تمهيد
الحديث عن حضور التراث الشيعي في الدراسات الحديثية في تركيا أمر يوقع الباحثين الأتراك في موقع حرج؛ لما لقيه من اهتمام ضئيل، مقابل أهميته البالغة؛ نظراً لقرب تركيا من إيران، وعلاقتها معها عبر القرون، دون مسيس بوحدة أراضيهما وأمنهما. ولهذا الفراغ بين السنة والشيعة في مجال الدراسات الحديثية أسباب سياسية وثقافية وإيديولوجية تعود إلى الطرفين، ولسنا بصدد دراسة أو مناقشة هذه الأسباب، بل نحن بصدد إلقاء ضوء على الوضع الراهن في ما يتعلق بما يجرى في الجانب التركي كخطوة أولية لأعمال مشتركة في المستقبل.
عوامل غياب الدرس الحديثي الشيعي في تركيا
وسوف نكتفي بعرض الخطوط العريضة، مرتكزاً على الإشكاليات المنهجية والمعرفية؛ لمناقشتها ولتحديد خارطة الطريق للدراسات المستقبلية إن أمكن.
ولا يظن الظانّ أن قلة الاهتمام بتراث الجار تقصير من جانب واحد، بل التقصير من الجانبين بشكل واضح، كما يدل عليه قلة الدراسات الحديثية المقارنة عند الطرفين؛ وذلك بسبب انغلاق الجامعات التركية على نفسها في السبعينات، بل وتخوفها من الثورة الإيرانية الإسلامية في بداياتها، إضافة إلى قلة عدد كليات الإلهيات آنذاك. أما في مرحلة ما بعد تأسيس 24 كلية في مناطق مختلفة من تركيا بعد الثمانينيات فكانت المشكلة غياب تشجيع رسمي أو جامعي لتوجيه الدراسات الإسلامية عموماً، والدراسات الحديثية خصوصاً، إلى التراث الشيعي بشكل عام.
وهناك أمر آخر غريب جداً، وهو أن الباحثين في تركيا بأغلبيتهم الساحقة ليس عندهم علم بأن الدراسات الإسلامية في إيران ليست بالفارسية فقط، ولا يدرون أن اللغة العربية أكثر استعمالاً من اللغة الفارسية في مجال الدراسات الإسلامية والحديثية منها. وأما عدم توفر المصادر الشيعية والدراسات الشيعية الحديثية فكان له أثر سلبي حتى ظهور وانتشار المكتبات الإلكترونية والرقمية.
كل هذه العقبات لا تعني غياب التراث الشيعي في الدراسات الحديثية غياباً مطلقاً، بل هناك تطورات بدائية، ولكنها ضعيفة جداً؛ للأسباب الآنفة الذكر.
وكي نقدم لكم فكرة أوضح عن حجم وطبيعة الدراسات الحديثية التي لها علاقة بالتراث الشيعي بوجه من الوجه لا بد من النظر إلى بعض المعلومات الإحصائية، فنقول:
صدر أخيراً كتاب جديد لفهرسة جميع الدراسات الأكاديمية (الماجستير) والدكتوراه) في مجال الدراسات الإسلامية في مختلف الجامعات التركية في العقود الخمسة الأخيرة، وهي فترة ما بين 1953 إلى 2007، وتغطى مرحلة تأسيس أول كلية إلهيات بجامعة أنقرة والمراحل التالية، التي بلغ عدد الكليات فيها 24 كلية في مختلف الجامعات وفي مناطق ومحافظات مختلفة، وبعد دراسة المجلدين من الكتاب بشكل دقيق وجدنا أن مجموع عدد رسائل الماجستير والدكتوراه في مجال السنة والحديث يبلغ 713 رسالة في الخمسين سنة الأخيرة، والتي لها علاقة بالتراث الشيعي بشكل أو ذاك من هذا المجموع لا يتجاوز عددها 13 رسالة، وأغلبها في العقود الأخيرة، والذي يبدو من فهرسة هذه الرسائل أن أول رسالة في ما يتعلق بالشيعة بشكل عام هي رسالة الدكتوراه التي تمت مناقشتها عام 1977، وهي رسالة تناولت الموضوع بشكل عام، دون الدخول في الدقائق والمناقشات والتيارات داخل الفكر الشيعي المعاصر، واثنتان فقط منها دراسة مقارنة بين الشيعة والسنة.
واللافت للنظر هو غياب التطورات المنهجية والمعرفية والمناقشات الحافلة بمقاربات جديدة تضاهي التطورات في الفكر السني ـ إن صح التعبير ـ المعاصر غياباً كاملاً؛ وذلك بسبب الجو السائد المخيف لكثير من الباحثين، والكاسر لمعنوياتهم، خاصة في مرحلة 28 شباط التي يعتبرها الكثير انقلاباً عسكرياً ما بعد الحداثي، والتي تبين في الآونة الأخيرة أنها كانت نتيجة محاولات شبكة أو عصابة (أركنه قون) لإسقاط الحكومة آنذاك، وإيقاف تصاعد الحركات الإسلامية وإضعافها، إضافة إلى صعوبة الوصول إلى المصادر الشيعية، ومن المتوقع في مثل هذا الجو تراجع كثير من الباحثين عن نيتهم لدراسة التراث الشيعي.
لا شك أن التعصب المذهبي الذي يئن الملايين من المسلمين في قبضته وتحت وطأته له الأثر السلبي الكبير في ضعف التوجه نحو التراث الشيعي، القديم منه والمعاصر؛ وذلك لأن التعليم الديني الرسمي والمدني في بلادنا كان ولا يزال معتمداً على تصنيف الشيعة مع سائر الفرق الأخرى في خانة (الفرق الضالة)، وعلى اعتبار أهل السنة فرقة ناجية وحيدة فقط، الأمر الذي منع الباحثين والدارسين إلى حد كبير من أن يعتبروا التراث الشيعي مصدراً من مصادر التراث الإسلامي الأصيل كالتراث السني تماماً، لكل منهما جوانب إيجابية وسلبية، ولكل منهما مواقف قابلة للأخذ والرد. وبالرغم من هذه الملاحظات السلبية والمستوى المنخفض والمتدني في الدراسات الأكاديمية كماً وكيفاً، وبالرغم من عدم قدرة الباحثين والدراسيين على اعتبار التراث الشيعي تراثاً إسلامياً أصيلاً، له ما لأهل السنة من القدرة على تقديم رؤية إسلامية معاصرة اعتماداً على مقاربات واجتهادات جديدة، وعليه ما على أهل السنة من المآخذ، مثل: سيادة النزعة التقليدية، والاكتفاء بحلول وإنجازات قديمة وبإعادة ما قيل وبتحصيل الحاصل، كما هو الوضع السائد في جميع أقطار العالم الإسلامي دون استثناء، هناك أمر آخر يصعب على الباحث تفسيره، وهو البعد النفساني عند الأكاديميين الأتراك من عالم الشيعة، إلى جانب وجود عدد هائل من الكتب المترجمة من الفكر الشيعي المعاصر، بدءاً من د. علي شريعتي ووصولاً إلى عبد الكريم سروش وغيرهما؛ وذلك إما لعدم التفات الباحثين والدارسين إلى التطورات في الفكر الشيعي المعاصر؛ بسبب انغماسهم في التطورات العلمية في العالم العربي السني؛ وإما لغفلتهم عن طبيعة الفكر الشيعي المعاصر، وخاصة التنويري والتجديدي منه.
إلا أن هذه الملاحظات كلها محصورة على الدراسات الحديثية في الخمسين سنة الأخيرة، ولا يجوز تعميمها على سائر مجالات العلوم الإسلامية في هذه الفترة، كما يدل على ذلك وجود عدد كبير من رسائل الماجستير والدكتوراه في مجالات أخرى، وخاصة في مجال تاريخ المذاهب والفرق الإسلامية.
التراث الزيدي والإباضي والمعتزلي في الدراسات التركية
غير أن هذه الصورة ليست مقصورة على التراث الشيعي فقط، بل إن التراث الزيدي والأباضي والمعتزلي قد لقي أقل اهتمام من قبل الباحثين في جامعات تركيا، ولكننا نشهد في العقد الأخير تحركاً للتخلص من هذا البعد النفسي، وتوجهاً نحو التراث الزيدي والمعتزلي والأباضي، إضافة إلى التراث الشيعي، كما يدل عليه التزايد الملحوظ في عدد رسائل الماجستير والدكتوراه حول التراث الزيدي والمعتزلي والأباضي في العقد الأخير. ويعود الفضل في هذا التطور لأكاديميين من الجيل الجديد، الذين يعتبرون المذاهب والفرق والتيارات الإسلامية جزءاً لا يتجزأ من التراث الإسلامي الأصيل، ويتبنون هذا التراث ككل، دون التمييز أو التفضيل بينها. أضف إلى ذلك ظهور مشاريع علمية لتغطية جميع الإنجازات في الماضي والحاضر للإفادة منها من أجل الوصول إلى رؤى ومناهج وحلول علمية لضمان مستقبل العالم الإسلامي.
(*) عضو مؤسِّس لمبادرة مؤتمر الشرق، وأستاذ في كلية الإلهيات في جامعة أنقرة في تركيا.