تمهيد
تُعدُّ مسألة حلق اللحية اليوم ظاهرةً من الظواهر التي تلفت الانتباه في المجتمع الإسلامي، بحيث إنّها لم تعد مظهراً من مظاهر التدّين كما في السابق, بل مبيّنةً للونٍ من ألوان الإيمان الاجتماعي الذي يعايشه المتديّنون في سلوكيّاتهم الحياتيّة، كما كثر القول عن مدى حجيّة الأدلّة المستدل بها على الحرمة أو الاحتياط , ومدى قوّة دلالتها بحيث يتحتّم على الباحث أن يستعرض ما استدلّ به في المقام بتأنٍ وموضوعيّة، محاولاً في الوقت نفسه تسجيل ملاحظات نقدية على ما يمكن أن يسجّل على هذا الدليل أو ذاك.
1ـ تحديد موضوع البحث، وما هو مقصود الشريعة من اللحية؟
جاء في لسان العرب: اللحية, اسم يُجمع من الشعر ما ينبت على الخدّين والذقن، والجمع لِحىّ ولُحىً([1])، واللّحْي: الذي ينبت عليه العارض، والجمع ألحٍ ولُحِيّ ولحاء. وفي المقاييس: اللّحي: العظم الذي تنبت عليه اللحية من الإنسان وغيره والنسبة إليه لحويّ، واللحية الشعر وجمعها لُحِيّ([2]). وفي المصباح المنير: اللحية: الشعر النازل على الذقن والجمع لحِى وتضمُّ اللاّم أيضاً. واللّحي عظم الحنك وهو الذي عليه الأسنان وهو من الإنسان حيث ينبت الشعر وهو أعلى وأسفل وجمعه ألحٍ([3])؛ فاللحية هي الشعر النابت أسفل الوجه اتفاقاً وإن اختلف في حدودها([4]).
والنتيجة أن هنا قولين في تحديد اللحية:
1 ـ أنها اسم للشعر النازل على الذقن، فتختصُّ اللحية بالشعر الواقع في مقدّم أسفل الوجه ولا تشمل العارضين.
2 ـ أنّها اسمٌ يجمع من الشعر ما ينبت على الخدّين والذقن، فيكون الشّعر مما حاذى أعلى الأذن أو وسطها إلى آخر الذقن من اللحية، والذقن هو: مُجتمع لحي الإنسان.
و يمكن الجمع بين التّعريفين بالقول: إنّ اللحية اسمٌ للشعر النابت على الخدين والذقن وذلك أنّ الفيومي ـ صاحب المصباح ـ قد ذكر بعد تبيينه معنى اللحية قوله: والتحى الغلام نبتت لحيته و(اللّحييُ) عظم الحنك وهو الذي عليه الأسنان، وهو من الإنسان حيث ينبت الشعر، وهو أعلى وأسفل وجمعه (ألحٍ)([5])، وأيضاً ما قاله صاحب مجمع البحرين في تعريف اللحية: اللحية كَسِدرَة، الشعر النازل على الذقن، والجمع لحِى كسِدرَ، وقد تضمُّ اللام فيها كحلية وحُلَي. وقد التحي الغلام: نبتت لحيته، ورجل لحيانيّ عظيم اللحية. واللّحيى كفَلس: عظم الحنك، واللّحيان: العظمان اللذان تنبت اللحية على بشرتهما ويقال لملتقاهما: الذقن، وعليهما نبات الأسنان السفلى([6]).
من هنا نلاحظ أنّه بعد ما عرّف اللحية بأنها الشعر النازل على الذقن قال: واللّحيان: العظمان اللذان تنبت اللحيةُ على بشرتهما ويقال لملتقاهما: الذقن، مما يعني أنّ ما عناه صاحب المصباح وصاحب المجمع موافق لما ذكره صاحب لسان العرب من أنّ اللحية اسم يجمع من الشعر ما ينبت على الخدين والذقن، فلا يبقى فرق في تعريفها ولا بين حدودها.
وأمّا العارض، فقد ذُكِرَ أنه من اللحية: ما ينبت على عرض اللّحي فوق الذقن. والخدّان: ما جاوز مؤخّر العين إلى منتهى الشّدق يكتنفان الأنف عن يمينٍ وشمال، والشّدق: جانب الفم([7]). وفي مفردات الراغب: العارض: البادي عُرضه؛ فتارة يخصُّ بالسّحاب {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}، وما يعرض من السقم فيقال: به عارضٌ من سَقم، وتارة بالخدِّ نحو: أخذ من عارضيه([8]).
وخلاصة القول: إنّ اللحية لغةً هي الشعر النابت على الخدّين (العارضين) والذقن، وهذا بعينه ما عنته النصوص الشرعية؛ فقد سُئل الإمام الرضا(ع) عن الرجل: هل يصلح له أن يأخذ من لحيته؟ فقال: >أما من عارضيه فلا بأس وأما من مقدّمها فلا<([9]).
وقال الراغب: الحلق: العضو المعروف وحَلَقَه قطع حلقه، ثمّ جُعِلَ الحلق لقطع الشعر وجَزِّه فقيل: حَلَقَ رأسَه، ورأسٌ حليقٌ ولحيةٌ حليقٌ([10]).
ومن خلال مراجعة مادّتي: جَزز وقَطَع في كتب اللغة، يتضح أنّ المراد من الجزّ والقطع (الحلق) هو إزالة الشعر عن أصله كما يُجَزُّ الصوفُ والعشب, قال تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} (الفتح: 7)؛ فالتقصير أن يأخذ من شعره، وأمّا الحلق فهو أن يزيل شعره ويجزّه عن أصله، وهذا هو موضوع الحرمة كما تقدّم.
2 ـ حلق اللحية، دراسة تاريخية في المواقف الفقهية
الأصل الأولي الحاكم هنا هو البراءة, فلو لم ينهض لنا دليل لإثبات الحرمة أمكن إجراء هذا الأصل بلا معارض, ونحنإذا قمنا بمراجعة سريعة للمسألة نلحظ خلوّ معظم كتب الفقهاء الأوائل منها؛ كالهداية والمقنع للشيخ الصّدوق، والمقنعة للمفيد، والنهاية للطوسي، والمراسم لسلاّر، والكافي في الفقه لأبي الصّلاح الحلبي، والمهذّب والجواهر لإبن البرّاج، والوسيلة لابن حمزة، والنهاية والمختلف والمنتهى للعلاّمة الحلي؛ فلا نجدهم قد تعرّضوا لهذا البحث أساساً, بل إنّ الشيخ عليقد صرّح في كتابه الدرّ المنثور في جوابٍ عن المسألة بالقول: الآن لا يحضرني تصريحٌ بالتحريم من علمائنا في هذه المسألة([11]).
وأوّل من تعرّض لهذا الموضوع هو ابن سعيد الحلّي (690هـ) في كتابه: جامع الشرائع,ومع هذا نرى أنّه نقل عنه أنه ادّعى الإجماع على الحرمة, وأفتى علماء كأمثال السيد الداماد والشيخ البهائي بالحرمة، واستظهر ذلك المحدّث البحراني، وعن المجلسيّين: حرمة حلق اللحية ظاهر أكثر العلماء, (مشهورة بين العلماء),ونحن لو تقصيّنا كلام معظم علمائنا لوجدنا أنّ عباراتهم لا تخرج عن القول بالحرمة للإجماع , والمشهور الحرمة, ولا خلاف في الحرمة, والظاهر الحرمة.. إلى غيرها من التعابير التي تدلّ على المنع والتحريم من جهة, وعلى لزوم تنقيح الأدلّة المدّعاة من جهةٍ أخرى.
3 ـ نظرية تحريم حلق اللحية، الأدلّة والشواهد
الأدلة المستند إليها هنا أربعة: الكتاب والسنّة والإجماع والسيرة:
1 ـ 3 ـ الاستدلال بالقرآن الكريم على حرمة حلق اللحية، وقفات نقدية
والآيات المذكورة هنا هي:
الآية الأولى: قوله تعالى حكايةً عن إبليس: {وَقَالَ لَأَتّخِذَنّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مّفْرُوضاً * وَلأُضِلّنّهُمْ وَلأُمَنِّيَنّهُمْوَلآمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنّ خَلْقَ اللّهِ} (النساء: 119)، وقد نسب الاستدلال بهذه الآية إلى جماعة من فقهائنا ـ كما في الوافي والحدائق ـ واستدلّ بها السيد الكاظمي والشيخ الحائري والسيد اليزدي وقسمٌ من علماء أهل السنّة. ومحل الاستدلال: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} على أساس أنّ ظاهر الآية خطابٌ من إبليس لبيان إضلال عباد الله عزّ وجلّ بأمرهم لتغيير خلق الله، ومنه حلق اللحية، فكل تغيير لخلق الله حرام، وحلق اللحية تغيير لخلق الله، فتثبت الحرمة بعموم الآية.
يقول العلامة التهاوني: إن اللحية بلا شك داخلة في هذا التغيير؛ حيث إن الله خلق الرجل على صورته الحالية ـ بلحية ـ فهو عندما يحلقها فإنّه يدخل بذلك في التغيير لخلق الله, ولو أراد الله للرجل ذلك لخلقه ناعماً كما المرأة؛ فثبت بالآية أنّ التّغيير هنا سببٌ من أسباب لعنة الله.
ويقول الشيخ عثمان الصافي: من ذا الذي يجرؤ على الزعم أنّ اللحية ليست من خلق الله, بل هي ظاهرة كونية تدخل في نطاق البنية البشرية للإنسان, وعليه فلا مجال للمراء في أنّ حلقها هو تبديل لخلق الله فيكون معنيّاً في الآية الكريمة وداخلاً في عمومها([12]).
ولا يخفى ما في هذا الدّليل؛ إذ إنّ حرمة مطلق تغيير خلق الله باطلة بالضرورة، وإلا لزم القول بحرمة التصرّف في مخلوقاته تعالى حتى بمثل جرِّ الأنهار وغرس الأشجار وحفر الآبار وقطع الأخشاب… وإذا قلنا: إنّ التغيير هو تغيير خاصّ ـ أي الذي هو آثار أوامر الشيطان ـ فلا شبهة في حرمته على إجماله، إذ إنّ الآية تثبت وجود تغيير لخلق الله مبغوضٍ له تعالى، ولكن لا دليل على كون المراد به ما يعمُّ حلق اللحية, فالتمسّك بالآية لإثبات حرمة مثل حلق اللحية هو من التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية؛ فلا إطلاق إذاً يثبت حرمة جميع التصرفات، والضرورة قائمة على جواز أمور كثيرة مما يجعل الاستدلال مبتلى بتخصيص الأكثر، وهو مستهجن عقلاً وعرفاً.
يضاف على ذلك أنّ جميع مفسّري الإمامية لم يذكروا أن حلق اللحية من تغيير خلق الله, بل فسّروه بتغيير دين الله وأنّ الخلق هو الدين قال تعالى:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ}(الروم: 30)، وقد ورد بهذا التفسير بعض الروايات وقوّاه الشيخ الطوسي في التبيان([13]).
الآية الثانية: قوله تعالى: {ثُمّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتّبِعْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(النمل: 123)، فقد فُسّرت كلمة: حنيفاً بالحنيفية التي منها اللحية، وورد عن الإمام الصادق(ع) في قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}وإذا ابتلي إبراهيمَ ربُّه بكلمات فأتمّهن، قال: >إنّه ما ابتلاه الله به في نومه من ذبح ولده إسماعيل فأتمّها وعزم عليها وسلّم لأمر الله، فلمّا عزم قال الله تعالى له ثواباً له ـ إلى أن قال ـ: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنّاسِ إِمَاماً}، ثم أنزل عليه الحنيفيّة، وهي عشرة أشياء: خمسة منها في الرأس وخمسة منها في البدن، أما التي في الرأس: فأخذ الشارب وإعفاء اللحى، وطمّ الشعر، والسّواك والخلال. وأمّا التي في البدن؛ فحلق الشعر من البدن، والختان، وتقليم الأظافر، والغسل من الجنابة، والطهور بالماء؛ فهذه هي الحنيفية التي جاء بها إبراهيم(ع) فلم تنسخ ولا تنسخ إلى يوم القيامة، وهو قوله تعالى: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً}([14]).
ويلاحظ عليه أنّه إذا كان المراد الاستدلال بالآية مستقلةً، فلا دلالة فيها على المطلوب ,حيث إنّ الظاهر من قوله: «حنيفاً» هو التوحيد ورفض الشرك، بقرينة قوله في الآية: وما كان من المشركين، وقوله في الآية السابقة: {شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، ومن الواضح أنّ المراد من الصراط المستقيم هو صراط التوحيد. أمّا إذا كان المراد الاستدلال بمعونة التفسير والرواية، فهي على فرض كونها حجة ـ إذ لم يذكر لها (القمّي) سنداً ولا نسبها إلى الإمام(ع) ـ تشتمل على الواجب والمستحب، بل أكثر ما ورد فيها مستحبّ، فإن ما عدا الغسل والختان مستحب بلا إشكال، ووحدة السياق ربّما تستدعي أن تكون اللحية محكومةً بحكم الأكثر([15])، هذا فضلاً عن ورود بعض الروايات التي تُبيِّن أنّ الخمسة التي في الرأس من الحنيفية ليس فيها إعفاء اللحية، قال الشيخ البلاغي: … لكن يخدش فيها (أي في الرواية) ما ذكره علي بن بابويه في رسالته المعروفة وابنه الصدوق في الهداية، وهو أنّ الخمسة التي في الرأس من الحنيفية ليس فيها إعفاء اللحية([16])، وفي فقه الرضا(ع)جاء: >فأمّا الخمسة التي في الرأس؛ فالفرق، والمضمضة، والاستنشاق، وقصّ الشارب، والسواك<([17]).
الآية الثالثة:قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنّ أَكْثَرَ النّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (الروم: 30)، وذلك بناءً على ما رواه الشيخ الصدوق في الفقيه عن رسول الله’: >أنّ المجوس جزُّوا لحاهم ووفّروا شواربهم وإنّا نحن نجزُّ الشوارب ونعفي اللّحى وهي الفطرة<([18]). والفطرة هي الخِلقة، وقوله تعالى: لا تبديل لخلق الله، يعني أنّه لا ينبغي أن تبدّل تلك الفطرة وتغيّر، وحلق اللحية تبديل لخلق الله ولما فَطر عليه خلقَه.
ويناقش: أولاً: إنّ الرواية مرسلة؛ حيث لم يذكر لها الصدوق سنداً، وإنّما قال: قال رسول الله’.. بدون أن يذكر أي سندٍ أو واسطة في المقام.
ثانياً: إنّ معنى الفطرة في الآية أنّ الله تعالى خلق خلقه قابلين للتوحيد ودين الله غير نائين عنه ولا منكرين له حتى لو تُرِكوا لما اختاروا ديناً آخر غيره([19])، وقوله تعالى: لا تبديل لخلق الله، أي لا ينبغي أن تبدّل تلك الفطرة وتغيّر؛ فالآية تفيد حرمة إضلال الناس وطمس فطرتهم التي خلقوا عليها، كما قال’: >كل مولودٍ يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه وينصّرانه<. وفي الحديث: >خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وأمروهم أن يشركوا بي غيري<([20]).
وبهذا يظهر أنّه لا يوجد دليل في الكتاب الكريم يثبت حرمة حلق اللحية.
2 ـ 3 ـ الاستدلال بالسنّة الشريفة على نظرية التحريم، وقفات وتأملات
ورد كثيرٌ من الروايات في كتب الفريقين وبطرق مختلفة، يستدل بها على حرمة حلق اللحية, أمّا من طرق أهل السنّة، فما رويَ عن ابن عمر عن النبي(ص) أنّه قال: >أعفوا اللحى وأحفوا الشوارب<([21]). وعنه’: >جزّوا الشّوارب وارخوا اللحى وخالفوا المجوس<([22])، وغيرها كثير من الأحاديث التي تتحد في المضمون جاءت في صحاح البخاري ومسلم وسنن الترمذي وابن ماجة, وهي عندهم بعدّة ألفاظ: «أعفوا,أوفوا, أرخوا, وفّروا, أرجوا».
أمّا من طرق الشيعة، فما ورد مستفيضاً عن الرسول الأكرم’: >حفّوا الشوارب واعفوا اللحى ولا تشبّهوا باليهود<([23]). وفي نقل آخر: >ولا تشبّهوا بالمجوس<. وعنه’: >إنّ المجوس جزّوا لحاهم ووفّروا شواربهم , وأمّا نحن نجزّ الشوارب ونعفي اللحية وهي الفطرة<([24]).
وكلا الروايتين ضعيفتان سنداً ودلالة, فالأولى بالإرسال حيث لم يذكر لها الصّدوق سنداً، والثانية بعلي بن غراب وهو مجهول, أمّا الدّلالة فقد فسّر في القاموس إحفاء الشوارب بالمبالغة في قصِّها، وفي معنى الإعفاء قال صاحب الصحاح: إعفاء اللحية أن يوفّر شعرها من عفى الشيء إذا كثر. وزاد في القاموس: أعفي اللحية وفّرها والعافي الزائد والطويل وعفي شعر الإبل كثر. ويحتمل أن يكون معنى عفوا بمعنى قولهم: أعفاه من الأمر الفلاني كما ذكره في القاموس، أي اتركوا اللحى أو اعفوها عمّا يُراد بالشوارب من الإحفاء والإنهاك والجز، ويكون الإعفاء هو القدر المشترك بين الإرخاء والإيفاء والتوفير، ويرشد إليه زيادة الصدوق لقوله: ولا تشبّهوا باليهود، أي في ترك لحاهم لتطول مهما بلغت([25])؛ ومن الواضح أنّها لا تدلّ على الوجوب حينئذ، فإنّ إعفاء اللّحى ليس واجباً، بل الزائد عن القبضة الواحدة مذمومٌ، وغاية ما يستفاد منها هوالاستحباب وبقرينة عدم التشبه باليهود يستفاد من الأمر بالإعفاء عقيب الإحفاء أن لا يستأصل ويؤخذ منها من دون استقصاء، بل مع توفير وإيفاء بحيث لا يتجاوز القبضة فتستحقّ النار([26]).
ويمكن أن يقال: إنّ الرواية ـ على فرض حجيتها ـ يستفاد منها وجوب الإعفاء وكراهة ما زاد عن القبضة لا أنّه يستفاد منها استحباب الإعفاء وكراهة ما زاد عن القبضة أو أنّه يستفاد منها وجوب الإعفاء واستحباب تكثيرها بمقدار قبضة وكراهة ما زاد عن ذلك، ولو راجعنا لوجدنا أنّ معنى العفو هو التكثير والتطويل، وكما يكون التكثير والتطويل في قبضة أو أزيد كذلك يكون بما هو أنقص من ذلك, يقول الشيخ السبحاني: إنّ الأمر بالإعفاء كنايةٌ عن عدم الحلق([27])؛ فالوجوب في اللحية هو الإعفاء بمعنى أن يصدق معه عرفاً أنه ذو لحية,وهاتان الروايتان مراسيل وضعاف فلا يصح التّمسك بهما، فضلاً عن التمسّك بما ورد عند أهل السنّة.
وقد استدل أيضاً بما رواه في الوسائل([28]) عن الشيخ الكليني بسنده إلى حُبابة الوالبية قالت: >رأيت أمير المؤمنين× في شرطة الخميس ومعه دِرّةٌ لها سبابتان يضرب بها بيّاعي الجري والمارماهي والزِّمار([29])، ويقول لهم: يا بيّاعي مسوخ بني إسرائيل وجند بني مروان، فقام إليه فرات بن الأحنف فقال: وما جند بني مروان؟ قال: فقال له: أقوام حلقوا اللّحى وفتلوا الشوارب فمسخوا<.
ومحل الاستدلال في هذا الحديث قوله(ع): فمسخوا، والمسخ لا يتناسب إلا مع الحرمة.
ويناقش أولاً: إنّ الرواية ضعيفة السند لوجود عدّة مجاهيل فيها أمثال محمد بن إسماعيل وعبد الله بن أيوب وعبد الله بن هاشم وغيرهم([30])، والرواية وإن رواها الشيخ الكليني في الكافي ـ والذي جاءت كتابته ردّاً على طلب السائل كتابة كتابٍ شاف ـ فإنّه غير ملزم لإيراد كل صحيح فيه، إذ المؤلّف قد يجمع كلّ ما يمكن أن يستفيد منه السائل ولو لعدم عثوره أحياناً على روايةٍ واضحة وسندٍ صحيح([31])، وما قيل من أنّ حبابة الوالبية([32]) من الجليلات والموثقات لخدمتها لعدِّةٍ من المعصومين ببركة دعاء الإمام لها بطول العمر.. فإنّه إن سلّم يبقى الكلام في الطريق إليها.
ثانياً: انّ الرواية ذكرت جند بني مروان وهم قومٌ من أصحاب الشرائع السابقة، وثبوت الحرمة في شريعتهم لا يستلزم ثبوت الحرمة في شريعتنا الناسخة لما قبلها من شرائع, وما يمكن أن يقال: إنّه عند الشّك في نسخ حكمٍ من الأحكام نستصحب عدم نسخه وبذلك تثبت الحرمة.. غير مفيد؛ لضعف دلالة الرواية على إثبات المدّعى؛ لأنّ حلق اللحى ليس من المعاصي الكبيرة الموجبة لمسخ الإنسان إلى ما ذُُكر، وكذلك فتل الشارب إذ لا قائل بحرمته، اللهمّ إلاّ أن يراد بحلق اللّحى وفتل الشارب معنىً ملازماً للحرمة وهو أنّهم حلقوا لحاهم وفتلوا شواربهم إظهاراً لتكبّرهم وخيلائهم فمسخهم الله وهذا أجنبيّ عن المقام.
فإن قيل :إنّ ذكره(ع) ذلك في مقام الذم يدلّ على حرمتها في هذه الشريعة أيضاً. قلنا: ليس الإمام في مقام ذمِّ هذين الفعلين ,بل في مقام ذمِّ بيع المسوخ بهذا السبب([33]).
وقد استدل على الحرمة أيضاً بما في الجعفريات عن الإمام علي(ع) قال: قال رسول الله(ص): >حلق اللحية من المُثلة ومن مثل فعليه لعنة الله< ([34]). والظاهر من اللّعن للحالق هو الحرمة([35]).
ويناقش أنّه ـ مع إغماض الطّرف عن سندها وتسليم ظهورها في الحرمة ـ فلا يُسلّم أن المراد هو ما نحن فيه؛ فإن المُثلة والتمثيل مفهومٌ فيه شائبة العدوان والقهر والتحقير وإيقاع النقص بالغير فلا ينطبق على الحلق الاختياري والإرادي خصوصاً مع عدِّه من المحسِّنات عند الكثيرين([36])؛ فالمراد من حلق اللحية في الرواية حلق لحية الغير إهانةً وهتكاً نظير الرائج في هذه الأيّام من حلق الرأس إهانةً وتحقيراً فلا يعمُّ حلق الشخص لحيته([37]).
واستدل أيضاً بما رواه في الوسائل عن الإمام الصادق(ع) قال: >أوحى الله إلى نبي من الأنبياء أن قل لقومك: لا تلبسوا لباس أعدائي ولا تطعموا مطاعم أعدائي، ولا تشاكلوا بما شاكل أعدائي، فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي< ([38])، وحلق اللحية مما شاكل الأعداء فيحرم لذلك.
ويناقش فيه أولاً: لا نسلّم أنّ حلق اللحية هو مما شاكل الأعداء، بل إنّ كثيراً منهم عافون للحاهم.
ثانياً: لو سلّم ذلك فلا يدلّ إلا على أنّ حرمته دائرة مدار كونه من مسالك الأعداء، وأمّا إذا شاع وذاع بين المسلمين فإنّه يزول التشبُّه وتزول الحرمة، ويؤيِّد ذلك ما رُوِيَ عن أمير المؤمنين(ع) في نهج البلاغة أنّه سُئل عن قول رسول الله(ص): >غيِّروا الشيب ولا تشبّهوا باليهود، فقال(ع): إنّما قال ذلك والدِّين قل، وأمّا الآن وقد اتّسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار< ([39]).
ثالثاً: إنّ سلوك مسالك أعداء الدّين عبارةٌ عن اتخاذ سيرتهم شعاراً وزيّاً، وهذا لا يتحقّق بمجرّد الاتصاف بوصفٍ من أوصافهم.
ومن الأدلّة أيضاً ما رواه في الوسائل عن علي(ع) أنّه قال: >سمعت رسول الله(ص) يقول: لعن الله المتشبّهين من الرجال بالنساء، والمتشبِّهات من النساء بالرجال< ([40]).
ويناقش: أنّ التشبُّه المراد هنا هو قيام الرجل بفعل قوم لوط وقيام المرأة بجريمة المساحقة، كما ورد عن النبي(ص) أنّه قال: >لعن الله المشتبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النِّساء بالرجال، قال: وهم المخنثون واللاتي ينكح بعضهنّ بعضاً< ([41])، والرواية المستدل بها على الحرمة هي عن أمير المؤمنين(ع): >أنّه رأى رجلاً به تأنيث في مسجد رسول الله(ص) فقال له: أخرج يا لعنه رسول الله(ص) ثم قال: سمعت رسول الله(ص) يقول: وذكر الحديث<، فيُعلم أنّ حرمة تشبّه الرجال بالنساء والنساء بالعكس هي حرمة خاصة بتشبُّهٍ خاص لا أنّ كلّ تشبُّهٍ هو حرام فلا يشمل حلق اللحية.
وقفة مع الرواية الأهم في دليل الحرمة
والرواية العمدة التي يستدلّ بها على الحرمة هنا ما رواه ابن إدريس في آخر كتاب السرائر ـ نقلاً عن جامع البزنطي ـ عن الإمام الرضا(ع) قال: >وسألته عن الرجل هل يصلح له أن يأخذ من لحيته؟ قال×: أمّا من عارضيه فلا بأس، وأمّا من مقدمها فلا< ([42]).
وهناك مناقشات في هذه الرواية وهي:
1 ـ نوقش الاستدلال بهذه الرواية أنّ سند ابن إدريس (598هـ) إلى البزنطي صاحب الإمام(ع) مجهول. وأجيب بأنّ ابن إدريس يروي جميع كتب الشيخ الطوسي ـ ومنها كتاب الفهرست ـ فإذا كان يروي كتاب الفهرست وما اشتمل عليه من الكتب والأصول فحينئذٍ تكون طرق الشيخ إليها طرقاً لإبن إدريس، والنتيجة خروج روايات مستطرفات السرائر عن حدّ الإرسال ودخولها في حيّز المسانيد، والطريق صحيح([43])، فضلاً عن أنّ الرواية رواها أيضاً علي بن جعفر في كتابه وطريق صاحب الوسائل إليه ينتهي إلى الشيخ الطوسي، وسند الشيخ إلى الكتاب صحيح([44]).
2 ـ وقد أشكل السيد الخوئي على الدلالة بالقول: إنّ ظاهر الرواية حرمة الأخذ من مقدّم اللحية ولو لم يصدق عليه الحلق, وهذا مقطوع البطلان، وعليه فلا يصحّ التمسّك بظاهر الرواية لإثبات الحرمة؛ فالأولى حملها على استحباب توفير مقدم اللحية، ويؤيد هذا الحمل ما ورد عن محمد بن مسلم قال: >رأيت أبا جعفر والحجّام يأخذ من لحيته, فقال دوّرها< ([45]).
3 ـ كما نوقش هنا بأنّ السائل سأل عن الصّلوح, والصّلاح وعدمه يناسب الكراهة كما يناسب الحرمة؛ فقد ورد مثل هذا التعبير في الروايات كقول الإمام(ع) في قرض الأظافر في الصلاة: >وإن كان متعمّداً فلا يصلح له<. كما أنّ لفظ (أخذ) عندما يتعدّى بحرف (من) يفيد البعضية، نعم لو لم يتعدّ بهذا الحرف أمكن دعوى ترادف الأخذ والحلق، والذي يؤكِّد ذلك ورود اللفظ نفسه في عدّة أخبار مع ظهوره في أخذ بعض اللحية، كما مرّ في رواية محمد بن مسلم.
ومن هذا يتّضح أنّ الرواية ناظرة إلى بيان جواز الأخذ من العارض، وكراهية الأخذ من شعر اللحية أو من مقدمها طولاً([46])، والإصرار على دلالة الرواية على الحرمة قد ينطلق من أنّ السائل هو علي بن جعفر وهو من الفقهاء فلا يعقل في حقّه أن يسأل عن الأخذ بمعنى جواز التخفيف([47])، لكنّ هذا الإصرار لا يفيد؛ لأنّ الملاحظ أنّ السائل قد ركّز في سؤاله على قيد الرجولة؛ حيث قال: هل يصلح للرجل، ولم يقل مثلاً: هل يصلح للمرء، مما يشير إلى أنّ نفَسَ الرواية نفس تنزيه لا نفس تحريم، وسيتّضح هذا أكثر عند ذكر دليل السيرة.
4 ـ وهناك إشكال آخر احتمله العلامة البلاغي في رسالته, وهو أنّ دلالة الرواية على الحرمة متوقفة على كون الأخذ الذي رُخّص فيه في العارض هو الحلق ونحوه في موضع التحسين الذي هو فوق اللحية من العارضين لكي يبقى البأس في الأخذ من مقدمها والنهي عنه سالماً عمّا يصرفه إلى الكراهة وأما إن كان الأخذ بمعنى الإصلاح بالمقراض من نفس اللحية فهو إن جاز في العارضين جاز في مقدّم اللحية فيحمل البأس والنهي على الكراهة نظراً إلى أن توفير اللحية في طولها أهم منه في عرضها([48])
3 ـ 3 ـ الاستدلال بالإجماع على نظرية التحريم، قراءة نقدية
وقع الاستدلال بالإجماع في كتب بعض العلماء كما نقل عنهم كالشيخ ابن سعيد في جامعه([49]) والسيد الدّاماد في شارع النجاة والشيخ البهائي في اعتقاداته، كما نقل عن بعض متأخّري المتأخرين كالشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والسيد حسين الحمامي أنّهما ادّعيا الإجماع على حرمة حلقها([50]).
يقول الشيخ البلاغي في رسالته: … ومن أنّ جماعةً من العلماء أرسلوا الفتوى بالتحريم إرسال المسلّمات ولم يشيروا إلى خلافٍ أو شبهة خلاف كما هو دأبهم في المسائل التي فيها خلاف([51])، هذا فضلاً عن أنّ المسألة من محالّ الابتلاء الواسعة جداً والتي يبتلي بها كل رجل عادةً، فمن البعيد جداً أن يظهر المخالف ولا ينقل ذلك في كتاب أحدهم، وليس الاتفاق في مسألة كهذه إلاّ دليلاً على صدور الحكم الشرعي عن المعصوم.
لكن يمكن ذكر إشكالين اثنين على هذا الاستدلال:
الأوّل: إنّ كتب القدماء خالية عن التعرُّض لهذه المسألة، وأنّ بعض من نسب إليهم دعوى الشهرة أو الإجماع لم يتأكّد صدور هذه الدعوى منهم([52])، بل صرّح بعضهم أنّ أول من تعرّض للموضوع من أصحابنا هو ابن سعيد الحلي (690هـ) في جامعه، ونسبةُ نقل الإجماع إليه غير تامّة([53])، وذكر الشيخ جواد التبريزي بعد كلام طويل ما نصّه: >… إني لم أظفر على ما يدلّ على الشهرة بين الأصحاب في حرمة حلق اللحية< ([54]).
الثاني: إنّ المجمعين إمّا أن يكونَ رأيهم الذي اتفقوا عليه بغير مستندٍ ودليلٍ, أو عن مستند ودليل؛ ولا يصحّ الفرض الأوّل؛ لأنّ ذلك مستحيل عادةً في حقّهم فيتعين الفرض الثاني وهو أن يكون لهم مدرك خفي علينا وظهر لهم، ومدارك الأحكام عند الإمامية منحصرة في أربعة: الكتاب والسنّة والإجماع والعقل، ولا يجوز أن يكون مدركهم ما عدا السنّة من هذه الأربعة، أمّا الكتاب فلأجل أنّه لا يمكن فرض آيةٍ منه خفيت علينا وظهرت لهم ولو فُرض أنّهم فهموا شيئاً من آيةٍ خفي علينا وجهه فإنّ فهمهم ليس حجةً علينا. وأمّا الإجماع فواضح أنّه لا يصحّ أن يكون مدركاً لهم لأن هذا الإجماع الذي صار مدركاً للإجماع ننقل إليه الكلام أيضاً فنسأل عن مدركه، فلابُدّ أن ينتهي إلى غيره من المدارك. وأمّا العقل فأوضح لأنّه لا يُتصوّر هناك قضيّة عقلية يتوصّل بها إلى حكم شرعي كانت مستورة علينا وظهرت لهم؛ ضرورةَ أنّه لابُدّ في القضيّة العقلية التي يُتوصل بها إلى الحكم الشرعي أن تتطابق عليها آراء جميع العقلاء وإلاّ فلا يصحّ التوصُّل بها إلى الحكم الشرعي؛ فانحصر مدركهم في السنّة بأن يستند المجمعون إلى روايةٍ عن المعصوم خفيت علينا وظهرت لهم، ولا يفيد هذا الإجماعُ القطعَ بالحكم أو كشفه عن الحجّة الشرعية لاحتمال أنّ المجمعين كانوا متّفقين على اعتبار خبرٍ سنداً، فمن لا يرى حجيّته لا مجال له في الاستناد إلى مثله، فمن أين يحصل لنا العلم بأنّهم استندوا إلى ما هو حجّة باتّفاق الجميع، إن كان من حيث السّند أو الدلالة ظهوراً أو نصاً([55]).
ومن هنا؛ فالاستدلال بالإجماع في غير محلّه؛ فإنّ غاية ما هناك إجماعات منقولة، وأقصى ما يمكن أن يقال: إنّ الإجماعات المنقولة تصدُّ الفقيه عن التسرُّع بالفتوى إلا بعد التتبُّع التام في كلمات العلماء لتُعرف مدى صحّة الإجماع، لا جعلها مستنداً للفتوى[56].
4 ـ 3 ـ الاستناد إلى سيرة المتشرّعة لاستنتاج نظرية التحريم، تأمّل وتوقّف
وممّا استدل به على الحرمة سيرة المتشرِّعين وعملهم، حيث إنّهم من أوّل الإسلام إلى هذا الزّمان يُعرف من أمرهم أنّ حلق اللحية عندهم من المنكرات في دين الإسلام لا يرتكبه إلا متّبع الهوى والشهوات ومن لا يقف عند حدود الشريعة ولا يبالي بنكير أهل الدين، مضافاً إلى أنّه لم يُعْرَف قول عالمٍ يعتدُّ به بجواز حلق اللحية ونحوه، وكفى بذلك دليلاً ينادي بتسالم المسلمين في أجيالهم على الحرمة وأخذهم لها بالتسليم يداً عن يد إلى مصدر الشريعة المطهّرة([57]).
يقول السيد الخوئي: >… وتدلُّ على ذلك أيضاً (أي الحرمة) السيرة القطعية بين المتدينين المتصلة إلى زمان النبي’، فإنّهم ملتزمون بحفظ اللحية ويذمّون حالقها، بل يعاملونه معاملة الفسّاق في الأمور التي تعتبر فيها العدالة< ([58]).
وهكذا سيرة بهذا الحجم لدليلٌ قاطعٌ على حرمة حلقها؛ إذ لا يتناسب الحكم بالحليّة مع هذا الشيوع العام, ويلفت لهذه السيرة أمورٌ:
1 ـ القرائن من الروايات والتاريخ على وجود هذه الصورة عند النبي(ص) والأئمة والصالحين.
2 ـ ملاحظة الأخبار الواردة في غسل الميت والخضاب والديات وآداب الحمام وسائر مظانِّ العثور على ما يدلّ على ارتكازية وجود اللحية ومفروغيّة حرمة حلقها؛ فقد ورد في باب غسل الميت عن الصادق(ع): >إن غسلت رأس الميت ولحيته بالخطي فلا بأس<([59])، وعنه(ع): >… ثمّ تبدأ فتغسل الرأس واللحية بسدر حتى تنقّيه…< ([60])، وعنه(ع): >سألته عن غسل الميِّت ـ إلى أن قال ـ: ثم تحوِّل إلى الرأس واللحية والوجه حتى تصنع كما صنعت أوّلاً بماءٍ قراح< ([61])، وفي المستدرك عن فقه الرضا(ع): >وانظر أن لا تبقى شعرة من رأسك ولحيتك إلا وتدخل تحتها الماء..< إلى الكثير الكثير من هذه الروايات التي تؤكّد مفروغيّة وجود اللحية وحرمة حلقها.
لكنّ الإشكال الذي قد يطرح هنا هو: إنّ وجود اللحية للرجل أمرٌ مفروغ عنه ولا شك في ذلك، لكن من أين نثبت أنّ وجود اللحية سببه حرمة حلقها حتى نقول: إنّ المسلمين ومنذ عصر الرسالة قد تعبّدوا بحرمة حلقها؟ فهل هذا الواقع الموجود ناشىء عن حكم شرعي أم أنّ سببه أمرٌ آخر كفرض أنّ المجتمع العربي والقبائلي كان يرى في اللحية عنوان رجولة الرجل, أو أنها مثال كماله وأنّه من العار أن يكون الرجل بدون لحية؟ وقد نقل لنا التاريخ أنّ قيساً بن سعد كان رجلاً أمرداً لا لحية له، فقال قومه الأنصار: نعم السيّد قيسٌ لبطولته وشهامته ولكن لا لحية له, فوالله لو كانت اللحية تشترى بالدراهم لاشترينا له لحية, وكذلك الأحنف بن قيس كان رجلاً حليماً وكان سيّد قومه فقال بعضهم: وددنا أنّ اشترينا للأحنف لحيةً بعشرين ألف…([62])،حتى أنّ بعض الروايات المتقدّمة أشارت إلى أنّ حلق اللحية من المثلة فمن مثل فعليه لعنة الله؛ ولذا نرى أنّ هناك من العلماء من شكّك في السيرة القائمة على حرمة حلق اللحية.
يقول الشيخ التبريزي: >إنّ المرتكز في أذهان المتشرّعة عدم جواز حلقها (اللحية)، وإن كان في انتهاء هذا الارتكاز إلى عصر الشارع المقدّس تأمُّل؛ لاحتمال حدوثه أخيراً بالرجوع إلى جماعة أفتوا بحرمته، والله سبحانه هو العالم< ([63]). وقال الشيخ محي الدين المامقاني: >أمّا أنّ سيرة المتشرعة إبقاء اللحية وعدم حلقها فهو لا نقاش فيه، إلا أنّ سيرة المتشرعة إذا كانت منبعثةً عن امتثال أمرٍ شرعي وكاشفةً عن حكم الهي كانت تلك السيرة حجّة، أمّا إذا كانت السيرة منبعثةً عن أمر اجتماعي زمني لم تكن تلك السيرة حجّةً ولا كاشفةً عن حكم شرعي أصلاً، وعند الشك فأصالة الإباحة محكّمة< ([64]).
هذا، فضلاً عن أنّ السيرة عندما تكون حجّةً فأقصى ما تقتضيه هو الدلالة على مشروعيّة الفعل وعدم حرمته فيما لو كانت السيرة قائمةً على الفعل, أو الدلالة على مشروعية الترك وعدم وجوب الفعل فيما لو كانت قائمةً على الترك، وأنّ السيرة بما هي سيرة لا يستكشف منها وجوب الفعل ولا استحبابه في سيرة الفعل، كما ولا يستكشف منها حرمة الفعل ولا كراهته في سيرة الترك فلا دلالة على الحرمة([65]).
الدية والتلازم القانوني مع تحريم حلق اللحية، تفكيك ونقد
هذه الفكرة أفادها العلامة الشيخ علي ـ أحد أحفاد الشهيد الثاني ـ في كتابه: الدرّ المنثور حيث قال: >قد قرّر الشارع أنّ في شعر اللحية الدّية إذا لم ينبت ومع النبات الأرش، والمراد إزالة شعرها بأيِّ وجهٍ كان، وما كان فيه الدّية على الجاني ففعله حرامٌ مع العمد، فاللحية حكمها حكم النفس والأعضاء والمنافع ونحوها التي ثبت فيها الدية على بعض الوجوه وحرمته كحرمتها.
وهذا لا شبهة في تحريمه إذا كان من فعل الغير، حتى أنّ الدّية قد ثبت مع العمد للاحترام المذكور، والظاهر تحريم ذلك إذا وقع من نفسه فإنّه من المعلوم أنّه يحرم أن يقتل الإنسان نفسه أو يقلع عينه أو يقطع يده عمداً، فشعر اللحية إذا أزاله كان كغيره ممّا فيه الدية لا من باب القياس بل من الجهة المذكور. وليس هذا من قبيل الأموال لكون الناس مسلّطين على أموالهم، للفرق الظاهر، على أنّ الأموال لو أتلفها صاحبها أو أسرف فيها أو كان على وجه السّفه والتبذير ونحوه كان حراماً. وحاصله: اللحية مما هو كمال الرجل وله حرمة شرعاً يلزم بانتهاكها الدّية إذا كان من الغير مع التحريم في بعض الصُّور، والتّحريم إذا كان من صاحب اللحية أو بأمره.
فإن قيل: الدّية تلزم أيضاً في شعر الرأس والإنسان لو حلق رأسه أو جزّه لم يكن ذلك حراماً عليه.
قلت: هذا خرج بدليل، والدليل دال أيضاً على الاستحباب من صاحبه أو من يأمره في الحلق وعلى الجواز في الجزّ، وربما استحبّ أيضاً وقد يجب الحلق بدليل ومع هذا لو كان بجنايةٍ من الغير كانت الدية ثابتة بالجناية أيضاً، واللحية لم يرد فيها ما يقتضي استثناءها فتبقى على حكمها كغيرها ممّا فيه الدية مع التحريم<([66]).
ونتيجة كلامه أنّ إزالة شعر اللحية فيه الدية على الجاني مع عدم النبات, وكل ما كان فيه الدية على الجاني ففعله حرام مع العمد, فحلق اللحية بإزالة شعرها حرام مع العمد. فالقاعدة هنا هي (كل ما فيه الدية على الجاني ففعله حرام مع العمد).
ويناقش: إنّ الدية إنما تجب مع عدم إمكانيّة النبات مرةً أخرى؛ لأنّ الشارع قد قرّر مع النبات الأرش، وهنا توجد قدرة على النبات بل ربما يقوى الشعر بها. ولو أردنا أن نحصّل الأرش فإننا نفرض الحرّ عبداً بلا لحية ثمّ نقيّمه مع عبدٍ آخر له لحية ثمّ يكون الفرق في القيمة هو الأرش, والنتيجة أنّه لا يمكن تحصيل الفرق بينه وبين غيره مما قد يوحي بأنّ مراد الشارع أمرٌ آخر نذكره لاحقاً إن شاء الله.
ولنا هنا أن نسأل: ما هو الدّليل على صحّة التعميم بين وجود الأرش وحرمة الفعل من غير الجاني, فلو أخذ شخص حيوان غيره وحبسه حتى نحف جسمه ففعله هذا حرام وفيه الأرش لصاحبه، أمّا لو حبسه صاحبه فلا حرمة عليه أصلاً فضلاً عن الأرش؛ إذ لا يعقل أن يثبت الأرش له من نفسه, إلى الكثير من الأمور التي يمكن أن تنخرم بها هذه القاعدة المدّعاة والتي ليس عليها دليل، وإنما أغلب الظن أنّ المستدل قد تصيّدها من خلال ملاحظة أخبار باب الديات، وأنّ كل ما فيه الدّية فهو جناية كقتل النفس وقطع اليد و..
وأمّا قوله: اللحية حكمها حكم النفس والأعضاء والمنافع ونحوها التي ثبت فيها الدية على بعض الوجوه وحرمته كحرمتها وهذا لا شبهة في تحريمه إذا كان من فعل الغير حتى أنّ الديّة قد ثبت مع العمد للاحترام المذكور.. فهذا الكلام في نفسه صحيح لكن لنا أن نقول: إنّه لا من باب أن فيه الدية حتى نلتزم بما التزم به هو, بل من باب أنّ إزهاق النفس وقطع الأعضاء مما هو اعتداء وجناية على النفس، وكما تحرم الجناية من الغير كذلك تحرم من الشخص نفسه، فلو قام هو بحلق لحيته بحيث لا تنبت أصلاً فقد يقال في حقّه: إنّه قد جنى على نفسه وارتكب محرماً بفعلته هذه، وتتم الملازمة بذلك، لكنّ الكلام أنّه مع الإنبات ـ ونحن متأكّدون أنّ اللحية إذا حلقت تنبت مرّةً أخرى ـ لا حرمة عليه في حلقها، وهذا ما قلنا: إننا سنذكره؛ إذ الحرمة ثابتة لعنوان الجناية على النفس لا أنّ مطلق ما يحرم على الغير فعله بالغير يحرم على الشخص فعله بنفسه.
استخلاص واستنتاج
من خلال استعراض الأدلّة المستدل بها على الحرمة لم يسلم لنا دليل لإثبات حرمة حلق اللحية،وغاية ما ثبت لنا منها هو استحباب إعفاء اللحية أو الكراهة الشديدة في حلقها لا أكثر فلا معارض لأصالة البراءة عن حرمة الحلق, فحلق اللحية جائز، نعم لنا أن ندّعي أنّ حلق اللحية أمرٌ مرغوب عنه في الشريعة الإسلامية.
الهوامش
(*) باحث، في الحوزة العلمية، من لبنان.
(1) ابن منظور، لسان العرب، ج15، مادة «لحا»، دار صادر، بيروت، غلاف الكتاب دار الفكر.
(2) ابن فارس، مقاييس اللغة، ج5، مادة «لحي»، نشر مركز النشر في مكتب الإعلام الإسلامي، 1404هـ.
(3) الفيومي، المصباح المنير، اللحية: 551، منشورات دار الهجرة، قم، ط 2، رمضان 1414هـ.
(4) الشيخ عبد المحسن البقشي، حلق اللحية بنظرة فقهيّة: 10، ضمن مجموعة أبحاث جامعة آل البيت العالمية, قم.
(5) المصباح المنير: 551.
(6) فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين، ج3، مادة (لحا)، تحقيق مؤسسة البعثة، ط 1، 1414هـ.
(7) المصدر نفسه.
(8) الراغب الإصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن الكريم: 559، 257، تحقيق: صفوان داوودي، نشر دار القلم، دمشق، دار الشامية، بيروت، 1416هـ.
(9) الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج2، باب 63، آداب الحمام، ح5، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت قم، ط 2، 1414هـ.
(10) مفردات ألفاظ القرآن الكريم: 253.
([11]) علي بن محمد الجبعي العاملي، الدّر المنثور من المأثور وغير المأثور 2: 292، مخطوطات مكتبة المرعشي، ط 1، قم.
([12]) البقشي، حلق اللحية بنظرة فقهيّة: 4.
(16) الطوسي، التبيان 3: 334.
(18) وسائل الشيعة، ج2، باب 67 من آداب الحمام، ح5.
(19) جعفر السبحاني، المواهب في أحكام المكاسب: 390، بقلم سيف الله اليعقوبي، نشر مؤسسة الإمام الصادق، قم، ط 1، 1410هـ.
(20) العلامة البلاغي، رسالة في حرمة حلق اللحية: 153، تحقيق: الشيخ رضا أستادي، نشر جماعة المدرّسين، مؤسسة النشر الإسلامي، ط 3، في كتاب الرسائل الأربعة عشر، 1423هـ.
(21) علي بن بابويه، فقه الرضا: 66، تحقيق مؤسّسة أهل البيت، نشر المؤتمر الإمام الرضا.
(23) وسائل الشيعة، ج2، باب 67، آداب الحمام، ح2.
(24) انظر الآية: 30 من سورة الروم في تفسير جوامع الجامع، للفضل بن الحسن الطبرسي، تحقيق الدكتور أبوالقاسم كرجي، نشر دانشكاه طهران، ط 3؛ وتفسير النسفي، لعبدالله بن أحمد النفسي، تحقيق الشيخ مروان الشعّار، نشر دارالنفائس، بيروت، ط 1، 1416هـ.
(25) المصدر نفسه.
([21]) سنن البيهقي، باب السنّة في الأخذ من الأظفار والشارب وما ذكر معهما.
([22]) المصدر نفسه، باب كيف الأخذ من الشّارب.
([23]) الصدوق، من لا يحضره الفقيه، ج1، باب حكم حلق اللحية.
([24]) المصدر نفسه؛ وله أيضاً: معاني الأخبار بسند هو: الصدوق، عن الحسين بن إبراهيم المكتب، عن محمد بن جعفر الأسدي، عن موسى بن عمران النخعي، عن عمه الحسين بن يزيد النوفلي، عن علي بن غراب، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه.
(32) البلاغي، رسالة في حرمة حلق اللحية: 142.
([26]) المصدر نفسه.
(34) المواهب: 382.
(35) وسائل الشيعة، ج2، أبواب آداب الحمام، باب 67، ح4.
(36) نوع من السّمك.
(37) أبو القاسم الخوئي، مصباح الفقاهة 1: 411، في الحاشية، ط 1 المحققة، نشر مكتبة الداوري، قم.
(38) السيد علي حسين مكي، حلق اللحية في الموقف الفقهي: 41، نشر دار الأمير، بيروت، 1415هـ، ط 1.
(39) قال ابن داوود في رجاله: >حبابة الوالبية ممدوحة<.
(40) عبد الهادي الفضلي, الرأي الفقهي في حلق اللحية: 9، مجلّة المنهاج، العدد 21، 1422هـ.
(41) المحدث حسين النوري، مستدرك الوسائل 1: 406، باب4، آداب الحمام، ح1، تحقيق ونشر مؤسسة أهل البيت^ لإحياء التراث، قم، ط 1، 1408هـ.
(42) حلق اللحية في الموقف الفقهي: 38.
(43) المصدر نفسه.
(44) المواهب: 393.
(45) وسائل الشيعة 15: 164، باب 64، أبواب جهاد العدو، ح1.
(46) المواهب: 394.
(47) وسائل الشيعة، باب تحريم تشبّه الرجال بالنساء، ح2, رواه عن الصدوق في العلل، عن أبيه، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن أحمد، عن أحمد بن أبي عبد الله، عن أبي الجوزاء، عن الحسين بن علوان، عن عمرو بن خالد، عن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي×، عن رسول الله’.
(48) الكليني، الكافي 5: 550.
(49) وسائل الشيعة، باب 63، من أبواب آداب الحمام، ح5.
(50) الشيخ مسلم الداوري، أصول علم الرجال بين النظرية والتطبيق 1: 191 (مختصر)، بقلم محمد علي المعلم، نشر مؤسسة المبين للطباعة والنشر، ط 1 للناشر. وقد عثر المؤلف على ثمان إجازات روائية تثبت ذلك.
(51) الشيخ جواد التبريزي، إرشاد الطالب 1: 146، نشر مؤسسة إسماعيليان، قم، ط 3، 1416هـ.
(52) وسائل الشيعة، باب 63، من أبواب آداب الحمام، ح1، 4.
(53) حلق اللحية في الموقف الفقهي: 51 ـ 53.
(54) حلق اللحية بنظرة فقهية: 11.
(55) رسالة في حرمة حلق اللحية: 153.
(56) ابن سعيد الحلي، الجامع للشرائع: 30، تحقيق لجنة التحقيق بإشراف الشيخ السبحاني، نشر مؤسسة سيد الشهداء، قم، 1405هـ.
(57) انظر: حلق اللحية في الموقف الفقهي.
(58) رسالة في حرمة حلق اللحية: 100.
(59) حلق اللحية في الموقف الفقهي: 28.
(60) المواهب: 388.
(61) إرشاد الطالب 1: 144.
(62) علي رضا أميني وسيد محمد رضا آيتي، تحرير أصول الفقه للمظفر: 161، نشر دانشكاهاي سمت ومؤسسة فرهنكي طه، قم، ط 1.
(63) الشيخ جعفر السبحاني، الوسيط في أصول الفقه 2: 58، نشر مؤسسة الإمام الصادق، ط 1، 1422هـ.
(64) رسالة في حرمة حلق اللحية: 155.
(65) مصباح الفقاهة 1: 412.
(66) وسائل الشيعة 2: 486، ب2، ح12.
(67) المصدر نفسه، ح10.
(68) النوري، مستدرك الوسائل ج1، باب 29، من أبواب الجنابة، ح3.
(69) حلق اللحية بنظرة فقهية: 12.
(70) إرشاد الطالب 1: 148.
(71) الشيخ عبد الله المامقاني، مرآة الكمال 2: 35، في الحاشية، تحقيق محي الدين المامقاني، نشر دليل ما، قم، ط 1، 1424هـ.
(72) الفضلي, الرأي الفقهي في حلق اللحية: 11.
(74) الدر المنثور في المأثور وغير المأثور: 293.