حب الله: بدأ تداول هذا المصطلح منذ حوالي العقد والنصف تقريباً بشكل مبعثر هنا وهناك، ولكنّه أخذ بالتنامي في السنوات الأخيرة عقب تزايد وتيرة التطرّف المذهبي في العالم الإسلامي بعد سقوط النظام العراقي، ولا يمكن الحديث عن تعريف موحّد لهذه الكلمة، ففيما يرى بعضهم أنّ السلفيّة الشيعيّة هي تعبير عن انغلاق شيعي تامّ وسعي لاستنساخ التاريخ بكلّ تعقيداته وتجلّياته، يذهب آخرون إلى أنّ السلفية الشيعية هي نمط تكفيري يشابه النمطَ الموجود عند بعض أهل السنّة، والذي يبدو لي أنّ السلفيّة الشيعية ـ إذا أردنا أن نصرّ على استخدام هذا المصطلح ـ ليست طيفاً واحداً، بل هي متعدّدة الأطياف بحيث نجد شدّة هنا وضعفاً لها هناك، لكنّ معالم هذه السلفية تبدو لي في العناصر التالية: أولاً: سعي دؤوب بكلّ قوّة للتركيز على الخصوصيّات المذهبية، مقابل تحفيف الإضاءة على العناصر المشتركة بين المذاهب، وهذا ما يجرّ بشكل تلقائي إلى محاولة الحفر في التراث لالتقاط كلّ عنصر مختلف، بوصفه معلماً من معالم التشيّع، فيما يتمّ تفسير العناصر المشتركة والوحدويّة في التراث على أنّها جاءت لأسباب طارئة كالتقية وغيرها، ومن ثمّ فهي لا تمثل العمق الأصيل للمذهب الشيعي. وهذا ما قد يؤدّي إلى رسم مسلسل جديد للأولويات وتحديد مختلف للعدو أيضاً. ثانياً: توجيه سهام النقد الداخل ـ مذهبي إلى مشروع التقريب بين المذاهب واعتباره تضحيةً بالمذهب لمصالح سياسية بحتة. ثالثاً: السعي لإخراج المذهب الشيعي من مرحلة التقية والمعارضة إلى مرحلة الإعلان والمواجهة الصريحة والشفافة، وهذا ما يفسّر ما تبثه بعض القنوات الشيعية من لعن الخلفاء والصحابة وأمّهات المؤمنين، وبيان عيوبهم بكلّ أسلوب ممكن. رابعاً: رفض أن يمثل التشيّع أيّ تيار فكري آخر داخل المذهب الشيعي، والتشكيك في طهارة مولد الكثير من التيارات الفكرية الشيعيّة المعاصرة الأخرى التي لا تذهب هذا المذهب. خامساً: المبالغة في إبراز الجوانب الشعائريّة للمذهب الشيعي وتحويلها من طقوس وشعائر ظاهريّة إلى جوهر أصيل للمذهب الشيعي، تماماً كتحويل التاريخ إلى معتقدات، وهو تحويل بالغ الخطورة.
س2: ما هي الأسس العقديّة التي تنهض عليها السلفيّة الشيعيّة؟ وإلى أين تمتدّ جذورها؟
حب الله: هذا الاتجاه الفكري ليس مذهباً آخر داخل المذهب الإمامي، لكنّه تيار من تيارات التفكير العقدي، ولكي أميّز يمكنني أن أتحدّث عن ثلاثة اتجاهات أساسيّة اليوم في التفكير العقدي الإمامي تدور حول قضية الإمامة وتفسيرها: الاتجاه الأوّل يميل إلى أخذ الحدّ الأعلى للإمامة، وهم الذين يذهبون ـ إضافةً إلى ما يقوله الاتجاه الثاني الآتي ـ إلى اعتبار الأئمّة وسائط في الفيض الإلهي، وأنّهم مظهر الأسماء والصفات الإلهيّة، وأنّ لهم الولاية على عالم الوجود وهم سلاطينه الذين يديرون الوجود كلّه، وأنّهم يعلمون الغيب وما كان وما سيكون إلى يوم القيامة، وأنّهم يعلمون كلّ شيء بما في ذلك اللغات وكلّ صغيرة وكبيرة في هذا الكون، وأنّهم مستقلّون بالتشريع حتى بعد وفاة النبيّ، وأنّهم عين القرآن وليس شيئاً غيره، وأنّهم محدَّثون وتنزل عليهم الملائكة وتُعرض عليهم أفعال العباد دوماً، وأنّ الإمامة حلقةٌ في سلسلة نظام الوجود كلّه، وأنّهم مذ كانوا أجنّةً في بطون أمّهاتهم كانوا معصومين عن الذنب مطلقاً وعن الخطأ مطلقاً وعن النسيان مطلقاً، وأنّ الأئمّة خلقوا قبل خلق العالم وكانوا أنواراً، وأنّهم الذين يحاسبون الناس يوم القيامة بأمر من الله تعالى وترجع إليهم الناس ويكون بعثها لهم، وأنّ حياتهم محكومة لنظام الكرامات والنشاط الغيبي الدائم أو شبه الدائم، وأنّ من المستحيل فهم حقيقتهم، وأنّ الصحابة وأمّهات المؤمنين ارتدّوا وكفروا إلا القليل النادر، وأنّ أهل السنّة كفار حقيقةً وإن تعاملنا معهم معاملة ظاهر الإسلام في الدنيا.. وهذا الفريق يوجد بعض الاختلافات في بعض التفاصيل المشار إليها بين أنصاره. ويستند هذا الفريق إلى عددٍ من الأدلّة ذات الطابع الفلسفي حيناً، والصوفي العرفاني حيناً آخر، وكذلك إلى عدد من النصوص الحديثية الموجودة في مختلف مصادر الحديث عند الإماميّة وغيرهم. وهذا هو التوجّه الذي يميل إليه الاتجاه الذي تطلقون عليه (السلفية الشيعية). الاتجاه الثاني: وهو الذي يميل إلى أخذ الحدّ الأوسط، حيث يرى هؤلاء أنّ الإمامة امتدادٌ للرسالة النبويّة، وحماية لها، واستمرار ضروري لمشروعها، وأنّها ضرورة وليست خياراً، وأنّها إدارة شؤون الناس في الدنيا والدين على مستوى الاجتماع البشري لا على مستوى التكوين، وأنّ المطلوب منّا هو: 1 ـ الاعتقاد بإمامتهم المنصوص عليها من الله تعالى بوحي أنزله على رسوله، وأنّهم معصومون مطهّرون من الذنب مطلقاً وعن الخطأ في الدين. 2 ـ اعتبارهم مرجعاً في أخذ الدين الذي نزل على محمّد، فلابدّ من الرجوع إلى سنّتهم الشريفة التي هي شرحٌ معصوم للكتاب والسنّة النبويّة، وهذه هي (المرجعية العلمية). 3 ـ لزوم طاعتهم وثبوت ولايتهم على الناس، فهم الحكّام الحقيقيّون للأمّة بعد وفاة الرسول، والأمّة ملزمة بإطاعتهم فيما يأمرون وينهون، وهذه هي (المرجعيّة السياسية). 4 ـ لزوم محبّتهم ومودّتهم بمقتضى مثل آية المودّة وأن تعيش الأمّة معهم حالةً عاطفيّة وعشقيّة، وهو ما يتجلّى في مثل شعائر عاشوراء الحسين وزيارة مراقدهم وبيان مظلوميّتهم، ويمكن أن نسمّي هذه بــ (المرجعيّة الروحيّة). وهذا كلّه معناه أنّهم يرون أنّ الرسول قد نصّب علياً إماماً من بعده يتلوه أحد عشر إمام، وأنّ هؤلاء الأئمّة معصومون في مجال تبليغ الدين وفي سلوكيّاتهم الأخلاقية، وأنّ الأمّة قصّرت باستبعادهم عن المرجعيّة العلميّة والأخذ منهم، وأنّهم أفضل شرّاح القرآن والسنّة و.. 5 ـ الاعتقاد بأنّهم محلّ رعاية الله وتسديده، وأنّه قد تصدر منهم الكرامات والبركات، وأنّ العباد تسأل الله وتدعوه بحقّهم وحقّ الأنبياء جميعاً، ولكنّ حياتهم كانت تجري ـ في غالبيتها الساحقة ـ على وفق النظام الطبيعي ولم تكن تجري على أساس قوانين الغيب المتعالية عن قانون الطبيعة، فهم بشر كسائر الناس لهم فضلهم وبركتهم ومقامهم عند الله تعالى. ومن هنا لا يؤمن هؤلاء بولاية أهل البيت التكوينية ولا بعلمهم بالغيب ولا بكونهم أنواراً ولا بعلمهم المطلق، ولا بحسابهم للناس أو كونهم المعاقب والمثيب، ولا بكونهم تجليّاً للصفات والأسماء الإلهيّة، ولا بكونهم من يوجّه إليه دعاء المؤمنين، بل الدعاء لله وحده، وغير ذلك مما قاله الفريق الأوّل، وقد نجد بعض رجال هذا الاتجاه يرى بعض أفكار الاتجاه الأوّل. 6 ـ الذهاب إلى أنّ ما حصل بعد وفاة الرسول كان غصباً للخلافة، لكنّ المهم اليوم هو التركيز على مرجعية أهل البيت العلمية والروحيّة في الأمّة، وترك الحديث (إلا في مجال البحث التخصّصي) عن التاريخ والاستغراق فيه، وعدم الدخول في مشاحنات طائفيّة، ولا سبّ أو لعن أحد من السابقين، بل يقولون بأنّ (تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم)، وأنّنا نتبرأ منهم بتركهم وعدم الأخذ بأفعالهم ولا الاقتداء بهم فيما أقدموا عليه… وكما الاتجاه الأوّل كذلك الحال في هذا الاتجاه، حيث يختلف أنصاره في بعض التفاصيل هنا وهناك. ويستند هؤلاء في مقالاتهم إلى النصوص القرآنية والحديثية الكثيرة التي يرونها لصالحهم، وأنّ الأحاديث التي لصالح الفريق الأوّل إمّا مجعولة أو ضعيفة السند أو معارضة للقرآن والتاريخ. الاتجاه الثالث: وهو الذي يرى أنّ أهل البيت ليسوا سوى علماء أبرار، وأنّهم مرجع يهتدى به، لكنّهم ليسوا منصوصاً عليهم بالاسم، ولا معصومين، ولا غير ذلك ممّا قاله الفريق الأوّل، وهذا هو الذي طرحه مؤخراً وبقوّة الشيخ محسن كديور في إيران.
وأمام هذه الاتجاهات الثلاثة، نجد الاتجاه الأوّل يتّهم الفريق الثاني والثالث بالتقصير في حقّ أهل البيت، وبرفض البعد اللاهوتي في شخصيّتهم، وبالتأثر بأهل السنّة عامّةً وبالمذهب السلفي خاصّة. فيما يرى بعض أنصار الفريق الثاني وكلّ أنصار الفريق الثالث، أنّ الفريق الأول مغالٍ في حقّ أهل البيت، وأنّ أهل البيت حاربوا هذا الغلو، وأنّ الغلوّ الذي حاربوه ليس هو تأليه أهل البيت في عرض الله، حيث لم يقل أحد بذلك في التاريخ، بل الغلوّ هو هذا الذي يدّعيه الفريق الأول. بل قد نجد هنا وهناك كلمات يطلقها بعض أنصار الفريق الثاني والثالث في حقّ الفريق الأول معتبرين أنّ بعض ما يقولونه أو يفعلونه شرك. ويرى الفريق الثاني أنّ الاتجاه الثالث أخطأ في نفيه النصّ على أهل البيت والعصمة، ويرى أنّهما صحيحان وموجودان في التراث والتاريخ والحديث، فيما يرى الفريق الأوّل أنّ الفريق الثالث ليس من الشيعة أساساً؛ لأنّ كلّ من ينكر النص والعصمة لا يمكن أن يكون إماميّاً مطلقاً.
وإذا أردنا أن نحلّل جذور التحوّل هذا، فيمكن الرجوع إلى ما تركه لنا العصر الصفوي، ففي هذا العصر ظهرت التيارات الإخباريّة المذهبيّة الشيعية، وفي الوقت عينه ظهرت مدرسة صدر الدين الشيرازي الصوفية الفلسفيّة. فعلى خطّ المذهب الإخباري الذي تنامى بفضل الصراع العثماني الصفوي نجد رغبة دائمة في التمايز عن أهل السنّة، فظواهر الدلالات القرآنيّة ليست حجّة عند كثيرين منهم، وكذلك العقل في مساحة كبيرة منه، وكذا الإجماع، والمرجعيّة الأولى هي نصوص أهل البيت الحديثية التي ارتقى بها بعض الإخباريين إلى حدّ أنّها يقينية في صدورها ودلالاتها، مقتربين من تيار كبير عند أهل السنّة في التعامل مع الصحيحين. لقد انتقد الإخباريون قبل عدّة قرون التقارب بين السنّة والشيعة، ورفضوا سياسة الشيخ الطوسي (460هـ) والعلامة الحلي (725هـ) في التواصل العلمي مع أهل السنّة والاستفادة من منجزاتهم وتجاربهم ونقل أفكارنا إليهم بطرق هادئة. وأمّا على خطّ مدرسة صدر الدين الشيرازي (1050هـ) الفلسفيّة، فقد أخذت هذه المدرسة عرفان ابن عربي وتصوّفه، والتقطت نظريات (الإنسان الكامل، والشخصية المحمّدية، والصادر الأوّل) التي عليها مدار الوجود، ثم تمّ إسقاط هذا المنجز الصوفي الفلسفي على نظرية الإمامة الشيعيّة، فانتقلت نظريّة الإمامة في العصر الصفوي من كونها نظريّة ذات بعد اجتماعي ديني ومعرفي في الحياة الإسلاميّة كما كان يفهمها متكلّمو بنو نوبخت والشريف المرتضى والشيخ المفيد والشيخ الطوسي وغيرهم، إلى بُعدها الوجودي التكويني، ليصبح الإمام حلقة في سلسلة حلقات الوجود كلّه، وتكون له الولاية التكوينية على العالم كما رأينا. إنّه انتقال ليس بالبسيط، وإنّه التحوّل التاريخي الكبير الذي أخرج تيارات منزوية نسبيّاً في التاريخ الشيعي إلى أن يصبح لها دور كبير في العصور المتأخّرة، دون أن أتدخّل هنا في عملية التقويم، وأيّ من هذه التيارات هو الصحيح أو غير الصحيح من زاوية نقدية وعلميّة ودينية. وهذا كلّه يعني أنّ الجذور تمتدّ إلى السياق السياسي من جهة، والسياق الفلسفي الصوفي من جهة ثانية، ومن اللافت للنظر أنّه على الدوام كانت هناك صراعات بين التيار الإخباري والصوفية، لكنّهما في هذا الموضوع التقيا على مشتركات ليست قليلة.
س3: هل ثمّة حضور للسلفيّة الشيعية في لبنان؟ وبماذا يطالب دعاتها؟
حب الله: أعتقد أنّه رغم بعض المشتركات الفكرية بين الحركة الإسلاميّة السياسية الشيعية وما يسمّى بالتيار السلفي الشيعي، إلا أنّ نقاط الاختلاف ليست قليلة، فمهما فسّرنا فكرة الوحدة الإسلاميّة التي ينادي بها الإسلام الثوري الشيعي، فإنّ هذه الفكرة تشكّل أساساً من أساسيات نشاطه، ويرى العديد من التيار الآخر أنّ التيار الثوري الشيعي فرّط في المعتقد المذهبي لصالح الأهداف السياسية. فعندما يكون العدوّ الإسرائيلي هدفاً أساسيّاً للحركة الإسلاميّة، فيما نجد تنامياً لمعاداة السنّة في التيار السلفي الشيعي، فمن الطبيعي أن تحدث تمايزات في الأولويّات. إنّ مطالب السلفيّة تجاه الحركة السياسية الشيعية تتلخّص في ضرورة وقف ما تعتبره تنازلات مذهبيّة من جهة، والحدّ من تجاهل معاداة المذهب السلفي السنّي أو تفسيرها حرباً سياسية وليست عقائديّة، فهناك رغبة واضحة عند الاتجاه السلفي في تفسير ما يحدث في المنطقة اليوم بأنّه حرب عقائديّة مذهبية، بينما يسعى التيار السياسي وبكلّ قوّة لاعتبارها حرباً سياسية ذات خيوط عقائديّة. وهناك مبرّرات كثيرة للاعتبارين المشار إليهما. ولا يبدو لي أنّ ما يسمّى بالتيار السلفي الشيعي يمسك بزمام الأمور، بل ما زال على الهامش على مستوى القرارات الكبرى في الأمّة الشيعيّة، ولا يملك حضوراً سياسياً مؤثراً في الساحة وفي الأحداث، بل يقتصر حضوره على بعض الجوانب الإعلامية والثقافية والتعبويّة. كما لا يبدو لي أنّ تأثيره في الحركة السياسية بارز، رغم بعض عناصر الالتقاء العقديّة التي قد نجدها بينه وبين بعض شخصيّات التيارات السياسيّة. النقطة المهمّة هنا هي كيف يفكّر الفريقان في تحقيق ما يراه كلّ واحد منهما أهدافاً أساسيّة.
س4: هل تخافون على التيار الشيعي الوسطي (الديني) من الخطاب السلفي، تحديداً على مستوى الإيمان الجمعي لدى الجمهور الشيعي في لبنان؟
حبّ الله: إذا ظلّ تنامي التوتر الطائفي في المنطقة على وتيرته فإنّ المخاوف سوف تزداد بشكل طبيعي، ويمكن قياس الأمور على ما يحصل في الداخل السنّي أيضاً، فكلّما تنامى التوتر الطائفي في المنطقة رأينا تزايداً لحضور المنطق المذهبي المنغلق في الوسط السنّي، هذا هو المنطق الطبيعي للأشياء، لكنّني أستبعد أن يصل الحال بالمجتمع الشيعي في بلدٍ مثل لبنان إلى حدّ إمساك التيار السلفي بمفاصله؛ إذ لا الوضع الشيعي يسمح بذلك، ولا المصالح العليا السياسية للجماعة يمكن لها أن تتحقّق في ظلّ وضع من هذا القبيل، ما لم نشهد ظهوراً للبراغماتية في العمل، بحيث يتحوّل الفكر السلفي من العقديّة إلى البراغماتيّة، كما رأيناه في بعض المواقع على المستوى السنّي، وهذا التحوّل نحو البراغماتية، والذي يفرضه الواقع الضاغط اللبناني الذي لن يسمح بخطاب طائفي لمدّة طويلة، سوف يترك أثره مرّةً أخرى على البنية الفكرية والثقافية شئنا أم أبينا، فهناك علاقة جدليّة، فالخطاب المذهبي المنغلق يمكن أن يحظى بشعبيّة في ظلّ تشنّج طائفي، لكن عندما يؤدي التشنّج الطائفي إلى انفجار كبير لا يتحمّله المذهب هنا أو هناك، فهذا يعني أنّ الخطاب المذهبي سيخضع للتشذيب انسجاماً مع ضرورات المرحلة (البراغماتيّة)، ويترك هذا الأمر على المدى البعيد تأثيره في تحويل الخطاب المرحلي البراغماتي إلى جزء من الخطاب الديني العام، فاسحاً المجال مرّةً أخرى لتيار تقريبي غير منغلق. إنّ بلداً مثل لبنان لا يمكنه في تقديري تحمّل خطاب سلفي منغلق لفترة طويلة، سواء كان شيعياً أم سنيّاً أم غير إسلامي، حتى لو رأينا فيه بعض الجيوب السلفية هنا وهناك عند هذا المذهب أو ذاك، ممّا يمكن أن يستخدمه السياسيّون بمثابة أوراق ضغط لا أكثر.
ويمكنني أن أشير أخيراً إلى أنّ الشيعة في لبنان وإن تعرّفوا خلال العقود الأخيرة على قراءات جديدة ومختلفة للتشيّع ما كانوا ألفوها من قبل، إلا أنّ عقليّة التعايش والتسامح والتواصل ما تزال مسيطرة عليهم نتيجة التراكمات التاريخية الكثيرة لظروفهم وتجاربهم، بوصفهم أقليّة كانت تسعى على الدوام لعدم تثوير الأكثرية ضدّها بما يفسد عليها مصالحها، وهذا ما يحول دون تبنّيهم بسهولة خيار مواجهة الأكثرية المحيطة بهم في المنطقة ويضعف من الخطاب الديني المتشدّد مذهبيّاً عندهم ويزويه في دوائر صغيرة مغلقة، أو يحوّله إلى مجرّد خطاب ديني داخلي.
س5: ما رأيكم في حركة الاجتهاد عند الشيعة، وتحديداً لدى المراجع الدينية في قم والنجف؟
حبّ الله: يمكنني بكلّ ثقة أنّ أقول بأنّ حركة الاجتهاد عند الشيعة شهدت نموّاً غير طبيعي خلال القرن الأخير، ففي هذا القرن شهدنا أكبر التنظيرات الأصولية والفقهيّة عند الإماميّة، تلك التنظيرات التي عملت بقوّة على إخراج الفقه الشيعي من وضع منغلق منكمش إلى وضع منفتح حيوي مختلف، وفي هذا القرن ظهر عمالقة في الفكر الشيعي التجديدي. ينبغي الإقرار بأنّ مثل هذه الأمور صارت اليوم من الواضحات، ويبدو لي أنّ التيار التجديدي في الاجتهاد الشيعي ما يزال سائراً بوتيرة جيّدة نسبيّاً، لكنّ هذا لا يمنع عن تأثير حالة الانغلاق الإسلامي العام الذي لفّ العالم العربي والإسلامي منذ بدايات العقد الأخير من القرن الماضي، في حركة الاجتهاد الشيعي، فبعض التيارات التقليديّة أخذت تعيد النظر في مجموعة من الأصول والأفكار التي أنتجها عصر النهضة الشيعي منذ بدايات القرن العشرين مع السيد محسن الأمين والميرزا النائيني، معتبرةً أنّها لا ترقى إلى مستوى التنظير العلمي المعمّق في النصوص الدينية، وأنّها جاءت مجرّد استجابة لضغوطات الواقع، ولم تكن نتيجاً لقراءات داخل ـ نصيّة. بالنسبة لي شخصيّاً أجد أنّ هذا الكلام منطقي في بعض جوانبه، فتنظيرات النهوضيين الشيعة ـ كإخوانهم السنّة ـ كانت، كما يرى أمثال الدكتور أركون، في جزء منها مبسّطة للمشاكل الفكريّة ومحاولةً الالتفاف عليها. لكنّ ذلك لا يعني القطيعة معها، بقدر ما يعني ضرورة الاستمرار في نقدها والبناء على النقد لتكوين تصوّرات أكثر نضجاً. والذي حصل عند بعضهم أن أصيب بردّة فعل واسعة إزاء عقلنة الفقه الإسلامي عموماً أو إدخاله في سياق مناهج البحث الجديدة في قراءة النصوص الدينية، فهناك توجّه لدى بعض التيارات يرفض الاستمرار في مسيرة العقلانية في التعامل مع قضايا الشريعة والتاريخ وغيرهما، ويرى هؤلاء ـ منطلقين من رصيد مذهبي ـ أنّ العقلنة تفضي إلى تحكيم العقل البشري في الشريعة، وتكريس ثقافة (القياس) التي رفضت بشدّة من قبل أئمّة أهل البيت النبوي، لهذا يتوجّس هؤلاء جدّاً من بعض النداءات التي تطالب بأرخنة الفقه ولو جزئيّاً، أو بالاهتمام بالفقه المقاصدي، ويرون في ذلك ما يوجب الريبة والقلق. وبكلمة مختصرة يمكنني القول بأنّ أبرز المرجعيّات الكبرى على المستوى الشيعي اليوم مازال أكثرها يعيش ـ بدرجة معيّنة طبعاً ـ تحت تأثير مقولات عصر النهضة في الستينيات والسبعينيات، وإن لم تبدو مواصلةً للسير قدماً فيه، لكنّ فريقاً آخر يبدو لي محدوداً أخذ يخرج عن هذا الجوّ، ويخيّل لي أنّه لو استمرّ الوضع بهذه الحال فإنّ الجيل القادم من المرجعيّات ربما لا يتفاعل مع مقولات النهضة الدينيّة بقدر ما تفاعل الجيل الحاضر؛ لأنّ المؤشّر الحالي يدلّنا على قلق جزئي في هذا الموضوع.
المطلوب اليوم هو الاستمرار في مسيرة العقلانية الفقهيّة عبر إنتاج نُظُم اجتهاد فقهي متين، وعدم الخوف من نقد التيارات المتشدّدة، وعدم مراعاتها أو مجاملتها بشكل مفرط؛ لأنّ مشكلة حركة التجديد أنّها باتت تخشى على نفسها أن تفقد حضورها في داخل المؤسّسة الدينية، فتقلّل لذلك من سرعتها ونشاطها التجديدي مراعاةً للحال القائمة التي باتت تميل إلى فضاء اللامعقول، ولهذا بتنا نجد عودةً قويّة في بعض الحوزات العلميّة لمناهضة الفكر الفلسفي العقلاني عامّة واتّهامه بالهرطقة والزندقة، رغم ما شهدناه من تطوّر الدرس الفلسفي خلال الفترة الأخيرة مع مثل العلامة الطباطبائي والسيد محمد باقر الصدر.
س6: هل تعتقدون بضرورة إحياء التيار الإصلاحي عند المسلمين في ظلّ سطوة الخطاب الديني المتشدّد؟
حبّ الله: إذا كانت هناك كلمة أقوى من كلمة الضرورة والحتمية واللزوم فإنّني أتبنّاها. نحن اليوم في أشدّ لحظات تاريخ أمّتنا حاجةً للعقل الإصلاحي المتوازن والمدروس، ولو تركنا الأمور للتديّن المنغلق المتشدّد والإقصائي عند مختلف المذاهب فقد لا تقوم لنا بعد ذلك قيامة. يجب الوقوف صفّاً واحداً في مواجهة التديّن التاريخي الاستنساخي الماضوي، وفي الوقت عينه عدم التضحية بالقيم والمفاهيم الدينية الثابتة، وهذا لا يكون إلا بالتعاون والتنسيق بين مكوّنات حركة الوعي الديني على اختلاف انتماءاتها المذهبية والسياسية والاجتماعيّة والفكريّة. وكذلك نحن بحاجة إلى نقد الذات، فقد أخفقنا في امتلاك قلوب جماهير الأمّة في غير موقع، وإنّني من الرافضين بشدّة للتطّهر الذي يمارسه بعضنا عبر لعن الأمّة واتهامها بالتخلّف والرجعيّة، وتنزيه الذات من التقصير والتعويض بقذف الآخرين بألوان الفاحشة. أعرف أنّ الظروف عصيبة على حركة الوعي الديني التجديدي، لكنّ هذا لا يمنع من وجود عناصر متعدّدة للقوّة ينبغي استغلالها. وسابقاً قبل سبع سنوات تقريباً دعوت ـ في حوار صحفي ـ لمؤتمر عام لحركة الإصلاح الديني في العالم العربي، ليس غرضه الدعاية أو بروتوكولات العرب المعتادة، بقدر ما نقصد منه تشكيل هيئات تنسيق والإعداد لتكوين تيار فكري وثقافي له مكوّناته المختلفة وعناصر قوّته التي تجمعه وتتعاون بين أطيافه، وما يدلّني على ضرورة دعوتي هذه أنّها في حينه سبّبت موجة من النقد في أوساط الاتجاه المحافظ في المؤسّسة الدينية، إنّ هذا مؤشر طيّب يفيد في الكشف عن مديات ضرورة عمل من هذا النوع، ينطلق من موقع الحرص على الدين وليس من موقع تصفية حسابات معه.
س7: كيف تقوّمون تجربة دعاة التجديد الديني في إيران، تحديداً عبد الكريم سروش؟
حبّ الله: إنّ تجربة التجديد الديني المتأخرة في إيران تبدو لي تعاني من مشاكل جمّة، فمن جهة خرج سربٌ لا يستهان به من دعاة التجديد الديني في إيران عن إطار الإصلاح الديني، ليختاروا رفض الدين أساساً ويميلوا نحو وجودية سارترية أو إلحاد جديد، وهذا الفريق وإن بدأ يقوى في الفترة الأخيرة بسبب الأزمات السياسيّة والاقتصاديّة، إلا أنّني أعتقد بأنّه لم يقدر بعدُ على تحريك الحالة القائمة وإيجاد زحزحة فيها؛ لأنّ المجتمع الإيراني مجتمع ديني محافظ أو مجتمع روحي مؤمن، وخطاب من هذا النوع من شأنه أن يفقد صاحبه قدرة التأثير المجتمعي ويعزله في حصار النخبة وأوهامها؛ لأنّ مخاطبة أجيال لم تأتِ بعد كمخاطبة أمم قد ماتت، لن تجد لها آذاناً صاغية تسمع. أمّا السرب الآخر من دعاة التجديد الديني فهم أولئك الذين فضّلوا الهروب نحو التصوّف والعرفان؛ لأنّ المشكلة التي يعتقدون أنّ الوضع القائم دينياً يعاني منها ترجع إلى عنصرين: العقيدة والشريعة، فكلّما حرّرنا الدين من الاعتقادات والشرائع صرنا أكثر تسامحاً وأقلّ عنفاً، وبتنا نقترب أكثر من المشاركة والتعدّدية والديمقراطية وغير ذلك من الأمور التي تتوق إليها اليوم المجتمعات الإسلاميّة عموماً. ويبدو لي هذا الفريق أكثر قدرةً على التأثير في المجتمع الإيراني من الفريق الأوّل؛ لأنّ الشخصية الإيرانية في عمق تراثها وتاريخها تميل إلى النزعة الروحية العميقة، وتغرّد محلقةً في رحابها، ولإيران تاريخ عريق ومذهل حقّاً في عالم التصوّف والعرفان والفلسفة الروحية يستحقّ كلّ تقدير واحترام، من هنا فهذا الطرح يدغدغ عناصر عدّة في الشخصية الإيرانية، ويمكنه أن يشكّل بديلاً في مكان ما. لكنّ المشكلة تكمن في أنّ هذا الفريق كأنّه يريد أن يفرّ من وضع قائم دون تحديد الأوضاع الأخرى بشكل دقيق، كما أنّ بعض المنجزات الفكرية لهذا الفريق بات يدخل في العقد الأخير إطار الإثارات الإعلاميّة والتوظيف السياسي أكثر من إطار تقديم منجزات فكريّة واجتماعية معمّقة ومتأنيّة ومدروسة، كتلك التي شهدناها مع بعض رموز هذا الفريق منذ نهاية الثمانينيات من القرن الماضي إلى بدايات القرن الحالي، كما أنّ لديّ شعوراً قويّاً بأنّ الكثير من المنجز الفكري مؤخّراً بات مجرّد أصداء غاضبة من الوضع القائم أكثر من كونها مشاريع فكريّة نهضويّة قادرة على تحسين الوضع لو أمسكت الأمور بيدها. إنّ تحوّل الفكر التجديدي من إطار الوعي البدائلي إلى إطار الجمود على المعارضة النقديّة، يضعنا أمام ما يشبه ما حصل تماماً مع بعض الحركات الإسلاميّة في عصر ما قبل إمساكها بالسلطة، إذ تحدث عادةً فجوة كبيرة تعيد لنا خيبة الأمل عندما تصبح الأمور بيدنا، لهذا فإنّ مشروع التجديد الديني في إيران مطالب برسم بدائل واضحة ورؤى ناضجة لصيغ العيش وأنماط الحياة التي يراها، وحلولاً معقولة لأزمات الشباب المعاصر. وإطلاق الشعارات العريضة والكلام العام والأفكار ذات الطابع الكلّي لم يعد يكفي لتحقيق النجاحات المرجوّة أو ضمان استمرارها لو تحقّقت.
س8: ما رأيكم في وثائق الأزهر، لاسيما الوثيقة التي تحدّثت عن التعدّدية واحترام الآخر؟ وهل يمكن اعتبارها بمثابة الخطوة الأولى باتجاه المجمع الفاتيكاني الثاني؟ وماذا تتوقّعون أن تكون عليه وثيقة الأزهر حول المرأة؟
حبّ الله: مثل هذه الوثائق وغيرها ضروري ولازم من حيث المبدأ ويفتح أمامنا أفقاً جديدة لتغيير الوضع القائم، لكنّ القضيّة ليست في إصدار بيانات وإعلانات من هذا النوع، بل في خلق ثقافة تعدّدية مجتمعيّة، وهذا الأمر لا تشكّل مثل هذه البيانات سوى مقدّمة أولى بسيطة له، لاسيما عندما لا تملك الجهة المصدّرة تمام مفاصل المجتمع الديني أو أغلبها على مستوى العالم الإسلامي، نظراً لتعدّد الأقطاب والتيارات الدينية التي تتخذ لنفسها مرجعيّات مختلفة. وغالباً ما يتلقّى الشارع المسلم مثل هذه المواقف من المرجعيات الدينية على أنّها مراعاة دينية مرحليّة لحاجات سياسية قائمة ومؤقتة، لهذا فهو لا يرى فيها جديّة الرؤية الدينية في مسألة الآخر والحوار والتعدّدية، الأمر الذي يفقدها مع الأسف فعل إحداث تغيير حقيقي في قراءتنا للآخر. لا نريد للمؤسّسة الدينية الشيعية والسنيّة أن تنطلق من موقع محاكاة فقط، بل من موقع رؤية حقيقية جادّة نابعة من الصميم ومن اقتناع ديني عميق، وهذا ما أجد أنّه لم يحصل حتى الآن في كثير من المواقع، بل هذا هو ما يجعل المتديّن العربي والمسلم أقرب إلى ثقافة الخطاب السلفي منه إلى خطاب من هذا النوع؛ لأنّ الخطاب السلفي يقدّم له رؤية جادّة منطلقة من إرث ديني له تاريخ طويل، بينما لم يقدر الخطاب التجديدي في بعض مواقعه أن يشرعن نفسه دينيّاً؛ وغالباً ما يستند إلى ضرورات الواقع في شرعنة ذاته، الأمر الذي يجعله عرضة لنقد التيار السلفي من موقع أنّه لا يقدّم سوى اجتهادات في مقابل النص المقدّس، أو ابتداعات في مقابل السنّة وسيرة السلف؛ لهذا فلا تجده يقف على أرض دينية صلبة، وهذه نقطة ضعف أساسيّة ينبغي التنبّه لها، وهي تفرض ـ إلى جانب الإصلاح الرؤيوي الخارج ديني ـ إصلاحاً من الداخل، أي من بنية النصوص وتفسيرها، يحاكي طرائق العقل التقليدي في الاجتهاد الديني. إنّ مجتمعاتنا هي مجتمعات دينية أيديولوجية عاطفيّة فلابدّ أن نشتغل عليها بطريقة خاصّة لا تثير انفعالها أو تجرح نرجسيّتها في مكانٍ ما.
س9: ما رأيكم في خطاب السلفيّين في دول الربيع العربي تجاه المرأة والأقليّات؟
حبّ الله: مع احترامي لكلّ الاجتهادات الدينية، إلا أنّني أختلف مع هذا الخطاب من عدّة جوانب، فمن جهة أجد أنّ الأسس التي يقوم عليها هذا الخطاب ـ على مستوى الاجتهاد الشرعي ـ تفتقر في بعض جوانبها إلى الأدلّة المقنعة دينيّاً وعقليّاً، فكثيراً ما بتنا نستند في الاجتهادات الدينية إلى الاستنسابات الشخصيّة، أو إلى مجرّد إجماع العلماء السابقين الذين يحقّ لنا الاختلاف معهم، أو إلى الأعراف غير الحجّة التي كانت شائعة سابقاً، أو إلى نصوص دينية غير مؤكّدة وضعيفة المصدر والإسناد والمضمون، أو إلى نصوص آحاديّة في الحديث الشريف لا ترقى إلى مستوى البتّ الشرعي بها، لاسيما مع عدم أخذنا بعين الاعتبار مرجعيّة القرآن الكريم في الحكم على أحاديث السنّة الشريفة صحّة وضعفاً، وكذلك بعض مناهج فهم النصوص وهي تلك المناهج التي لا تأخذ سياقات صدور النصّ ونزوله بعين الاعتبار، ممّا يبتر النصّ عن سياقه، وينتج بالتالي فهماً غير صحيح له. وليس المجال مجال الدخول في مقاربات اجتهادية نقديّة في هذا الموضوع، لكنّ هذه المشكلة قائمة. كما أنّ فوضى الإفتاء وتعدّد المرجعيات الدينية الصغيرة الحجم يولّد بشكل تلقائي وهناً في الاجتهاد الشرعي الذي يخلق ثقافةً هنا أو هناك، فكلّ من يملك بعض المعلومات البسيطة باتت تشرئب عنقه للتصدّي للإفتاء أو للتصدّي لخلق ثقافة دينيّة، انطلاقاً من وعي غير عميق للنصوص واللغة والتاريخ. لنأخذ مثال المرأة فالنصّ القرآني واضح في الأمر بالعشرة بالمعروف، ولكنّ الكثير من تفاصيل ثقافتنا الدينية تكوّن عشرةً بالسوء بين الرجل وزوجته. والنصّ القرآني واضح في أنّ للمرأة ولايةً داخل الجماعة الدينية (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)، بناء على تفسيرها بالولاية المصطلحة، أمّا نحن فنجعل المرأة مخلوقاً منبوذاً حقيراً لا يرقى إلى مستوى المشاورة معه، ولا يحقّ له الترشّح بل ولا الانتخاب، انطلاقاً من ثقافة حديثية غير منقّحة في كثير من الأحيان.
على خطّ آخر، أجد أنّ الكثير من الخطاب السلفي لا يراعي الزمان والمخاطب وعناصر الإقناع ومناهج التدرّج والعمل المراحلي، وذلك بحجّة أنّه خطاب لا يخاف في الله لومة لائم، فالأنبياء جاؤوا ليخاطبوا الناس على قدر عقولهم، واستخدموا لغتهم ليصلوا إلى عقولهم وقلوبهم ووجدانهم، وكانت الرحمة في خلق النبي عنصراً مساعداً على جذبه الآخرين، وثقافة الرهبة والتخويف للآخر في النصّ القرآني منطلقة من التعامل مع من أسمّيه: (كافر المواجهة) وليس (كافر العقيدة)، فالظروف التاريخية القمعيّة التي واجهها المسلمون في مكّة والمدينة من قبل قريش والعرب، كان من الطبيعي أن تخلق ثقافة جهاد وقوّة ودفاع وتعزّز منطق الرهبة وإيجاد التوازن، ولمّا كان الفرز السياسي قائماً على المعتقد؛ لأنّه هو الذي يولّد الجماعة المناهضة لحركة النبي محمّد ويجمع عقدها وجمانها، فقد أطلق القرآن الكريم اسم الكفّار عليهم؛ لأنّ الوصف الجامع لمكوّنات المجتمع المعادي والمحارب لحركة النبي هو وصف الكفر بحركته النبويّة، وليس وصف العروبة أو العشيرة الخاصّة أو القبيلة, وقد بتر بعض العلماء هذا النوع من السياقات، فباتوا يريدون اليوم أن يطبّقوا لغة العنف الدينية والترهيب والتنفير في حقّ الجميع، حتى المسلمين فضلاً عن الأقليّات الدينية الأخرى. لست أدّعي كما يحاول بعضنا أن يقول بأنّ الدين يساوي الديمقراطية والدولة المدنية المعاصرة بكلّ تفاصيلها، فهذا كلام يحتاج للكثير من النقاش، لكن أزعم أنّ لغة الخطاب الديني السلفي في كثير من مواقعها هي لغة منفّرة للآخر الذي يفترض أن أبني معه حياةً مشتركة أو أقرّبه من الإسلام وأحسّن صورته أمامه.
س10: ما رأيكم في إمامة المرأة لصلاة مختلطة، كما فعلت آمنة ودود؟
حب الله: هذا الموضوع يدرس في الاجتهاد الشرعي، ولكلّ إنسان يملك مقوّمات هذا الاجتهاد الشرعي أن يطرح رأيه، وللآخرين أن يناقشوه بكلّ شفافية ووضوح. وللفقهاء المنتصرين للتحريم أدلّة متعدّدة، والإمام الخوئي ـ مع إفتائه بعدم جواز إمامة المرأة للرجال، نتيجة بعض الأدلّة الاجتهادية التحليلية ـ لكنّه يقرّ بعدم وجود آية ولا حديث شريف معتبر السند يثبت ذلك، وهناك من يرى أنّ الفقيه الإمامي الشيخ ابن حمزة الطوسي المتوفى في القرن السادس الهجري، كان لا يرى شرط الذكورة في إمام الجماعة شرطاً لازماً، ويظهر من الفقيه الإمامي الكبير الشيخ ابن إدريس الحلي (598هـ) وهو المعروف بنقده الفقهي، أنّه يرى وجود احتمال في تجويز إمامة المرأة للرجال، وإن مال في نهاية المطاف إلى التحريم. وقد أفتى أحد مراجع الشيعة الحاليين في إيران، وهو الشيخ يوسف الصانعي، بجواز إمامة المرأة للرجال والنساء معاً، وذكر ذلك في تعليقته الفتوائية على كتاب تحرير الوسيلة.
لكنّني لا أعتقد أنّ مشكلة المرأة تكمن في مثل صلاة الجماعة، حتى نحاول التركيز على هذا الأمر، فالمرأة اليوم تحتاج لحق العمل والتعليم في وطننا العربي، وتحتاج للحماية من العنف الأسري الجائر، وتحتاج للحضور في الحياة السياسية والاجتماعيّة، وهذا ما يتطلّب اجتهادات دينية على هذا الصعيد، وسنّاً للقوانين المساعدة على خلق مناخ لهذه الأمور. أمّا مسألة إمامتها لصلاة الجماعة فهي شأن تعبّدي ديني. وفي مجال العبادات في الدين نحن نجد الكثير من الأمور التي تحوي شكلاً من أشكال التعبّد الذي لا يعني بالضرورة رسالة معيّنة ذات بعد سياسي أو اجتماعي، مثل أعمال الحج وتفاصيله التي ما تزال تبدو لنا غير واضحة من حيث تفاصيل عقلنتها.
س11: كيف تقاربون الخلاصات التي تقدّم بها بعض المفكّرين العرب من أمثال محمد أركون ونصر حامد أبو زيد، خصوصاً أنهما طالبا بقراءة حديثة للإسلام، بناءً على مناهج العلوم الاجتماعية الحديثة؟
حب الله: إنّني أضمّ صوتي إلى كلّ مطالب بقراءة جديدة للإسلام، تستعين بالمنجز الفكري والعلمي الذي وصله البشر، لكنّ هذا لا يعني صحّة كل ما توصّل إليه البشر، ففي المرحلة الأولى يجب تحديد موقف واضح من العلوم الإنسانية ولاسيما الاجتماعية، من زاوية الأصول الفلسفية التي قامت عليها هذه العلوم، فإذا كنت مؤمناً بالله والغيب، ولي قراءة فلسفيّة خاصّة في تفسير الوجود والإنسان والغايات والمبادئ والمآلات، فمن الطبيعي أن تكون لديّ مواقف معينة من بعض العلوم الإنسانية التي بنيت على رؤى فلسفية مختلفة تماماً عن رؤيتي التي أقتنع بها، ومجرّد أنّ هذه العلوم تطوّرت اليوم وحقّقت نجاحات في مجالات متعدّدة لا يعني الاعتقاد بأنّها معصومة عن الخطأ، بما في ذلك الأخطاء الكبيرة والفادحة المنطلقة من إشكاليات بنيوية وفلسفيّة، وهناك من يعتقد بأنّ علمي النفس والاجتماع بنيا على أسس علمانية إلحاديّة، وهنا من حقّ المتديّن بأيّ دين كان أن يتوقّف قليلاً في المنهج والعناصر التي كوّنت هذه العلوم، وليس هذا من تحكيم النصّ الديني في المنجز العلمي، بل هو من تحكيم الرؤية الفلسفية الإلهيّة للمعرفة والوجود والغايات، في الدراسات الإنسانيّة، من هنا فإنّني أوافق على تقديم قراءة من هذا النوع الذي قدّمه أركون وغيره للإسلام، لكن من حقّي أن لا أعتبر هذه القراءات نهائيّة، وأن أقرأ الدين من زاوية فلسفية مختلفة. إنّ علمنة العلوم الإنسانية هو موقف فلسفي في نهاية المطاف، وله أصوله في تفسير الوجود والحياة، فمن يختلف مع هذا الموقف الفلسفي من الطبيعي أن يترك اختلافه هذا اختلافاً في بعض النتائج التي تتوصّل إليها العلوم الإنسانية، مع احترامه لكلّ القراءات العلميّة الأخرى.
يشار إلى أنّ هذا هو النصّ الكامل للحوار، حيث اضطرّت الصحيفة لعدم نشر بعض الأسئلة والأجوبة، فاقتضى التنويه (حيدر حب الله).