((نصوص معاصرة)) تنهي أعوامها الخمسة
تكمل مجلّة «نصوص معاصرة» عامها الخامس، وتقضي نصف عقدٍ من عمرها، بإصدار العدد العشرين منها. وبهذه المناسبة العطرة من المناسب أن تقف المجلّة قليلاً مع تجربتها بالرصد والتحليل.
عندما شرعنا قبل خمسة أعوام مضت في هذه المجلّة كان الأمل يحدو القيّمين على المشروع في عملٍ ثقافيٍّ يرفد المكتبة الإسلامية، ويعمّق التواصل بين الشعوب المسلمة، ويزيد في وعي مثقّفنا المسلم بقضايا الفكر في عصره في نقطةٍ ما من العالم. كانت القربة إلى الله تعالى هي العنوان الذي يُراد له أن يحرّك المشروع. وبهذه النيّة ـ والحمد لله ـ انطلق العمل، وأخذ يسير نحو خطى التكامل والتقدّم.
لكن ـ كأيّ عملٍ آخر في الحياة ـ لابد أن تكون فيه عناصر القوّة والضعف معاً، أن يكون فيه الكمال والنقصان، أن يمرّ في مسيرته بصعودٍ وهبوط، والأهمّ أنّه كان لابد فيه من تضحيةٍ، وقصدٍ للخير، وإصرارٍ وعزيمة.
1ـ عندما أطلقت «نصوص معاصرة» عددها الأوّل وقع الحدث المترقّب وغير المترقّب معاً. لقد أثارت المجلّة ردود أفعالٍ متباينة. شكّلت رؤيتها الثقافية التي نشرت في العدد الأوّل منها نقطة الاختلاف. وكان الاختلاف طبيعياً، بل إنه ربما يكون قد برهن ـ بدرجةٍ ما ـ عن وضعٍ طبيعيّ، بل ومنشود، فمَنْ هو الذي يرفض أن تثير أفكاره الجوّ العلمي؟! ومَنْ هو الذي ينزعج من أن يسدي الآخرون له خدمةً بنقد تطلّعاته أو بتقويمها؟ لا أظن أنّ عاقلاً حصيفاً ينشد الكمال يبتعد عن الرغبة في أن تدخل أفكاره حيّز الجدل، اللهم إلاّ إذا كان جباناً، أو خائفاً، أو لديه رؤية يفضّل من خلالها في المرحلة الراهنة أن لا يثير جدلاً؛ ربما لأنّ الساحة لا تتحمّل، أو لأن المصلحة ليست هي ـ الآن على الأقلّ ـ.
أثارت المجلّة في حينه قلقاً. وكانت لدى أكثر من فريق هواجس ومخاوف من التوجّه الذي تسير عليه. وبرزت أكثر من إشكالية. ولست أريد أن أجزم الآن بأنّ بعض الذين امتلكتهم الهواجس المتنامية آنذاك قد أدركوا بمرور الوقت أنها كانت مضخَّمة، وأنّ الخيال كان نشطاً عند بعضهم إلى حدّ الخوف على الحوزة العلمية بأجمعها، في ضمن أمورٍ كان من اللازم أن يطوي الإنسان عنها كشحاً، ويتركها إلى الله والتاريخ.
2ـ كان هناك سؤالٌ لطالما أثير حول مدى ضرورة طرح أفكارٍ لأشخاص تثير أفكارهم بلبلة.
وكان الجواب: إنّ حركة الفكر والثقافة بحاجة إلى مثل ذلك؛ كي تنمو وتزدهر. فعندما يُعرض الفكر الآخر، ثم يُعرض معه خلافه، نكون قد أثرَيْنا معرفتنا، ونوّرنا قارئنا بالمواقف المتعدِّدة، وأثبتنا أننا لا ننحاز، بل نعرض الرأي وخصمه معه.
وقد يقول بعضنا: كيف لا ننحاز وهناك الحقّ والباطل، والهدى والضلال؟
وهنا من الضروري معرفة تنوّع الأدوار؛ للوصول إلى هدفٍ واحد. فإذا كان بعضنا يخدم الدين بالقلم، وآخر بالسيف، إذا كان أحدنا يخدم الدين بالمواجهة الشرسة مع الباطل، والآخر بالمداراة؛ لجذب قلوب الآخرين من أتباع الباطل، وإذا كان أحدنا يجاهد ويقاتل بقوّة الحديد والنار، والآخر يجلس على الطاولة؛ ليفاوض بلسان السماحة والحوار، فيأخذ كلّ واحدٍ منهما قوّته من الآخر…
إذا كان الأمر كذلك فهذا يعني تنوّعاً في الأدوار ووحدةً في الهدف. هناك مَنْ لا يرى في حاجة الأمّة اليوم إلاّ حاجتها لمعرفة الحقّ، وهناك مَنْ يرى أنّ حاجة الأمّة ليست فقط في معرفة الحقّ، بل في درجة معرفته، وكيفية فهمه ووعيه واستيعابه؛ فهناك معرفة سطحية؛ وهناك معرفة أعمق، هناك معرفة موروثة؛ وهناك معرفة من لون جديد تتّصل بأضلاع العلم في العصر الحاضر. لا تحتاج الأمّة اليوم شيئاً واحداً فقط، بل هي بحاجة إلى أشياء متعدّدة، فهل يكفيها أن تعرف الحقّ معرفةً سطحية عوامية متربيةً على سياسة تعتيم مشاكلها الفكرية؟!
إنّ أحد المواقف الضرورية في الساحة الفكرية هو موقف الحياد أحياناً، فعندما تنظّم مؤتمراً فلا يمكنك أن تتدخل في كلّ رأي يقوله محاضر أو متكلّم؛ بحجّة توضيح الحقّ. وإذا قلتَ لي: تلك اجتهادات في الفروع. فما المانع أن نصنّف هذا الخلاف أيضاً بعنوان الاجتهادات في الأصول؟
إنّ موقف الحياد هو موقف مداراة أحياناً، وموقف فتح الباب على تعدُّد الرأي الذي ينضج العقول في المحصّلة النهائية أحياناً أخرى.
وقد يسأل بعضنا: لماذا إصراركم على هذه الطريقة المخالفة للمتعارف، ولاسيما في الحوزات العلمية والمحافل الدينية؟
والجواب: ليس ذلك حبّاً في المخالفة ـ والله وحده يعرف ما في القلوب، التي لا تحتاج لشهادة غيره ـ، وإنما هو استعدادٌ لها. وفرقٌ بينهما. وليست الأعراف حجّةً لله على خلقه ما لم تصدر من كتاب وسنّة وعقل بصدور حاسم، ودلالة ومعطى مؤكّد. وكما هو معروف: لا يستدلّ بالعلماء، بل يستدلّ لهم. وقد زار السيد محسن الحكيم الإمام الخميني بعد مجيئه إلى العراق، وقال له: سمعنا أنكم أدّيتم الصلاة في البيت على خلاف المتعارف، فأجابه الإمام الخميني: إنّ كثيراً من أعمالي على خلاف المتعارف (انظر: حميد روحاني، نهضت إمام خميني 2: 122)، فلا ضير في مخالفة المتعارف ما دام الإنسان قد وطّن نفسه على تحمّل المشاقّ في ذلك عندما يراه صحيحاً.
وثمة نقطة أخرى، وهي: هل هناك تعمُّدٌ للترويج لفكر أحد؟
والجواب: كلا، لكننا لاحظنا في السنوات الأخيرة ضموراً في الجدل الفكري داخل المحافل العلمية، وتراجعاً كبيراً عن ذاك الحراك الجميل والرائع الذي شهدته الساحة الإسلامية ـ فكرياً وثقافياً ـ منذ الخمسينيّات وإلى مطلع الألفيّة الثالثة، لكنّ أحداث الحادي عشر من سبتامبر غيّرت الوضع، وأدخلت المنطقة في نفق أمريكي مظلم، وكانت واحدة من ارتداداته السلبيّة إدخال العقل العربيّ والإسلاميّ في أتون الصراعات الطائفية والمذهبية؛ لتفتيت الأمّة المسلمة، ووجدنا بروزاً وصعوداً لشيوخ النزعات السلفيّة والماضويّة من الفرقاء المسلمين، حيث سلب هؤلاء وعي الناس، وفرضوا قضايا كثيرة على طاولة التداول الثقافيّ والشعبي، فتراجع الخطاب العلميّ والفكريّ والثقافيّ لصالح الخطاب التحشيديّ المذهبيّ الضيّق، وبدأت المزايدات داخل المذاهب. فكلُّ مَنْ يتطرَّف أكثر يصبح مخلصاً لمذهبه، أمّا فتوى السيد الخامنئي حفظه الله ـ ومن قبله فتوى العلامة فضل الله& ـ فهي عندهم تراجعٌ عن أصول المذهب.
لقد سقط رموز كبار في هذه الفتنة. وشاهدنا بعض كبار علماء أهل السنّة ممَّن كان يحسب على الوعي والاعتدال والوسطية قد هوى في وادٍ سحيق، وتلاعبت به المصالح السياسية والمخابراتيّة، إلى حدٍّ بات بعض المفكّرين السنّة المدافعين عن التقريب عرضةً لهجمات عنيفة لا مثيل لها. وأذكر على سبيل المثال: الدكتور محمد سليم العوّا.
ما هي هذه القضايا الهامّة التي شُغلت الأمّة بها على المستوى الدينيّ منذ سقوط النظام العراقيّ السابق؟ وهل تستحقّ يا ترى أن ننجرّ خلفها دون وعي لمخاطرها؟ وهل نحن متّجهون إلى باكستان جديدة في عالمنا العربيّ والإسلاميّ، دون أن ندري ما الذي يحضّر لهذه الأمة في المطابخ الكبرى في العالم؟!
من هنا كنا نريد أن لا نستسلم لهذا الجوّ الثقافي الرديء، وأن نطرح نوعاً جديداً من القضايا الإشكاليّة. فطرحنا في ملفّاتنا قضايا المرأة؛ ومسألة الحجاب؛ والعنف والحريّات الدينيّة؛ وموضوعات التنمية؛ والتقريب بين المذاهب؛ وأسلمة العلوم؛ والعلاقة بين الحوزة والجامعة، أو المثقَّف والفقيه؛ والفكر السياسيّ الإسلامي؛ وقضايا العقلانية في علم الكلام الإسلامي؛ وعاشوراء ومظاهر إحيائها؛ وإشكاليّات الوحي والهويّة القرآنية؛ وقضايا الإمامة في منظور مختلف؛ والعلاقة بين الإمامة والخاتميّة والمهدويّة والديمقراطية؛ وغيرها من الملفات، التي ما زلنا نعتقد بأنها تلعب دوراً ـ بعرض الرأي والرأي الآخر ـ في خروجنا من دوّامة الموضوعات التي تعيدنا ألف عام إلى الوراء، وتدخلنا في انشقاقات جديدة ـ قديمة، تخدم الآخر، ولا تخدمنا.
كان الهدف إثارة الأفكار ذات الطابع المحوريّ في الثقافة، لنشتغل على هذا النوع من الموضوعات، بدل الانجرار خلف موضوعات لا نراها مفيدة في عصرنا الراهن. وفي جعبتنا ـ والحمد لله ـ ملفّات أخر عديدة مهمّة ومفيدة إنْ شاء الله، كالبحث عن الخرافة، ومناشئها، وأساليب التعامل معها؛ وقضايا الدين والحداثة؛ ومسائل العرفان الإسلاميّ والفلسفة الإشراقيّة؛ وغيرها من القضايا، التي نعتقد بأنها تصنع مسلماً حضاريّاً، بإمكانه طرح أفكاره في المحافل العلميّة، ليستطيع مواجهة الحضارة الغربيّة بطريقة مفيدة، غير عنيفة، ولا هائجة.
عندما آخذ مفكِّراً أو فقيهاً لا تثير أفكاره جدلاً فأنا لا أساعد في إيجاد حالة الحراك التي تنقلني من دائرةٍ من الموضوعات إلى دائرة أخرى. إذاً فأنا بحاجة إلى الشخصيّات التي طرحت أفكاراً مثيرة لآتي معها بالأفكار الناقدة لها؛ لخلق جوٍّ من التفكير في موضوعات مهمّة، دون أن يعني ذلك بالضرورة أنّني أعتقد بأفكار هذا أو ذاك. وهذه هي النقطة التي لم يستوعبها الكثيرون بعدُ، فيظنّون أنّ معنى هذا هو الانتماء لفكر هذا أو ذاك، ولمنهجٍ هنا أو هناك. أمّا قضيّة نشر الضلال فنتركها إلى مناسبة أخرى قد ننشر فيها دراسة فقهيّة استدلاليّة مستقلّة في هذا الموضوع إن شاء الله.
كان الهدف أيضاً تكريس مبدأ الحوار، وطرح كلّ الآراء، والترويج لهذه الثقافة عملياً. وقد لاقى هذا الأسلوب مدح الكثيرين وإعجابهم ـ والحمد لله ـ، وراجت المجلّة ـ رغم الصعوبات ـ في العالم العربي بما لم نكن نتوقّعه.
اليوم، وبعد خمسة أعوام على عمر «نصوص معاصرة»، وهي مرحلة طفولة ما زلنا نقضيها مع المجلّة، نجد مواقف مشجّعة كثيرة من مناطق مختلفة في أرجاء عالمنا العربي، بل والإسلامي، نجد الكثير ممَّن ينظر من خلال هذه المجلّة وغيرها نظرة إكبار للفكر الشيعيّ في انفتاحه على قضايا العصر وتداوله المسائل الجادّة، فيما يئنّ الآخرون تحت وطأة النزعات السلفيّة القاتلة التي تسيطر على مجتمعاتهم.
إننا نريد إسلاماً لله تعالى، وتشيّعاً لأهل البيت(، لو وضعناه في أوروبا لدفعها للمزيد من التقدُّم، بما يحمل من عمق روحيّ وأصالة وجدانيّة وعقلانيّة، لكن هل ثقافة الحديث عن أمّ المؤمنين عائشة بطريقة مبتذلة تقدّم أوروبا أم تعود بها قروناً؛ لتتصارع مذهبيّاً وتسفك دمها؟ هل تصل بالمسلم إلى أن يصنع العلم والمعرفة، كما فعلها في القرن الرابع والخامس في عصر الحريّات البويهيّ، أم يصنع التصارع والضغينة والحقد المتبادل والسباب والشتائم وحشد المثيرات العاطفية؛ لنتمزّق، وتكون النهاية أن تُضرب إيران الإسلاميّة ـ مثلاً ـ دون أن يقرأ عليها سنّيٌّ واحدٌ الفاتحة؟
هذا ما يريده الغرب المستكبر. ونحن نتفاخر ونفرح بما لدينا من إنجاز صغير هنا أو هناك، ولا تكون لدورياتنا ومحافلنا العلمية وقنواتنا التلفزيونية ومواقعنا على صفحات الشبكة العنكبوتيّة أيّ حديث سوى تفاصيل التاريخ السحيق في جدالٍ لا نهاية له. وكما نجح الغرب في تخويف العرب من إيران؛ لتتميم صفقات السلاح بمليارات الدولارات لبعض الدول العربيّة، يريد أن ينجح في تخويف السنّي من الشيعيّ، والشيعيّ من السنّي؛ كي يمرّر سائر مشاريعه الأخرى، ويهدر طاقاتنا في مثل هذه القضايا؛ حتى لا نتقدّم، ولا نحقّق التنمية المنشودة على مختلف الصعد.
نحن لا نقول بأنّ القضايا المتنازع عليها غير مهمّة، لكنّ طريقة التنازع، وتوقيته، ومجالاته، ونقله من دائرة الاختلاف العلميّ الهادئ إلى دائرة التجييش العامّ، هو المشكلة. وهذه نقطة جديرة بالانتباه إليها هنا. كما نقول بأنّ لكل عصر قضاياه التي يحتاج إليها للنهوض وتأدية الواجب بمقتضى منطق الأولويات، فهل فكّر أحدٌ منّا اليوم كيف غابت الملفّات التي اشتغل عليها النهضويّون الكبار في الأمّة، مثل: مطهَّري، والطباطبائيّ، وشريعتي، ومحمد باقر الصدر، وروح الله الخمينيّ، وموسى الصدر، ومغنيّة، وعبده، وسيد قطب، وغيرهم؟! ألم يلاحظ أحدٌ منّا غياب هذه الملفّات، ويسأل نفسه: لماذا تراجعت هذه الموضوعات التي تنهض بأمّةٍ في وعيها الفلسفيّ والاجتماعيّ والسياسيّ؟! أين هي قضايا نظريّة المعرفة في المنطق الصوريّ والاستقرائيّ؟! وأين هي قضايا المرأة؟! وأين هي قضايا التربية والتعليم من منظور إسلامي؟! وأين هي قضايا الاجتماع الإنسانيّ؟! وأين هي مفاهيم التعايش، والبناء، والتقريب، والتنمية، وفقه الدولة، والفقه الاقتصادي (معضل البنك الإسلاميّ الذي لم يجد حلاًّ بعدُ)، وفقه النظرية، والتفسير الموضوعيّ، وملفّات العدالة الاجتماعيّة، ونقد المدارس الشرقيّة والغربيّة؟! وأين وصلنا في بناء النظرية الإسلاميّة في حقوق الإنسان؟! وهل خرجنا من دائرة الشعارات في هذا الموضوع إلى دائرة بناء مكوّنات نظرية تفصيليّة معمّقة؟! هل لدى الفكر الدينيّ رؤية حقيقيّة اليوم كاملة ونهائية ـ لا مجرّد مواعظ وشعارات ـ لقضايا الشباب، والجنس، والفراغ الروحيّ والعاطفيّ، والتمزّق الأسريّ، والتفتُّت الاجتماعيّ، في مجتمعاتنا؟! هل انتهينا من هذه الملفّات حتى نجد تراجعاً كبيراً في حضورها في محافلنا العلميّة؟!
تكفينا إطلالةٌ بسيطةٌ على كشّافات الإصدارات والمطبوعات في العالم الإسلاميّ لنجد كَمْ أَوْلت المدارس الدينية من نسبة مئويّة لهذه الموضوعات! فإذا كان هناك سنّي تشيّع، أو شيعيّ تسنّن، وهو موضوع يستحقّ الاهتمام به كلّ حسب قناعته، فإنّ هناك ملايين الشباب الذين تركوا الدين من رأس، ودخلوا في العبثية، والعدمية، واللامبالاة، والفراغ، وملأت رؤوسَهم أسئلةٌ لم يعُدْ يكفي فيها القول بالتعبّد بالنسبة إليهم، بل لابدّ من استخدام سبيل آخر معهم. إنّهم يشعرون بأنّ العالم الدينيّ، بل والدين كلّه، لم يعُدْ يجذبهم، ويروي عطشهم. فكيف أقدِّم لهم أنموذج العالم والمثقَّف المتديّن، القادر على مخاطبة عقولهم، دون قمعٍ أو ترهيبٍ؟
لقد جاءتني أكثر من فضائية عراقيّة. وكانت بينهم كلمة مشتركة: إنّنا نفضِّل عالماً دينيّاً غيرَ معمّم (لا يضع العمامة)؛ لأنّ هذا أكثر جذابيّة للشباب وللمشاهدين، الذين لم يعودوا يتفاعلون مع مشهد العالِم الذي يضع العمامة!! هل جلسنا نفكّر في هذه القضيّة، ونتداولها، ونرى أيّة حالٍ وصلناها، حتى بات بعضنا يتوسّل بالتحشيد المذهبيّ والتجييش الطائفي ليكون له حضور؛ إذ قد يفقد كلّ شيء من دون هذا الشحن الطائفيّ؟ هل كانت هذه هي الصورة مع نماذج مثل: الصدريّين الثلاثة، ومطهّري، وأمثالهم؟! ألا يدمي القلب هذا الأمر؟! ألا يستحقّ منّا وقفة تأمّل وتدبّر وصمت؟!
لا أريد أن أوحي بأنّ المشهد مأساويّ، ولا توجد فيه بقعة ضوء. فالنماذج الحسنة والصالحة والواعية كثيرة ـ والحمد لله ـ، وهي تعمل باستمرار، لكنّنا نتحدّث عن الجوّ العامّ، وعن مراكز النفوذ والقرار في أغلب المدارس الدينية عند المذاهب الإسلاميّة.
لهذا كلّه آمنّا بطرح الموضوعات الجادّة في الفكر وقضايا الإنسان، بتقديم الرأي والرأي الآخر. ومع الأسف فقد بِتْنا نخاف من كلّ شيء. فأيّة مرحلة عجزٍ هذه أنّنا نخاف من عرض الرأي والرأي الآخر. وليست لدينا ثقة بأنفسنا كي نصرع الآخر بالمنطق؟! لو وضعت مقالة لشخصٍ، ثم أرفقتها بعشرين نقداً، فإنّهم يخشون منها أيضاً. إذاً هل انعدمت الثقة بالنقود والردود أم ماذا؟! وهل بات يضيق صدرنا حتى بهذا القدر من سماع رأي الآخر، مرفقاً بالردّ عليه من كبار العلماء والباحثين؟! مع أنّ القرآن الكريم خلّد الكثير من (الضلالات)، مع نقدها وتفتيتها. أفهل عجز تراثنا الثرّ والكبير عن أن يدخل المحافل العلمية، ويجتاح بقوّة المنطق والبيان كلّ المدارس الأخرى المتسابقة، أو يقدّم ـ على الأقلّ ـ حججاً بمستوى العصر أمامها؟! هل جفّ الرحم الإسلاميّ عن الإتيان بجمال الدين، وعبده، والأمين، وشرف الدين، وكاشف الغطاء، وشريعتي، والصدر، والخمينيّ، ومطهّري، والطباطبائيّ، وشمس الدين، وفضل الله، وغيرهم من العمالقة الذين ما كانوا يخشون من الرأي الآخر؛ لما كانوا يملكونه من قوّة نفوذ روحيّ وعلميّ في الساحة الإسلاميّة؟! حتّى كان رأي الشهيدين: بهشتي؛ ومطهري ـ رحمهما الله، وجعل الجنّة مثواهما ـ السماح بنشر كتب الماركسيّين، واعتماد طريقة الردّ عليها، لا منعها، في مقابل الفريق الذي أراد في ذلك الوقت منعها، واقترح الحيلولة بالقوّة دون إصدارها!
إنها لحظات حرجة ومفصلية من عمر الأمّة، تحتاج للكثير من الوعي بالقضايا الكبرى، وأن لا نسقط في الاستفزاز، الذي يُراد لنا من خلاله أن ننجرّ إلى تمزيق المسلمين، ونحن نتصوّر أننا حقّقنا إنجازاً أو نصراً. فمن يريد الحقّ لا ينتظر من يعطيه شهادةً بإسلامه، أو تشيّعه لأهل البيت؛ إذ تكفيه شهادة الله والأولياء المعصومين له إنْ شاء الله تعالى.
ويهمّني أن أشير هنا إلى أن مشكلة بعضنا أنه يعتبر ـ ولو من حيث لا يشعر ـ أن ما توصّل إليه العلماء حقّ لا حاجة معه للبحث، رغم أنّ ذلك ليس سيرة العلماء أنفسهم. وسأعطي مثالاً مسألة الإمامة، التي طرحنا ملفّاً حولها يعالج ما أثاره الباحث الشيخ محسن كديور، وها نحن نطرح ملفّاً آخر فيها يتصل بما أثاره الدكتور سروش… إنّ العلماء بحثوا الإمامة، وليس هناك أحد يتّهمهم بالتقصير، لكن هل بحثوا كل جوانبها أم لا؟
والجواب هو النفي بالطبع. فعندما أثير إشكاليّة تتصل بالإمامة، لكن من زاوية علاقة هذا المفهوم تارةً بفكرة الخاتمية؛ وأخرى بمسألة الديمقراطية، فأنا هنا أفتح زاوية جديدة لدراسة الموضوع سينجم عنها فهم أكثر عمقاً لارتباطات هذه النظرية بقضايا العصر. لا يهمّني أن يبدأ هذا العمق من شبهة أو ضلالة أو وعي واجتهاد، بقدر ما يهمّ على المستوى الفكري العام الذي ينهض بالوعي عامة أن أدرس قضيّة الإمامة من زاوية قضايا فكري أنا اليوم. فعندما كان الشيخ المفيد يبحث في الإمامة كان يعالجها من زاوية الإشكاليات التي طرحت حولها في القرن الرابع والخامس الهجري، ضمن مفاهيم ذلك العصر. وهذا جيّد ومفيد. فما المانع لي أن أتناولها في عصري ـ لأكون صورةً جديدة للشيخ المفيد في العصر الحاضر ـ على مستوى مفاهيم هذا العصر ومعارفه وقضاياه وهمومه وإشكالياته…
هنا تظهر الفكرة التي نريدها، وهي أن إثارة إشكالية حول مفهوم قديم من زاوية النظر المعرفي الجديد سوف تساعد في تكوين وعي جديد بالمفهوم نفسه، سيغدو بمرور الوقت أكثر عمقاً. أَوَلَيس هذا أفضل من إعادة دراسة المفهوم القديم بنفس الزاوية القديمة؟!
إنّ الذين يبحثون في الإمامة اليوم يعالج بعضهم نفس الإشكاليات القديمة التي يعيد الآخر طرحها. وهذا جيّد من زاوية دفاعية عندما يحتاج الوضع لذلك، لكن هل من ضرورة لحصر زاوية النظر بهذا الشكل؟!
هذا هو أحد معاني دراسة الإسلام ومفاهيمه من زاوية ما توصّل إليه العقل البشري المعاصر، بما يملك من علوم نفس واجتماع ولغة ولسانيات وتاريخ وأدب وفلسفة (ولو ملحدة) وعلوم طبيعية و.. إنه يعني تشبيك المفاهيم الدينية مع قضايا العصر بما يحقِّق وعياً جديداً لها، ولا يعني بالضرورة إخضاع المفاهيم الدينية لمفاهيم العصر. وهذه نقطة جديرة تفتح على مفاهيم التدبّر في القرآن، وما طرحه السيد محمد باقر الصدر حول التفسير الموضوعي، بإثارته فكرة الرحلة من الواقع إلى النصّ، ثم منه إلى الواقع.
3ـ ورغم الحملة العنيفة التي شنّت على «نصوص معاصرة»، وكادت تطيح بها، إلاّ أنّ الله تعالى ـ وله الحمد ـ قيّض لها أهل الخير والصلاح، ليدعموها بكلّ ما يملكون من قوّة، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيرَ جزاء المحسنين.
ولم تستطع ((نصوص معاصرة)) أن تصدر ما يزيد عن عشرين عدداً فقط، بل أصدرت سلسلةً من الكتب الهامّة، التي لا بأس بالإشارة إليها، وهي صادرة ـ بطبعتها الجديدة المزيدة والمنقّحة ـ عن مؤسّسة الانتشار العربي في بيروت:
1ـ المدرسة التفكيكيّة وجدل المعرفة الدينيّة (398 صفحة).
2ـ اتجاهات العقلانيّة في الكلام الإسلاميّ (638 صفحة).
3ـ المرأة في الفكر الإسلاميّ المعاصر، قضايا وإشكاليات (706 صفحات).
4ـ الشعائر الحسينية، الجدل التاريخ والمواقف (480 صفحة).
5ـ مطارحات في الفكر السياسيّ الإسلاميّ (642 صفحة).
6ـ سؤال التقريب بين المذاهب، أوراق جادّة (382 صفحة).
7ـ أسلمة العلوم وقضايا العلاقة بين الحوزة والجامعة (602 صفحة).
كما يجري حالياً إعداد بعض الكتب الأخرى، التي ستصدر قريباً بعون الله تعالى.
هذا ـ بحمد الله ـ إلى جانب إصدار سبعة عشر عدداً من مجلّة mالاجتهاد والتجديدn، والتي صدر عنها سلسلة كتب، نشرتها مؤسّسة الانتشار العربي أيضاً، وهي:
1ـ بحوث في فقه الاقتصاد الإسلاميّ (تقريرات فقهيّة للسيد محمد باقر الصدر، تُنشَر وتُحقَّق للمرّة الأولى) (339 صفحة).
2ـ مقاربات في التجديد الفقهيّ (613 صفحة).
3ـ العنف والحريّات الدينيّة، قراءات واجتهادات في الفقه الإسلامي (805 صفحات في جزءين).
كما يجري الإعداد لبعض الكتب الأخرى، التي ستصدر قريباً بعون الله.
وهكذا وفَّق الله لإصدار عشرة كتب خلال خمسة أعوام، مع أكثر من 37 عدداً من مجلّتي: نصوص معاصرة؛ والاجتهاد والتجديد. وتحتوي أعداد «نصوص معاصرة» على ما يزيد عن 300 مقال، وأعداد «الاجتهاد والتجديد» على ما يزيد عن 200 مقال، بما يزيد في المجموع عن خمسمائة بحث ودراسة ومقال. ويجد القارئ العزيز فهرساً بعناوين المقالات التي نشرت في مجلّة «نصوص معاصرة» حتّى العدد العشرين في آخر هذا العدد (21) من المجلّة.
كما قمنا بإطلاق موقع mنصوص معاصرةn، ووضعنا الأعداد السابقة فيه. ونستعدّ الآن لإطلاقه بحلّته الجديدة أيضاً.
4ـ ويهمّني في خاتمة المطاف أن أشكر:
أ ـ الله سبحانه وتعالى على توفيقه وتأييده في ساعات اليسر والعسرة، فهو يعرف مقدار حبّه في القلوب.
ب ـ العلامة الشيخ الدكتور عبد الهادي الفضلي على رعايته المعنوية للمجلّة في انطلاقتها، فكان بحقّ راعياً لمشاريع الثقافة الدينية التي تهدف نشر الوعي في الأمّة. نسأل الله له الشفاء والعافية وطول العمر.
ج ـ الإخوة الداعمين لهذا المشروع بأعمالهم الخيّرة الكريمة، التي وقفوا بها مع المشروع في لحظاته الحرجة، والتي ستكتب في ميزان حسناتهم يوم القيامة إنْ شاء الله تعالى.
د ـ الإخوة العاملين في المجلّتين. وأخصّ منهم:
السيّد الكريم علي باقر الموسى، على جهوده الطيّبة المحمودة في نشر المجلّة وتوزيعها وإدارة نشاطها.
والشيخ العزيز محمد عبّاس دهيني، على جهوده المضنية المشهودة في تصحيح المجلّة، وإدارة تحريرها.
والأستاذ عماد الهلاليّ، على تعاونه السابق في توزيع المجلّة في إيران والعراق؛ وبعدَه الأخ حسن غفاري، على الجهد نفسه.
هـ ـ الإخوة المترجمين. وأخصّ بالذكر السادة الكرام: حسن مطر الهاشمي؛ ومحمّد عبد الرزّاق؛ وصالح البدراوي؛ وعلي آل دهر الجزائريّ؛ وكاظم خلف، ومشتاق الحلو، وعلي الوردي، وعبد الهادي الموسوي؛ والسيّدات الفاضلات: نظيرة غلاّب، وفرقد الجزائري، ومنال باقر.
و ـ المؤسّسات المتعاونة. وأخصّ:
مركز الثقلين، على تنضيده حروف المجلّة وإخراجها، ولاسيّما شخص مديره الأخ الأستاذ علي الجوهر، ومن قبله الأستاذ كمال البطّاط، والسيد عبد الله الهاشمي، والأستاذ أمجد الأنصاري.
ومطبعة دلتا في بيروت، بشخص رئيسها الأخ الأستاذ أسعد يونس.
ومؤسّسة الانتشار العربيّ، ولاسيّما رئيسها الأستاذ نبيل مروّة؛ وعامة مؤسّسات النشر والتوزيع.
وكلمتنا الأخيرة: هذه هي بضاعتنا المزجاة قدّمناها ـ رغم الإمكانات المحدودة والمدّة الزمنية القصيرة ـ قاصدين الخير والحقّ والرشاد، وهذا هو مبلغ علمنا وجهدنا ومكنتنا. فنرجو من القارئ العزيز أن يغفر لنا أيّ نقص، من قصور أو تقصير، ويدعو لنا بالتوفيق والرشاد، ويرشدنا إلى مواقع خطئنا، مشكوراً مأجوراً عند الله تعالى.
اللهم إنا نسألك أن تتقبّل أعمالنا بأحسن القبول، وأن تلهمنا الخير والعمل به، وأن تمنّ علينا بالصبر والعزيمة، ورؤية الحقّ والعمل في سبيله، وأن تجعل عملنا خالصاً لك وحدك دون سواك، فمَنْ وصلك لم يعُدْ بحاجة إلى غيرك، وأَنِس بما عندك وزهد بما سواه. اللهم آمين.
﴿رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ * رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ المِيعَادَ﴾ (آل عمران: 192 ـ 194).