إن من المؤسف حقاً أن يتم تسقيط بعض العلماء والمفكرين بحجة أنهم مشككين، والمقصود من هذه المفردة "مشككين" أنهم يشككون الناس في الأصول والثوابت الدينية، حيث نجد من يُشهر بهم وينعتهم بهذه السمة في محاولة للانتقاص منهم، وذلك بالإيحاء للذهن بأن الشك والتشكيك من الأمور السلبية التي لا ينبغي على الإنسان المؤمن أن يسلكها أبداً، لأن المطلوب منه هو البقاء على اليقين والتسليم بما لديه من آراء وقناعات، غير أن هذا غير صحيح، فالشك ليس بالضرورة أمر سلبي، بل هو في الكثير من الحالات أمر إيجابي، لأنه يتيح للباحث فرصة التأكد من آراءه وقناعاته، وهذا في حد ذاته أمر مطلوب.
ولهذا نجد أن الشك والتشكيك أحد السمات البارزة في العلماء والمفكرين، وذلك لأنهم يشككون –ولو من خلال وضع فرضيات معينة- ومن ثم ينطلقون للبحث، ليتوصلوا بعدها للتأكد من صحة شكوكهم من عدم صحتها، وهذا ما يجعل لآرائهم قيمة على غيرهم، لأنها آراء توصلوا إليها من خلال بذل الجهد في الاختبار والتحقيق والاستدلال، وهذا هو المنهج العلمي. أما أن ينطلق الإنسان من يقينياته –والتي هي في الغالب قناعات تلقاها جاهزة من غيره- محاولاً جمع الأدلة والبراهين للتأكيد عليها، ومتجاهلاً ما يخالفها، فهذه الطريقة بعيدة كل البعد عن الأجواء والممارسات العلمية، وإن حاول بعضهم أن يلصقها بها تعسفاً.
فالشك والتشكيك إذن أمر إيجابي ومطلوب إذا كانت الغاية منه الوصول إلى الحقيقة، فهذا متعلق بالغاية والأهداف المرجوة منه. ومن الصعوبة أن نحكم على غايات الآخرين "المشككين" بأنها ليست خالصة للوصول للحق دون أن نكون على معرفة فعلية وحقيقة بحقيقة ذلك. ويا للأسف أننا نرى البعض يُسارع في الحكم على المشككين، وذلك بالتشهير بهم، وبالتشكيك في نواياهم ونزاهتهم، وبنعتهم بالانحراف والضلال، وغيرها من النعوت والأوصاف التي تطلق عليهم من دون أي تريث أو تردد. وكان من المفترض على من ينتهجوا هذا النهج أن يقوموا بالتشكيك في حكمهم على هؤلاء (المشككين) ويتحققوا منه جيداً قبل أن يعلنوه، بدلاً من الاكتفاء بالتشكيك في نزاهتهم ونواياهم!!
مهما يكن، فإن الأنبياء والرسل عليهم السلام عندما جاءوا لأقوامهم جاءوا لزعزعة القناعات الباطلة التي كانت مستولية عليهم، حيث حاولوا تشكيكهم بها بهدف إيصالهم للحق والهداية، وابعادهم عن ما هم فيه من الباطل والضلال، فالأنبياء (ع) ومنهم نبينا الأعظم محمد (ص) استعملوا هذه الأداة (التشكيك) لإحداث هزات عنيفة تزلزل القناعات والموروثات السائدة لدى الناس في زمانهم، لتقتلعها من جذورها، ولتجعل من كان يؤمن بها ينتفض عليها ويستبدلها بما هو خير منها.
وعلى هذا النهج سار المصلحون من علماء ومفكرين وغيرهم، ومارسوا التشكيك في الفساد والمفسدين. صحيح أن التشكيك أداة قد يستعملها المصلح وقد يستعملها المفسد، وقد يراد منها الخير والإصلاح، وقد يراد منها الشر والإفساد، ولكن لا ينبغي أن نتهيب منه ونرتهب بحجة أن المفسدين يستعمونه، لأننا إذا كنا واثقين من أن قناعاتنا وآراءنا مبنية على أسس سليمة ومحكمة، وبأننا نمتلك ما يكفي من أدلة وبراهين راسخة ومتينة، فعلينا أن نرحب بالشاكين والمشككين، وذلك لكي نطلعهم على ما ينقصهم من أدلة وبراهين ستذهب عنهم شكهم وستوصلهم للحقيقة واليقين، بل علينا أن نبادر لمناقشتهم ولإيصال فكرنا لهم ولا ننتظر أن تأتي المبادرة منهم.
لذلك ندعو وبكل جرأة لاحترام المشككين الذين يسعون من وراء تشكيكاتهم للوصول للحقيقة، لا المشككين الذين يشككون لمجرد الشك والتشكيك أو أولئك المشككون السفسطائيون على طريقة جورجياس وأتباعه. وهذا لا يعني أننا ندعو لقبول آراء المشككين مهما كانت قوية أو متهالكة، وإنما ندعو لاحترامهم لكي يتسنى لنا محاورتهم والتفاعل معهم، ولنتمكن من مساعدتهم والأخذ بأيديهم للحقيقة والصواب، لأننا دون احترامهم لا يمكننا أن نتحاور أو نتعامل معهم بطريقة صحيحة. كما لا يفوتنا أن ندعو من لا يشك للشك ولفتح الأبواب على مصراعيها لطرح الأسئلة، ليتمكن بعدها من البحث عن أجوبة لتساؤلاته، إذ ينبغي على الإنسان أن يمتلك الجرأة والشجاعة الكافية للشك ولمواجهة الشك، وما عليه إلا أن يشك وينطلق للبحث متوكلاً على الله سبحانه وتعالى ومستعيناً به ومخلصاً له حتى يوفق للوصول للحقيقة واليقين.