تحرير بقلم: الشيخ سعيد نورا
تمهيد
لا نتكلّم في هذه الوريقات عن التاريخ عموماً، بل نركّز على سيرة أئمّة الدين، أي السيرة الدينيّة التي تتناول شخصياتٍ تعتبر استثنائيّةً من وجهة نظر دينيّة، مثل الأنبياء والأئمة^، فلا نتكلّم عن مثل وقائع العصر العثماني أو المملوكي أو غير ذلك، ولذلك جعلنا هذا الموضوع تحت عنوان (مناهج دراسة السيرة)، وليس مناهج دراسة التاريخ عامّة، علماً أنّ غالب قواعد البحث التاريخي تجري هنا، لكنّ طبيعة بعض الخصوصيّات الآتية هي التي تفرض إفراد قضيّة السيرة بالكلام، بعيداً عن مقتضيات الحالة العامّة في الدرس التاريخي.
ولكي نوصل فكرتنا هنا، سوف نقوم بتقسيم البحث في مناهج دراسة السيرة، إلى قسمين رئيسيين:
القسم الأوّل: مناهج الفهم وتفسير الحدث التاريخي.
القسم الثاني: مناهج إثبات الحدث التاريخي.
ومن الطبيعي أن نتطرّق لإثبات الحدث التاريخي أوّلاً، ثم نعرّج على تفسير هذا الحدث؛ إذ العرش ثم النقش، فأنت تُثبت الحدثَ بدايةً، ثم تحاول ـ عَقِب ذلك ـ أن تفهمه، لكن نظراً إلى أنّنا سوف نستفيد في المنهج الثاني من مناهج إثبات الحدث التاريخي، وهو معياريّة المتن، من مناهج الفهم الحديثي، إذ ستترك أثراً على إثبات الوقائع التاريخيّة.. لهذا قدَّمنا مناهج تفسير الظاهرة التاريخيّة على مناهج إثباتها.
المحور الأوّل: مناهج تحليل الأحداث التاريخيّة وتفسيرها
يمكن أن نصنّف ما سنختاره من مناهج فهم سيرة الرموز الدينيّة، إلى ثلاثة:
1 ـ المنهج الغيبي في فهم وقائع السيرة
يعدّ هذا المنهج أحد المناهج التي نراها بارزةً عند بعض الباحثين في مجال السيرة، وهو منهجٌ يتّسم بطابعٍ غيبيّ إعجازي، ولهذا أطلقتُ عليه اسم (المنهج الغيبي).
والمقصود بهذا المنهج في فهم الحدث التاريخي المتعلّق بالشخصيّات الدينيّة الكبرى كالأنبياء والأئمّة^، هو أن نعتقد مسبقاً، بوجود حالةٍ قُدسية وغيبيّة لها جانبٌ متعالٍ عن الحدود الزمكانيّة المتعارفة، تمثل إحدى الخلفيّات الأساسيّة للأحداث التي تقع مع هذا النوع من الرموز الدينيّة.
هذا النسق من المنهج نلاحظه بوضوح عن بعض باحثي السيرة في نسبة كبيرة من معالجاتهم التاريخيّة؛ حيث تكون عندهم خلفيّة مسبقة تعتقد بأنّ هذه الرموز الدينيّة محاطة بفضاءٍ غيبي، بمعنى أنّ حياتهم لا تعيش على الوضع الطبيعي فحسب، بل يتمتعون ـ بنسبة عالية ـ بعناية غيبيّة استثنائية من قبل الله تبارك وتعالى، فلا يمكن أن يتعامل الباحث مع شخصيّة مثل الإمام الحسين× أو النبيّ إبراهيم× كما يتعامل وهو يرصد سيرة حياة ملكٍ أو زعيم من ملوك التاريخ أو زعمائه؛ لأنّ هذه الشخصيّة الدينية لا تعيش وضعاً طبيعيّاً، كما نعيش نحن مع الأسباب والعلل الماديّة، وإنّما يغلب أو يكثر في حياتهم التدخّل الغيبيّ الاستثنائيّ دون أن ننكر المادّة والعلل الطبيعيّة إنكاراً تامّاً.
إذا اعتنق الباحث هذه العقيدة مسبقاً، ثم أتى إلى الأحداث المتعلّقة بالسيرة، وهو يحمل معه هذه الفرضيّة بوصفها خلفية قَبْلية معرفيّة، فبالتأكيد سيسمح له ذلك أن يفسّر الوقائع بتفسيرات غير منحصرة بالجانب المادّي، مثلاً يقول: يُحتمل أنّ عنصراً غيبياً تدخّل في هذه القضيّة، وربما يذهب ناحية ترجيح هذا الاحتمال.
بعبارةٍ أخرى: يرى هذا المنهج أنّ هذه الشخصيّات تشبه العملة ذات الوجهين: وجهٌ غيبيّ ووجه مادّي، فلكي نفهم ما يقع معها فهماً كاملاً، لابد أن نضع الوجهين أمامنا، ولا يمكن أن نلغي وجهاً لصالح الوجه الآخر؛ لأنّ طبيعة حياتهم تمثل مزيجاً من الوقائع الماديّة وما وراء المادّة، فلسنا أمام حدث يسير بشكل طبيعي، بل نحن أمام نسبةٍ معيّنة من التاريخ المقدّس، بمعنى أنّ هناك فرقاً بين التاريخ المقدّس الغيبي والتاريخ الدنيوي المادي؛ لأنّ التاريخ المقدّس هو تاريخ تتصل يدُ الغيب فيه بالمادّة اتصالاً غير عادي، ومن ثمّ لم يعد يمكن فهم الوقائع الماديّة فيه بطريقة عاديّة.
إنّ التاريخ المادّي العادي هو تاريخ يخضع لقواعد هذا العالم المأنوسة لنا، ومن ثمّ يمكن التعامل معه تعاملاً علمانيّاً، وفقاً لقواعد النقد التاريخي، بينما التاريخ المقدّس يمثل حلقة اتصال الغيب بالمادّة اتصالاً غير متعارف وغير متكرّر بشكلٍ كبير، وهذا يعني أنّ قواعد الفهم في التاريخ المقدّس يجب تغييرها، وإلا فنحن نقع في خطأ فادح على مستوى المنهج.
فلنلاحظ المسيحيّة على سبيل المثال، إنّ الذين عاصروا النبيّ عيسى×، شاهدوا تاريخه الدنيوي المادي، ولكنّهم ـ من وجهة نظر المسيحيّة ـ لم يشاهدوا بالضرورة الجانب المقدّس المتعالي من تاريخه؛ وهو كونه ابن الله ويمثل التجسّدَ و نزول الله على الأرض للفداء أو الكفارة، فلم يروا إلا الجانب المادّي لصَلْبه، بينما العيون المؤمنة هي التي ترى بقوّة الإيمان هذا التاريخ المقدّس، ومن هنا نلاحظ أنّ شخصيّةً مثل سورين كيركجارد (1855م)، مؤسّس الوجوديّة المؤمنة، لا يرى امتيازاً للمعاصرين لعيسى على غيرهم؛ لأنّ المعاصرة الماديّة لا تساوي رؤية التاريخ المقدّس، في وقت لا تمثل رؤية التاريخ الدنيوي المادي المجرّد شيئاً.
إذن، يرى هذا المنهج أنّ هذه الشخصيّات الدينية الاستثنائية، تمثل برزخاً بين المادّة والغيب، فلا نستطيع أن نقرأها على أنّها شخصيّات في عالم المادّة فقط، وإنما يجب أن نقرأها كأنّها محاطة ومحفوفة بتدخّل الغيب غالباً أو كثيراً، وفي ضوء هذه الفرضيّة المسبقة نحاول أن نحلّل الأحداث التي وقعت مع هذه الشخصيّات.
وبهذا يصبح البُعد الماروائي أنطولوجيّاً في هذه الشخصيّات أو هذا التاريخ المقدّس، موجباً لفرض تعديل في المنهج، من المنهج العلماني التجريبي المحض إلى المنهج الميتافيزيقي، أو إلى ثنائيّةٍ من نوعٍ ما على الأقلّ.
2 ـ المنهج الوضعي المادي
المنهج الثاني لتفسير القضايا المتعلّقة بالسيرة هو المنهج الذي يتعامل مع هذه القضايا كأيّ قضيّة تاريخيّة أخرى، بعيداً عن مفهوم تدخّل الغيب وما وراء الطبيعة، وهو الذي غلب على كتابات المستشرقين في دراستهم للقضايا الدينيّة عموماً، بما فيها سيرة الأنبياء والأئمّة.
ويرى هذا المنهج ـ وفقاً لأصوله المعتمدة في المعرفة البشريّة، حيث يحصرها بالمعارف الحسيّة الملموسة ـ أنّه لا ينبغي أن يضع الباحث التاريخي في حسبانه أنّ هناك شيئاً مخفيّاً غيبياً، يتدخّل في الأحداث؛ لأنّه لا يؤمن بالغيب أساساً، أو يؤمن به لكنّه غير مقتنع بهذا الشكل من الاتصال الغيبي ـ المادي، فالنظام الذهني الذي يتمتّع به لا يجعله مضطرّاً لطرح الفرضيّات التي تُدخل الغيب في تفسير الأحداث، فلا فرق عنده بين الرموز الدينيّة وغيرها من الأشخاص العاديّين من الملوك وغيرهم في التاريخ، وإنّما يذهب خلف الفرضيّات التي تفسّر الأحداث في إطارٍ مادّي طبيعي، مئة بالمئة، كما يفسّر أيّ حدث آخر وَقَعَ مع أيّ فئة من الناس، وفي أيّ مكان من العالم، وفي أيّ لحظة زمنيّة، ولهذا لا يرى نفسه معنيّاً بالبحث أو الركض خلف فرضيّات الغيب في تفسير الواقع التاريخي، بل يرى أنّ من الضروري أن نحيِّد فكرة تدخّل الغيب في فهم التاريخ والسيرة، ضماناً لسلامة البحث التاريخي، بعيداً عن الأيديولوجيّات المسقَطَة.
هذا المنهج يعتبر أنّ الواقعة التاريخيّة التي يمكن فهمها والاعتراف بها هي:
أ ـ الواقعة التي تتكرّر عادةً، فلو قيل لنا: إنّ النبيَّ الفلاني أكل الخبز، فإنّ هذه الواقعة يمكن فهمها وتفسيرها ومن ثمّ الاعتراف بها، لأنّ أكل الخبز هو ظاهرة متكرّرة في حياة البشر، ويمكن فهم أكله للخبز بواسطة فهمنا لكليّة أكلِ الخبز عبر التكرار الذي شاهدناه من قبل، بينما لو قيل بأنّه مدّ يده وأخذ فاكهةً من الجنّة التي في السماء، فهذا شيء لا يتكرّر في العادة، ومن ثمّ لا يمكن فهم التاريخ وفقه أو الاعتراف به، فما دمنا لا نملك التجربة والمشاهدة المسبقة فسوف يظلّ هذا الحدث غير مفهوم، فالتكرّر عنصر ضروري بهذا المعنى في فهم الحدث التاريخي وقبوله معاً.
ب ـ إمكان التفسير العقلاني للواقعة، فأكله الخبز يمكن تفسيره عقلانيّاً، بينما أن يمدّ يده فيأخذ تفاحةً من الجنّة، فيأكلها، فيولد له ولدٌ منها، يبدو شيئاً آبياً عن التعقيل؛ بمعنى لا يمكننا شرحه شرحاً وقائعيّاً متسلسلاً.
وبهذا يغيّر هذا المنهج قواعد فهم التاريخ الديني ليخضعه لقواعد فهم التاريخ العامّة، ويسلبه خصوصيّاته المزعومة.
3 ـ المنهج الوسطيّ أو مقولة الغيب الاُسطوري (محمّد أركون أنموذجاً)
بين هذين المنهجين، ثمّة منهج ثالث في تحليل الأحداث التاريخيّة الدينيّة (السيرة)، وهو يدّعي بأنّه المنهج الوسطي بين المنهج الغيبي والمنهج الوضعي، وقد قدّم اسم الدكتور محمد أركون (2010م) هنا بوصفه من روّاد هذا المنهج اليوم.
يأخذ هذا المنهج على الذين اشتغلوا غالباً وفق المنهج الأوّل، بأنّهم ذهبوا خلف مفاهيم غيبيّة غير واقعيّة أعجزتهم عن قراءة التاريخ قراءةً واقعيّة، ويأخذ على المنهج الوضعي المادي الذي سلكه المستشرقون، أنهم ظنّوا أنّ المجتمعات والتاريخ يُداران بالمادّة فقط، بينما يرى أنّ هناك حلقة وسطى بينهما، حيث يجب أن نأخذ بعين الاعتبار وجود عنصرآخر في المجتمعات الدينيّة، وهو الذي سمّاه أركون بالأسطورة ـ ولا أريد أن أدخل في المصطلحات فهذه تسميته ـ ويقصد بذلك أنّ هناك أشياء تحرّك التاريخ، ولكنّها ليست مادية، ولا غيبيّة، بما يحمله الغيب من واقع عيني وفق ما نؤمن به، وهذا ما غاب عن المستشرقين، وهو أنّ المجتمعات المؤمنة تمتلك طاقة غير مادية تختصّ بها، وهي العقيدة، وهي تمثل الطاقة الروحية التي تملكها هذه المجتمعات نتيجةَ اعتقادها بأمر ما ورائي، وهذه العقيدة ليست أمراً مادياً لكنّها تؤثر في حركة المادّة والتاريخ، فيجب أن نأخذ هذا العنصر بعين الاعتبار، في دراسة القضايا التي تتعلّق بهذه المجتمعات الدينيّة.
إنّ أركون هنا يفهم البعد الغيبي بطريقة أخرى، ففي الوقت الذي يحرّر المجتمع الديني من المادية المفرطة في فهم وقائعيّاته، لا يسمح لنفسه بالوقوع فيما قد يعتبره هو فخّ الغيب الأنطولوجي (ما وراء الطبيعة)، فيذهب نحو غيبيّة اُسطوريّة وفقاً لمصطلحه، وبهذا يضع نفسه في موقع وسط بين الاتجاهين المتقدّمين.
تطبيق المناهج الثلاثة على معركة بدر في التاريخ النبوي
ولكي تتضح الفكرة في الفرق بين هذه المناهج الثلاثة، سنقوم بتطبيقها على واقعة بدر، بوصفها قضيّة من قضايا السيرة النبويّة.
أ ـ يرى المنهج الغيبي، وهو الذي يختاره الكثير من المسلمين، أنّ معركة بدر كانت عبارة عن شقّين: شقٌّ قاتل فيه المسلمون، وهو الذي يمثل الوجه المادّي لها، وشقٌّ آخر قاتلت فيه الملائكة، وهو الذي يمثل الوجه الغيبي لها. فالمؤرّخ هنا يعتبر معركة بدر وكأنّها عملة لها وجهان:
الوجه الأول: الوقائع الماديّة، من ضرب السيوف والتكتيكات الحربيّة وغير ذلك.
الوجه الثاني: التدخّل الغيبي، بمعنى أنّ هناك شيئاً حقيقيّاً موجوداً لا نراه ولم يره المسلمون، لكنّه ترك بصماته على الوقائع التاريخيّة، وهو وجود الملائكة التي شاركت في الحرب.
إذن، فالذي يؤمن بالمنهج الغيبي من الممكن أن يقبل بأن تكون هناك وقائع تاريخيّة في السيرة لها وجهان: مادّي وغيبي.
ب ـ أمّا المنهج الوضعي ـ المادي، فأنصاره يعتبرون أنّ العناصر الماديّة هي ـ فقط ـ التي ينبغي أن نأخذها بعين الاعتبار، ففي معركة بدر التي أدّت إلى انكسار جيشٍ كبير العدد أمام جماعةٍ قليلة العدد، لا يعيرون اهتماماً لتدخّل الغيب (مشاركة الملائكة)، بل يُرجعون هذه الهزيمة النكراء إلى الأسباب الماديّة الطبيعية العاديّة، كأن يقولوا بأنّه قد حصل خطأ تكتيكي من قريش، مثل أنّ قائد الجيش بدل أن يقدّم الرماة أخّرهم أو العكس، فأعطى ذلك المسلمينَ فرصةً لكي ينقضّوا على الجيش، فهناك وقائع ماديّة ملموسة وقعت، وهي التي أدّت إلى انكسار جيش قريش الكبير أمام جيش المسلمين الصغير.
هنا يبتعد المستشرق ـ وهو يتحدّث عن السيرة وأحداثها ـ عن وجود افتراض تدخّل الغيب أو عنصر معيّن غير محسوس، بل يذهب دائماً خلف المجريات الطبيعيّة للوقائع التاريخيّة، ويفتّش عنها لكي يفهم الحديث، هارباً دوماً من الحديث عن رمزيّات وأسراريّات ومتعاليات إعجازيّة، ولذلك في مثل هذه المعركة، هو يرى أنّ القضية لا تتعلّق بتدخّل الملائكة أو جيشٍ جاء من السماء، ليساعد المسلمين، بل كلّ ما في الأمر أنّ هناك تكتيكات حربيّة وأسباب تقنية، أدّت إلى خسارة هذا الجيش، وليس هذا أمراً استثنائياً حتى ننهمك في عمليّة إيجاد الوجه الآخر له، بل قد يقع مثله في التاريخ غير المقدّس.
إذن، وجهة النظر الثانية لا ترى لهذه القضية إلا وجهاً واحداً، وهو عبارة عن الأمور الماديّة التقنيّة، فلا خصوصية للأحداث التي تقع مع الرموز الدينية كي نخرج من الإطار المادي الوضعي في تفسير الأحداث التي وقعت معهم.
ج ـ أمّا المنهج الوسطي، فهو يتعامل مع معركة بدر على أنها تتكوّن من: العناصر المادية التي أشتغل على تفكيكها أمثال المستشرق لاكتشاف سبب هزيمة المشركين، والاعتقادات الروحيّة التي تعطي أصحابَها طاقاتٍ وإمكانات غير ملموسة على مستوى المعادلات الوضعيّة والماديّة.
فهو يحترم هذه الاعتقادات من جهة أنها تؤثر في الوقائع التاريخيّة؛ لا من جهة كونها حقائق أو واقعيّات، بل لما لها من دور في صنع التاريخ، بوصفها أساطير فاعلة في الحدث التاريخي، فالاعتقادات الدينية تستطيع أن تُحدث تأثيراً كبيراً في القضايا الماديّة، بسبب قوّة الروح الفرديّة والجماعيّة التي تخلقها، ولذلك يأخذ الفريق الثالث على كلّ من الفريق الأوّل والثاني استغراقهم في الجانب الغيبي فقط أو الجانب المادّي فقط.
لا أريد أن أحكم هنا، وإنّما أريد أن نتعرّف على تنوّع هذه المناهج تعرّفاً واعياً؛ لنميّز بينها ونفهم تنوّع استنتاجات الباحثين التاريخيّين؛ إذ من الممكن أن نكون منتمين ـ أو أكثر ميلاً ـ لواحد من هذه المناهج بعينه دون أن نشعر، لكنّني أكتفي بإشارة سريعة في تقويم هذه المناهج.
إنّني اعتقد بأنّ هذه المناهج الثلاثة يمكن أن تساعدنا جميعاً، في أن تفسّر الكثير من الوقائع، فيمكن تفسير بعض الوقائع على أساس المنهج الأوّل، وبعضها الآخر يمكن تفسيره على أساس المنهج الثاني بلا حاجة إلى المنهج الأوّل، بينما بعض الوقائع تقبل التفسير على المنهج الثالث بلا حاجة إلى المنهجين الأوّلين، وربما احتجنا في بعض الأحداث أن نجمع بين المناهج الثلاثة، لكن البحث التفصيلي في التقويم بين هذه المناهج، يحتاج إلى بحث مستقل، نكله إلى مجال آخر.
إذن، مناهج تفسير الوقائع التاريخيّة في قضايا السيرة، ثلاثةٌ هي:
المنهج الغيبي.
المنهج الوضعي المادّي.
المنهج المزيج من المادي والأسطوري.
أكتفي بهذا القدر فيما يتعلق بنوعٍ من تقسيم مناهج السيرة على مستوى الفهم والتفسير، وأمّا على مستوى إثبات الحدث التاريخي فهو ما سوف نتناوله في المحور الثاني إن شاء الله تعالى.
المحور الثاني: مناهج دراسة السيرة على مستوى الإثبات التاريخيّ
إذا تجاوزنا التقسيم الثلاثي الذي أحببنا عرضه لمناهج فهم السيرة، وما نعتبره إمكانات الجمع بين المناهج الثلاثة هذه، لننتقل إلى تقسيمٍ آخر نريد أن نضيء عليه على مستوى إثبات الوقائع التاريخيّة، فيمكنني الحديث عن تقسيم ثلاثي آخر أيضاً، وهو:
1 ـ منهج الاعتماد على المصادر التاريخيّة والأسانيد
يعتمد هذا المنهج في الغالب على المصادر التاريخيّة أو الأسانيد، وهذا المنهج شائع بين العديد الباحثين والمؤرّخين، ولذلك نراهم يبحثون في البداية في المصادر لتمييز الغث منها عن السمين، ثم يعكفون على المصادر المعتبرة محاولين استخراج (سيناريو) الأحداث منها، وبعضهم يتشدّد أكثر من هذا، حيث لا يحصر القضيّة في فرز المصادر لاختيار الصالح منها، بل يدرس القضايا التاريخيّة نفسها على طريقةٍ قريبة من طرق المحدّثين، فأيّ حادثة من هذه الأحداث تحظى بأسانيد معتبرة، ونقلها لنا أشخاص يمكن الاعتماد عليهم، ووردت في مصادر معتبرة، فهو يأخذ بها، وإلا لا يمكن الأخذ بها.
وهذان الطريقان قد يندمجان وقد يتمايزان، حيث نجد بعض الباحثين في السيرة ـ وبعضهم من المعاصرين ـ يهتمّون بالمصادر أكثر من اهتمامهم بالأسانيد، فإذا كان المصدر معتبراً عنده مثل أبي مخنف في ما نقله عنه الطبري في السيرة الحسينيّة، فلن يبحث في أسانيد روايات أبي مخنف؛ لأنه يرى أنّ الذهاب خلف تتبّع الأسانيد يوجب ضياع المعطيات التاريخيّة، فلا يبقى من التاريخ شيء. ولذلك نراهم يصنّفون المصادر إمّا بحسب التحقيب الزمني أو بحسب التصنيف المنهجي، ففي التحقيب الزماني كلّما كان المصدر أقدم، كان أفضل، وفي التصنيف المنهجي، يرتّبون المصادر حسب مناهج المؤرّخين، فيعتمدون على المصدر الذي يعتمد على منهجٍ سليمٍ، ويطرحون المصدر الذي لا يتّبع المنهج السليم من وجهة نظرهم، وإن كان مصدراً قديماً حسب التحقيب الزمني، وعليه يكون الغالب على هؤلاء الباحثين، معياريّة المصدر، معتبرينه حجرَ الزاوية في اكتشاف أيّ (سيناريو) للوقائع التاريخيّة التي نريد تدوينها وتصويبها.
وفي المقابل، نجد بعضهم يعتمد طريقة تتبّع الأسانيد أكثر من اعتمادهم على المصادر فقط، كما نجده عند بعض الذين يشتغلون في قضايا السيرة، حيث يركزّون على الأسانيد في تضعيف حدثٍ تاريخي، أو تقوية حدثٍ آخر، بوصف الأسانيد حجرَ الزاوية في اكتشاف الأحداث التاريخيّة.
وبهذا يكون مصدر قيمة المعرفة التاريخيّة من التاريخ نفسه؛ بمعنى أنّ المصدر والسند هما أيضاً أمران تاريخيّان؛ فلابدّ من اعتماد مناهج تاريخيّة كذلك في تقويمهما، ولهذا تزدهر هنا دراسة مناهج المؤرّخين والمصادر التاريخيّة وتوثيق نسخ المخطوطات التاريخيّة وعلم الرجال والجرح والتعديل وغير ذلك.
وإذا غلب على الباحث اعتمادُ منهج المصادر والأسانيد، فهو في الغالب ينزع منزعاً غيبيّاً في فهم وقائع السيرة المعصوميّة، طبقاً لما شرحناه في المحور الأوّل؛ إذ تقلّ عنده إمكانات مرجعيّة النقد المتني ما دامت احتماليّات التدخّل الغيبي عالية عنده تعيقه عن ممارسة نقد عقلاني مادي للوقائع، فيرجى الانتباه لهذه القضيّة.
2 ـ منهج معياريّة المتن والمضمون (مرجعيّة المعقوليّة)
المنهج الثاني في إثبات الأحداث التاريخيّة، يقوم بالدرجة الأولى على دراسة مضامين الأحداث التاريخيّة نفسها، بمعنى أنّ النصّ الذي يحكي عن الوقائع التاريخيّة يجب أن يكون معقولاً كي نبحث عن دليلٍ لإثباته، وبعد إثبات معقوليّته نبحث عن عناصر ترجيحه إثباتاً، فالنصوص التاريخيّة يجب أن تحظى بأصل المعقوليّة والإمكان الواقعي حسب منطق الأشياء، وكذلك تحظى بقدر من الترجيح.
وفي ضوء هذا المنهج، فإذا جاءنا نصّ يحكي عن حياة الرسول الأكرم‘ أو حياة الأئمّة^، فنحن في الخطوة الأولى ننظر في المضمون، فإن كان يحظى بقدرٍ من المعقوليّة المعتدّ بها، وكذلك يحظى بشيء من الترجيح من جهة العناصر الإثباتيّة، وانسجام مضمونه، بأن يكون أكثر قرباً من الاحتمالات البديلة، فنقول: بما أنّه يحظى بقدرٍ من المعقوليّة مع قدر من الترجيح، نرجّحه على غيره مما لا يحظى بتلك المعقولية أو عناصر الترجيح الإثباتية، فيكون هو المعتمد في إثبات التاريخ.
وعندما نقول معياريّة المتن، فهذا يعني أنّنا قد دخلنا في فضاءٍ مفتوح، وجوّ هلاميّ مطّاط؛ لأنّ المعقوليّة تختلف من شخص إلى آخر، حسب معايير نقد المتون، وهناك الكثير من الاتجاهات في ضبط هذه المعقوليّة، نكتفي بذكر ثلاثةٍ منها:
أ ـ المعقولية الغيبيّة
هذا هو الاتجاه الذي يتبع المنهج الغيبي في تفسير الأحداث التاريخيّة، ويُقحم الغيب في فهمها، ويغلب في فهمه للوقائع التاريخية مزدوج المادي ـ الغيبي، الذي يؤمن بحضور الغيب بهذه الدرجة في حياة الرموز الدينيّة، وبهذا تكون الكثير من الأشياء التي تبدو غير معقولة لغيره، معقولةً له.
فعلى سبيل المثال، عندما يسجّل نقد متني في وقائع كربلاء على قضيّةٍ من قضايا يوم عاشوراء، مثل ما نُقل من أنّ الإمام الحسين× قتل في يوم عاشوراء خمسة آلاف من رجال العدو، عندما يقال: هذا غير معقول، يجيب هؤلاء: لا مانع من أن يقتل الإمام الحسين× خمسة آلاف يوم عاشوراء؛ لأنّ هذا الشخص الذي نتكلّم عنه يجب أن نفهمه ـ بعد أن قَبِل بحضور الغيب بكثرة في حياتهم ـ على أنّه ليس عبارة عن كتلة بدنيّة مادية، تتحرّك بأطر ماديّة، وإنّما يتحرّك في إطار مليء بالأمور الغيبيّة، التي تتدخّل في القضايا التي تحصل معه، ولذلك نجد الكثير من الذين دافعوا عن بعض ما اعترض عليه أمثال الشيخ المطهري (1979م) في نقده المتني على بعض القضايا التي نقلت عن يوم عاشوراء في كتابه «الملحمة الحسينيّة»، نجدهم يعتبرون أنّ هذه الطريقة في المعالجة باطلة؛ لأنّها تقيس حياة الإمام الحسين× على حياة شخص عادي، بينما لا يمكن أن نتعامل مع سيرة المعصومين^ بنفس الطريقة التي نتعامل فيها مع إنسان عادي؛ لأنّ هذه الشخصيّات مسدّدة بالغيب، وتحفّها الملائكة، وتتحرّك في مزدوج الغيب ـ المادّة، فلا يمكن فهم حياتهم بعيداً عن الأمور الغيبيّة.
ومن هنا تكون المعقوليّة عند هؤلاء معقوليّةً غيبيّة، آخذين بعين الاعتبار أنّ هذا الشخص محفوفٌ بظرف استثنائي غيبي، ومن ثمّ يتقبلون الكثير من الأشياء التي يمكن أن يتصوّرها الآخرون مبالغات أو كلاماً فارغاً، يتقبّلونها بصدرٍ رحب، وقد رأينا كيف أنّ الكثير منهم، دافع عن الكثير من الأشياء التي قد يستغربها الإنسان للوهلة الأولى؛ لأنّ الخلفية المعرفيّة عندهم ـ وهم يريدون تفسير أحداث التاريخ أو إثبات الوقائع التاريخيّة ـ هي خلفيّة تنطلق من المنهج الغيبي في فهم الحوادث الواقعة في السيرة، وهو منهج يرتكز على الفضاء المعاجزي، وسياق الكرامات، فلا يمكن أن نتعامل مع ما يُنقل عنهم، كشخص غير محاط بهذا الفضاء.
ب ـ المعقوليّة التاريخيّة
وهي التي تنظر للوقائع التاريخيّة ومسيرة تناقلها فقط من زاوية تاريخيّة محضة، معتمدةً طبائع الأشياء في المسار التاريخي ومستبعدةً الفرضيّات الغيبيّة استبعاداً تامّاً، كما وجدناه عند بعض العلماء المعاصرين.
على سبيل المثال، هناك قضيّة تنقل بخصوص بني إسرائيل عندما عبر بهم النبيّ موسى× البحرَ، حيث يقال بأنّهم كانوا ـ مثلاً ـ ألف نسمة، ولكن بعد سبعين سنة، أصبحوا ـ مثلاً ـ مليون نسمة، وهذا أمر لا يتناسب مع المعطيات التاريخيّة؛ لأنّنا نعرف أنّهم كانوا ألف نسمة قبل سبعين عاماً، ولا يمكن وصولهم إلى هذا العدد الكثير بمجرّد سبعين سنة!
ومن المفردات التي نجدها حاضرة بقوّة عند هؤلاء العلماء، مفردة (لو كان لبان)، التي تعتمد على منطق طبيعة الأشياء الذي تحدّث عنه أمثال ابن خلدون (732هـ) والسيد محمّد باقر الصدر (1980م)، فعلى سبيل المثال إذا وجدوا نصّاً يتيماً ظهر في القرون المتأخّرة مثل القرن التاسع أو العاشر الهجريّين، فإنّهم لا يقبلونه، استناداً إلى عدم معقوليّته تاريخياً؛ لأنّه كيف يمكن أن غاب هذا الحدث التاريخي عن كلّ المؤرّخين القدماء، وجاء شخص في القرون المتأخّرة ليُخبرنا عن قضيّة لا وجود لها عند المتقدّمين من المؤرّخين والمحدثين وكتّاب السيرة، مع كونها قضية ملفتة للنظر، تستحقّ أن تُضبط، وتتوفّر الدواعي لضبطها، فهذا لوحده كافٍ في أن نضع علامة استفهام كبيرة على هذه القضيّة التاريخيّة، ومن ثمّ نشكّك فيها، ونقول بأنّ وقوع هذا الحدث التاريخي غير معقول من الناحية التاريخيّة؛ لأنّه لا يحتمل أن غاب هذا الحدث عن كلّ هذه الأجيال من المؤرّخين وكتّاب السيرة، وظهر عند شخصٍ في القرن الحادي عشر أو القرن العاشر!
وفي المقابل، نجد بعض الذين يحملون ذهنيّة المعقوليّة التاريخية معهم، يناقشون في هذه الطريقة المفرطة من التعاطي مع النصوص التاريخيّة، ويقولون بأنّه أحياناً هناك ظروف خاصّة ينبغي أن نأخذها بعين الاعتبار، تفسّر لنا غياب الكثير من النصوص التاريخيّة عند المتقدّمين، الأمر الذي يجعل هذه النصوص يتيمةً منقطعة.
ولتوضيح الفكرة، سأعطي مثالاً طرحه بعض العلماء المعاصرين، حيث قال بأنّ هناك نصوصاً كثيرة تتكلّم عن سيرة أهل البيت^ ولكن لا نجد أثراً لها عند القدماء، وهذا ليس بغريب بعد الانتباه إلى طبيعة حياة الأئمّة^ وما تمّ تناقله من حياتهم، حيث يجب أن نأخذ بعين الاعتبار الظروف السياسيّة التي كانت تُفرض على حياتهم، من التعتيم الإعلامي والضغوط الاجتماعيّة وغير ذلك من الأمور التي كانت تساعد على خفاء القضايا المتصلة بهم، خاصّة فضائلهم ومناقبهم من قبل بني أمية وبني العباس والذين جاءوا من بعدهم، فقد غيّبوا الكثير من هذه النصوص، وهذا التخريج من التخريجات الشائعة في أدبيّات بعض الباحثين الشيعة في السيرة، حيث يتحدّثون عن أنّ ظروف التقية غيّبت الكثير من الأحداث، فقد تكون هناك نصوص لم تصل إلى أحد، لكن فجأة ظهرت في الهند أو اليمن أو في مخطوطة لا نعرف تاريخها، فينبغي أن لا تفوتنا هذه الوثائق؛ لأنّ كلّ هذه المعطيات اليتيمة المتأخّرة يحتمل وقوعها، ولكنها لم تُنقل عند المتقدّمين؛ لأنّ ظروف أئمّة أهل البيت النبويّ وشيعتهم وما فعله الأعداء بهم، تبرّر أن تكون هناك الكثير من الحقائق لم تظهر لنا عند المتقدّمين، بينما ظهرت عند المتأخّرين.
هذا أمر مطروح في الساحة، وبعض العلماء المعاصرين ـ مثل الشيخ محمد السند ـ نظّر له بقوة، ودافع عنه واعتبر أيّ نقدٍ لأيّ وثيقة تاريخيّة متأخّرة، بمثابة إعانة لبني أميّة! متحمّساً جداً لهذه الفكرة.
وفي هذا السياق عينه، نجد بعض الباحثين يقولون: يجب أن نعيد النظر في جزء كبير من هذا التاريخ الذي وصل إلينا؛ لاحتمال أنّه قد صَنع جزءاً منه بنو أميّة، وهذه وجهة نظر مطروحة اليوم، كما نجد عند بعض العلماء الشيعة المعاصرين المهتمّين بمجال القضايا المهدويّة، مثل الشيخ علي الكوراني العاملي، حيث يقول في وجهة نظر معروفة: إنّ دخول السفياني إلى العراق هو رواية أمويّة، لا يمكن الاعتماد عليها.
لا نريد هنا أن نحاكم أحداً وإنما نريد توصيف المشهد.
ج ـ المعقولية العاديّة
هناك تيار ثالث نسمّيه المعقوليّة العادية وهو الذي يؤمن بالغيب مبدئياً، ولكنّه يراه حالةً استثنائيّة، حسب ما يستنبطه من النصوص الدينيّة والشواهد التاريخية، فيكون الأصل في حياة هؤلاء العظماء هو الحياة الطبيعيّة، وتدخّل الغيب حالة استثنائيّة يجب أن تثبت بدليل خاصّ.
وهذه المعقوليّة تؤثر تأثيراً كبيراً على إثبات الحدث التاريخي؛ لأنّها تفرض علينا شواهد إضافيّة تتصل به بوصفه ظاهرة غير عادية، وتؤثر على فهم الحدث التاريخي أيضاً، مما مرّ سابقاً الحديثُ عنه، وهذه المعقوليّة هي المعقوليّة التي أؤمن شخصيّاً بها، إلى جانب الصيغة الجامعة التي مرّت في المحور الأوّل، وتفصيل وجهة نظري الخاصّة أكِلُهُ إلى مناسبة أخرى.
إذن، هناك ثلاثة اتجاهات في ضبط المعقوليّة، بالنسبة إلى النقد المتني للوقائع التاريخيّة بهدف إثباتها (وفهمها معاً):
المعقولية الغيبيّة.
المعقوليّة التاريخيّة.
المعقوليّة العادية.
3 ـ منهج الجمع بين المتن والسند
المنهج الثالث الذي نجده عند بعض المؤرّخين والمشتغلين بكتابة السيرة (ولعلّ الأغلبيّة الساحقة تعتمده لكنّ بدرجات متفاوتة جداً)، هو الذي يحاول أن يجمع بين هذه التيارات كلّها إلى حدّ كبير، ولذلك يدعو إلى البحث في الأسانيد والمصادر إلى جانب دراسة المتون والمضامين، انطلاقاً من منهجه الخاصّ بفهم السيرة (المنهج الغيبي ـ المادي ـ الوسطي)، فينبغي أن ندرس المصادر من حيث القيمة وفي الوقت نفسه لا ننسى الأسانيد؛ بأن نغترّ بوجود رواية في مصدر مهمّ، متغافلين عن خصوصيات قد تُطيح بالرواية ترجع إلى طبيعة الناقلين، ولذلك نجد بعض أصحاب هذا المنهج ـ مثل السيد مرتضى العسكري (2007م) في دراسة قضيّة ابن سبأ ـ يرى أنّ ابن سبأ شخصيّة مختَلَقَة في التاريخ، وإن ورد الحديث عنه في تاريخ الطبري، محاولاً التشكيك في السند، بالاشتغال على دراسة الراوي الأصلي للرواية؛ حيث أثبت أنّه شخص كذّاب لا يُعتمد عليه، ونتيجة ذلك أنّه أنكر هذه الفكرة التي كانت معروفة، ولم يسبق أن نوقش فيها إلا من مثل الدكتور طه حسين (1973م) وبعض الباحثين الغربيّين، مع الاحتفاظ للسيد العسكري بسعة بحثه وتطويره أدوات معالجة الموضوع، بصرف النظر عن صحّة الاستنتاجات.
كما يهتمّ هؤلاء بالمتن ولو تجاوزوا عقبة المصادر والأسانيد، وينطلقون في قراءتهم للمتن تبعاً للمناهج المتنية الثلاثة المتقدّمة، فلا نعيد.
وبهذا نحن أمّام تيار سندي، وآخر متني، وثالث جامع، وليست هذه التقسيمات حاسمة بحيث لو كان هناك مؤرّخ متني فلا يهتم أبداً بالمصادر والأسانيد، بل الغالب هو المنهج الجامع غاية ما في الأمر هو أنّ باحثاً قد يميل كثيراً نحو المصادر والأسانيد، وآخر نحو المتون والتقويمات المضمونية لها، وهكذا.
الرسالة الأخيرة
الرسالة التي أريد أن نصل إليها من خلال هذا العرض الإجمالي للمناهج المختلفة في دراسة السيرة، أن نعلم بأنّنا أمام تنوّع كبير على مستوى مناهج فهم الأحداث التي تقع في السيرة، وكذا على مستوى مناهج إثبات وقائع السيرة، فينبغي في ظلّ هذا التنوع، أن نحدّد موقفنا من منهاج دراسة السيرة، قبل أن نبدأ في دراسة السيرة دراسة تفصيليّة، وهو تحديد يحتاج لعُدَدٍ فلسفيّة وكلاميّة كما رأينا، وتحديد موقف من سلسلة أمور بالغة الأهميّة.
وأقترح أن يخصّص طلاب العلوم الدينية والمهتمين بدراسة قضايا السيرة، قسماً من دراساتهم ومؤلّفاتهم لدراسة المناهج، ويقيموا في ذلك ندواتٍ علمية، لمعرفة المناهج التي ينبغي أن تُعتمد، وهل هناك منهج موحّد في دراسة السيرة أو التاريخ؟ وهل يمكن أن نقف عند منهج يخص شخصية أو تيار معين أو ينبغي التلفيق بين المناهج، أو أنّه ينبغي البحث عن مناهج جديدة مختلفة؟ لأنّ سؤال المنهج فيما يتعلق بدراسة السيرة يظلّ سؤالاً أساسيّاً هاماً في هذا الإطار، وما طرحناه هنا لم يكن إلا فتح نافذة صغيرة في زاوية من زوايا مناهج دراسة السيرة، آملين استمرار هذه المسيرة من قبل الباحثين والمتهمّين.
الهامش:
_______________________
(*) نصّ المحاضرة التي ألقيت في قاعة معهد الثقلين، في مدينة قم، في إيران، بتاريخ 29 ـ 10 ـ 2014م، وقد حرّرها الشيخ سعيد نورا حفظه الله بقلمه، وتمّت مراجعتها بعد التحرير والإضافة عليها من قبل المحاضِر (الشيخ حيدر حبّ الله).