حيدر حب الله(*)
حديثنا سيكون عن التقريب بين المذاهب، أو التعارف بين المذاهب، أو الوحدة أو التكامل أو التنوّع. مصطلحاتٌ كثيرة وقع فيها جدل. وأيّ مصطلح نختاره فلا ضير فيه من حيث المبدأ، فما أريده هنا هو الكلام عن دور الإعلام التقريبي في التقريب بين المذاهب الإسلاميّة. فهذا التقريب له أوجهٌ كثيرة؛ فهناك التقريب في جانبه النظري على مستوى الاجتهاد الفكري، وهو ما يشتغل عليه المفكِّرون والمنظِّرون والفقهاء وعلماء الكلام؛ وهناك التقريب العملي الميداني الذي يحتاج إلى خبرات خاصّة؛ لكي تلجه بشكلٍ صحيح.
نشهد اليوم حملةً إعلامية رهيبة، ربما لم يسبق لها مثيلٌ في تاريخ الأمّة الإسلامية. وهذه الحملة لا تقف عند طائفة بعينها، وإنّما نلاحظها عند أكثر من طائفةٍ مسلمة. وتتلخَّص هذه الحملة في خلق إعلامٍ يهدف إلى نشر الكراهية، ويحرِّض على العنف، ولا يقدِّم لي أيَّ نقطةٍ إيجابية في الآخر، وإنّما يقف فقط عند النقاط السلبية فيه. إنّه إعلامٌ يشبه المغناطيس؛ إذ يجذب إليه كلَّ النقاط السلبيّة في الآخر، ويكثِّفها، ثم يقدِّمه لي مادّةً بشعة مشوَّهة، لا تسمح لي بعد ذلك بأن أتواصل معه بتاتاً. إنّ هذا الإعلام المرئي والمسموع والمقروء يتَّجه بنا إلى ما يمكنني أن أسمِّيه: (صدام المذاهب)، على غرار تسمية (صدام الحضارات)، التي أطلقها هنتنغتون. وإذا وقع صدام المذاهب هذا ـ لا سمح الله ـ فلا أحد يمكنه أن يتنبَّأ بما ستكون عليه خارطة العالم الإسلامي بعد ذلك، بمَنْ في ذلك أولئك الذين ينظِّرون له ويؤسِّسون؛ فهؤلاء رُبَما يملكون بداية الخيط، لكنَّهم لا يملكون نهايته، ولا يعرفون ما هي الآثار المدمِّرة والقاتلة التي يمكن أن تصيب العالم الإسلامي لو وقع هذا الصدام الكبير.
إذا أردنا أن نعالج موضوعاً كموضوع الإعلام ودوره في التقريب بين المذاهب، وبين أبناء الأمّة الإسلاميّة، فلا بُدَّ لي أن أتحدَّث قليلاً عن البنية التحتيّة، ثم بعد ذلك نتَّجه نحو بناءٍ فوقي علوي آخر.
لو تأمَّلنا ورصدنا أعمال وكتابات كثير من العلماء والفقهاء والمفكِّرين، نجد ثلاثة اتجاهات رئيسة في موضوع الأزمة الطائفيّة والمذهبيّة في عالمنا الإسلامي:
أـ اتّجاه المشاركة في الأزمة؛ انطلاقاً من عنوان الدفاع عن الذات
يقول أنصار هذا الاتّجاه: إنّنا نريد أن ندافع عن مذهبنا، ونحظى بخصوصيّتنا. وعالمنا الثالث يعاني من أزمة هويّة، ولا سيَّما الأقليّات. فنحن مهدَّدون في هويّتنا ووجودنا. وأيّ إنسان يشعر بأزمة هويّة ووجود فإنّ أوَّل شيءٍ يقوم به هو التمترس حول ذاته، آخذاً هيئةً دفاعية، حتّى أقصى حدود الانغلاق عن الآخر؛ لأنّه يخشى أنّه لو تمازج معه أو تواصل أو تلاقى فإنّه سوف يذوب فيه؛ لأنّ إحساس الخوف على الهويّة يدفع الإنسان إلى تكريسها أكثر فأكثر. وتكريس الهوية يعني تكريس نقاط الاختلاف، والابتعاد عن نقاط الاشتراك ما بين الأطراف.
هؤلاء يقولون: ينبغي أن ندافع عن خصوصيّتنا ومذهبنا؛ ولهذا يجب أن نشارك في هذه الفتنة الطائفيّة. وقد ينطلقون في بعض الأحيان من مفهوم الحرب المفروضة. إنّهم يقولون لك: ليس في إمكاني أن أفعل شيئاً، أنا لا أريد أن أخوض هذه الحرب، ولكنْ يجب أن أخوضها، فليس أمامي سبيلٌ آخر ما دمْتُ قد وُضِعْتُ في مكانٍ ما يفرض عليَّ هذا التمترس، ويُلزمني بهذا التموضع. لهذا ولغيره فضَّل هؤلاء خيار المشاركة في الحرب الطائفيّة.
ب ـ اتّجاه تجاوز الأزمة، وعدم الاهتمام بها إطلاقاً، والسكوت عنها
هذا الاتّجاه يناصره بعض العلماء والمثقَّفين المعاصرين. وقد يسمُّونه بـ (نظرية التجاوز). إنّهم يقولون بأنّ الحل يكمن في أن لا تتحدَّث أصلاً في أيِّ قضيّةٍ طائفيّة، وأن نسكت تماماً عن ذلك، وكأنَّ شيئاً لم يكن، بما في ذلك ضرورة التخلّي عن المواجهة الطائفيّة أيضاً. وسبب ذلك عندهم هو أنّ (مَنْ نقد الفلسفة فقد تفلسف)، وهذا يعني أنّ نقد الطائفيّة هو عملٌ طائفيّ. والحلّ ـ من وجهة نظر هؤلاء ـ أن نسدّ الباب أصلاً عن الحديث في أيِّ قضيّةٍ طائفيّة، وأن نتجاوز عن هذا الموضوع، ونتخلّى حتّى عن نقد الطائفيّة؛ لأنّ نقد الطائفية في مجتمع طائفيّ هو تكريسٌ لها، وهو مادّة دسمة للطائفيّين؛ لكي يتمّ تداولها في أوساطهم. وأيُّ مادّة تقدِّمها أنت للطائفيّ ستكون بالنسبة إليه دسمة، تمكِّنه من أن يستفيد منها في ظلّ مناخٍ غير صحّي.
ج ـ اتّجاه احتواء الأزمة، والقيام بمشروع تفتيتيّ يمكن أن يذهب بنا إلى حلٍّ لهذا المعضل
يرى أنصار هذا الاتّجاه أنّه لا بُدَّ من المشاركة في مواجهة الطائفيّة، ومنع إدخال المسلمين في هذه الفتنة. وأعتقد بأنّ هذا الاتّجاه هو الصحيح؛ فالاتّجاه الأوّل يجرّنا نحو ما لا نعرفه من مصائرنا، ولا سيَّما بالنسبة إلى الأقليّات، إذ رُبَما لو انفجرت الحرب الطائفيّة بشكلٍ حقيقي فإنّنا لن نشاهد هذه الخارطة للعالم الإسلامي، وقد ينشأ عالمٌ آخر؛ لأنّ حرباً غير بسيطة قد تنشأ ـ لا سمح الله وقدَّر ـ لو استمرّ الوضع تصاعديّاً على هذه الوتيرة.
أمّا (نظريّة التجاوز) فمشكلتها أنّك قد تستطيع أن تميت اتّجاهاً فكريّاً وسياسياً عندما تسكت عنه لو كان هذا الاتّجاه صغيراً، وكنتَ أنت الذي تملك مفاصل الأمور، فإنّ من شأن سكوتك عنه أن يميته؛ أمّا لو تكلَّمْتَ فيه فإنّه من الممكن أن يتنامى ويكبر. أما المشهد الذي نراه اليوم في العالم الإسلامي فهو مختلفٌ تماماً؛ فإنّ القوّة الطائفية في هذا الاتّجاه أو ذاك ليست بسيطة أبداً، بينما التيّار غير الطائفي هو الذي يتراجع يوماً بعد آخر، وهذا معناه أنّ السكوت إفساحٌ في المجال لهذا المدّ؛ كي يتقدَّم، وبالتالي الدخول في المنطقة المعتمة والمجهولة. فلا بُدَّ من اختيار السبيل الثالث.
إلاّ أنّ هذا السبيل يحتاج إلى مجموعة مقوِّمات ولوازم:
أوّلاً: أن نعتمد المبدأ الخارج ـ ديني، بمعنى أنّه يجب أن نبني العقل الديني والإسلامي بناءً يستطيع أن يتفهَّم ظاهرة الاختلاف ويراها بشكلٍ آخر، دون أن يشعر بجرحٍ في قلبه عندما يرى الآخر المختلف معه، بل ربما شعر بارتياحٍ عندما يرى هذا التنوُّع. لكنْ كيف يمكن أن يكون هذا؟ إنّ ذلك يكون عندما ندرس العقل وإمكاناته، ونعرف أنفسنا ومحيطنا، وندرك بحقٍّ أنّ هذا العقل محدودٌ، أمّا العقل الكامل فلا يحظى به إلاّ مَنْ عصمه الله. إنّ عقولنا ناقصةٌ. فكلُّ واحدٍ منّا يرى جانباً من الحقيقة، فإذا لم يَرَ ذلك الجانب الذي رأيتَه أنت فليس ذلك بمشكلةٍ بالضرورة، وإذا لم تَرَ أنت ذلك الجانب الذي رأيتُه أنا فليس معنى ذلك أنّ هناك شيئاً غير طبيعيّ، بل بالعكس هو بالضبط منطق الأشياء أحياناً.
يعطي جمال الدين الرومي ـ في المثنوي ـ مثالاً رائعاً حول كيفيّة معرفة البشر بالحقائق. إنّه يقول بأنّ هناك فيلاً ضخماً في غرفة معتمة، وقد أدخلنا إليه عدّة أشخاصٍ، ولشدّة العتمة لم يتمكَّن هؤلاء من رؤية الفيل، فاستخدموا حاسّة اللمس، فوضع أحدهم يده على رجل الفيل، وآخر وضع يده على بطنه، وثالث وضع يده على أنيابه (عاج الفيل)، و…. وهنا لو سألنا كلَّ واحدٍ منهم عمّا هو موجودٌ في الغرفة، فسيخبرك عن المقدار الذي لمسه، فقد يقول أحدهم: هناك عمود (رجل الفيل)؛ وقد يقول الآخر: هناك حديد (أنياب الفيل)؛ و…. فكلُّ شخصٍ يمكن أن يخبرك بشيء، وكلّ واحدٍ منهم أصاب الحقيقة بقَدَرٍ، وعجز عنها بقَدَرٍ آخر، أمّا الحقيقة الكاملة فلم يَرَها أحدٌ منهم، بل هي بحاجةٍ إلى ضوءٍ عظيم يظهر؛ ليريهم إيّاها كاملةً…. إنّنا جميعاً محكومون في هذا العالم بالمنطق الطبيعي لحركة العقل، وأيّ عقلٍ من عقولنا مبتلى بمشاكل ونقص وأزمات. فإذا أخفقنا لا يعني ذلك نهاية العالم. وكما يقول بعض المشايخ الكرام من معارفنا ـ في تعبيرٍ لطيف على سبيل المزاح ـ: إنّ الإنسان واجب الخطأ، وليس جائز الخطأ فقط. إنّ منطق الأشياء يقول: أنتَ مضطرٌّ لكي تخطىء أحياناً في حكمك على الأشياء، ومقهور على ذلك، وفق الإمكانات الوقوعيّة القريبة.
النشاط الأساسي الخارج ـ ديني الذي ينبغي الاشتغال على نشره في الأمّة هو أن نشرح منطق العقل في التفكير، وطرائق البشر فيه، ومحدوديّة العقول… هذا الشرح ليس فلسفيّاً فقط، بل هو نشاطٌ متكامل توعوي؛ للنهوض بوعي نشاطنا العقليّ، ومن ثَمّ فهم الاختلاف بين البشر فهماً أكثر وعياً ونضجاً.
ثانياً: أن نشتغل على فتح باب الاجتهاد وتعدُّديته، لكنْ بشرط أنْ لا نجعل الاجتهاد خاصّاً بالفقه، بل نفتح الاجتهاد على كلّ العلوم الإسلاميّة؛ فنفتح باب الاجتهاد في الفقه؛ ونفتحه في الحديث؛ ونفتحه في أصول الفقه؛ ونفتحه في علم الكلام ـ وهذه النقطة مفصليّة ـ؛ ونفتحه في علم الجرح والتعديل… إنّ فتح باب الاجتهاد في مختلف العلوم الإسلاميّة معناه تعذير المجتهد من حيث المبدأ.
بناءً على ما تقدَّم، وعندما نقول: تعالوا لكي نعذر الآخر؛ انطلاقاً من أنّ إمكانات البشر هي إمكانات محدودة، وأنّ من الطبيعي أن يخطئ في الفهم، وعندما نقول أيضاً: تعالوا لكي نفتح باب الاجتهاد في جميع العلوم الإسلاميّة…، فهذا معناه أنّك لو اختلفت معي في مسألة كلاميّة فسيكون حال ذلك هو حال ما إذا اختلفت معي في مسألة فقهيّة فرعيّة. ومعنى هذا الكلام هو أنّنا نريد تعميم تجربة الفقهاء داخل المذاهب ـ في خلافاتها الفرعيّة التفصيليّة ـ على الخلاف الكلامي. فكما أنّ الفقهاء يختلفون فيما بينهم في مسألةٍ فقهية في الوضوء داخل المذهب الواحد، ويخطِّئ الواحد منهم الآخر، وفي الوقت عينه يعذره، ولا يجد حزازةً في أن يلتمس له عذراً…، كذلك الحال في مجال الكلام، فمن الممكن أيضاً أن نفتح باب الاجتهاد في مجال علم الكلام، ونلتمس الأعذار للاجتهادات الكلاميّة الخاطئة مهما اختلفنا معها، ما دمنا داخل الدائرة الإسلاميّة الكبرى، وهي (شهادة أن لا إله إلا الله، وأنّ محمّداً رسول الله|). هذه نقطةٌ مهمّة جدّاً.
ثالثاً: التمييز بين النقد والتجريح. فاليوم هناك محاولاتٌ متعدِّدة لجعل أيّ تناول لأيّ قضيّة تاريخية بمثابة تجريح في حقّ فلانٍ أو فلان، أو في حقّ جماعةٍ أو أخرى، أو في حقّ مقدَّسٍ أو آخر. هذا الخلط بين مفهوم النقد ومفهوم التجريح سوف يفضي في نهاية المطاف إلى سدّ باب الاجتهاد في التاريخ. وهو ما يشكِّل ـ من وجهة نظري المتواضعة ـ خطأً تاريخيّاً كبيراً؛ لأنّ سدّ باب الاجتهاد في التاريخ أشبه بسدّ باب الاجتهاد في العلوم الإسلاميّة؛ فإنّ أغلب العلوم الإسلاميّة قائمةٌ على معايير الاجتهاد في التاريخ، ومن حقّ كلِّ واحدٍ أن يختلف مع الآخر في رؤيته لهذا التاريخ.
نعم، من حقّي أن أقول نقدي، ولكنْ ليس من حقّي أن أجرِّح، ومن حقِّك أنتَ أن تقول نقدك ووجهة نظرك في ما حدث في العقود الإسلاميّة الأولى، شرط أن لا تجرِّح أو تجدِّف بمقدَّساتي. ولكنْ ما يحدث اليوم هو السعي من قبل بعض الاتّجاهات لاعتبار كلّ نقدٍ تجريحاً، ومن ثَمّ سدّ الباب أمام أيِّ قراءةٍ جديدة أو مختلفة للتاريخ! وقد لاحظنا أنّ بعض الكتّاب والباحثين عندما تناولوا قضايا تتعلَّق بالتاريخ الإسلاميّ الأوّل اعتُبروا ـ رغم أنَّهم التزموا كلَّ القواعد الأخلاقيّة، وكلَّ القواعد المهنيّة العلميّة ـ مجدِّفة، وتمَّ التعامل معهم وكأنَّهم ارتكبوا جُرْماً قانونياً. وهذا التوجُّه الذي تروِّجه بعض الاتّجاهات المتطرِّفة في الأمّة سوف يقود إلى ضمور العقل، وعجزه عن الإبداع يوماً بعد آخر. فمن الخطير جدّاً أن تمزج بين النقد والتجريح، وأن تعتبر كلّ نقدٍ تجريحاً، أو أن تعتبر في المقابل كلّ تجريحٍ نقداً. فالحالتان خطأٌ واضح.
وظائف العلماء والفقهاء
نمت خلال السنوات التسعين الماضية الحركة التقريبيّة بين المذاهب، واشتغلت في الاجتهاد العام، ونظّرت لمبادئ التواصل بين المسلمين، وكتب في هذا المجال الكثير الكثير، لكنّ واقع الحال أنّ مجمل العلوم الإسلاميّة تستبطن نقداً للتقريب، الأمر الذي يوقعنا في شيء من التناقض الذاتي والداخلي، وفي نوع من المفارقة. فالخطوط العريضة التي تمّ التنظير لها من قبل فقهاء التقريب ظلّت تواجهها التفاصيل الفكرية والعقديّة والفقهيّة والحديثيّة في التراث، وهو التراث الذي لم يتغيّر الموقف منه رغم التنظير العام المشار إليه. فأنتَ من جهة تنظّر للتقريب بمديات بعيدة له، لكن في المقابل لا تُبدي شيئاً إزاء حمولات كبيرة ناقضة للتقريب نفسه داخل تراثك، وتستمرّ في التعامل معها بوصفها حقائق ثابتة!
هنا تكمن المشكلة، ويظهر أنّ هناك خلالاً ما في مكانٍ ما.
لا أقول: يجب تغيير الفقه، فهذا اجتهادٌ يجب أن تُحترم قواعده، لكنْ ما ندعو إليه هو إعادة النظر في هذه القضايا الإشكاليّة التي تشكّل موادّ سلبية يمكن أن يستفيد منها الطرف الآخر، بتضخيمها، ومن ثمّ البناء على أنّها الأساس في المذاهب المتعدِّدة.
أزمة الإعلام التقريبي
هذا هو الإطار العام، ومن خلال هذا الإطار يمكن أن أدخل باختصارٍ إلى موضوع وسائل الإعلام. فخاصية الإعلام اليوم أنّه نقل كلّ ما هو محلّي فجعله عالميّاً. فكلّ شيء كان يقع في داخل محلّة أو قرية، ولا يعلم به إلاّ مجموعة من الناس، تحوّل اليوم إلى قضيّة عالميّة يمكن أن يشاهدها العالم أجمع. إذاً يجب أن أتعامل مع وضعٍ جديد يختلف تماماً عن الوضع السابق.
حتّى الآن الإعلام التقريبي ـ في تقديري ـ ما زال يعتمد على ركيزتين: ركيزة السكوت والصمت؛ وركيزة التناول النخبوي لقضايا التقريب في مناسبات محدَّدة من العام. فلو رصدنا اليوم الإعلام التقريبي عموماً سنجد أنّه يمتاز إمّا بعدم تناوله القضايا الفتنويّة، أو أنّه يتناولها تناولاً ما في المناسبات السنويّة، عبر تغطية مؤتمر تقريبي هنا أو ملتقى وحدويّ بين علماء المسلمين هناك، وفي غير ذلك لا نجد شيئاً آخر ذا بال. وهذا كلّه في مقابل ذلك الإعلام الفتنوي الذي نراه يعمل ليلاً ونهاراً على صبّ الزيت على الموضوعات التي يمكن أن تُحدث فتنةً بين المسلمين، أو تهييجاً للرأي العام، وبلغةٍ واضحة صريحة وشفافة وغير خائفة من أحد.
الإعلام التقريبي من السلبيّة إلى الإيجابيّة، ومن الفكر إلى العاطفة
الخطوة الأولى اللازمة للإعلام التقريبي هي الخروج من المرحلة السلبيّة إلى مرحلة الإعلام التقريبي الإيجابي، أي يجب أن تكون هناك خطواتٌ في التقريب، لا أن يقف التقريب عند حدود أنّ إعلامي لا يهين الطرف الآخر، وأنّني لا أجرح مقدّسات الآخرين… هذه مرتبة تقريبيّة جيدة، لكنْ في المرحلة الراهنة هناك مرتبةٌ أعلى، وهي أن أقوم بخطوات أكثر تقدُّماً، وأن أقوم بمبادرات تجاه تكريس فكرة التقريب.
لنأخذ مثالاً يقرِّب الفكرة: لاحظوا كيف أنّ الإعلام الفتنوي يقوم في الغالب على تحريك المشاعر، لا على تقديم وثائق علميّة ناضجة. إنّه يجيّش العواطف، ويخلط الأوراق. وهذه نقطة متقدِّمة له على الإعلام التقريبي، بمعنى أنّ الإعلام التقريبي يبدو علميّاً وثقافياً، ويحمل خطاباً غير عاطفي، بينما المطلوب أن يتقدَّم خطوةً إلى الإمام، ليحمل في طيّاته خطاباً عاطفيّاً يحرِّك المشاعر، ويثير العواطف نحوه، دون أن يمارس كذباً أو نفاقاً. المطلوب من الإعلام التقريبي اليوم أن يحرِّك مشاعر المسلمين نحو التقارب، لا أن يحرِّك فكرهم فقط عبر ندوة تعرض في وسائل الإعلام، أو لقاء علمائي معيّن، أو محاضرة فكريّة…؛ لأنّ الفكر التقريبي والإعلام التقريبي إذا ما خاطب العقول فإنّ الإعلام الفتنوي يخاطب المشاعر، وكلّنا نعرف أنّه إذا تعارضت العاطفة مع العقل على المستوى الشعبي فسوف تنتصر العواطف في مجتمعاتنا الشرقيّة على الأقلّ.
والنتيجة هي أنّه يجب أن يخرج الإعلام التقريبي من الحالة النخبويّة، ومن الحالة الفكرية، ومن الحالة الشعاريّة، ومن الحالة التنظيريّة العامة…، إلى مرحلةٍ تُخاطب مشاعر المسلمين.
نماذج للفعل التقريبي الإيجابي
لكنْ كيف يمكن أن يحصل هذا؟
سأعطي مجموعة من الأمثلة؛ لكي أبيِّن فكرتي:
المثال الأوّل: كتب غير واحد من كبار علماء الإماميّة، ليس آخرهم العلامة الشيخ جعفر السبحاني حفظه الله، كتبوا أكثر من كتاب تحدَّثوا فيه عن الصحابة الذين يصنَّفون ـ من منظورٍ إمامي ـ صالحين، ولا توجد أيُّ مشكلةٍ معهم، وبلغ العدد في بعض الكتب مئتين وخمسين صحابياً، بينهم: الكثير من وجوه ومعاريف الصحابة، ومع ذلك قلّما نجد أنّ هؤلاء الصحابة يُذْكَرون في مجالس الشيعة الإماميّة أو في وسائل إعلامهم!
وفي المقابل، إذا ذهبت إلى كتب علماء أهل السنّة ستجد المديح والترضّي والثناء على أئمّة أهل البيت النبوي، بدءاً بالإمام علي، وانتهاءً بالإمام الحسن العسكري، حيث يتحدَّثون عنهم بلغة التعظيم والمدح، حتّى عند مَنْ هو من أئمّة التيارات السلفيّة المعارضة. لكنّ هؤلاء الأئمّة لا يظهرون في واقع حياة الإنسان السنّي، فبالرغم من أنّه لا توجد أيّ مشكلة معهم لا نجد لهم حضوراً يُذْكَر في الوعي الشعبي والإعلامي واليومي!
وعليه فما هي المشكلة لو أنّنا قمنا في إعلامنا الشيعي بتعريف الشيعة بهؤلاء الصحابة، ونشر محبَّتهم وفضائلهم؟ وما هي المشكلة لو أنّنا قمنا في إعلامنا السنّي بتعريف السنّة بأئمّة أهل البيت عند الشيعة، ونشر محبّتهم وفضائلهم ومحاسن علمهم وأخلاقهم؟
فالمشكلة الحقيقيّة هنا تكمن في عمليّة التغييب هذه، وهو تغييبٌ صوَّر للسنّي أنّ الشيعة لا يؤمنون إلاّ بصحابيٍّ أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة فقط، وأنّهم يعادون كلّ الصحابة. ونفسُ هذا التغييب صوَّر للشيعي أنّ السنّة لا يحترمون أهل البيت. مع أنّ الحقيقة هي أنّ الاحترام متبادل، لكنْ هناك تغييبٌ، وهذا يعني أنّ وسائل الإعلام التقريبي يمكنها أن تلعب هنا دوراً إيجابيّاً في استحضار هذه الشخصيّات التي تشكّل قاسماً مشتركاً بين الفريقين.
المثال الثاني: اليوم، وخلال الفترة الأخيرة، شاهدنا كمّاً كبيراً نسبيّاً من الأفلام والمسلسلات والأعمال الفنيّة التي غَزَتْ وسائل الإعلام، وكان قسمٌ جيّد منها مذهبيّاً، لكنّنا لم نشهد برنامجاً تلفزيونيّاً يلفت الانتباه يمكنه أن يكون ذا هدفٍ تقريبي على مستوى الإنتاج السينمائي أو التلفزيوني. إنّ هذه الخطوات ينبغي أن تكون موجودة.
أضِفْ إلى ذلك أنّ هناك تاريخاً طويل للدول الشيعيّة، وهناك تاريخٌ طويل للدول السنّية، ولدول المذاهب المختلفة، كالإباضيّة، لكنّ هذا التاريخ مغيَّبٌ تماماً عن مجمل وسائل الإعلام، فلا يتحدَّث أبداً عند الفريق الآخر عن مفاخر البقيّة. هذا التغييب هو الذي أقصد أنّه شكلٌ من أشكال التقريب السلبي، فهو سكوتٌ محض. نحن لا نحتاج إلى سكوت، بل نحتاج إلى أن نربّي الأجيال التي في مذهبنا ومذاهب الآخرين على ذلك القاسم المشترك الكبير في مساحته، من رموزٍ، وشخصيّات، وعلماء، ودول، وتجارب، وأعمال، ومشاركات حضاريّة ناجحة.
المثال الثالث: التعريف الإعلامي بأئمّة الاعتدال المذهبيّ عند المذاهب كافّة. ففي المذاهب كافّة يوجد معتدلون كُثُر، وكانت لهم على الدوام مواقف تاريخيّة مشهودة، وكلمات تاريخيّة محمودة، فلماذا لا تقوم وسائل الإعلام التقريبي لهذا الفريق بتقديم وثائق وبرامج وثائقيّة تعريفيّة بعلماء الفريق الآخر المعتدلين؟! ولماذا لا نعرِّف بأولئك العلماء من المذاهب الأخرى الذين لا نجد مشكلةً معهم، دون أن يُراد من هذا التعريف الطعن بالمذاهب الأخرى؟! وإلى متى سيبقى كلُّ فريق يعرِّف ويمجِّد ويفخِّم بعلمائه فقط، متناسياً وجود علماء آخرين معتدلين، لا توجد مشكلة بينهم وبين مذهبه، بل كانت لهم أيادٍ بيضاء في خدمة الإسلام؟! لماذا لا نجد ذلك سوى نزراً يسيراً في بعض المناسبات الخافتة والضعيفة الضوء، ولا نراه حاضراً بشكلٍ مستمرّ…؟ لن نطالب أحداً أن يعرِّفنا بمَنْ يراهم خصوماً وعدوانيّين تجاه مذهبه، لكنْ فليعرِّفنا بالعلماء الذين يلتقي معهم، ويشكِّلون حلقةً وسطى بينه وبين الآخرين. هذه من أعظم مهمّات الإعلام التقريبي.
المثال الرابع: سبق أن كان هناك حديثٌ بيننا وبين بعض الشخصيات العلمائيّة، وكان محوره: لماذا لا نجمع من نصوص التراث الجُمَلَ التسامحيّة في كلّ مذهب، ونقدِّمها لأبناء المذاهب المختلفة ولأبناء المذهب نفسه؟! فهناك جملةٌ من العلماء لديهم نصوص تسامحيّة، ونصوص تواصليّة، بعيداً عن التصريحات السياسيّة، فلماذا لا يمكن جمع هذه النصوص التسامحيّة، وإبرازها في وسائل الإعلام، وتحويلها الى (كليشيهات) لترسخ في أذهاننا، وفي أذهان الجيل الشاب، وليأخذ أبناء كلّ مذهب صورةً صحيحة عن الآخر في هذا المذهب أو ذاك، أو صورةً صحيحة عن مواقف علماء هذا المذهب أو ذاك؛ لأنّ الطرف الآخر يصوِّر علماء كلّ مذهب على أنّهم طائفيون دائماً؟!
لاحظوا الإعلام الفتنوي كيف يصوِّر أنّ علماء مذهبه من الماضين والحاضرين هم مثله ومعه، فلماذا لا يصوِّر الإعلام التقريبي علماء مذهبه في خطّ الاعتدال، ويكشف ذلك بالوثائق، بدل مصادرة الصورة لصالح الفتنويّين؟! لماذا لا نجمع هذه النصوص التقريبية للعلماء التقريبيّين، ويتمّ إبراز هذه النصوص التسامحيّة، وتحويلها إلى ما يشبه الشعارات، وترويجها بين الناس عبر وسائل الإعلام المختلفة؟! هذا أيضاً له تأثيرٌ كبير جدّاً في تصويب الرأي العام حول المواقف. وأنا بنفسي رأيت في نصوص بعض المذاهب الإسلاميّة مواقف تسامحيّة مذهلة، بحيث إنّي تعجَّبت أن يكون هذا العالم أو ذاك قد صدر منه هذا النصّ أو هذا الموقف التسامحي إلى هذا الحدّ في كتابٍ لا يمثِّل موقفاً إعلاميّاً أو سياسيّاً. هذا شيءٌ مهمّ جدّاً على ما أعتقد.
المثال الخامس: إنّني أعتقد بأنّ المشروع التقريبي في الأمّة قد غاب عنه ـ نسبيّاً ـ مخاطبة الأطفال، فلم يكتب لهم القصص والروايات والأشعار التي تكرِّس المفاهيم التقريبية والتسامحيّة والتواصليّة والإنسانيّة، وهكذا لم نقدِّم لهم أعمالاً مسرحيّة مؤثّرة أو أعمالاً موسيقيّة أو سينمائيّة أو تلفزيونيّة. لقد كان قليلاً جداً اشتغالُنا على مخاطبة الأطفال في ما يتعلَّق بمفاهيم التقريب.
نحن بحاجةٍ إلى القصّة التي يمكنها بطريقةٍ ذكيّة أن تغيِّر انطباعاتنا عن الآخر المذهبي نحو الأحسن، دون تزوير الحقائق. نحن بحاجة إلى القصّة التي يمكنها بشكلٍ غير مباشر أن تصحِّح المفاهيم، إلى القصّة التي تحطِّم الحواجز والتصوُّرات المغلوطة، ولا تسمح لها بالمجال في مرحلة النضج والبلوغ. يحتاج الطفل كثيراً إلى أن يتمّ الاشتغال عليه؛ لخلق روح تواصليّة عنده، وتربيته على ثقافة التعارف والتلاقي مع الآخرين.
وهنا تلعب وزارات التربية والتعليم في البلدان الاسلاميّة، والبرامج التعليميّة في المدارس الدينية الخاصّة أيضاً…، تلعب دوراً كبيراً في وضع الكتاب المدرسي الصحيح الذي يمكن أن يعرِّف بالآخرين، ولا يحذف طائفةً من التاريخ؛ لأنّ واضع الكتاب يختلف معها، بل يذكرها، ويعرِّف بها، حتّى لا يبلغ الطفل مرحلة العشرين أو الخمس والعشرين سنة، وبعد ذلك يسمع بالمذهب الآخر لأوّل مرّة، وربما يكون هذا المذهب الآخر جزءاً من تراثه الوطني وتاريخه الطويل، مثل: الدولة العباسيّة في إيران، والفاطميّة في مصر والشمال الإفريقي، و…
أعتقد أنّه بات من المهمّ أن يلتقي الأدباء والقاصّون وكلّ مَنْ يملك فنّاً من الفنون في هذا الإطار، سواء في الإعلام المقروء أو الإعلام المرئي أو المسموع؛ ليقدِّموا شيئاً مميَّزاً إنْ شاء الله تعالى.
المثال السادس: تطالب وسائل الإعلام التقريبيّة اليوم أن تكشف الوجه السياسي للصراعات القائمة بين المسلمين، وأن توضِّح دائماً أنّ هذه الصراعات بين المسلمين ليست مذهبيّةً، حتّى لو استُخدمت المذاهب وقوداً لها. فالمطلوب هو تفريغ هذه الصراعات من الطابع المذهبي والديني، والكشف عن كونها صراعات سياسية، ومصالح ترجع إلى دول كبرى. إنّ إفراغ هذه الصراعات من طابعها المذهبي والديني، وإعطاءها الطابع السياسي، يساعد على عدم مذهبة هذه الصراعات؛ لأنّ المذهبة تدفع لحروب أيديولوجية وعقائديّة تترك أثرها العظيم إلى ما بعد انتهائها. والحروب العقائديّة قد تملك أنت مفتاحها، لكنْ قد لا يمكنك التنبُّؤ بنهاياتها وتأثيراتها العابرة للأجيال.
المثال السابع: اليوم ظهر التلفزيون الواقعي، حيث يأتونك بشبابٍ وفتيات، ليبقوا في مكانٍ واحد لمدّةٍ زمنيّة بهدف غنائي أو فنّي معيّن، وليراهم العالم يومياً في ما يعيشونه ويفعلونه. لماذا لا نفعل نحن شيئاً من هذا القبيل؟ ولا أدري ما هي الإمكانات وفرص النجاح في هذا، لكنْ يحتاج لدراسةٍ جادّة. ودعوني أقول بأنّني أفكِّر الآن بصوتٍ مرتفع: لماذا لا نجمع بعض شباب أبناء الطوائف المختلفة؛ ليعيشوا تجربةً من هذا النوع؟ يختلفون في الفكر والعقيدة، لكنَّهم يديرون تجربة الاختلاف بصوابيةٍ، ويقدِّمون أنموذجاً ناجحاً للتواصل رغم الاختلاف المذهبي والديني. هذه الصورة يمكن أن تنطبع وتترك تأثيراً في وعي الشباب والفتيات عامّة؛ لتكريس فكرة أنّ التلاقي والتواصل رغم الاختلاف المذهبي يمكن أن يتحقَّق، فيختلفان، ثم يحين موعد الصلاة فيقدِّم كلّ واحد منهما الآخر ليصلِّي خلفه. فلنعتبر ذلك نوعاً من الترويض للمخيّلة في أن تستأنس بشيءٍ من هذا القبيل.
المثال الثامن: يصوِّر المتطرِّفون والفتنويّون الدِّينَ على أنه أمران فقط، هما: العقيدة؛ والتاريخ. فالدين عندهم هو تلك الصراعات التاريخيّة، وهو مجموعة الاعتقادات. لكنّ الإعلام التقريبي والجميع اليوم مطالبون بأن نشتغل على بيان المساحات الأخرى للدين: الأخلاق والقيم الأخلاقية الرفيعة، الاتجاهات الفكريّة الفلسفيّة، المدارس الروحيّة، كالتصوُّف والعرفان… إنّ هذه التوجّهات والجوانب وإنْ كان لبعضها بعضُ السلبيّات في مكانٍ ما، ولكنَّ الاتجاه العامّ لها جيّدٌ ومفيد. فالدين ليس فقط مجموعة اعتقادات؛ وبعض الوقائع التاريخيّة التي نكرِّرها دوماً، بل هو الإنسانيّات والقيم والتواصل، وهو المحبّة، وهو العلاقة مع الآخر، وهو العلاقة مع الله سبحانه، وليس إدراك الله فقط، فالعرب كانوا يعرفون الله، ويعرفون أنّه يدير العالَم، وهو خالقه، لكنَّ مشكلة العرب أنّ الله غائبٌ عن شعورهم وحياتهم اليوميّة، إنّه عندهم فكرةٌ مرميّة في زاويةٍ ما من زوايا العقل، هذه كانت المشكلة الأساسيّة.
وعليه فالمطلوب هو تفعيل الدين الروحي العلائقي مع الله، ومع الإنسان، وأن نكشف الزوايا الأخرى في الدين، وأن نعرّف الشباب أنّ الدين ليس فقط ثلاث أو أربع قضايا عقائدية فقط، تشكِّل مجموعة جمل خبرية في ذهننا، وليس لهذه القضايا العقائدية أو الأحداث التاريخية امتدادٌ روحي عاطفي وجداني سلوكي عملي حياتي. إنّ هذا النوع من الفهم للدين، عنيتُ الرؤية الأخلاقية بالمعنى العامّ للكلمة، يجب أن نروِّجه ونكرِّسه.
وختاماً، نقترح إعلاماً وحدويّاً حقيقيّاً يطبِّق كلَّ هذه النماذج، ويكسر هذه الحواجز بين المسلمين؛ لكي يكون همُّه الجمعَ بين الخصوصيّة والعموميّة. لا نريد للإعلام التقريبي أن يكسر المذاهب، ولا نريد لوسائل الإعلام وللثقافة الجديدة أن تحطِّم المذاهب؛ لأنّ هذا ليس بالأمر الممكن، ولا هو بالأمر الصحيح، وإنما نريد لها أن تنجح في التوفيق. هذا هو التحدّي الأكبر، عنيتُ النجاح في التوفيق بين الخاصّ والعامّ، تماماً مثل الأسرة، فتصبح مصالح الأمّة الإسلامية العامّة أولى أولوياتك الخاصّة، تماماً كما تصبح مصلحة أخي جزءاً من مصلحتي الخاصّة أيضاً. إذا استطعنا تكريس هذا الواقع نكون قد تقدَّمنا بشكلٍ كبير، وإذا استطعنا أن نتوصَّل إليه سيتحقّق الدمج بين الحفاظ على الهوية الخاصّة وفي الوقت عينه تحقيق هذا التواصل والتكامل والتقارب بين المسلمين إنْ شاء الله تعالى.
ولا تفوتني جملة أخيرة: فلنذهب خلف أسباب نجاح الإعلام الفتنوي، ولنأخذ منه عناصر نجاحه التي لا تنافي أخلاقيّتنا، ولنحوِّلها إلى عناصر تَفَوُّقٍ لنا عليه إنْ شاء الله.
(*) محاضرةٌ أُلقيَتْ في قاعة المحاضرات بجامع السلطان قابوس الأكبر في مدينة مسقط في سلطنة عمان، بتاريخ: 4/2/2013م، وذلك على هامش المشاركة في أعمال أسبوع التقارب والوئام الإنسانيّ ـ الثاني، بدعوةٍ من ديوان البلاط السلطاني، مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم، ثم نشرت بوصفها كلمة تحرير في مجلة الاجتهاد والتجديد، الأعداد: 30 ـ 33، عام 2014 ـ 2015م.