تعلّمنا النصوص الدينية على نحت نماذج بشريّة تكون بمثابة معالم محسوسة للمثل العليا بهدف الاقتداء الشعبي بها، وظاهرة القصص القرآني تخبر عن ذلك بوضوح، فعندما تتركّز كل قصّة نبوية على ظاهرة محدّدة ـ إلى جانب المهمّة المشتركة التي هي عبادة الإله الواحد ـ فهذا يعني بقاء الموقف من ذلك المفهوم طالما ظلّت هذه القصّة قائمة في المصدر الديني، ليقوم الوعي الشعبي بإسقاطها في لحظتها المتجدّدة، فشعيب % يمثل مواجهة التطفيف، ولوط % مواجهة الانحراف الأخلاقي، وهكذا.. الأمر الذي يفسح في المجال واسعاً لإسقاط التجربة (الشعيبيّة) مثلاً على الواقع المتجدّد للتطفيف على المستويات السياسية والاجتماعية والعلائقيّة والاقتصادية أيضاً؛ بما يحمله مفهوم التطفيف من تعدٍّ ـ كما يراه بعض الفقهاء ـ عن المكيل والموزون إلى مساحات أكبر من ذلك يجمعها عدم الإنصاف في تقييم تجارب الذات والآخر.
وإذا أردنا تطبيق هذا المنطق عينه على تجربة أهل البيت النبوي ( سنجد أنّ تعدّدهم واختلاف ظروفهم يفسح لنا في تمثل نماذج متنوّعة تلتقي ـ على حدّ تعبير السيد الصدر ـ في الهدف وتختلف في الدور، فعندما تستكنّ في الوعي الشعبي صورة الإمام الحسين % بما تمثله من رفض راديكالي للظلم والانحراف، وما تعلنه من ثورة حقيقية للإصلاح والتغيير، فإنّ هذه الصورة تؤمّن لنا مرجعية أنموذجية كي نتمكّن من توظيفها في الحالات المشابهة، وكأنّها تريد أنّ تقول لنا بأنّ وجودها في التاريخ والتراث والوعي معناه أنّ الحاجة إلى منطق الثورة ـ بمعناها الواسع ـ تبقى قائمة في الحياة عندما يستدعي إصلاح الوضع الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي أو الأخلاقي عمليّةً قيصرية بامتياز.
إنّ وجود هذه الثورة في الوعي الجماهيري معناه حضور مفهوم الحلّ الراديكالي في الحياة ضمن شروطه ومستلزماته، فما يراه بعض المفكّرين والمثقّفين والعلماء في ساحتنا اليوم من إلغاء الخيار الثوري في معالجة بعض الأمور إلغاءً يبدو عليه طابع الكليانية والنظرية المستوعبة.. لا يبدو لنا صحيحاً، عندما نفترض مسبقاً أنّ التجربة المعصومة تمثل أنموذجاً في العمل الإلهي لمعالجة واقع بشري قابل للحدوث ولو بأشكال مختلفة، تعبيراً عن مرجعية الفعل المعصوم في هدي الأمّة.
وهكذا الحال في التجربة الحسنية وفي تجارب الأئمة ( بعد الإمام الحسين %، فإنّها تحكي عن أنّ منطق العمل السلمي والمنطق المراحلي في العمل الإسلامي هو الآخر أحد الخيارات التي لابد أن لا يقصيها العاملون في سبيل الله من حزمة الخيارات التي يعملون عليها في الحياة، إنّ تعدّد أداور الأنبياء والأوصياء يعني تعدّداً في الخيارات التي يملكها الإنسان المسلم في معالجة واقعه هنا أو هناك، شرط أن يعيَ بدقّة الظروف الموضوعية التي تسمح بإسقاط هذا الفعل المعصوم أو ذاك على تجربته هذه أو تلك.
وانطلاقاً من هذا المعطى الأيديولوجي الذي يتمّ الانطلاق به من خلال الاعتقاد بمرجعية أهل البيت النبوي، يظهر خطأ المقولة التي بدأت بالرواج مؤخراً في بعض الأوساط من أنّ التجربة الحسينية قد أكّدت لأهل البيت النبوي عقم منطق الثورة؛ لهذا عزفوا حتى عن التدخّل في الحياة السياسية بعد ذلك، رغم العروض المغرية نسبيّاً التي قدّمت لهم (تجربة الإمام الرضا % في ولاية العهد أنموذجاً)، فإنّه لو كان الأمر كذلك لما أسّس الأئمة اللاحقون منطق الإبقاء الحيّ على القضيّة الحسينية من خلال التركيز على الزيارة والعزاء والبكاء والرفض لقاتليهم، إنّ هذا التركيز يعني بمدلوله السياسي أنّ الأئمة لم يعزفوا عن المشروع الحسيني، وإنّما لم تسنح لهم الظروف؛ لأنّ الجوّ الذي كان يحيط بهم كان شديد الانقسام على نفسه، الأمر الذي لم يوفّر لأهل البيت فرصة خلق نواة عصامية للتغيير قادرة على الاستمرار معهم، فقد كانوا قلقين من أنّ العمل السياسي المباشر قد يفسح في المجال لمزيد من التشظي في الداخل الشيعي، وهو ما كان يؤلمهم على الدوام، وهذا هو تفسير حديثهم عن انتظار ولو أربعين رجلاً مستعدّاً كي يعلنوا الجهاد.
إنّ هذا الموضوع يحتاج إلى رصد دقيق ودراسة مستوعبة نتركها لمناسبة أخرى إن شاء الله تعالى.
المصدر: مجلة الأنصار، البحرين