكر نماذج من تلك الأساليب، وسنحصرها في خصوص ما يتعلّق بالإمام الحسين× والثورة العاشورائيّة:
كان معاوية يُحذِّر الإمام الحسين× ويمنعه من أيّ تحرّك سياسيّ، متوسّلاً بتمسّكه بأصل «الجماعة»، حتّى لا يوجد الفرقة في الجماعة، ولا يشقّ عصا المسلمين، فقال له: انْظُرْ لِنَفْسِكَ وَلِدِينِكَ ولأُمَّةِ مُحَمَّدٍ، وَاتَّقِ شَقَّ عَصَا هَذِهِ الأُمَّةِ، وَأَنْ تَرُدَّهُمْ إِلَى فِتْنَةٍ([111]).
واستغلال الدعاية والإعلام عبر الوجوه الدينيّة المقبولة اجتماعيّاً ـ من قبيل: شريح القاضي ـ كانت من العوامل المؤثِّرة في تفريق الناس عن مسلم بن عقيل، وكان له الأثر البالغ في نجاة عبيد الله بن زياد من حصار أهل الكوفة([112])، ثمّ في تأليب الناس على الإمام الحسين×. وعلى هذا النَسَق نرى أنّ شريحاً القاضي أصدر فتواه بقتل الإمام الحسين×، وقد أمر شَمِر بن ذي الجوْشن أن يُبلّغ هذا الحكم إلى أهل الكوفة: إنّ الحسين بن عليّ خرج على إمام المسلمين وأمير المؤمنين «يزيد بن معاوية»، فيجب على كافّة الناس دفْعُه وقتلُه([113]).
وقد وصلت هذه الدعاية إلى أوجها في كربلاء على لسان عمرو بن الحجّاج ـ الذي كان أحد قادة جيش عمر بن سعد ـ، وذلك عندما تقابل الجيشان وجهاً لوجه، فخطب بجيشه وقال: يا أهل الكوفة، الزموا طاعتكم وجماعتكم، ولا ترتابوا في قتل مَنْ مرَقَ من الدين، وخالف الإمام([114]).
كذلك نجد أنّ عمر بن سعد عندما أصدر أمره بالهجوم على الإمام الحسين×، والبَدْء بقتاله، استخدم مع أهل الكوفة عباراتٍ توحي بشرعيّة هذا القتال، فقال: يا خيل الله، اركبي، وبالجنّة أبشري([115]).
إنّ الإعلام الكاذب لبني أميّة كان فعّالاً إلى الحدّ الذي وصف فيه الإمام الباقر× جيش الكوفة الذي خرج إلى قتال الإمام الحسين× بهذا الوصف: «كُلٌّ يَتَقَرَّبُ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ بِدَمِهِ»([116]).
3ـ 4ـ الخيارات المتاحة أمام الإمام الحسين× بعد نقض الكوفيّين للبيعة ــــــ
كان من الطبيعيّ أن يعيد الإمام الحسين× نظره في إتمام سفره نحو الكوفة بعد تزلزل أهل الكوفة عن موقفهم السابق. ومن هنا ينبغي أن نبحث في الخيارات المحتملة في هذا الوضع، والحلول التي كانت مطروحةً أمام الإمام. ويمكن القول بأنّ الخيارات المطروحة لا تتعدّى ما يلي:
1ـ العودة إلى الحجاز (مكّة أو المدينة).
2ـ الانعطاف نحو ثغرٍ من ثغور المسلمين.
3ـ مبايعة يزيد، والاستسلام لابن زياد.
4ـ الامتناع عن البيعة، والمواجهة المسلّحة، والدفاع عن النفس حتّى الشهادة.
1ـ الخيار الأوّل: العودة إلى الحجاز ــــــ
تشير البيانات التاريخيّة التي وصلتنا أنّ الإمام كان قد عزم في مواطن متعدّدة على الرجوع، لكنْ في كلّ مرّة كان هناك مصلحةٌ معيّنةٌ أو مانعٌ يحول بينه وبين إرادته تلك، فتتعذّر إمكانيّة العودة إلى الحجاز.
وسنعدّد هذه المواطن على سبيل الاختصار:
أـ بعد أن علم الإمام باستشهاد مسلم بن عقيل فكَّر في العودة إلى الحجّاز، إلاّ أنّه إثر مشاورة أصحابه بقي على تصميمه السابق في المسير نحو الكوفة. أضِفْ إلى ذلك أنّ إخوة مسلم كانوا مُصرّين على المضيّ نحو الكوفة؛ للأخذ بثأر مسلم، وكانوا مستعدّين لأن يستشهدوا في هذا السبيل. وقد أيّد الإمام الحسين× رأيهم بعبارته: «لا خَيْرَ فِيْ الْحَيَاةِ بَعْدَ هَؤُلاءِ»([117]).
ومضافاً إلى ذلك أشار بعض الأصحاب عليه بالاستمرار في السير نحو الكوفة، واستدلّوا على ذلك بأنّ منزلة الإمام الحسين× وشخصيّته الاجتماعيّة عند أهل الكوفة كبيرة، لا يمكن مقارنتها بمسلم بن عقيل، وأنّ العديد من القوّات المتفرّقة في تلك المدينة ستلتفّ من جديد حول الإمام بمجرّد دخوله الكوفة، وهذا الأمر سيؤدّي إلى إسقاط حاكم العراق، وانتصار الإمام عليه، حيث قيل له: وَاللهِ، مَا أَنْتَ مِثْلَ مُسْلِمِ بْنِ عَقِيلٍ، وَلَوْ قَدِمْتَ الْكُوفَةَ لَكَانَ أَسْرَعَ النَّاسُ إِلَيْك([118]).
ب ـ بعد أن تلاقى جيش الإمام× مع جيش الحُرّ بن يزيد خطب الإمام بجيش الحُرّ مرّتين، فبيَّن علّة سفره نحو الكوفة ـ وهو نفس دعوتهم هم للإمام ـ، طالباً منهم الثبات على العهد، والالتحاق به، حتّى يدخلوا الكوفة بمعيَّته. لكنْ بعد أن أظهر الحُرّ عدم اطّلاعه على دعوة أهل الكوفة له، ولا على رسائلهم، عزم الإمام على العودة نحو الحجاز، وقال: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا، وَكُنْتُمْ لِمَقْدَمِي كَارِهِينَ، ولقُدُومِي عَلَيْكُم بَاغِضِينَ، انْصَرَفْتُ عَنْكُمْ إِلَى المَكَانِ الَّذِي جِئْتُ مِنْهُ إِلَيْكُمْ([119]).
إلاّ أنّه رغم ذلك بقي جيش الحُرّ حائلاً بين الإمام وبين الرجوع إلى الحجاز.
ج ـ في المفاوضات التي جرت بين الإمام الحسين× وعمر بن سعد في كربلاء، حيث كان الإمام قد اقترح المصالحة والعودة مرّاتٍ عدّة ـ سواءٌ في المفاوضات الخاصّة التي عقدها مع عمر بن سعد أم في حضور جيش الكوفة ـ، إلاّ أنّ ابن زياد لم يقبل بشيءٍ من تلك المقترحات([120]).
وبناءً على هذا ينبغي علينا أن نفكِّك بين مسألتين في ثورة الإمام الحسين×:
الأولى: أصل قيام الإمام×، واعتراضه على الوضع الموجود، وامتناعه عن بيعة يزيد.
والثانية: نفس واقعة كربلاء. فمن المسلّم أنّ أصل الثورة يتَّسم بالطابع الاحتجاجيّ، والإمام الحسين× قام لمحاربة البدعة والظلم الاجتماعيّ اختياراً، لا عن إجبار. لكنّ سبب حصول نفس واقعة كربلاء المؤلمة لم يكن الإمام الحسين×، ولا أصحابه، بل إنّ صانعي هذه الواقعة المَرْفوضة، والحرب المَفْرُوضة، ليسوا إلاّ الطغمة الحاكمة، وعمّالها الغلاظ قصيري النظر، أمثال: يزيد، وابن زياد، وعمر بن سعد. وموقف الإمام الحسين في هذه الواقعة لم يكن إلاّ موقف المدافع، ولم يكن لديه أيّ دور هجوميّ، أو القيام بثورة ابتدائيّة، في تلك الحادثة أبداً.
2ـ الخيار الثاني: الانعطاف نحو ثغرٍ من ثغور المسلمين ــــــ
وممَّنْ أشار على الإمام بهذا المُقترح كلٌّ من: محمّد بن الحنفيّة في المدينة([121])، والطرمّاح بن عدي بعد أن تلاقى الإمام مع جيش الحُرّ. إلاّ أنّه× ردَّ اقتراحهم هذا من خلال استدلاله بأنّ جيش الكوفة لا ينحصر بجيش الحُرّ بن يزيد، وأنّ ابن زياد قد جمع له جمعاً كبيراً، فقال لهم: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ القَوْمِ مَوْعِداً أَكْرَهُ أَنْ أُخْلِفَهُمْ، فَإِنْ يَدْفَعِ اللهُ عَنَّا فَقَدِيماً مَا أَنْعَمَ عَلَيْنَا وَكَفَى، وَإِنْ يَكُنْ مَا لا بُدَّ مِنْهُ فَفَوْزٌ وَشَهَادَة([122]).
ويروى أنّ ابن عبّاس أشار أيضاً بهذا الحَلّ على الإمام الحسين× عندما كان الإمام في مكّة، إلاّ أنّ الإمام لم يرتضِه([123]).
3ـ الخيار الثالث: مبايعة يزيد، والاستسلام لابن زياد ــــــ
وقد كان هو الطرح الأساس لعمّال الحكومة على الإمام، وفي أكثر من موطن:
أوّلاً: قبل بَيْعة أهل الكوفة ودعوتهم، وذلك حين أحضر الوليد بن عتبة ـ الذي كان والي المدينة ـ الإمام× في الليل، وطلب منه البيعة ليزيد، لكنَّ الإمام رفض طلبه بشدّة. وكذلك الأمر مع مروان بن الحكم، حيث كان من الذين حثّوا الإمام على التسليم([124]).
ثمّ في كربلاء تالياً، حيث طالب كلٌّ من: ابن زياد، وعمر بن سعد، الإمام أن يستسلم وأن يبايع، لكنَّ الإمام واجههم بشدّة، وامتنع عن طلبهم أشدّ امتناع.
والملاحَظ أنّ الإمام الحسين× كان قد واجه هذه الشرذمة بكلماته وشعاراته الحماسيّة، التي سطّرت دَرْساً للبشريّة، يعلِّمهم فيها الاستقامة والعزّة ورفض الذلّ، فأصبح نموذجاً وأُسوةً لعُشّاق الحريّة.
وبعض كلمات الإمام تحكي رفضه الشديد لبيعة يزيد:
أـ أجاب الإمام الحسين× طلب الوليد بن عتبة بهذا الجواب: …وَيَزِيدُ رَجُلٌ فَاسِقٌ، شَارِبُ الخَمْرِ، قَاتِلُ النَّفْسِ المُحْتَرمَةِ، مُعْلِنٌ بِالفِسْقِ، وَمِثْلِي لا يُبَايِعُ مِثْلَه([125]).
ب ـ كما أجاب الإمام أخاه محمّد ابن الحنفيّة فقال: يَا أَخِي، وَاللهِ، لَوْ لَمْ يَكُنْ مَلْجَأٌ وَلا مَأوىً، لَمَا بَايَعْتُ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَة…([126]).
ج ـ وقال في جوابه لعمر بن سعد، الذي طلب جواباً على رسالة ابن زياد (والتي كانت تتضمَّن طلباً بالتسليم والبيعة): لا أُجِيبُ ابْنَ زِيَادٍ بِذَلِكَ أَبَدَاً، فَهَلْ هُوَ إِلاّ المَوْتُ؟! فَمَرْحَبَاً بِهِ([127]).
د ـ وكان من جوابه لابن زياد أنْ قال: أَلا وَإِنَّ الدَّعِيَّ ابْنَ الدَّعِيَّ قَدْ رَكَزَ بَيْنَ اثْنَتَيْن: بَيْنَ السِّلَّةِ وَالذِّلَّةِ، وَهَيْهَات مِنِّا الذِّلَّة([128]).
4ـ الخيار الرابع: الامتناع عن البيعة، والمواجهة المسلَّحة ــــــ
عندما ترخي الخصومة بظلالها على الحروب، ولا تصل المفاوضات إلى حَلٍّ أو صلح، عندها تصبح الطلبات المتقابلة متضادّةً إلى أقصى حدٍّ، فيحلّ التشنّج والاحتكاك. وفي هذه الصورة تصبح المواجهة العسكريّة بين الطرفين حتميّةً، ولا يمكن اجتنابها. وفي واقعة عاشوراء بعد أن تعذَّر على الإمام الحسين× الالتزام بأحد الحلول الثلاثة السابقة لم يعُدْ من مناصٍ في هذه المأساة والأزمة سوى الاشتباك المسلَّح، والدفاع حتّى الشهادة. فنرى أنّ الحكومة (وهي الطرف الأوّل) لا تريد غضّ الطرف عن طلب البَيْعة من الإمام، وتريد أن تنتزع منه البَيْعة مهما كلَّف الثمن، وإلاّ فإنَّها ستلجأ إلى تصفيته جسديّاً، وهو الأمر الذي أزاح الستار عنه الإمام الحسين× في أكثر من موطن([129]). ثمّ في الطرف الآخر نجد أنّ الإمام الحسين× قد امتنع امتناعاً شديداً عن الاستسلام والبَيْعة، طبقاً لما بيَّناه حين عرض كلماته× في الخيار الثالث.
3ـ 5ـ عامل «دعوة أهل الكوفة» في الميزان ــــــ
يعتبر عامل «دعوة أهل الكوفة» ـ إذا ما قورِن مع سائر العلل والأسباب الأخرى للثورة العاشورائيّة ـ أقلّ العوامل التي كان لها الدور في تلك الثورة، والتأثير الوحيد الذي يمكن أن يُنسب إلى هذا العامل هو دور العلّة الصوريّة([130]) وتأثيرها، فهو؛ ولأسباب عديدة، ليس له أيّ أصالة أو استقلال:
1ـ عندما شرع الإمام الحسين× بثورته، وعقد العزم على مخالفة يزيد، لم يكن هناك لرسائل أهل الكوفة أيّ ذكر. وبالتالي فإنّ «دعوة أهل الكوفة» لم تكن العامل وراء الثورة والسبب الرئيس لها، بل هي بنفسها كانت معلولةً لثورة الإمام واعتراضه على الوضع الموجود.
2ـ من لوازم القول بكون «دعوة أهل الكوفة» هي الأصل هو أن ينفض الإمام الحسين× يده من مخالفة يزيد بعد اطِّلاعه على نقض أهل الكوفة للعهد والبَيْعة، وأن يسلِّم ويستسلم ويبايع، مع أنّنا نجد أنّ الإمام زاد إصراراً على ما كان مصمِّماً عليه بعد أن علم بعدم ثبات أهل الكوفة على مواجهة يزيد، وبحسب تعبير الشهيد مطهّري: «ما كانت خطبه الناريّة اللاهبة إلاّ بعد علمه بحقيقة الأوضاع في الكوفة»([131]).
3ـ إذا اعتبرنا أنّ العامل الأساس والدافع في ثورة عاشوراء هو دعوة أهل الكوفة كان من اللازم ـ حَتْماً ـ على الإمام الحسين× أن يحتاط أكثر حين تقييم دعوة أناس مجرَّبين ومعروفين بالغدر، ومن ثَمّ الاعتماد عليها. وعليه كان ينبغي له أن يعمل بنصيحة أمثال ابن عبّاس والفرزدق، الذين قالوا له: إنّي أتخوَّف عليك في هذا الوجه الهلاك…([132])؛ قلوبهم معك، وسيوفهم مع بني أميّة([133]).
بَيْد أنّنا نرى أنّ جواب الإمام لهم كان كالتالي: «ليْسَ يَخْفَى عَلَيَّ الرَّأيُ»([134])؛ و«إِنْ حَالَ القَضَاءُ دُوْنَ الرَّجَاءِ فَلَنْ يَتَعَدَّى مَنْ كَانَ الحَقُّ نِيَّتَهُ، وَالتَّقْوَى سَرِيرَتَهُ»([135]).
4ـ تعدّ دعوة أهل الكوفة من الناحية الزمنيّة عاملاً مؤقَّتاً؛ لأنّ هذا العامل لا يغطّي نقطة شروع الثورة، ولا نقطة انتهائها. فأصل دعوة أهل الكوفة بدأت بعد إقامة الإمام في مكّة، كما أنّها خُتمت حتَّى قبل أن يصل الإمام إلى أرض العراق.
وعلى هذا الأساس لم يكن لعامل دعوة أهل الكوفة إلاّ التأثير الصوري على الثورة العاشورائيّة؛ أي كانت هي الباعث لخروج الإمام الحسين× من الحجاز، والانطلاق نحو الكوفة، وبالتالي استشهاده في مكان محدَّد (كربلاء)، وعلى يد أفراد معيَّنين (الكوفيّين)، وفي زمن مخصوص (عاشوراء). ولذا لو لم يكن هذا العامل موجوداً ضمن سلسلة عوامل عاشوراء، ومنحصراً في حدود العامل الصوريّ، لكان من الممكن استشهاد الإمام الحسين× بنحوٍ مختلفٍ، وفي مكانٍ آخر، وعلى يد أُناسٍ آخرين ـ غير أهل الكوفة ـ من أزلام حكومة يزيد، كعمّال بني أميّة الذين كانوا يخطِّطون لقتل الإمام أو اغتياله في حَرَم الله الآمن مكّة، لكنْ مع اطّلاع الإمام وتحرُّكه السريع باءت خطّتهم بالفشل.
النتيجة ــــــ
قُمْنا في هذه المقالة بدراسة ثلاثة عوامل رئيسة من العوامل «السيواجتماعيّة» لحصول ثورة عاشوراء. وقرَّرنا أنّ السبب الأهمّ الذي يتربَّع على رأس الأسباب الباعثة على الثورة الحسينيّة هو الانحرافات المتعدِّدة التي برزت في الأمّة الإسلاميّة في عهود حكومة بني أميّة المختلفة، سواءٌ الانحرافات الدينيّة أم السياسيّة أم الاجتماعيّة أم الاقتصاديّة أم الثقافيّة، وكان من أبرزها جعل الخلافة وراثةً بين أفراد بني أميّة، وتنصيب يزيد وليّاً للعهد، فضلاً عن انحرافاتهم الأخرى التي تؤكِّد هذا السبب. وانتخاب عنوان قابل للتعميم يعنون السبب الأوّلي يمكنه أن يُشكِّل قدراً مشتركاً للعديد من الأمور التي لها الصبغة التعليليّة في حصول ثورة عاشوراء.
أمّا السبب الثاني، الذي كان له أثر في حصول الثورة العاشورائيّة، فهو عبارة عن «المطالبة بالبَيْعة ليزيد بن معاوية». وفي الحقيقة إنّما نشأ الصدام الواقعي، ووقعت معركة عاشوراء؛ بسبب إصرار الحاكم الأمويّ على أخذ البَيْعة من جهة، ثمّ امتناع الإمام الشديد عن البيعة والتسليم في الجهة المقابلة.
وأمّا العامل الثالث، الذي حاز من بين علل وعوامل ثورة الإمام الحسين× على مقام العلّة الصوريّة والشكليّة، أو كان مقدّمة للعلّة الصوريّة، فهو «دعوة أهل الكوفة للإمام». فهذا العامل لم يكن له أيُّ دورٍ في أصل ثورة الإمام الحسين×، وأثرُه ينحصر في إضفاء الشكل الخارجيّ للثورة العاشورائيّة، وفي تحديد الإحداثيّات الزمانيّة والمكانيّة لأحداث عاشوراء، مضافاً إلى تحديد الأشخاص الذين ستقع عليهم مسؤوليّة تلك الحادثة العظيمة.
وقد اتَّضح خلال دراسة أسباب تلك الثورة أنّ اهتمام الإمام الحسين× بإصلاح الانحرافات التي ظهرت بفعل الهيئة الحاكمة، وضرورة تغيير النظام السياسيّ والاجتماعيّ عند المسلمين، هو الذي كان وراء امتناع الإمام الشديد عن البيعة ليزيد بن معاوية.
ومن جهة أُخرى كان لانتشار خبر اعتراض الإمام على الوضع الموجود في الأقطار الإسلاميّة ـ ومن جملتها: مدينة الكوفة ـ الأثر الكبير في حصول دعوة أهل الكوفة له. وفي النتيجة سيصبح الترتيب المنطقيّ في طرح الأسباب الثلاثة معلوماً بشكلٍ جليّ.
وكذلك الأمر حين دراسة امتداد زمن تأثير هذه العلل؛ فقد صار واضحاً بأنّ السببين الأوّل والثاني كان لهما انطباقٌ كامل على الثورة العاشورائيّة، وأنّهما يغطّيانها منذ شرارة الانطلاق وحتّى آخر اللحظات الفاجعة؛ في حين أنّ السبب الثالث لا يتعدّى تأثيره إلاّ إلى زمان وصول خبر استشهاد مسلم بن عقيل ـ طبعاً في حدود التأثير الصوريّ، كما ذكرنا ـ، ولكنْ بعد ذلك لا يمكن أن نعدّه ضمن علل وأسباب الثورة العاشورائيّة.
الهوامش
(*) أستاذٌ في الحوزة والجامعة.
([1]) أي تلك التي لها الطابع السياسيّ والاجتماعيّ في آنٍ واحد. (المترجم).
([2]) من النماذج البارزة لهذا الصدام الفكريّ اختلاف الرؤية الموجود بين الكتابين التحليليّين «شهيد جاويد» (فارسي) و«شهيد آگاه» (فارسي) .
([3]) مرتضى مطهري، مجموعه آثار 17: 146، 149، 214.
([4]) بحار الأنوار 44: 923؛ الخوارزمي، مقتل الحسين 1: 188 ـ 189 (خطب خوارزم).
([5]) ابن شعبة الحرّاني، تحف العقول: 243.
([6]) نهج البلاغة: 120، الخطبة 87.
([7]) نهج البلاغة: 137، الخطبة 93.
([8]) قال أبو سفيان في بيت عثمان: «تلقَّفوها تلقّف الكرة، أما والذي يحلف به أبو سفيان، لا جنّة ولا نار، وما زِلتُ أرجوها لكم، ولتصيرنَّ إلى صبيانكم وراثةً». (مرتضى مطهّري، مجموعه آثار (فارسي) 17: 438، 484).
كذلك كان العلامة الوحيد البهبهاني يرى أنّ شهادة الإمام الحسين× هي أثر من آثار غصب خلافة الأئمّة^، وينسب مضمون المقولة المذكورة في الأعلى إلى الأئمّة، فيقول: كان الأئمّة^ يقولون دائماً: «مَا قُتِلَ الحُسَيْنُ إلاّ يَوْمَ السَّقِيْفَةِ ». (محمد باقر البهبهاني، رسالة أصول الدين، مبحث الإمامة، «بدون أرقام صفحات»، من النسخة الخطّيّة لمكتبة آية الله الگلبايكاني، رقم 6 / 62.
وقد أشار كذلك الشاعر الشيعي مهيار الديلمي الذي عاش في القرن الرابع إلى هذه الحقيقة في أشعاره، حيث يقول:
فيوم السقيفة يا ابن النبيّ *** طرّق يومك في كربلا
(الأميني، الغدير 4: 249).
([10]) بحار الأنوار 44: 334 ـ 335؛ المفيد، الإرشاد: 381، مع اختلافٍ يسير.
([11]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ 4: 47.
([12]) أقول: إن عبارة كاتب المقال توحي وكأنّ تكليف الإمام× من الله هو الخروج والقيام على معاوية. ولكنْ لما رأى الإمام أنّ الظروف غير مؤاتية لذلك فقد طلب المعذرة من الله عزَّ وجلَّ حتّى تصبح الظروف مؤاتية أكثر!! وفيه: إنّ الإمام× لم يكن إلاّ تجلّياً تامّاً لإرادة الله عزَّ وجلَّ، والمظهر الأتمّ لمظاهره تعالى، ولذا لا يُتصوَّر أن يكون هناك أدنى تفاوت بين إرادة الساحة القدسيّة للربّ المتعال وبين تصرّف الإمام×، والله العالم. (المترجم).
([13]) عبد الله البحراني، العوالم 17: 92، ح6؛ محسن الأمين، أعيان الشيعة 1: 583.
([15]) راجع: شرح ابن أبي الحديد 16: 161؛ الغدير 11: 74.
([23]) راجع: مروج الذهب 2: 3؛ وراجع أيضاً: الغدير 11: 28.
([24]) راجع: الغدير 11: 16 ـ 18.
([25]) راجع: الغدير 11: 61 ـ 62.
([26]) راجع: الغدير 11: 8 ـ 12.
([27]) راجع: الغدير 11: 64 ـ 67.
([29]) مجموعة من المحقّقين، موسوعة كلمات الإمام الحسين×: 276.
([31]) الكامل في التاريخ 4: 48.
([32]) تاريخ الطبري 5: 338؛ المفيد، الإرشاد: 373.
([33]) أحمد بن أعثم الكوفي، الفتوح 5: 19.
([34]) الخوارزمي، مقتل الحسين 1: 184؛ أحمد بن أعثم الكوفي، الفتوح 5: 14.
([35]) ابن الأثير، النهاية 1: 174.
([36]) الصافي الگلبايكاني، پرتوی أز عظمت حسين× (فارسي): 336.
([37]) سنبحث لاحقاً آثار بيعة الإمام الحسين× ليزيد بن معاوية بنحوٍ من التفصيل.
أقول: إنّ هذا الإشكال لو سلّمنا بصحّته فسيرد على الإمام زين العابدين× أيضاً، بل وعلى كلّ الأئمّة من بعده، إلى الزمن الذي توقّف فيه سبّ أمير المؤمنين×، وذلك إذا غضضنا الطرف عن باقي التبعات التي ستبقى على ما هي عليه.
وللتخلّص من هذا الإشكال نقول: لمّا كان ظرف الإمام الحسين× السياسيّ يختلف عن ظرف باقي الأئمّة^ من ناحية الموقعيّة الشخصيّة (كونه حفيد رسول الله|، وكونه المعيّن في صلح الإمام الحسن× ليكون الخليفة من بعد معاوية)، ويختلف أيضاً من ناحية الخصوصيّات الزمانيّة والسياسيّة الأخرى، التي سيتعرّض الكاتب المحترم لها، لذا يمكن القول: إنّ تكليف الإمام× كان يختلف عن تكليف سائر الأئمّة من بعده. ولعلّ هذا الأمر ممّا يمكن أن يساعد على فهم مراد كاتب المقال؛ لأنّه هنا في صدد بيان الوضع الديني الصعب الذي كان يواجهه الإمام، والذي يشكّل جزء علّة لخروجه، لا أنّه في صدد بيان العلّة الانحصاريّة لخروج الإمام، والله العالم. (المترجم).
([38]) محسن الأمين، أعيان الشيعة 1: 584.
([39]) كان العلاّمة المجلسيّ يعتقد بهذا الأمر أيضاً. فهو يرى أنّ الهدف النهائيّ للزمرة الحاكمة في طلبها البيعة من الإمام الحسين× كان إقصاء الوجود الخارجيّ للرقيب المقتدر على يزيد عن المسرح السياسيّ، ونجده يقول في هذا الصدد: «بل الظاهر أنّه صلوات الله عليه لو كان يسالمهم ويبايعهم لا يتركونه؛ لشدّة عداوتهم، وكثرة وقاحتهم، بل كانوا يغتالونه بكلّ حيلة، ويدفعونه بكلّ وسيلة، وإنّما كانوا يعرضون البَيْعة عليه ـ أوّلاً ـ؛ لعلمهم بأنّه لا يوافقهم في ذلك…». (بحار الأنوار 45: 99).
([41]) موسوعة كلمات الإمام الحسين×: 473.
([42]) بحار الأنوار 45: 100؛ ابن الأثير، الكامل في التاريخ 4: 6؛ تاريخ الطبري 5: 322.
([43]) وقف مروان بن الحكم بعد استشهاد الإمام الحسين× أمام قبر النبيّ| وقال: «يا محمّد، يومٌ بيوم بدر». (الخوارزمي، مقتل الحسين 2: 59).
أقول: لم أجد هذا التخريج في المصدر المشار إليه من كتاب مقتل الخوارزمي، بل ولا في كلّ كتابه، ولكنْ وجدته في بحار الأنوار 34: 287، نقلاً عن شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد. (المترجم).
([44]) سيماي إمام حسين× (فارسي): 143 ـ 144.
([45]) أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين: 45.
([46]) هذا ما ورد في صلح الإمام الحسن×. (راجع: الفتوح 4: 293).
أقول: نعم، لقد رُويَتْ هذه الفقرات من الصلح في عدّة كتب، كان من بينها بحار الأنوار. إلاّ أنّنا نلفت نظر القارئ الكريم إلى أنّ العالم الفذّ الشيخ راضي آل ياسين طيَّب الله ثراه، الذي ألّف كتاباً جليلاً بحث فيه صلح الإمام الحسن×؛ لبيان حقيقة هذا الصلح، سمّاه «صلح الحسن»، قد ذكر في الصفحة 258 من كتابه المذكور ما هذا نصّه: «…وتتبعنا المصادر التي يُسِّر لنا الوقوف عليها فلم نر في ما عرضته من شروط الحسن× إلاّ النُتَف الشوارد، التي يعترف رواتها أنّها جزءٌ من كُلّ، وسَجَّل مصدرٌ واحدٌ صورةً ذات بَدْءٍ وختامٍ…» إلى أنْ قال: «لكنّها جاءت في كثير من موادّها منقوضة بروايات أخرى، تفضلها سنداً، وتزيدها عدداً»، بعد ذلك تعرَّض& للبنود، التي أحصاها، ورتّبها، فذكر بنداً هو شاهدنا، حيث يقول: «المادّة الثانية: أن يكون الأمر للحسن من بعده، فإنْ حدث به حدث فلأخيه الحسين، وليس لمعاوية أن يعهد به لأحد». ونحن نقول: إنّ هذا البند الذي نقله الشيخ راضي آل ياسين أقرب إلى التصوُّر من البند المنقول في مقالة الكاتب؛ حيث لا يُتصوَّر من الإمام الحسن× أن يجعل الأمر شورى بعد معاوية، وخصوصاً أنّ الناس كانت قد بايعت الحسن× قبل أن يصالح معاوية! وإنْ كان الأمر كذلك فإنّ البند الذي نقله الشيخ آل ياسين أجدر في أن يكون سبباً لعدم قبول الإمام الحسين المبايعة ليزيد؛ لما في ذلك من تناقض مع بنود العهد التي تعيد الخلافة إليه× بعد معاوية على نحو قانونيّ وشرعيّ، فكيف لا يتمسَّك بمستندٍ كهذا، والله العالم. (المترجم).
أقول: تأييداً لما بيَّناه في الهامش السابق فإنّ هذه الرواية التي نقلها الكاتب المحترم هنا جاءت في كتاب الفتوح 5: 12 على النحو التالي: «فقال له ابن الزبير: فاعلم يا بن عليّ أنّ ذلك كذلك، فما ترى أن تصنع إنْ دُعيت إلى بيعة يزيد، أبا عبد الله؟ قال: أصنع أنّي لا أبايع له أبداً، لأنّ الأمر إنّما كان لي من بعد أخي الحسن، فصنع معاوية ما صنع، وحلف لأخي الحسن أنّه لا يجعل الخلافة لأحدٍ من بعده من ولده، وأن يردها إليّ إنْ كنتُ حيّاً، فإنْ كان معاوية قد خرج من دنياه ولم يفي لي ولا لأخي الحسن بما كان ضَمِن فقد والله أتانا ما لا قِوام لنا به. انظر أبا بكر، أنّى أبايع ليزيد، ويزيد رجل فاسق، معلن الفسق، يشرب الخمر، ويلعب بالكلاب والفهود، ويبغض بقيّة آل الرسول؟! لا واللهِ، لا يكون ذلك أبداً ». وبذلك يصبح جليّاً للمدقِّق صحّة ما رجَّحناه من كلام الشيخ آل ياسين. مضافاً إلى ذلك نلفت عناية القارئ إلى أنّ الرواية لم تذكر أنّ الكلام كان قد جرى مع الوليد بن عتبة ومروان بن الحكم، كما ذكر كاتب المقال في الأعلى، بل كانت جواباً على عبد الله بن الزبير. بل الجدير بالذكر أنّه مع الرجوع إلى مقتل الخوارزمي، الذي أرجع إليه الكاتب، وجدناه يرويها كما أوردناها جواباً عن ابن الزبير. ولعلَّ نسبتها إلى الوليد ومروان كان من سَهْو قلم الكاتب، والله أعلم.(المترجم).
([48]) من الملاحَظ أنّ يزيد من قبيلة قريش، التي كانت تسكن مكّة المكرَّمة، وكانت مكّة بالنسبة إلى سائر المناطق في الجزيرة العربية بمثابة المنطقة الأكثر تحضُّراً؛ باعتبارها النقطة التي تجمع مختلف أطياف المجتمع العربيّ؛ لكونها محطّة تجارية هامّة بين اليمن والشام، وقد وصفها القرآن الكريم بـ «أمّ القرى»، بالإضافة إلى ما تمثِّله من مكان يحجّ إليه الناس من كافة الأطراف. لذا لا يمكن عدّ يزيد من أهل البادية، وإنْ كانت أخلاقه أسوأ ممّا عليه أولئك. (المترجم).
([49]) مضافاً إلى أنّ يزيد كان بدويّاً في تربيّته كانت تربيته مسيحيّة أيضاً؛ ذلك أنّ أمّه كانت من قبيلة بني كلب، وكانوا من النصارى قبل الإسلام. ومن البديهي أنّ نزعات أمّه لها تأثيرها البالغ عليه. كما أنّ بعض وزرائه كانوا مسيحيّين؛ وذلك لمجاورة الشام للروم. (انظر: پرتو أز عظمت حسين× (فارسي): 264 ـ 265).
([50]) الصافي الگلبايكاني، پرتو أز عظمت حسين× (فارسي): 184.
([51]) الكامل في التاريخ 4: 127.
([52]) عبد الحسين أحمد الأميني، الغدير 10: 248، 256.
([53]) ابن الجوزي، تذكرة الخواصّ: 260 ـ 261.
([54]) مرتضى مطهّري، مجموعه آثار (فارسي) 17: 404.
([55]) محسن الأمين، أعيان الشيعة 1: 584.
([56]) ورد في أصل المقالة الفارسيّة أنّه كنّاه بأبي قبيس، وهو اشتباهٌ واضح، ولعلّه من سهو القلم؛ فأبو قبيس اسم جبل. ولكنْ بعد رجوعنا إلى المصدر الذي اعتمده الكاتب، وهو مجموعة آثار الشهيد مرتضى مطهّري، وجدنا أنّ المذكور هو أنّه كنّاه بـ «أبي قيس». (المترجم).
([57]) راجع مرتضى مطهّري، مجموعه آثار (فارسي) 17: 506.
([58]) الأميني، الغدير 10: 255 ـ 256.
([60]) الكامل في التاريخ 4: 48.
([61]) مرتضى مطهّري، مجموعه آثار (فارسي) 17: 454.
([62]) تاريخ الطبري 5: 404؛ بحار الأنوار 44: 381؛ نور الدين الحسيني المرعشي التستري، إحقاق الحقّ 11: 605.
([64]) أقول: لو أنّ حقيقة الأمر كما ذكر كاتب المقال للزم الإشكال الذي تفضَّل به على كلٍّ من: الإمام عليّ× (على القول بمبايعته أبا بكر وعمر وعثمان إكراهاً)، وللزم الإشكال بنحوٍ أكبر على الإمام الحسن×؛ لأنّه بايع معاوية، وللزم الإشكال عينه على الإمام السجّاد الذي بايع يزيد (مكرَهاً) بعد استشهاد والده، وللزم أيضاً على كلّ الأئمّة^ بعد الإمام السجّاد، الذين لم نرَ أحداً منهم امتنع عن بيعة حاكم الجَوْر في زمانه، مع كلّ الرذائل التي سجَّلها التاريخ على هؤلاء الحكّام. وقد روت السير والتواريخ بيعة الإمام السجّاد× ليزيد على نحو التواتر، ونحن نكتفي بما نقله ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه على نهج البلاغة 3: 249، حيث يقول: «وأخذ البيعة (مسلم بن عقبة قائد جيش يزيد الذي غزا المدينة) ليزيد بن معاوية على كلّ مَنْ استبقاه من الصحابة و التابعين على أنّه عبدٌ قِنٌّ لأمير المؤمنين يزيد بن معاوية، هكذا كانت صورة المبايعة يوم الحَرَة، إلاّ عليّ بن الحسين بن علي×، فإنَّه أعظمه، وأجلسه معه على سريره، وأخذ بيعته على أنّه أخو أمير المؤمنين يزيد بن معاوية وابن عمه؛ دفعاً له عمّا بايع عليه غيره، وكان ذلك بوصاة من يزيد بن معاوية له». ونحن هنا نقرِّر دَفْعاً للإشكال: إنّ أفعالهم^ كان عن بصيرةٍ ودراية، فكانوا ينظرون إلى أمر الله في كلّ واقعة، ويتصرّفون على حسبه، لا بحسب المصالح الظاهريّة للناس، وبحسب الرغبات النفسانيّة. ومن الشواهد على ما نقول قول الإمام الحسين× لابن الحنفيّة: «شاء الله أن يراني قتيلاً»، مع أنّ ذلك (القتل) من أسباب التقيّة. ولكنْ لمّا كانت مشيئة الله حاكمة لذا لم يعمل بالتقيّة، والله العالم. أمّا تحليل حقيقة المصالح الواقعية التي كانت في تركه للتقيّة وخروجه فممّا لا يسعه المقام. (المترجم).
([65]) قال أبو سفيان في بيت عثمان: «يا بني أميّة، تلقّفوها تلقّف الكرة، أما والذي يحلف به أبو سفيان، لا جنّة ولا نار، وما زِلتُ أرجوها لكم، ولتصيرنَّ إلى صبيانكم وِراثة». (مرتضى مطهري، مجموعه آثار (فارسي) 17: 438، 484).
([66]) المفيد، الإرشاد: 450؛ تاريخ الطبري 5: 425، 427.
([67]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 1: 302؛ الطبرسي، الاحتجاج 2: 300.
([68]) الإربلي، كشف الغمّة 2: 32؛ إبراهيم الميانجي، العيون العَبْرى: 72.
([69]) بحار الأنوار 44: 192، ح4.
([70]) پرتو أز عظمت إمام حسين× (فارسي): 338.
أقول: إنّ ما تفضَّل به الكتاب من وجوب حفظ النفس المحترمة عن الذلّة والمهانة صحيحٌ، لكنْ لا ينبغي أن ننسى أنّ هناك قواعد أخرى ينبغي مراعاتها، ومنها: وجوب حفظ النفس بالتقيّة عند خوف القتل أو الضرر. وعند تعارض القواعد لا بُدَّ من حلّ هذا التعارض؛ إمّا بالجمع العرفيّ؛ أو بجعل إحدى القواعد حاكمة على القاعدة الأخرى. ومن هنا نقول: نحن نخالف الكاتب في اعتباره أنّ الإمام كان ينبغي أن يمتنع عن البيعة ليزيد؛ لحفظ نفسه عن المهانة، حتّى لو كلّفه ذلك نفسه. فنردّ عليه بالنقض، ونقول: إنّ الإمام السجّاد× قام بمبايعة يزيد، مع أنّ الظرف كان في فترته أكثر مهانة وذلّة، بحسب الظاهر. ونردّ عليه بالحلّ، فنقول: إنّ الأئمّة^ ـ والإمام الحسين× منهم ـ لا يرَوْن باعثاً في إقدامهم على أيّ أمرٍ أو امتناعهم عنه إلاّ أمر الله وتكليفه، ولذا هم من الناحية الثبوتيّة على أتمّ استعداد للإقدام على تنفيذ التكليف الإلهيّ مهما كان الثمن، وحتّى لو كلَّفهم بذل المهج، أو إراقة ماء الوجه والكرامة. فمَنْ يضحّي بالنفس والأولاد والأصحاب، ويعرِّض نساءه للسبي، مستعدٌّ لطاعة الله حتّى لو كان في ذلك ذلّة ومهانة، ما دام في تلك الذلة والمهانة رضاه، أَوَلَيْس نفس الإمام× هو القائل يوم عاشوراء:
الْمَوْتُ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ الْعَارِ *** وَالْعَارُ خَيْرٌ مِنْ دُخُولِ النَّارِ
(راجع: بحار الأنوار 44: 191).
ألا ترى أنّ الإمام رتَّب الأولويّات وجعل العار أَوْلى من عصيان الله، وهو المؤدِّي إلى دخول النار. فهذا شاهدٌ على ما نقول، والله العالم. (المترجم).
([72]) ابن الجوزي، تذكرة الخواصّ: 235؛ أبو الفرج الأصفهاني، مقاتل الطالبيين: 80. كذلك ورد في خطبة للسيّدة زينب÷ تخاطب فيها يزيد بن معاوية: «يا يزيد، فكِدْ كيدك، واسْعَ سعيك، وناصِبْ جُهدك، فواللهِ، لا تمحو ذكرنا، ولا تميتُ وحينا»، ويستفاد من ذلك أنّ المراد الأصليّ والهدف الرئيس عند يزيد كان إطفاء شعلة الدين الإسلاميّ، ومحو أصحاب الرسالة من أهل البيت^ عن وجه الأرض. (راجع: عباس القمّي، منتهى الآمال: 527).
([73]) المرتضى علم الهدى، تنـزيه الأنبياء: 270.
([74]) الطوسي، تلخيص الشافي 4: 181 ـ 188.
([75]) مقدّمة ابن خلدون: 216 (نقلاً عن: شهيد جاويد [فارسي]: 179 ـ 182).
([76]) القاضي ابن العربي، العواصم والقواصم: 232.
([77]) إنّ نظريّة هذا الكتاب قائمة على أساس أنّ قيام الإمام الحسين× لم يكن إلاّ استجابة لدعوة أهل الكوفة.
([78]) مرتضى مطهّري، مجموعه آثار (فارسي) 17: 535.
([79]) البلاذري، أنساب الأشراف 3: 364 ـ 366.
([80]) محسن الأمين، أعيان الشيعة 1: 583؛ أنساب الأشراف 3: 366 ـ 367.
([81]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ 4: 20؛ تاريخ الطبري 5: 352. إنّ الرسالة التي كتبها رموز وزعماء الكوفة إلى الإمام كانت محكمة الصياغة، وتحمل المبادئ الأصيلة. فأصل رسالتهم الاقتراح على الإمام بقبول تسلّم زمام المسلمين، وجعله الكوفة مركزاً للحكم، فتصبح مقرّ الحكومة الإسلاميّة. فكتبوا له في الرسالة ما هذا نصّه: «أمّا بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد، الذي انتزى على هذه الأمّة، فابتزّها أمرها، وغصب فيئها، وتأمَّر عليها بغير رضا منها، ثمّ قتل خيارها، واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولةً بين جبابرتها وأغنيائها. فبُعْداً له كما بَعُدت ثمود؛ إنّه ليس علينا إمامٌ، فأقبِلْ؛ لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحقّ».
([82]) رسول جعفريان، تاريخ خلفاء (فارسي): 453 ـ 454.
([83]) أجاب الإمام على رسالة أهل الكوفة بما يلي: «من الحسين بن عليّ إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين، أمّا بعد…، قد بعثت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي ـ مسلم بن عقيل ـ، وأمرته أن يكتب إليَّ بحالكم وأمركم ورأيكم…، فعلمري ما الإمام إلاّ العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحقّ، والحابس نفسه على ذات الله». (الكامل في التاريخ 4: 20؛ مقتل الخوارزمي 1: 195؛ بحار الأنوار 44: 334؛ البحراني، العوالم 17: 183 ـ 184). كما أنّ الإمام خاطب مسلماً قائلاً: «…وادْعُ الناس إلى طاعتي، وخذِّلهم عن آل أبي سفيان…». (مقتل الخوارزمي 1: 196).
([84]) وقد أجابه الإمام: «يا ابن عمّ، أنت الناصح الشفيق، ولكنّي قد أزمعتُ المسير ونويتُه». (الحسن والحسين سبطا رسول الله|: 88).
([85]) المصدر السابق: 90؛ المفيد، الإرشاد 2: 67؛ بحار الأنوار 44: 365.
([86]) الحسن والحسين سبطا رسول الله|: 93.
([87]) ابن طاووس، اللهوف: 48 ـ 49.
([88]) بحار الأنوار 45: 85، ح16؛ الكامل في التاريخ 4: 38.
([89]) المفيد، الإرشاد 2: 68 ـ 69.
([90]) أجاب الإمام الحسين× «عمرو بن لوذان»، وهو الذي كان قد لقيه في الطريق بين مكّة والكوفة، وأصرّ على الإمام أن لا يكمل سفره نحو الكوفة، فقال له: «يا عبد الله، ليس يخفى عليَّ الرأي». (بحار الأنوار 44: 375؛ المفيد، الإرشاد: 424؛ تاريخ الطبري 5: 339).
([91]) الكامل في التاريخ 4: 38. ويُنقل أنّ الإمام الحسين× قال لابن الزبير، الذي كان متخوِّفاً من مسير الإمام نحو الكوفة: «لأنْ أُقْتَلَ خارجاً من مكّة بشبرٍ أحبُّ إليَّ من أنْ أقتل فيها، ولأنْ أُقْتَلَ خارجاً منها بشبرَيْن أحبّ إليّ من أن أُقتلَ خارجاً منها بشبرٍ». (البلاذري، أنساب الأشراف 3: 375).
([92]) إنّ الإمام بيَّن للفرزدق سبب خروجه من مكّة قبل إتمامه للمناسك، فقال له: «لو لم أعجّل لأُخذت». (المفيد، الإرشاد 2: 415). قال الشيخ المفيد في بيانه لسبب خروج الإمام من مكّة: «ولم يتمكَّنْ عن تمام الحجّ؛ مخافة أن يُقبض عليه، فيُنفذ به إلى يزيد بن معاوية». (المصدر السابق 2: 67).
([93]) مرتضى مطهّري، مجموعه آثار (فارسي) 17: 546 ـ 547.
([94]) قال الإمام× في حديثه لعبد الله بن الزبير: «واللهِ، لقد حدّثتُ نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إليّ شيعتي بها وأشراف أهلها، وأستخير الله». (الكامل في التاريخ 4: 38).
([95]) «ولعلّ ابن عبّاس لم يقف على ما كُوتب به× من الكوفيّة…». (تلخيص الشافي 4: 187).
([96]) ردَّ الإمام الحسين× على رسالة الأمان التي أرسلها «عمرو بن سعيد» (والي مكّة) عبر أخيه «يحيى بن سعيد» و«عبد الله بن جعفر»، فقال: «رَأَيْتُ رُؤْيَا فِيْهَا رِسُوْلُ اللهِ|، وَأُمِرْتُ فِيْهَا بِأَمْرٍ أَنَا مَاضٍ لَهُ، فَقَالا لَهُ: فَمَا تِلْكَ الْرُّؤْيَا؟ قَالَ: مَا حَدَّثْتُ أَحَداً بِهَا، وَمَا أَنَا مُحَدَّثٌ بِهَا حَتَّىَ أَلْقَى رَبِّي». (الحسن والحسين سبطا رسول الله|: 90).
([98]) المفيد، الإرشاد: 381؛ الكامل في التاريخ 4: 21.
([99]) إنّ مسلم بن عقيل طلب من الإمام أن يُسرع بالقدوم إليهم، حيث كتب له ما يلي: «إِنَّ الْرَّائِدَ لا يَكْذِبُ أَهْلَهُ، إِنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْكُوْفَةِ مَعَكَ، فَأَقْبِلْ حِيْنَ تَقْرَأُ كِتَابِي، وَالسَّلامُ». (الكامل في التاريخ 4: 33).
([100]) عندما وقع هجوم عامل معاوية «سفيان بن عوف» على مدينة الأنبار عمل الإمام عليّ× على حثّ أهل الكوفة على القيام؛ للدفاع عن تلك المدينة، وأشار إلى ضعفهم، وقال لهم: «يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلا رِجَالَ، حُلُوْمُ الأَطْفَالِ وَعُقُوْلُ رَبَّاتِ الْحِجَالِ…، لَقَدْ مَلأْتُمْ قَلْبِيْ قَيْحَاً…». (نهج البلاغة «فيض الإسلام»: 95 ـ 96، الخطبة 27).
([101]) قال الإمام الحسن× بعد صلحه مع معاوية، مخاطباً أهل الكوفة، ومتكلِّماً عنهم: «إِنَّهُمْ لا وَفَاءَ لَهُمْ، وَلا ذِمَّةً، فِيْ قَوْلِ وَلا فِعْلٍ…». (الطبرسي، الاحتجاج 2: 72). كذلك عند خروجه× من الكوفة بعد الصلح، حين أراد العودة إلى المدينة، قال لأهل الكوفة عندما خرجوا يشيِّعونه ويودِّعونه، بعد أن بكى على مظلوميّته: «…رَأَيْتُ أَهْلَ الْكُوْفَةِ قَوْماً لا يَثِقُ بِهِمْ أَحَدٌ أَبَداً إِلاّ غُلِبَ، لَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ يُوَافِقُ الآَخَرَ فِيْ رَأْيٍ وَلا هَوَىً، مُخْتَلِفِيْنَ لا نِيَّةَ لَهُمْ فِيْ خَيْرٍ وَلا شَرٍّ». (الحسن والحسين سبطا رسول الله|: 32).
([102]) شكا الإمام الحسين أهل العراق إلى الله، بعد أن قتل أغلب أصحابه، وقال: «اللَّهُمَّ إِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ غَرُّوْنِي وَخَدَعُوْنِي، وَصَنَعُوا بِأَخِيْ مَا صَنَعُوا، اللَّهُمَّ شَتِّتْ عَلَيْهِم أَمْرَهُمْ وأَحْصِهِمْ عَدَدَاً».
كما أنّه× خاطب جيش الكوفة يوم عاشوراء، وقال لهم: «يَا أَهْلَ الْكُوْفَةِ، قُبْحَاً لَكُم وَتَرَحاً، وَبُؤْسَاً لَكُم وَتَعِسَاً، اسْتَصْرَخْتُمُونَا وَالِهِيْنَ فَأَتَيْنَاكُمْ مُوْجِفِيْنَ، فَشَحَذْتُم عَلَيْنَا سَيْفَاً كَانَ فِيْ أَيْمَانِنَا…». (الإربلي، كشف الغمّة 2: 19).
وقال في روايةٍ أخرى: «فَإِنَّهُمْ غَرُّونَا وَكَذَّبُوْنَا ». (مقتل الخوارزمي 2: 8).
أمّا الإمام السجّاد× فقال في خطبةٍ له في الكوفة: «إِنَّكُمْ كَتَبْتُمْ إِلَىَ أَبِي وَخَدَعْتُمُوهُ». (العيون العَبْرى: 223). وعندما رأى أهلُ الكوفة أسرى كربلاء من أهل البيت^ صاروا يذرفون الدموع، فأجابتهم السيّدة زينب÷: «يَا أَهْلَ الْخَتْلِ وَالْغَدْرِ أَتَبْكُونَ؟ …إِنَّمَا مَثَلُكُمْ كَمَثَلِ الَّتِيْ نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بعد قُوَّةٍ أَنْكَاثاً، تَتَّخِذُوْنَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ…». (بحار الأنوار 45: 109). وممّا يُغني في بيان ضعف رأي أهل الكوفة أنّهم خجلوا من فعلتهم في كربلاء، وبكوا عليها بعد يومٍ وليلة على حادثة عاشوراء، لا أكثر. عِلْماً أنّ هناك العديد من الشواهد الأخرى لنقضهم العهود والمواثيق، إلاّ أنّنا سنُعرض عن ذكرها.
([103]) الإربلي، كشف الغمّة 2: 32؛ محمد صادق نجمي، سخنان حسين بن عليّ× أز مدينه كربلا (فارسي): 155.
([104]) ابن الأثير، الكامل في التاريخ 4: 49.
([105]) جلاء العيون 2: 163. وجاء في مطلع الخطبة: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ بَلَوْتُمْ آلَ أَبِي سُفْيَانَ، فَوَجَدْتُمُوهُمْ كَمَا تُحِبُّونَ، وَهَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَزِيدُ قَدْ عَرَفْتُمُوهُ، حَسَنَ السِّيرَةِ، مَحْمُودَ الطَّرِيقَةِ، مُحْسِناً إِلَى الرَّعِيَّةِ…، قَدْ زَادَكُمْ فِي أَرْزَاقِكُمْ مِائَةً مِائَةً، وَأَمَرَنِي أَنْ أُوَفِّرَهَا عَلَيْكُم». (بحار الأنوار 44: 384، 385).
ـ ابن الأثير، الكامل في التاريخ 4: 79. ينقل أنّ سنان بن أنس النخعي الذي فصل رأس الإمام الحسين× الشريف عن بدنه، ذهب إلى عمر بن سعد، وقال له:
أوقِرْ ركابي فضّةً وذهباً *** إنّي قتلتُ السيّد المحجَّبا
ـ تاريخ ابن جرير الطبري 5: 454 ـ 455.
ـ المجلسي، بحار الأنوار 45: 59 ـ 60.
ـ مجموعة من الباحثين، موسوعة كلمات الإمام الحسين×: 512. ينقل في الحوار الذي دار بين شمر بن ذي الجوشن وبين الإمام الحسين×، وذلك في آخر لحظات عمره الشريف، أنّ شمراً قال للإمام×: «دانقٌ من الجائزة أحبُّ إليّ منك ومن جدّك».
([107]) يمكن لنا أن نستنتج مقدار تأثير هذا العامل في روحيّة أهل الكوفة من الحوار الذي جرى بين الإمام الحسين× وبين عمر بن سعد في كربلاء. فعندما اجتمع الإمام الحسين× مع عمر بن سعد للتفاوض قال له الإمام: «وَيْلَكَ يَا ابْنَ سَعْدٍ أَمَا تَتَّقِي اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ مَعَادُكَ؟ أَتُقَاتِلُنِي وَأَنَا ابْنُ مَنْ عَلِمْت؟! ذَرْ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ وَكُنْ مَعِي فَإِنَّهُ أَقْرَبُ لَكَ إِلَى اللهِ تَعَالَى. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ: أَخَافُ أَنْ يُهْدَمَ دَارِي. فَقَالَ الْحُسَيْنُ×: أَنَا أَبْنِيهَا لَكَ. فَقَالَ: أَخَافُ أَنْ تُؤْخَذَ ضَيْعَتِي. فَقَالَ: الْحُسَيْنُ×: أَنَا أُخْلِفُ عَلَيْكَ خَيْراً مِنْهَا مِنْ مَالِي بِالْحِجَازِ. فَقَالَ: لِي عِيَالٌ وَأَخَافُ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ سَكَتَ، وَلَمْ يُجِبْهُ إِلَى شَيْءٍ»، إلاّ أنّ الإمام كان مطَّلعاً على رغبته ومراده ودخيلته في حبّ الرئاسة، ولذا قال له: «مَا لَكَ؟! ذَبَحَكَ اللهُ عَلَى فِرَاشِكَ عَاجِلاً، وَلا غَفَرَ لَكَ يَوْمَ حَشْرِكَ، فَوَاللهِ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ لا تَأْكُلَ مِنْ بُرِّ الْعِرَاقِ إِلاّ يَسِيراً». (مقتل الخورازمي 1: 245؛ محسن الأمين، أعيان الشيعة 1: 599؛ بحار الأنوار 44: 388؛ وكذلك راجع: أحمد خاتمي، عِبْرَتْ هاي عاشورا (فارسي): 157 ـ 159، 194 ـ 195؛ السيد القائد الخامنئي، خُطب صلاة الجمعة في محرَّم بين عامَيْ 1371 و1377هـ.ش).
([108]) مرتضى مطهّري، مجموعه آثار (فارسي) 17: 511. وورد أيضاً أنّه قال بعد ذلك: «فأيّما رجل وجدناه بعد يومنا هذا متخلِّفاً عن العسكر برئت منه الذمّة». (أنساب الأشراف 3: 387؛ أحمد الدينوري، الأخبار الطوال «المترجم إلى الفارسيّة»: 287 ـ 288).
ومن النماذج الجديرة بالتأمُّل والملاحظة، والتي تدلّ على تهديد ابن زياد؛ لتعبئة أهل الكوفة وإشخاصهم لحرب الإمام الحسين×، ما يلي:
1ـ إنّ شبث بن ربعي، الذي كان أحد قادة جيش ابن زياد، كان ممَّنْ أرسل سابقاً رسالة إلى الإمام الحسين×، لكنَّه بعد أن تغيَّرت أوضاع الكوفة، وصار ابن زياد هو الممسك بزمامها، نقل عنه ما يلي: «فتمارض شبث، وأراد أن يعفيه ابن زياد…» من الخروج لحرب الإمام الحسين بن عليّ×. لكنْ في النهاية أحضره ابن زياد، وهدَّده، وأرسل معه ألفاً من العسكر، ووجّهه نحو كربلاء. (عوالم البحراني 17: 237).
2ـ بعد أن بدأ الجند يهربون سرّاً استدعى ابن زياد واحداً من أصحابه ـ وهو القعقاع بن سويد بن عبد الرحمن المنقري ـ، حتّى يدور في الكوفة، ويبحث عن كلّ مَنْ تخلّف عن حرب الإمام الحسين؛ لكي يحضره إليه، فوجدوا رجلاً زعموا أنَّه تخلَّف عن الالتحاق بالجيش، فأحضروه إلى ابن زياد، فضرب عنقه. ولذا خاف سائر الناس، وأسرعوا في الالتحاق بالجيش المتَّجه نحو كربلاء. (أنساب الأشراف 3: 387) .
3ـ إنّ زعماء الكوفة قاموا ـ بطلبٍ من ابن زياد ـ بتهديد الناس، وقالوا لهم: «إنّ هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت، وقد أعطى اللهُ الأمير عهداً، لئن تمَمتم على حربه، ولم تنصرفوا من عشيتكم، أن يحرم ذرّيتكم العطاء، ويفرق مقاتلتكم في مغازي الشام، وأن يأخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب، حتّى لا تبقى له بقيّةٌ من أهل المعصية إلاّ أذاقها وبال ما جنت أيديها». (المفيد، الإرشاد: 398).
([111]) بحار الأنوار 44: 212 ـ 213، ح9.
([112]) شهيد جاويد (فارسي) : 299.
([113]) سيماي إمام حسين×: 206 ـ 207.
([114]) الكامل في التاريخ 4: 67.
([115]) المفيد، الإرشاد 2: 89.
([117]) تاريخ الطبري 5: 398. أقول: بعد أن عدنا إلى المصدر المذكور، وإلى الإرشاد، وبحار الأنوار، وجدنا الرواية التي ذكرها موجودة في هذه المصادر أجمع، إلاّ أنّ الكاتب ـ على ما يبدو ـ قد اشتبه في نقل الرواية؛ حيث كانت كلمة «العيش» في المصادر الثلاثة بدلاً من كلمة «الحياة». كما أنّه قد اشتبه أيضاً ـ على ما يظهر ـ في فَهْم سياق الرواية؛ حيث إنّ الإمام إنَّما قال مقولته تلك بعد أن علم بمقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن يقطر. نعم، لقد وردت هذه الرواية بعد الرواية التي تتكلَّم عن رأي أبناء عقيل بن أبي طالب. ولعلّ ذلك هو ما جعل المصنِّف يتوهَّم أنّ كلام الإمام كان كجوابٍ على قولهم، والله العالم. (المترجم).
([118]) المصدر نفسه. أقول: ممّا لا يخفى على القارئ الكريم أنّ هذا لا يعتبر دليلاً على إرادة الإمام العودة إلى الحجاز، بل يدلّ على رأي أصحابه فقط. بل إنّ الإمام ـ كما ورد في الرواية ـ سكت، ولم يُجِبْهم بشيء. (المترجم).
([119]) محسن الأمين، أعيان الشيعة 1: 596؛ تاريخ الطبري 5: 401.
([120]) لقد أجاب الإمام الرسول الذي أرسله عمر بن سعد بهذا الجواب: «فَأمَّا إذ كَرِهتُموني فَأَنا أنصَرِفُ عَنْكُم». (المفيد، الإرشاد 2: 85). وفي موضعٍ آخر في خطبة عاشوراء قال: «أيُّها النَّاس إذْ كَرِهتُمُوني فَدَعُونِي أنْصَرِفُ إلى مَأمَنِي مِنَ الأرْض». (موسوعة كلمات الإمام الحسين×: 333).
([123]) الكامل في التاريخ 3: 148 ـ 149؛ تاريخ الخلفاء: 470.
([124]) ابن طاووس، اللهوف: 40 ـ 42.
([126]) بحار الأنوار 44: 329؛ موسوعة كلمات الإمام الحسين×: 289.
([127]) أحمد الدينوري، الأخبار الطوال: 254.
([128]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 1: 302؛ اللهوف: 122.
([129]) عندما أشار عبد الله بن عمر على الإمام الحسين× بالمصالحة، وأبدى خوفه عليه من الخروج، أجابه الإمام بهذه العبارات: «هَيْهَاتَ يَا ابنَ عُمَر! إِنَّ القَوْمَ لا يَتْرُكُوني إِنْ أَصَابُوني، وإِنْ لَم يُصيبُوني فَلا يَزَالُونَ حَتَّى أَبَايِع وأَنا كَارِهٌ أو يَقْتُلُوني». فرهنگ سخنان إمام حسين× (فارسي): 458 ـ 459؛ كذلك قال لـ «عمرو بن لوذان»: «وَاللهِ، لا يَدَعُونَني حَتَّى يَسْتَخْرِجُوا هَذِهِ العَلَقَةَ مِنْ جَوْفِي». (المفيد، الإرشاد 2: 76؛ الكامل في التاريخ 4: 39).
([130]) المراد من «التأثير الصوري» لعامل دعوة أهل الكوفة في ثورة الإمام الحسين× هو أنّ هذا العامل كان دوره منحصراً في إضفاء الصورة والشكل على حوادث الثورة العاشورائيّة، تلك الحوادث التي كانت من قبيل: سفر الإمام باتّجاه الكوفة، الصدام الماديّ المسلّح مع الكوفيّين (جيش الحُرّ بن يزيد الرياحي) و(جيش عمر بن سعد)، ووقوع حوادث يوم عاشوراء، وشهادة الإمام الحسين× مع اثنين وسبعين رجلاً من أصحابه، وأمثال ذلك من الأمور.
([131]) مرتضى مطهّري، مجموعه آثار 17: 148، 534. وهذا أحد الانتقادات التي وجَّهها الشهيد مطهّري لمصنَّف كتاب «شهيد جاويد» (وهو كتاب باللغة الفارسيّة، وتعريب عنوانه: الشهيد الخالد) بقوله: هو يرى عامل «دعوة أهل الكوفة» ذا قيمة كبرى، لكنّ هذا العامل كان أضعفها تأثيراً بين بقيّة العوامل التي أدّت لحصول الثورة العاشورائيّة.
([132]) پرتوي أز عظمت إمام حسين× (فارسي): 296؛ مرتضى مطهّري، مجموعه آثار (فارسي) 17: 517.
([133]) ابن الجوزي، تذكرة الخواص: 217؛ تاريخ الطبري 5: 386.
([134]) المفيد، الإرشاد 2: 76؛ بحار الأنوار 44: 375؛ الإربلي، كشف الغمّة 2: 43.