د. الشيخ خالد الغفوري الحسني(*)
الخلاصة
ممّا لا يخفى على الخبير أنّ علم الفقه هو من العلوم واسعة النطاق؛ نظراً لتنوُّع المجالات التي يعالجها، من أحكام فردية واجتماعية، وتعدُّد الأبواب التي يتمحور حولها، ووفرة المسائل التي يجيب عليها، سواء أكانت من ضمن المسائل التقليدية أو المستحدثة، هذا من جهةٍ؛ ومن جهةٍ أخرى كثرة الأدلّة التي يبحثها، وعمق كيفية الاستدلال بها؛ ومن جهةٍ ثالثة امتداد تعلّقات الفقه بتخصُّصات أخرى، كالاقتصاد والسياسة والطبّ وعلم النفس وعلم الاجتماع وغيرها، كلُّ ذلك يجعل قضيّة إحاطة الشخص الخبير (وهو الفقيه) بالفقه من ألفه الى يائه، والوقوف على كلّ منحنياته وتضاريسه، أمراً صعباً، بل مستصعباً، بل متعذِّراً، بل محالاً، ولا سيَّما مع محدودية مدارك الإنسان، ومحدودية الفرصة العمرية المتاحة له في الحياة.
ومن الطرق المقترحة للإحاطة بالفقه وانحفاظ الخبروية هو اعتماد (برنامج حصحصة الفقه)، والتي قد يُطْلَق عليه (الفقه التخصُّصي) أو (الفقه المضاف). وهو طريق عقلائيّ ومنطقيّ؛ حيث يتمّ تقسيم الفقه المطلق إلى مجاميع، كلّ مجموعة ترتبط بمجالٍ علمي أو حياتي معيَّن، بحيث يتسنّى للباحث أن يركِّز عليه، ويحيط به من كافّة الحيثيات الدخيلة.
والمقالة الحاضرة بصدد معالجة دَوْر وأثر (الفقه المضاف) في هذه الدائرة، بالاعتماد على المنهج التوصيفي التحليلي. والهدف هو تقويم المحاولات الموجودة؛ لمعرفة مدى جدواها. وأهمّ النتائج التي يُؤْمَل أن يحقِّقها هذا البحث هو ضرورة التمييز بين نمطين ممّا يُسمّى بـ (الفقه المضاف): النمط السطحي، الذي لا يُقدِّم أيّ إضافةٍ مضمونية جديدة، وهذا لا يزيدنا إلاّ بُعْداً عن الهَدَف ويأساً؛ والنمط الآخر هو النمط التأسيسي الجادّ، الذي يغور في عمق مسائل العلوم الإنسانية بنحوٍ دقيق ومستَدَلّ، ويخوض المقارنة، ويمارس التأسيس النظري، وتحليل الموضوعات، وتنقيحها، أيضاً، وهذا هو الجدير بالاهتمام، ويفتح لنا نوافذ الأمل.
مقدّمةٌ
العلوم البشرية على قسمين: العلوم التجربية؛ والعلوم الإنسانية. وتُعَدّ هذه العلوم في قالبها الحديث من إنجازات الحضارة الغربية، التي واكَبَت النهضة الصناعية، وإنْ كانت جذورها تعود الى عدّة قرونٍ سابقة. ومن الواضح أنّ البيئة التي ترعرعَتْ فيها العلوم الإنسانية قد ألقَتْ بظلالها عليها. وحيث إنّ البيئة الغربية هي بيئةٌ مادّية فقد انعكسَتْ مبانيها وتطلُّعاتها على تلك العلوم؛ فمن غير المنطقي التعامل معها كمعارف مسلَّمة لا يُمكن زحزحتها وتطويرها وإعادة برمجتها بما يتناسب مع بيئتنا الإسلامية، أي أسلمتها، بل ذلك أمرٌ تفرضه الضرورة الرساليّة والمنطقيّة.
ولا يخفى مدى ضرورة ذلك؛ فإنّ وضعنا وحياتنا بكلّ امتداداتها وهيكلتها متأثِّرة بالعلوم الإنسانية، بل مبنيّةٌ عليها، كالمجال القانوني والحقوقي والمجال السياسي والمجال الاقتصادي والمجال التربوي ونحو ذلك. كما أنّ وزننا العلمي والمعرفي الحالي والمستقبلي إنّما تعيِّنه هذه العلوم.
إنّ مشروع (أسلمة العلوم الإنسانية)، وبناء صرح العلوم الإنسانية الإسلامية الشامخ، من أهمّ المشاريع الحضارية النهضوية العملاقة في عصرنا الراهن. وهذا المشروع الضخم، رغم الأشواط التي قطعها خلال العقود الأخيرة، لا يزال بحاجةٍ إلى مزيدٍ من البرامج والخطوات والاستعدادات والجهود الحثيثة؛ كي يصل إلى مرحلة الرشد والبلوغ. ومن جملة الخطوات الصاعدة في هذا الاتّجاه، والأبحاث الواقعة في هذا السياق، هو الأطاريح الفقهية المقتَرَحة بعنوان: (الفقه المضاف)، نظير: الفقه الاقتصادي؛ والفقه السياسي؛ والفقه التربوي؛ والفقه الجنائي. والمقالة الحاضرة بصدد معالجة دَوْر وأَثَر (الفقه المضاف) في هذه الدائرة.
وقفةٌ مع مقولة «أسلمة العلوم الإنسانيّة»
من الحقائق الواضحة أنّ العلوم الإنسانية بشكلها الحديث هي إنجازٌ غير إسلامي، وإنْ كان بعضها إسلامياً من حيث الجذور والنشأة. وهذه العلوم الإنسانية الفعلية هي المهيمنة على الساحة العلمية في العالم كلّه، بما فيه عالمنا الإسلامي. ولا رَيْبَ في أنّها قد تبلورَتْ في ظلّ الحضارة المادّية، وما تضمّه من رؤىً وأجواءٍ وأصولٍ موضوعيّة خاصّة، ممّا يكون مؤثِّراً على مسار حركة تلك العلوم ومنجزاتها ومخرجاتها.
فدعوى أنّها علومٌ بلا شرط، ولا يصحّ وصفها بالإسلامية أو بغير الإسلامية، ما دام كونها علوماً تكشف عن حقائق موجودة، وتسير طبق منطقٍ محدَّد، شأنها شأن العلوم الطبيعية والتجربية، فكما لا يصحّ تقسيم علم الفيزياء إلى: إسلاميّ؛ وغير إسلاميّ، كذلك لا يصحّ وصف علم النفس بالإسلاميّ وغير الإسلاميّ، وهكذا سائر العلوم الإنسانية، هي دعوى غير واقعيّةٍ؛ إذ:
1ـ إنّ كلّ علم من هذه العلوم الإنسانية لا يبدأ حركته من الصفر، بل ينطلق في ضوء أصولٍ موضوعيّة خاصّة؛ ففَرْقٌ بين مَنْ يبني صرحه العلمي على تصوُّرات قبلية منبثقة عن واقعٍ حياتي، وبيئةٍ تراثية معيَّنة، كالتصوّرات المادّية، وبين مَنْ يبنيها على تصوُّرات قبلية متفاوتة، كالتصوُّرات المعنوية والغيبية.
2ـ إنّ تفسير حقيقة الإنسان من قِبَل هذه العلوم الإنسانية يتفاوت من مدرسةٍ فكرية إلى أخرى؛ ففَرْقٌ بين مَنْ يرى الإنسان كموجودٍ حُرّ لا سلطة فوقه وبين مَنْ يراه محكوماً بقدرةٍ أعلى منه، رسمَتْ له برنامجاً يسير وفقه.
وعليه، فمن حقّنا أن نطالب بأقلمة العلوم الإنسانية، وأسلمتها، بما يتناسب مع رؤانا الحضاريّة الخاصّة، وتراثنا الثقافي.
وأمّا ما هي حدود هذه الأسلمة والأقلمة؟ وكيفيتها؟ فهذا بحثٌ مترامي الأطراف، ومتعدِّد الأبعاد، تكثَّرت حوله الرؤى والنظريات، وهو بحاجةٍ إلى بسطٍ في دراساتٍ مبسوطة.
«الفقه المضاف»، لفظاً ومفهوماً
(الفقه المضاف) استعمالٌ حديثٌ ورد في الخطاب الديني المعاصر في مقابل (الفقه المطلق) وغير المقيَّد؛ وذلك على أثر التطوُّر الذي طال الحياة، والذي انعكس بدَوْره على الخطاب الثقافي والفكري بشكلٍ عامّ، والخطاب الدينيّ بشكلٍ خاصّ، بما في ذلك الخطاب الفقهي العامّ والتخصُّصي، فنرى الباحثين الجُدُد يستعذبون تداول هذا اللفظ في محاوراتهم وبياناتهم.
و(الفقه المضاف) لفظٌ مركَّب من مفردتين، وهما: (الفقه)؛ و(المضاف).
وهذا المركَّب اللفظي تارةً يكون مركّباً تركيباً إضافياً، فيُقال: (فقه الأُسرة)؛ و(فقه الطفل)، وهذا النحو من الإطلاقات يوازي لفظ (الفلسفة المضافة) أو (فلسفة العلوم)، فيُقال: (فلسفة الحقوق والقانون)؛ و(فلسفة الأصول)؛ و(فلسفة الفقه).
وأخرى يكون مركّباً تركيباً وصفيّاً، فيُقال: (الفقه الاجتماعي)؛ و(الفقه الاقتصادي).
وثالثةً يكون مركّباً تركيباً عطفيّاً، فيُقال: (الفقه والسياسة)؛ و(الفقه والتربية)؛ و(الفقه ومسائل طبّية)([1]).
وليس لمجموع هذا المركّب، بصيغه الثلاث ـ الإضافية أو الوصفية أو العطفية ـ، معنىً اصطلاحيٌّ خاصٌّ بين أهل الفنّ. ولسنا بصدد بحث مفهوم هذا اللفظ من ناحيتي اللغة والعُرْف؛ لعدم جدواهما في المقام. ولسنا أيضاً بصدد تحديد المعنى الاصطلاحي؛ فالبحث فيه من باب السالبة بانتفاء الموضوع، كما بيَّنَّا.
هذا، وقد انبرى بعض المفكِّرين لتعريف (الفقه المضاف) بأنّه الفقه الذي يعالج الموضوعات والمسائل المستَحْدَثة([2]).
وكما ترى فهذا التعريف حَصَر الفقه المضاف في دائرةٍ محدودةٍ جدّاً.
فيما يرى آخرٌ سعة دائرته، بحيث يطال حتّى ما وراء الفقه، فالفقه يتناول كلّ ما تحتاجه البشرية على اختلافها، كالفضاء المجازي وظاهرة النَّسَوية والبيئة والعلوم البشرية الطبيعية والعلوم الإنسانية والعولمة والبحوث المقارنة والفلسفات المضافة([3]).
ولا يخفى أنّ بعض ما عَدَّه هذا البحث ضمن مسؤولية الفقه المضاف هو خارجٌ عن دائرة الفقه بالمرّة، ويُبْحَث عنها فيما وراء الفقه؛ وبعضها داخلٌ ضمن بحوث علم الكلام الجديد وغيرها من المجالات المعرفية؛ وبعضها يمثِّل تطلُّعات الباحث، فأقحم كلَّ ما بدا له إيجابيّاً ومفيداً في الفقه المضاف.
ولا فائدة في أن نُتْعِب أنفسنا في نَحْت تعريفٍ معيّنٍ له، ونصوغ له معنىً خاصّاً من عند أنفسنا؛ فإنّ هذا لا يُصيِّره معنى اصطلاحيّاً ما لم يكن متداولاً بين المختصِّين.
ومهما يكن من أمرٍ فلعلّ تعريفَه بأنّه (مجموعةٌ معتَدٌّ بها من الأحكام الشرعية، تتميَّز عن غيرها بجهةٍ من الجهات)([4]) هو أحسنُ التعاريف.
والذي يبدو أنّ هذا التعريف منتَزَعٌ ممّا تتبَّعه هذا المفكِّر من موارد استعماله، وليس تعريفاً نَحْتيّاً جَعْليّاً، ولا اقتراحيّاً.
لكنّ هذا التعريف ليس جامعاً، بل هو ناظرٌ إلى نمط معيّن من أنماط الفقه المضاف، كما سوف يتَّضح.
وعلى الرغم من عدم تبلور معنى اصطلاحي لمجموع هذا المركّب اللفظي حتّى الآن، إلاّ أنّ الجزء الأوّل منه ـ وهو (الفقه) ـ يُراد به هنا المعنى المصطلح في الفقه والأصول، وهو استنباط الأحكام الشرعية من أدلّتها التفصيليّة، لا معنىً آخر؛ إذ قد يُقال: (فقه الحديث)؛ و(فقه القانون)؛ و(فقه اللغة)؛ فإنّ هذا ليس مراداً لنا في المقام.
ومَنْ أراد الوصول إلى معنىً اصطلاحيّ له عليه بتتبُّع موارد الاستعمال الواقعة، ولحاظ المعنى المراد فيها، وهل هم متَّفقون على مرادٍ واحد؟ ثمّ تحديد الموقف تجاه استنتاج معنىً اصطلاحي نهائي.
أجل، يمكن أن يتبلور لـ (الفقه المضاف) معنى اصطلاحيّ بالتدريج مستقبلاً، بل ثمّة محاولاتٌ في السنوات الأخيرة الماضية من قِبَل بعض الباحثين الجُدُد؛ لتثبيت هذا المصطلح وشرعنته في الأروقة العلمية الخاصّة. ورُبَما أُثير جَدَلٌ حول ذلك؛ فبين مؤيِّد؛ وبين مخالفٍ، بل أفاد بعض الأفاضل عدم إمكانية تعريف الفقه المضاف الآن؛ لكونه يمرّ بأدوار التأسيس والتأليف والتكميل([5]).
المخالفون لمصطلح «الفقه المضاف»
أمّا المخالفون فيدّعون عدم دقّة هذا العنوان، ورُبَما برَّروا موقفهم بعدم أصالة هذا المصطلح، وكونه مستعاراً من مصطلح (الفلسفة المضافة). كما أنّ لفظ (المضاف) ليس شفّافاً؛ لأنّ كلمة (مضاف) مشتركٌ لفظيّ:
المعنى الأوّل: أن يُراد من لفظ (المضاف) العلم المقيَّد، في مقابل العلم المطلق، فإنّ موضوع الفلسفة كُلِّي، وهو الموجود من حيث هو موجودٌ، بينما موضوع الفلسفة المضافة مقيّدٌ، وهو موجودٌ خاصّ، كالاقتصاد والسياسة والتربية. وكذا الحال بالنسبة إلى الفقه المضاف، فهو فقهٌ مقيَّدٌ ومحدودٌ، في مقابل الفقه المطلق.
بَيْدَ أنّه بالنسبة إلى الفقه ليس عندنا موضوعٌ كُلِّي وخاصّ، بل إنّ موضوع الفقه دائماً هو خاصٌّ، وإنّما تبرز عندنا في الفقه موضوعاتٌ جديدة، في مقابل الموضوعات القديمة.
المعنى الثاني: أن يُراد من لفظ (المضاف) لحاظ العلم من الدرجة الثانية، أي لدينا فقهٌ بلحاظ أنّه علمٌ من الدرجة الأولى، وفقهٌ بلحاظ أنّه علمٌ من الدرجة الثانية، نظير: (فلسفة الفقه). وهذا ـ كما ترى ـ لا معنى له هنا([6]).
ومن هنا اقترح بعضٌ استبدال التسمية بلفظٍ آخر، وهو: (الفقه المستَحْدَث)([7]).
تحقيقٌ وتقويم
لكنْ يُلاحَظ:
1ـ أنّ البحث ليس لفظيّاً؛ حيث أوضحنا أنّ التركيب اللفظي رُبَما يكون تركيباً إضافياً أو وصفياً أو عطفياً، بل رُبَما لا يُستَعْمَل لفظ (الفقه)، كما أشَرْنا.
2ـ أنّه لا مشاحّة في الاصطلاح كما يُقال، فسواءٌ أسمَيْناه (الفقه المضاف) أو (الفقه التخصُّصي) أو غير ذلك فإنّ هذه التسمية بالمعنى الأوّل لا تخلو من وجهٍ. مع أنّ الفقه المضاف لا ينحصر ببحث المسائل المستَحْدَثة فقط.
3ـ أنّ المعنى الثاني غيرُ مقصودٍ هنا بالمرّة.
4ـ أنّ دعوى أنّه لا يوجد لدينا فقهٌ مطلق من الغرابة بمكانٍ؛ إذ من الواضح أنّ موضوع الفقه كُلِّيٌّ، سواء قلنا بأنّ موضوعه فعل المكلَّف، كما يراه المشهور، أو هو الحكم الشرعيّ. وعلى أيّ حالٍ لم يُقيِّدوه بأيّ قيدٍ. وكلُّ مَنْ يراجع بحوثهم في القواعد الفقهية ـ كقاعدة الصحّة وقاعدة ما يُضْمَن ونحوهما ـ يظهر له ذلك بجلاءٍ.
ومن هنا برزَتْ الفنون الفقهية المختلفة على الساحة العلمية منذ عدّة قرون، كفنّ الإرث؛ وفنّ القضاء؛ وفنّ آيات الأحكام؛ وفنّ القواعد الفقهية. وما هذه الفنون سوى اقتطاع دائرة خاصّة من موضوع الفقه الكلِّي، والعكوف على بحثه ودراسته بصورةٍ مستقلّة، إلى حدٍّ بات يتردَّد على الألسنة عنوان العلوم على هذه الفنون، أو المطالبة بجعلها علوماً مستقلّةً، فلِمَ لا يكون حينئذٍ اقتراح عنوان (الفقه المضاف) أمراً فنّياً ومنطقيّاً؟!
5ـ أيُّ فَرْقٍ بين علم الفقه وسائر العلوم الأخرى التي نرى حركة التخصُّص فيها تسير بنحوٍ متسارع، فنشأَتْ عشرات الاختصاصات في العلوم الطبيعية، كعلم الطبّ، وفي علمَيْ الفيزياء والكيمياء، ومثل ذلك حصل في دائرة العلوم الإنسانيّة أيضاً، فبرزَتْ فيها العديد من التخصُّصات.
وعليه، لا مبرِّر للتحسُّس من فتح باب التخصُّص في علم الفقه، وحصحصته، فشأنُه شأن سائر العلوم، التي هي في توسُّعٍ مستمرّ.
المتحفِّظون تجاه أصل فتح باب «الفقه المضاف»
هناك مَنْ يُبدي مخاوف تجاه (الفقه المضاف)؛ بذريعة أنّ الخوض في هذه المجالات إنْ لم يكن من القوّة والمتانة بالمستوى العالي فسوف تنعكس آثاره السلبيّة، ويتناقله الإعلام المجازيّ، فمن الأفضل غلق الباب؛ حفظاً لماء وجه الفقه والفقهاء.
لكنْ يَرِدُ عليه: إنّ تلك المخاوف مهما كانت وجيهةً لا تستلزم إغلاق هذه الملفّات البحثية، وإبعادها عن الفقه، بل إنّ إغلاقها ليس منطقيّاً([8]) ما دامت موضع حاجةٍ، ومحلّ ابتلاءٍ، بحَسَب تعبير أهل الفنّ. وفي الوقت نفسه يمكن تحاشي السلبيّات من خلال وضع ضوابط ومقرّرات، ومن خلال جعل رقابةٍ مناسبة، ومن خلال تكثيف التوصيات والإرشادات.
أبحاث «الفقه المضاف»، طبائع وأشكال وأنماط
ومهما يكن من أمرٍ فإنّ المهمّ هو معرفة المراد بالمضاف إليه؛ ويتمّ ذلك من خلال لحاظ طبيعة البحث في (الفقه المضاف)، وتوضيح الأُفُق الذي يتحرَّك فيه، أي المهمّ لنا فعلاً هو تسليط الضوء على المعنون ـ لا ذات العنوان ـ بمعناه الواسع الشامل للتركيب الإضافي والوصفي والعطفي. وهذا ما يمكن تلمُّسه من خلال تتبُّع البحوث الحديثة وأنماطها.
وإذا تتبَّعنا تلك البحوث المطروحة أخيراً نواجه عدّة أشكال:
الشكل الأوّل: توصيف الفقه ببعض النعوت الخاصّة ذات البُعْد الأصولي، من قبيل: الفقه المقاصدي، حيث يُدَّعى وجود أهداف ومصالح كامنة وراء هذه الأحكام والتشريعات، هي التي تحدِّد مسار تلك التشريعات، ونحو حركتها، توسعةً أو تضييقاً. وهذه المصالح والأهداف تارةً يُبْحَث عنها بصورةٍ موردية، فيُعبَّر عنها بعِلَل الشرائع؛ وأخرى يُبْحَث عنها بشكلٍ كُلِّي، فيُعبَّر عنها بالفقه المقاصدي([9]).
ولهذا النمط ـ كما هو واضحٌ ـ تأثيرٌ كبير على أسلمة العلوم الإنسانية. ولو تمّ تثبيته وتنضيجه أصولياً فسوف يُحْدِث نقلةً نوعية في العلوم الإنسانية، بل سوف يُحْدِث تغييرات أساسية على الفقه نفسه؛ لأنّه يؤول إلى تقعيد الفقه وبرمجته كُبْرَوياً، وإخراجه من الحالة المنثورة إلى حالة المنظومة.
وهذا النَّمَط الرابع ، على الرغم من أهمِّيته الكبرى، وضخامة الآثار المترتِّبة عليه ـ كما ألمَحْنا لذلك توّاً ـ، وتسميته بسمةٍ فقهية، يقع البحث عنه في الدائرة الأُصولية، لا الفقهية، ويتمّ تصفية الحساب معه هناك؛ فإنّ إثبات أو نَفْي حجِّية مقاصد الشريعة بلحاظ كلِّيتها أو بلحاظ مواردها من مسؤولية علم أصول الفقه، الذي يُبْحَث فيه عن الأدلّة والعناصر المشتركة في الاستنباط، ويقع البحث عن دليليّتها.
الشكل الثاني: توصيف الفقه ببعض النعوت المتعلِّقة باتّجاهاتٍ ورؤىً عمليّة خاصّة، نظير: الفقه المقاوم؛ أو الفقه الثوري أو النهضوي أو التغييري، في مقابل الفقه الذي يكتفي بمعالجة الواقع الفعلي الموجود، دون السعي لتغيير الواقع والنهوض به نحو الأفضل، سواءٌ في الجانب السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي، ويكون دَوْره دَوْر المنفعل، الذي يصدّ اللكمات، ويُضمِّد الجراحات، ويتحاشى الهجمات، بينما الفقه المقاوم هو الذي يكون دَوْره دَوْراً فاعلاً أيضاً([10])، ويستهدف تحصين المجتمع، وتقويته، وارتقاءه، والوصولَ به إلى خَوْض المنافسة مع الآخر.
وهذا النَّمَط لو قُدِّر له أن يبرز من مرحلة القوّة إلى الفعل لاستطاع أن يُسيِّر مقود الحياة، ويدفع بعجلتها في الاتجاه الذي يريد، ويُحْدِث انعطافاً كبيراً، بحيث يخرج الفقه الكُبْرَوي من الحالة التنظيرية المَحْضة([11]) إلى الحالة الميدانية، ولكنّه ـ مع بالغ الأسف ـ لا يزال في دَوْر الصيرورة والنشوء في الوقت الحاضر، ولم تكتمل بَعْدُ أركانه ومقوِّماته النظرية.
وتأثير هذا النَّمَط على أسلمة العلوم تأثيرٌ غيرُ مباشرٍ؛ لأنّه سيقوم بدَوْر الداعم والشاهد المؤيِّد للفرضيّات المطروحة بشأن أسلمة العلوم الإنسانية. أجل، لو اكتملَتْ أركانُه ومقوِّماته النظريّة فمن الممكن أن تكون له آثارٌ منهجيّة على العلوم الإنسانية؛ باعتبار إدخال عنصر الواقع الميداني المعاش في عملية الأسلمة؛ إذ لا يخفى أنّنا لا زلنا نراوح في دائرة التفكير الصِّرْف، ولا طريق للتغيير إلاّ باعتماد رؤيةٍ أبعد ممّا نعيش فيه. ومن هنا فنوعُ الرؤية له تأثيرٌ على الفقه نفسه، فلو لم يتجلَّ الفقيه برؤيةٍ متكاملة فسوف يقع في الانحراف الإفتائي الخفيّ، والذي يُعبِّر عنه القرآن الكريم بمصطلح (الزَّيْغ)([12])، كما في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُو الأَلْبَابِ﴾ (آل عمران: 7)؛ فالقرآن الكريم يطرح إشكاليّةً على الاتّجاه الذي لا يُحْسِن تطبيق المفاهيم على مصاديقها الواقعية والعملية، وينتهي بالتالي إلى الانحراف والزَّيْغ؛ بسبب التركيز على نَمَطٍ معيَّن من التعاليم الدينية، دون الأخذ بها جميعاً، ولحاظها كوحدة واحدة، وبعبارةٍ أخرى: النظر بعينٍ واحدة ونظرةٍ محدودة ضيِّقة إلى الدين الحنيف الواسع الرَّحْب.
ولا رَيْبَ في أنّ تحديد الإشكاليات في الواقع الميداني المعاش بحاجةٍ إلى خبرة تخصُّصية، ورؤية تحليلية ثاقبة؛ لمعرفة الداء في المرحلة الأولى، وهنا يأتي دَوْر الاستعانة بالمختصّين الأكاديميين والعمليين، ذوي التجارب في كلّ ميدانٍ([13])، قبل خوض المرحلة الثانية، وهي مرحلة استنباط الموقف والرؤية الفقهية.
الشكل الثالث: إضافة الفقه إلى بابٍ فقهي معيّن، فيُقال: (فقه الزكاة)([14])؛ و(فقه الحدود)([15])؛ و(فقه الشركة)([16])، ورُبَما يستبدل بعضهم لفظ الفقه بلفظٍ آخر، وهو لفظ (النظام)، ويضيفه إلى أحد أبواب الفقه، فيُقال: (نظام الطلاق)([17])؛ و(نظام المضاربة)([18])؛ و(نظام الإرث)([19])، والمراد (أحكام الطلاق) و(أحكام المضاربة) و(أحكام الإرث)، كما يظهر بمراجعة هذه الكتب وأمثالها.
أو يُضاف (الفقه) إلى أكثر من بابٍ واحد، كما لو كانت الأبواب متقاربة أو متشابهة، فيُقال: (الفقه الزراعي)([20])، الشامل لبابَيْ المزارعة والمساقاة.
والشيء نفسه نراه في تعابير بعضهم: (فقه المعاملات)([21])؛ و(فقه العقود)([22])؛ ونحو ذلك.
وفي هذا الشكل من البحوث يتمّ عزل بابٍ فقهي وفصله عن جسد الفقه الكبير، فهو في الواقع تقطيعٌ للفقه الموجود والمدوَّن.
ولا نرى في هذا الشكل أيّ خصوصيّةٍ أو عمليّة تطويرٍ في البحث الفقهي، بل هو أمرٌ لا يعدو أن يكون مجرَّد تجزئة للأحكام الفقهية، لا غير، بل إنّ الإسفاف والاسترسال في هذا الإطلاق في بعض الأحيان قد لا يكون مستساغاً؛ إذ لا داعي له، ولا سيَّما إذا أُطلق على بعض المسائل أو الفصول ضمن بابٍ فقهي.
الشكل الرابع: إضافة الفقه إلى عنوانٍ انتزاعي، فيُقال: (فقه الطفل)؛ و(فقه المرأة).
وفي هذا النمط من البحوث يتمّ جمع جملةٍ من الأحكام المتناثرة والمبثوثة من مواطن مختلفة، وحشدها في موضعٍ واحد([23]). وأكثر مقالات دوائر المعارف تكون من هذا القبيل.
ونحن لا ننفي ترتُّب بعض الفوائد على ذلك، لكنّنا في هذا الشكل لا نكاد نحسّ بأيّ خطوةٍ صاعدة في مجال البحث الفقهي، بل هو عمليّة تجميعٍ وحَشْدٍ للأحكام الفقهية الموجودة والمدوَّنة، لا أكثر.
الشكل الخامس: إضافة الفقه إلى مجالٍ حياتي معيّن، سواء أكان هذا المجال مجالاً واسعاً أو مجالاً محدوداً، فيُقال: (الفقه الاقتصادي) أو (فقه الاقتصاد)؛ و(الفقه السياسي) أو (فقه السياسة)؛ و(فقه الدولة)؛ و(فقه المصارف)؛ و(فقه البيئة).
والتعامل البَحْثي في هذا الشكل يمكن أن يتمّ بثلاثة أنماط:
تارةً يكون البحث مجرَّد تجميع للأحكام الفقهية المرتبطة بذلك المجال. وهنا يكون البحث كسابقَيْه، فتكون طبيعة البحث لا جديد فيها، ولا امتياز لها.
وأخرى يكون البحث عن اكتشاف منظومةٍ فقهية متناسقة، ترتبط بمجال معيّن، كالبحث عن النظام المصرفي في الشريعة، أو البحث حول النظام الإداري.
وثالثةً يكون البحث عن موضوعاتٍ ومسائل جديدة، مرتبطة بمجالٍ معيّن، ويتصدّى فيها الباحث لمَلْء الفراغات. وغالباً ما يستلزم الأمر تنقيح موضوعات تلك المسائل، ويتمّ البحث عن كلّ مسألةٍ على حِدَة، نظير: البحث في حقيقة المعاملات المصرفية، كحكم الربح المأخوذ من المصرف، والبحث في بعض القوانين المصرفية، كغرامة التأخير.
وهذا هو النمط الذي نريد تسليط الأضواء عليه. وغالباً ما يكون البحث فيه تأسيسياً، فيتصدّى الباحث لتشييد البحث من الصفر، ورُبَما يكون البحث كالتأسيسي؛ لشحّة المصادر ونُدْرتها.
فتلخَّص ممّا تقدَّم أنّ المهمّ بحَسَب نظرنا من (الفقه المضاف) إنّما هما النمطان الرابع والخامس:
1ـ بحث المنظومات الفقهية، وتسليط الضوء على هذا النمط من البحث.
2ـ بحث الموضوعات والمسائل الجديدة المرتبطة بمجالٍ معيّن، ومَلْء الفراغات البحثية.
ونحن نستهدف فعلاً طرح بعض الإثارات المنهجية حول النَّمَط الخامس من هذه الأبحاث، دون النَّمَط الرابع الذي يحتاج عادةً إلى فرصةٍ خاصّة، وبيانٍ مفصَّل، عسى أن نُوفَّق لتسليط الضوء عليه لاحقاً بعون الله تعالى، بل إنّ النَّمَط الخامس ليُمهِّد الأرضية للخَوْض في بحث النَّمَط الرابع، كما هو واضحٌ.
تعيين المِلاكات الموضوعيّة في إفراد وحَصْحَصَة «الفقه المضاف»
ليس من الصحيح أن يتمّ تنويع الفقه المضاف طبقاً للأذواق المختلفة، وبصورةٍ عشوائية، أو يكون ردّاتِ فعلٍ عفويّةً بحَسَب موضات الزمان، بل ينبغي أن يخضع لجملةٍ من الضوابط الموضوعية والمنطقية، وإلاّ فسوف تكون عملية التنويع عمليّةً فوضوية، مبتلاةً بالتكرار والتداخل.
ويمكن افتراض عدّة مِلاكات لتنويع الفقه المضاف وحصحصته، ومنها:
المِلاك الأوّل: لحاظ الهدف من تخصيص وإضافة الفقه إلى مجالٍ معيّن، فقد تُلْحَظ حيثية الفردية والاجتماعية كهَدَف أخير، فيُقال: (الفقه الفردي)؛ و(الفقه الاجتماعي) بمعناه الواسع، وأمّا الفقه الاجتماعي بمعناه الأخصّ، أي (فقه المجتمع) بما هي أحكام تتعلَّق بالكيان الاجتماعي العامّ، فيتداخل مع ما سيأتي من المِلاكات الأخرى.
وأيضاً بلحاظ الهدف النهائي قد يُقال: (الفقه التقدُّمي)؛ و(فقه التطوُّر)؛ و(فقه التنمية)؛ و(الفقه المتحرِّك)، في مقابل الفقه الراكد، الذي لا يستهدف تغيير الوضع العلميّ أو الحياتيّ السائد.
ورُبَما يُتصوَّر أنّ هذه الهدفية لا تُؤثِّر على مخرَجات الفقه، ولا تدخل كعنصر لاعب في عملية الاستدلال، ولا دَوْر مؤثِّراً لها في حركة الاستنباط الفقهي، بَيْدَ أنّه إذا لوحظ الهدف فسوف تتأثَّر قراءة الفقيه للنصّ، ويختلف فَهْمه للدليل اختلافاً بيِّناً، وهذا ما يُلقي بظلاله على النتيجة الفتوائية النهائية للفقيه:
أـ فلو لوحظ تأسيس الحكومة والدولة من قِبَل الفقيه كهَدَف للفقه فسوف ينعكس ذلك على طريقة تفسيره للنصوص، ككيفية تحليل وتفسير (قاعدة لا ضَرَر)، وتنقلب من كونها حكماً فرديّاً يتعلَّق بحادثةٍ فردية محدودة إلى فَهْم القاعدة على أساس أنّها حكمٌ سلطانيّ؛ بلحاظ كون النبيّ| قد تعامل في المقام بما هو رئيسٌ للدولة، لا بما هو مبلِّغٌ وموضِّحٌ للشريعة فحَسْب. ونظير ذلك يمكن أن يُقال بشأن بيع الأسلحة لأعداء الدين، فقد تتمّ قراءة النصوص على أنّ حرمته حكمٌ خاصّ مقصورٌ على النصّ([24])، بينما يفهمها بعض الفقهاء على أساس أنّه حكمٌ سياسي يدور مدار الظروف، فقد تقتضي حرمته أو جوازه أو إعطاءه مجّاناً([25]).
ب ـ ولو لوحظ استهداف الشريعة لإدارة المجتمع وشؤونه العامّة لتبدَّلت قراءة الفقيه لنصوص الاحتكار، وبالتالي تبدَّل حكمه من الكراهة إلى المنع الإلزامي، ولاتَّسَعَتْ دائرة متعلَّقه ولم تنحصر بالطعام ونحوه، ولاختلفت الإجراءات الحكومية المتَّخذة بشأنه. وشبهُ ذلك يُقال بالنسبة إلى تهريب البضائع وتوريدها إلى البلاد الإسلامية بشكلٍ غير رسمي.
ج ـ وهكذا الحال لو تمَّ لحاظ (التنمية) كهَدَف من قِبَل الفقيه، فسوف يتفعَّل فيه عِرْق الإبداع والمواكبة لمسير الحياة، ولراح مفتّشاً وراء المجالات الفقهية الحيوية، وباحثاً عن الفرص التي تنتهي إلى تحريك عَجَلة العلم والحياة، نظير: تقديم تخريج فقهيّ لحماية الإنتاج الداخلي للدول الإسلامية في مقابل المنتوجات الأجنبية، وتعيين الموقف الشرعي تجاه كيفية الاستفادة من الثروات الطبيعية، وتعيين حدود ذلك، وتبيين الأحكام المتعلِّقة، كثبوت الضمان عند تجاوز المقرَّرات أو عدمه.
وعليه، فإنّ للهدف تأثيراً ملموساً على واقع العملية الاجتهادية، وليس هو مجرّد توصية للفقيه؛ لكي يلتفت إلى الأهداف الفقهية فحَسْب. وحينئذٍ تكون حصحصة الفقه في ضوء الهدف عمليّة منطقيّة وعلميّة وذات أثر. ولا يخفى أنّ هذا أحد أشكال (الفقه المضاف). ورُبَما يكون لهذا النَّمَط من الفقه المضاف أَثَرٌ على أسلمة العلوم الإنسانية، غير أنّ هذا التأثير سوف لا يكون تأثيراً مباشراً، بل تأثير غير مباشر؛ نظراً لإمكانية توظيف واستثمار بعض الآراء الفقهية الجديدة المجتزأة في عمليات ترميم وأسلمة العلوم الإنسانية.
المِلاك الثاني: لحاظ المجالات الحياتية الراهنة والمُعاشة. وهذا تارةً يُلاحَظ فيه المجالات الحياتية الكبرى، فيُقال: (الفقه السياسي)؛ و(فقه الدولة)؛ و(الفقه الاقتصادي)؛ و(الفقه الاجتماعي)؛ وأخرى يُلاحَظ فيه مجالات حياتيّة أضيق، فيُقال: (فقه المصارف)؛ و(فقه الأسواق المالية أو التجارية)؛ و(فقه البناء والإعمار)؛ و(فقه الجنس)؛ و(فقه البيئة)؛ و(فقه التقنيات الحديثة)؛ و(فقه الفضاء المجازي)؛ و(فقه الأُسرة)؛ و(فقه الطفل).
وما دام الفقه إنّما جاء لحلّ مشكلات البشر، سواء كانت ترتبط بالفرد أو ترتبط بفئةٍ اجتماعية خاصّة أو ترتبط بالكيان الاجتماعي بأَسْره، فمن المنطقيّ حينئذٍ أن يتصدّى الفقه لمعالجة هذه المجالات الحياتية، وتركيز النظر عليها؛ كي يتمكّن من تقديم حلولٍ ناضجة ومتكاملة وجامعة لجميع الجوانب من تلك المجالات التي تمسّ الحاجة إليها، وعدم الاكتفاء بمعالجتها معالجةً مجتزأة وعابرة، بل عدم الاكتفاء بالنظر إليها من خارجٍ، وبشكلٍ إجماليّ، ولا بُدَّ من لحاظها من داخل ذلك المجال الحياتي الخاصّ، بما يتضمَّن من خصائص، وبما تحفّه من ملابسات تتعلَّق به؛ ففرقٌ شاسع بين دراسة مسألةٍ مع لحاظ جوِّها الخاصّ وبين دراستها معزولةً ومجرّدة عن ذلك كلِّه، فلو لاحظ الفقيه مسألة غرامة تأخير تسديد أقساط الديون المصرفية مجرَّدةً عن أجوائها المعاشة لأفتى بحرمة ذلك فقهيّاً؛ لكونه زيادةً رَبَويّة، لكنْ لو أخذ الظروف الموضوعية بنظر الاعتبار، وأنّ إلغاء هذا النحو من التغريم سوف يؤدّي إلى تضييع رؤوس الأموال، وارتباك وضع المصارف، بل رُبَما تعطيلها، لعالج المسألة بنحوٍ آخر، ولحاول أن يكتشف لها تكييفاً فنِّياً متفاوتاً. كما أنّه إذا أُريد بحث أحكام المصارف فيتحتَّم لحاظ أنظمة المصارف وما فيها من معاملاتٍ قائمةٍ بالفعل، لا على أساس المعلومات المودعة في بطون الكتب، والتي قد لا تتناسب مع الواقع القائم اليوم؛ فرُبَما يكون بعضها معاملاتٍ قديمةً لا وجود لها خارجاً. وهذا لا يتحقَّق إلاّ بإفراد دراسة المصارف على حِدَة، بحيث تتوفَّر فرصةُ تشخيص الموضوعات الفقهية المصرفية بشكلٍ دقيق، والتعرُّف على الموضوعات ضمن واقعها التي هي فيه، وليس بصورةٍ مختبرية افتراضية. وهذا نحوٌ من أنحاء (الفقه المضاف)، وذو أَثَرٍ، كما هو واضحٌ.
كما أنّ لهذا النَّمَط من الفقه المضاف أَثَراً على أسلمة العلوم الإنسانية، ولكن بصورةٍ غير مباشرة؛ فإنّ البحث فيه لا يخلو من إبراز نكات وحيثيات، ورُبَما تكون الاستظهارات أو الآراء التجديدية قابلةً لأن تُوظَّف وتُستثمر في عمليات ترميم وأسلمة العلوم الإنسانية، كما في النَّمَط الأوّل.
ملاحظاتٌ
الأولى: الظاهر أنّ المِلاك الأوّل يمكن أن يجتمع مع المِلاكين الثاني والثالث؛ فإنّهما يقعان في طوله.
الثانية: النقطة المهمّة في التنويع هو لحاظ الهَدَف؛ فإنْ كان الهَدَف تقديم منهج دراسي تعليمي فالأنسب هو الثاني؛ وإنْ كان الهَدَف تقديم حلولٍ عملية لمختلف زوايا الحياة فالأنسب هو الثالث.
الثالثة: قد تواجهنا موارد لها أكثر من وجهٍ، نحو: (فقه القضاء)؛ فقد يُقْصَد منه بحث المسائل التقليدية المتعارف بحثها في باب القضاء؛ وقد يُقْصَد منه بحث كلّ ما يحتاج إليه في مجال القضاء بعَرْضه العريض الشامل للمسائل المُستَحْدَثة، فلا يبعد أن يستسيغ العُرْف الخاصّ إطلاق هذا العنوان في الحالة الثانية، دون الأولى. وكذا الكلام في (الفقه الزراعي)، الذي يمكن أن يُلْحَظ بلحاظين: التجميعي؛ أو التنظيمي، فيحسن الإطلاق باللحاظ الثاني، دون الأوّل.
الرابعة: إنّ الفقه المضاف هو مقولةٌ نسبيّة، قد تصدق على مجال واسع، وفي الوقت نفسه تصدق على مجالٍ أضيق منه، يقع في طوله وضمنه، كـ (فقه المصارف)، الذي يقع ضمن (الفقه الاقتصادي). ومن هنا يمكن أن تجتمع عندنا عدّةُ مستوياتٍ من الفقه المضاف؛ فيمكن أن يكون المضاف إليه مجالاً واسعاً جدّاً؛ ويمكن أن يكون محدوداً جدّاً؛ ويمكن أن يكون متوسِّطاً بينهما.
توصياتٌ في إطار الملاكَيْن الأوّلَيْن
لو أُريد اعتماد أحد هذين المِلاكين فلدينا توصيتان؛ وأُخريان طَرَحهما بعض الفضلاء من الباحثين:
التوصية الأولى: لحاظ مسائل الدائرة الفقهية المقتطعة من حيث الكمّ؛ أي لا بُدَّ أن تُشكّل تلك المسائل كمّاً معتدّاً به من الناحية العقلائيّة بحَسَب ما هو متوفِّرٌ من المسائل اليوم، لتشكِّل ثقلاً بحثياً، كأنْ تبلغ العشرات، بل المئات، بحَسَب ما هو متوفّر الآن فعلاً أو بالقوّة القريبة من الفعل. فلا يسوغ من الناحية الذوقية والعُرْفية إفراد مجموعةٍ محدودةٍ وقليلةٍ من المسائل بعنوان فنٍّ فقهي مستقلّ، وإلاّ لانتهى الأمر إلى تكثير عناوين الفقه المضاف بشكلٍ رهيب، ولما أمكن السيطرة عليها من الناحية التنظيمية والهيكلية لعلم الفقه، ولأصبح الأمر فوضويّاً لا يخضع لأيّ ضابطةٍ مقبولة؛ فإنّ تقسيم مسائل العلم ليست عمليّةً عشوائية، ولا لرغبةٍ شخصيّة في تكثير السواد، بل لا بُدَّ أن يكمن وراءها أغراضٌ عقلائية، وأحدُ هذه الأغراض هو تسهيل الوصول إلى المسألة وعلاجها، من خلال عنونتها بعنوانٍ محدَّد، ومع تكثير العنونة بشكلٍ كبير سوف يصعب وصول البحث إلى مبتغاه، بل سوف يتيه في ظلّ هذه العناوين المتراكمة، ورُبَما يكون لعملية التبضيع هذه آفاتٌ وإشكالياتٌ علمية أو منهجية، كالغفلة عن الأحكام الأساسية لذلك الباب الفقهي الأصل، الذي تمّ تقطيعه.
ثمّ إنّ عملية إفراد وعنونة دائرة معيَّنة من الفقه يُراد بها جعله فنّاً مستقلاًّ وفرعاً علميّاً، ومع محدودية مسائله سوف تتوقَّف حركة البحث فيه، وتتعطّل بعد فترةٍ وجيزة، بينما المتوقَّع في كلّ فرعٍ من الفروع العلمية هو تسريع عجلة البحث فيه، وتخريج مختصّين وخبراء مهيمنين على ذلك الفنّ والفرع العلمي، والتخصُّص يقتضي سعة معلومات الخبير والمختصّ بذلك الفرع سعةً معتدّاً بها؛ كي يكون لاختصاصه وزنٌ وقيمةٌ علمية.
فإفراد (الفقه الذرّي أو فقه الذرّة) على حِدَة([26]) أمرٌ لا يكون مستساغاً؛ باعتبار محدودية مسائله.
التوصية الثانية: كون الحيثية الملحوظة في إفراد الفنّ ممّا يترتَّب عليها أثر عملي أو علمي، وبعبارةٍ أخرى: كون تخصيص مجال معيّن واقتطاع دائرة من الفقه يُمثِّل نقلةً نوعيّةً وانعطافاً كيفيّاً في حركة علم الفقه. فإفراد المسائل الفقهية المرتبطة بالأُسرة يسوق إلى إيجاد تصوُّرٍ كامل حول الصورة النموذجية للأُسرة في النظرة الفقهية، وينتهي إلى اكتشاف النظام الأُسَري في الإسلام، كما أنّه قد يُنْتِج تقديم حلولٍ لبعض الأزمات في العلاقات العائلية، من قبيل: إيضاح دائرة قوامة الزوج وحدودها؛ وإيضاح دائرة انصياع الأولاد للأبوين وحدودها؛ وتعيين الموقف تجاه حالات التعسُّف في الاستفادة من الحقّ، كتعسّف الزوج في الاستفادة من حقِّه في الطلاق، وتعسُّف الزوجة في استعمال حقّها في حضانة الطفل، إلى غير ذلك. وأمّا القيام بإفراد مسائل الأُسرة من دون ترتُّب إضافات علمية أو حلول عملية لمسائل الأُسرة فهو عمليّة عَبَثيّة لا جدوى فيها.
أجل، يُستَثنَى من ذلك الأغراض الثقافية والتربوية والإعلامية؛ من أجل بثّ التعاليم الفقهية بين الأُسَر، وتعليمهم وظائفهم ومسؤولياتهم الشرعية. فقد يُصار أحياناً؛ لشيءٍ من تلك الأغراض، إلى عنونة بعض الأبحاث بـ (فقه الشباب)؛ أو (فقه النساء)؛ أو (فقه المرأة)؛ أو (فقه الرياضة)؛ أو (فقه الفنّ)([27])؛ ونحو ذلك. لكنّ هذا خارجٌ عن محلّ النزاع، وليس مقصوداً لنا، بل رُبَما يكون مطلوباً وحَسَناً ومؤثِّراً، وفيه فوائد جمّة.
التوصية الثالثة: ضرورة امتلاك منهجٍ خاصّ للمجال الفقهي الذي تمّ إفراده، أي الفقه المضاف، كفقه النظام([28]).
لكنْ يَرِدُ عليه: إنْ كان هذا مقصود الباحث الموقَّر فهو ليس لازماً، بل من الممكن ممارسة الاستنباط في الفقه المضاف وفقاً للمنهج الفقهي المتداول. كما أنّ الخروج على هذا المنهج يُفْقِد عملية الاستنباط اعتبارها وقيمتها العلميّة. أجل إذا اقتضى الأمر أحياناً اجتراح قاعدةٍ فقهية أو أصولية جديدة، أو اكتشاف نكتةٍ وحيثيّةٍ إضافية، أو قراءةً خاصّة لبعض النصوص القرآنية أو الحديثية، فلا مانع من ذلك. ويبدو أنّ الباحث الفاضل نفسه، بعد فاصلةٍ قصيرة، قد تراجع عمّا اشترطه، ورُبَما يكون مرادُه من أوّل الأمر متَّحداً مع ما قلناه، ولكنّ العبارة موهمةٌ.
التوصية الرابعة: تضلُّع الباحث بالبحوث الفقهية، وتمتُّعه بالمهارة الكافية([29]).
وهذا صحيحٌ في نفسه، إلاّ أنّه لا بُدَّ أن يُؤْخَذ في المقام مفروغاً عنه.
المِلاك الثالث: لحاظ المنهج المعتمد، ومن نماذج ذلك: (الفقه المقاصدي)([30])؛ أو (فقه النظام)؛ فإنّ الملحوظ في كلا هذين النموذجين هو المنهج المعتمد فيهما.
بَيْدَ أنّهما مبتنيان على التسليم باعتبارهما أصوليّاً، وإلاّ لو لم يمكن تبريرهما من الناحية الأصولية فلا يبقى مجالٌ لتطبيقهما فقهيّاً، ولما ساغ حينئذٍ طرحهما ضمن دائرة الفقه المضاف.
المِلاك الرابع: لحاظ الاختصاصات العلمية الأكاديمية في الجملة، ويتمّ التنويع في ضوئها، فيُقال: (فقه الإدارة)؛ و(الفقه الطبّي) أو (فقه الطبابة)([31])؛ و(فقه التربية) أو (الفقه التربوي)([32])؛ و(فقه الفنّ)؛ و(فقه الرياضة). ومرجع هذا المِلاك إلى الأبحاث المتوسِّطة بين أكثر من اختصاصٍ.
ولا رَيْبَ في أنّ العلوم والفنون البشرية بأَسْرها ـ الطبيعية والإنسانية ـ هي علوم تمتاز بمنهجيّةٍ خاصّة وقد قطعَتْ أشواطاً بحثيّةً كبيرة، تشكَّلت لها على أَثَر ذلك هيكليّةٌ معيَّنة وقواعد وضوابط وتحليلاتٌ وكشوفاتٌ، فعندما يُراد الإفادة من تلك الأشواط التي قطعَتْها هذه العلوم والفنون، وتوظيفها لاكتشاف الرؤية الإسلامية بلحاظ تلك الأصعدة والميادين البحثية، فلا بُدَّ من النظر بعينين، لا بعينٍ واحدة: عينٍ تركِّز النظرَ على ذلك المجال العلمي البشريّ؛ وعينٍ تركِّز النظرَ في الوقت نفسه على الخزين الإسلامي.
إذن، هذا النمط من (الفقه المضاف) يُعتَبَر من البحوث المتوسِّطة والمتأرجحة والبرزخية بين مجالين علميّين. وهذا هو المهمّ لنا في المقام؛ إذ إنّ البحث يتحرَّك باتّجاه أسلمة العلوم بصورةٍ مباشرة.
ضوابط أسلمة العلوم الإنسانيّة في إطار المِلاك الرابع
من أجل الوصول إلى نتائج مهمّة في هذا المجال ينبغي وضع بعض الضوابط، ومنها:
1ـ لا بُدَّ من إحراز الباحث درجة التخصُّص في الفرع العلمي الذي يُراد العمل على أسلمته، أو على الأقلّ أن تكون له خبرةٌ وهيمنةٌ على أساسياته، وهي: فَهْم مباني ذلك العلم أو الفنّ، ومعرفة منهجه الذي يعتمده في مباحثه، ونوع الأدلّة والقواعد التي تُستخدم في الاستدلال، وتمييز المصادر المعتبرة والأصيلة عند أهل ذلك الفنّ من غير المعتبرة، والاطّلاع على جملةٍ معتدٍّ بها من مسائله، ومعرفة أهمّ المدارس والاتّجاهات والتخصُّصات الفرعية.
وممّا لا رَيْبَ فيه أنّ تحقُّق هذه الأمور لا يتمّ في ليلةٍ وضحاها، بل لا بُدَّ من البحث الحثيث إلى أن يحصل للباحث إحاطةٌ بذلك الفرع العلمي، بمستوىً مقبول، بحيث يمكِّنه من دَرْك المطالب واستيعابها، ثمّ تحليلها وتقويمها، والخروج برؤىً تجاهها.
2ـ وفي المقابل لا بُدَّ للباحث أيضاً من إحراز درجةٍ عالية من التخصُّص في الفقه الإسلامي، مبانيه وأدلّته وقواعده ومصادره ومسائله. وكذلك لا بُدَّ من توفُّره على رؤيةٍ شموليّةٍ لفقه الإسلام، ولا يكفي مجرَّد الاطِّلاع والمعرفة المجتزأة، بل من الضروري امتلاك رؤيةٍ شمولية ومحيطة، كما لا يُغني مجرَّد الرؤية الأُفُقية، وإنّما يتحتَّم التمتُّع بنظرةٍ عموديّة وعميقة للفقه.
أضِفْ إلى ذلك ضرورة التحلّي بالحدّ الوافي من الخبرة بما يرتبط بعلم الفقه من علوم الشريعة وفنونها، كعلوم الأصول والرجال والدراية والحديث ـ بعرْضه العريض ـ والتفسير وعلوم القرآن؛ لأنّ الباحث يريد أن يبحر في رحلةٍ طويلة، وتمتدّ باتّجاهات متعدّدة؛ فتارةً يستعين لإثبات مدَّعاه بمعلومةٍ حديثية؛ وأخرى يستند إلى دليلٍ قرآني، وثالثةً يدعم فكرته بشواهد درائيّة، ورابعةً يردّ فكرةً مضادّة متوسِّلاً بنكتة أصولية، وهكذا.
3ـ عدم تحجُّر الباحث فقهياً، وعدم التوقُّف عند قناعات المشهور. وعليه التعامل بروحٍ انفتاحية، ولا ينبغي المراوحة في دائرة الرؤى والبحوث والأدبيات المتداولة في الخطاب الفقهي فحَسْب، بل من اللازم التحلّي بروح الإبداع والابتكار والجرأة العلمية؛ فإنّ الاتّكال على الموجود غالباً لا يسدّ حاجةَ الباحث، ولا يُؤمِّن مبتغاه، ممّا يُملي على الباحث أن يُشمِّر عن ساعد الجدّ؛ ليفتح ملفّاتٍ علميّةً جديدةً، بروحٍ اجتهاديّة وإبداعيّة حقيقيّة، لا ادّعائية، وليتصدّى لمَلْء الفراغات البحثية التي تواجهه عادةً.
4ـ على الباحث التحلّي بالموضوعية بأعلى أشكالها، فليس كلّ ما طُرح في العلوم الإنسانية من قِبَل الغرب هو غيرُ مقبولٍ، ولا كلّ ما قيل: إنّه إسلاميّ ممّا نصرّ على إسلاميّته. كما أنّه ليس كلّ شَبَهٍ بين العلوم الإنسانية وبين الدِّين يُحْمَل على وجود قرابةٍ بينهما.
كما أنّه لا بُدَّ من التعامل بصبرٍ ورحابة صَدْرٍ، وقطع عدّة خطوات على مَهْلٍ:
أـ تفهُّم الأفكار المطروحة في العلوم الإنسانية تصوّراً، واستيعابها من كافّة الجهات.
ب ـ بعد ذلك تصل النوبة إلى تحليلها.
ج ـ ثمّ تقويمها، والحكم لها أو عليها.
د ـ بعدها يتمّ اكتشاف الرؤية الإسلامية في ذلك المجال العلمي المعيَّن.
هـ ـ ليس من الصحيح الاقتصار على البحوث النظرية الصِّرْفة، والتنظير العقلي المجرَّد، بل لا بُدَّ من إضافة عناصر جديدة إلى ساحة الاستدلال في مجال أسلمة العلوم الإنسانية، نظير: الاعتماد على الملاحظة العلمية لبعض الظواهر البشرية، المبتنية على الإحصائيات العلمية الدقيقة، بل لا بُدَّ أيضاً من فتح باب التجربة والإفادة منها.
و ـ عقد المقارنة بين الرؤية الإسلامية وبين ذلك العلم الإنساني، فرُبَما يلتقيان في بعض النقاط، ويختلفان في أخرى.
ز ـ في نهاية المطاف الخروج بنتيجةٍ قاطعة وناضجةٍ، تحمل البديل الإسلامي الراقي.
وقفةٌ مع مقولة «الفقه الجواهري»
ثمّة مقولةٌ طالما ركَّز عليها الباحثون والمنظِّرون، ألا وهي ضرورة الالتزام بـ (الفقه الجواهري)([33]). ومن الواضح أنّ الذي وجَّه الأنظار بصورةٍ مؤكَّدة نحو مقولة (الفقه الجواهري) في زماننا هو السيد الخميني، في بيانٍ له([34]).
وينبغي التوقُّف قليلاً عند هذه المقولة، وتقويمها علمياً. والاحتمالات المتصوَّرة فيها هي:
الاحتمال الأوّل: أن يُراد بذلك ضرورة الالتزام بالمنهج التقليدي الذي يُمثِّله رسمياً (الفقه الجواهري)، فهو الذي حمى المنهج الفقهي التقليدي، وطبَّقه على جميع الأبواب والفروع الفقهية.
ويَرِدُ عليه:
1ـ إنّ هذا المنهج لم يلتزم به بعض كبار الفقهاء ممَّنْ جاء بعد صاحب الجواهر، نظير: الشيخ المجدِّد مرتضى الأنصاري؛ حيث أبرز عدّة نظريّاتٍ أثَّرَتْ على مسار المنهج الفقهيّ، من قبيل: إبداعه لـ (نظريّة الحكومة)([35])، التي كان لها بالغ الأَثَر على كيفية فَهْم النصوص، والتوفيق والجمع بينها.
كما لم يلتزم بالمنهج الجواهري بعض المحقِّقين الذين رفضوا حجِّية الإجماع المدركي أو المنقول، بل رفض بعضهم حجّية الإجماع المحصَّل؛ بينما الفقه التقليدي، بما في ذلك الفقه الجواهري، حافلٌ بالاستدلال بالإجماعات. وقد سار كبار المجتهدين إلى يومنا على هذا المنحى المنفتح، فلكلّ مجتهدٍ إبداعاته الخاصّة به.
2ـ إنّ تضييق الخناق على المجتهد لا يتناسب مع انفتاح باب الاجتهاد عند الإمامية، فقهاً وأصولاً ورجالاً وتفسيراً، ولا مبرِّر علمياً لهذا التحديد.
3ـ إنّ المنهج الجواهري، على الرغم من رَوْعته وقابليته، لا يؤمِّن حاجة المستنبط للمجالات الجديدة كـ (فقه الأنظمة العامّة)؛ فإنّ طريقة الاستدلال سَيْراً وعناصر ونتائج متفاوتة جدّاً مع الفقه الجواهري، كما لا يخفى على الخبير.
الاحتمال الثاني: أن يُراد ضرورة الالتزام الفتوائي في الجملة بالفقه الجواهري؛ لتمثيله الجوّ الفقهي الحاكم، فهو لسان المشهور الناطق.
ويَرِدُ عليه: مضافاً إلى ما مرّ آنفاً، فإنّ المسائل المستَحْدَثة لا وجود لها في الفقه الجواهري، بل هي تولَّدَتْ نشأةً أو بحثاً بعد صاحب الجواهر، فلا معنى للالتزام الفتوائي فيها بالفقه الجواهري؛ لأنّه من باب السالبة بانتفاء الموضوع.
الاحتمال الثالث: أن يُراد ضرورة الالتزام بالمنهج العلمي المُتْقَن، الذي هو من مميِّزات فقه الإمامية على طول التاريخ، في مقابل المناهج الفقهيّة عند غيرهم، من اعتماد القياس والاستحسان والمصالح المرسلة والرأي الشخصي في الاستنباط.
فإنْ كان هذا المعنى هو المراد فهو وجيهٌ ومتين.
وقفةٌ مع مقولة «تأسيس فقهٍ جديد»
وممّا ذكرنا يتَّضح مدى ضرورة ممارسة البحث العلمي الحُرّ بحَسَب مقتضى الصناعة والقواعد المقرَّرة، وعدم الخشية إلاّ من مجانبة الضوابط وعدم مراعاتها. ومن هنا فنحن نرى أنّ مقولة (تأسيس فقهٍ جديد)، التي طرحها بعض المحقِّقين، ليست بالعصا الغليظة، ولا تشكِّل محذوراً يحول دون قبول الرأي الفقهيّ([36]).
خاتمةٌ
1ـ استعرَضْنا خمسة أشكال كلِّية للفقه المضاف، وتصدَّيْنا لبيانها، ثمّ بيَّنَّا مدى تأثيرها على أسلمة العلوم الإنسانية.
2ـ أوضَحْنا أنّ الأشكال التي لها تأثير على أسلمة العلوم الإنسانية هي الأشكال التالية: الأوّل والثاني والخامس، دون الشكلين الثالث والرابع.
3ـ طرَحْنا أربعة مِلاكات لحصحصة الفقه المضاف، والتي لها تأثيرٌ على أسلمة العلوم الإنسانية، وقد تضمَّنَتْ بعض الملحوظات والتوصيات.
4ـ أبدَيْنا حزمةً من الضوابط لعمليّة أسلمة العلوم الإنسانية، في ضوء اعتماد المِلاك الرابع لحصحصة الفقه المضاف.
5ـ توقَّفْنا عند مقولتين، وهما: (ضرورة الالتزام بالفقه الجواهري)؛ و(تحاشي تأسيس فقهٍ جديد)، وانتهَيْنا إلى عدم وجاهتهما، وعدم التلويح بهما كعصا غليظة تقف في وجه الباحثين في مجالات أسلمة العلوم الإنسانية، بل يمكن حمل المقولة الأولى على معنىً مقبول.
الهوامش
(*) أستاذٌ في الحوزة العلميّة، وعضو الهيئة العلميّة في جامعة المصطفى| العالميّة، ومدير تحرير مجلّة الاستنباط. من العراق.
([1]) محمد آصف المحسني، الفقه ومسائل طبّية، مكتب الإعلام الإسلامي، قم، 1426هـ.
([2]) علي رضا الأعرافي، لا أوافق علی التعبير بـ (الفقه المضاف)، خبرگزاری حوزه [باللغة الفارسية]، ۱۳۹5هـ.ش: https://www.hawzahnews.com/news/396541/
([3]) علي رضا كندم كار، الباحثون الفقهاء والاجتهاد وأصول الفقه [باللغة الفارسية]، موقع الاجتهاد، 11 دي 1398هـ.ش: http://ijtihadnet.ir
([4]) السيد محمد قائم مقامي، موقع الفقه والتفقُّه في عصرنا الراهن [باللغة الفارسية]، موقع الاجتهاد، 16 مرداد ۱۳۹5هـ.ش: http://ijtihadnet.ir
([5]) أحمد مبلّغي، أقترح هيکلة وتبويباً جديداً للفقه المضاف [باللغة الفارسية]، موقع الاجتهاد، 30 فروردين 1397هـ.ش: http://ijtihadnet.ir
([6]) علي رضا الأعرافي، لا أوافق علی التعبير بـ (الفقه المضاف)، خبرگزاری حوزه [باللغة الفارسية]، ۱۳۹5هـ.ش: https://www.hawzahnews.com/news/396541/
([8]) أبو القاسم علي دوست، لدى الفقهاء خوفٌ في الورود ببحث الفقه المضاف [باللغة الفارسية]، موقع الاجتهاد، 1398هـ.ش: http://ijtihadnet.ir
([9]) أبو القاسم علي دوست، محاولة بعض المتنوِّرين لأخذنا صوب المقاصد الظنّية وتوقيت الأحكام زمانياً [باللغة الفارسية]، موقع الاجتهاد، 14 دي 1397هـ.ش: http://ijtihadnet.ir
([10]) علي أكبر الصافي الإصفهاني، ضرورة تبيين هيکلية الفقه علی أساس الجامعية التوحيدية [باللغة الفارسية]، موقع الاجتهاد، 20 أرديبهشت 1397هـ.ش: http://ijtihadnet.ir
([11]) أبو القاسم الدولابي، فقه النظام وتبيين معالم الحضارة [باللغة الفارسية]، موقع الاجتهاد، 30 تير ۱۳۹۷هـ.ش: http://ijtihadnet.ir
([12]) علي أكبر الصافي الإصفهاني، ضرورة تبيين هيکلية الفقه علی أساس الجامعية التوحيدية [باللغة الفارسية]، موقع الاجتهاد، 20 أرديبهشت 1397هـ.ش: http://ijtihadnet.ir
([13]) انظر: أبو القاسم دولابي، فقه النظام وتبيين معالم الحضارة [باللغة الفارسية]، موقع الاجتهاد، 30 تير ۱۳۹۷هـ.ش: http://ijtihadnet.ir
([14]) يوسف القرضاوي، فقه الزكاة، مؤسّسة الرسالة، ط6، 1401هـ ـ 1981م.
([15]) عبد الكريم الأردبيلي، فقه الحدود والتعزيرات، مؤسّسة النشر لجامعة المفيد، قم، ط1، 1427هـ.
([16]) عبد الكريم الأردبيلي، فقه الشركة على نهج الفقه والقانون، منشورات مكتبة أمير المؤمنين× ـ دار العلم للمفيد، قم، ط1، 1414هـ.
([17]) جعفر السبحاني، نظام الطلاق في الشريعة الإسلامية الغرّاء، ط1، مؤسّسة الإمام الصادق×، قم، 1414هـ.
([18]) جعفر السبحاني، نظام المضاربة في الشريعة الإسلامية الغرّاء، ط1، مؤسّسة الإمام الصادق×، قم، 1416هـ.
([19]) جعفر السبحاني، نظام الإرث في الشريعة الإسلامية الغرّاء، ط1، مؤسّسة الإمام الصادق×، قم، 1415هـ.
([20]) محمود الهاشمي الشاهرودي، بحوث في الفقه الزراعي، مؤسّسة دائرة معارف الفقه الإسلامي طبقاً لمذهب أهل البيت^، قم، ط1، 1426هـ.
([21]) محمد كاظم المصطفوي، فقه المعاملات، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ط1، 1423هـ؛ حسن أيّوب، فقه المعاملات المالية، دار السلام ـ مصر، ط3، 1427هـ ـ 2006م.
([22]) كاظم الحائري، فقه العقود، مجمع الفكر الإسلامي ـ قم، ط2، 1423هـ.
([23]) حسن مولائي، الفقه المضاف لماذا؟ وكيف؟ [باللغة الفارسية]، وكالة أنباء الحوزة، موقع الاجتهاد، 2016م:http://ijtihadnet.net
([24]) مرتضى بن محمد أمين الأنصاري، كتاب المكاسب (المطبوع ضمن تراث الشيخ الأعظم) 1: 147، ط1، قم، مجمع الفکر الإسلامي، 1420هـ.
([25]) روح الله الخميني، المكاسب المحرَّمة 1: 152، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، قم، ط1، 1415هـ.
([26]) أبو القاسم علي دوست، لدى الفقهاء خوف في الورود ببحث الفقه المضاف [باللغة الفارسية]، موقع الاجتهاد، 1398هـ.ش: http://ijtihadnet.ir
([30]) أحمد مبلّغي، أقترح هيکلةً وتبويباً جديداً للفقه المضاف [باللغة الفارسية]، موقع الاجتهاد، 30 فروردين 1397هـ.ش: http://ijtihadnet.ir
([31]) محمد آصف المحسني، الفقه ومسائل طبّية، مكتب الإعلام الإسلامي، قم، 1426هـ.
([32]) علي رضا الأعرافي، الفقه التربوي، [باللغة الفارسية]، مؤسّسة إشراق وعرفان، قم، 1387هـ.ش.
([33]) علي أكبر الصافي الإصفهاني، ضرورة تبيين هيکلية الفقه علی أساس الجامعية التوحيدية [باللغة الفارسية]، موقع الاجتهاد، 20 أرديبهشت 1397هـ.ش: http://ijtihadnet.ir
([34]) روح الله الخميني، صحيفة النور، [باللغة الفارسية]، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، قم، ط1، 1420هـ.
([35]) مرتضى بن محمد أمين الأنصاري، فرائد الأصول (المطبوع ضمن تراث الشيخ الأعظم) 4: 13، ط1، قم، مجمع الفکر الإسلامي، 1419هـ.
([36]) مرتضى بن محمد أمين الأنصاري، كتاب المكاسب (المطبوع ضمن تراث الشيخ الأعظم) 1: 147؛ 6: 101، ط1، قم، مجمع الفکر الإسلامي، 1420هـ؛ آقا رضا الهمداني، مصباح الفقيه 1: 54، 188، مؤسّسة الجعفرية لإحياء التراث، ط1، 1416هـ، ومؤسّسة النشر الإسلامي، قم، 1322ه؛ محمد تقي الآملي، كتاب المكاسب والبيع (تقريرات النائيني) 1: 69، مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، 1413هـ؛ موسى بن محمد النجفي الخوانساري، منية الطالب في حاشية المكاسب (تقريرات النائيني) 1: 136؛ 2: 171؛ 3: 372، 405، 1363ه؛ محسن الحكيم، مستمسك العروة الوثقى 1: 146؛ 12: 146؛ 13: 381؛ 14: 299، مكتبة الآداب، النجف الأشرف، ط4، 1391هـ؛. روح الله الخميني، الرسائل العشر 1: 42، مؤسّسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، قم، ط1، 1409هـ؛ أبو القاسم الخوئي، موسوعة الإمام الخوئي (كتاب الخمس): 146، 148، مؤسّسة إحياء آثار الإمام الخوئي، قم، 1418هـ؛ محمد علي التوحيدي التبريزي، مصباح الفقاهة (تقرير أبحاث أبو القاسم الخوئي 1: 59؛ 2: 134، 685؛ 4: 361؛ 5: 396، مؤسّسة إحياء آثار الإمام الخوئي، قم، 1428هـ؛ حسين علي المنتظري، البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر (تقريرات أبحاث السيد حسين البروجردي): 229، ط3، قم، 1416هـ؛ حسين علي المنتظري، دراسات في المكاسب المحرَّمة 1: 161، نشر تفكّر، قم، ط1، 1415ه؛ جلال الدين الطاهري الإصفهاني، المحاضرات 1: 482 ـ 483، ط1، إصفهان، مبارك، 1382هـ.