الطفلة رقية بنت الحسين شخصية معروفة مشهورة في ذهن كل شيعي وشيعية، بل فاقت في شهرتها كثير من الشخوص والأشخاص في قضية الطف الأليمة، وذكرى عاشوراء. إن هذا بحث مختصر عن شخصية وقصة ومشهد رقية بنت الحسين في الشام.
قد يعتبر البعض ممن اختلطت عليه الامور أن الحديث في هذه القضية ومناقشتها يعتبر من التشكيك في مسلّمة من مسلَّمات المذهب الإمامي، وتوهين لركيزة من ركائزه، فيضطرب وينزعج ويحاول إيجاد مخرج أو تبرير أو تأييد، وهذا خلط مؤسف في الأولويات، ولخبطة للملفات، وفوضى ذهنية دينية. والبعض نافح وجاهد ليثبت وجودها، فذهب يبحث ويبحث بين صفحات كتب التاريخ والتراجم والأنساب عن أي دليل أو شبه دليل أو شبهة دليل ليقنع به نفسه أو يقنع غيره.
من خلال غوص الباحث وسبره في التاريخ بكتبه ومصادره وموضوعاته سيرى أن أول مصدر ذكر قصة طفلة الحسين في خربة الشام هو كتاب فارسي اسمه كامل بهائي أو كامل السقيفة لعماد الدين الطبري، من أهل القرن السابع الهجري عن كتابٍ مجهول اسمه الحاوية. وكتاب كامل البهائي حوى الغث والسمين والمتناقضات والأخطاء التاريخية، حتى أن محقّقه ومعرّبه وهو السيد محمد شعاع فاخر ـ والسيد فاخر من أشهر المعربين للكتب الفارسية المعروفة ـ فرغم حماسه للكتاب، إلا أنه كان يبدي سخطه وتذمره وعدم انقضاء عجبه من هذا الكاتب، في أثناء مروره على موضوعات الكتاب، وفي مواضع كثيرة منه.
كتاب كامل البهائي ذكر القصة مختصرةً جداً وبسيطة، والطفلة فيه مجهولة الاسم، ثم زِيد لاحقًا في قصتها تفاصيل كثيرة بعده على مدى ستة قرون، وتحول اسمها منتقلاً بين أسماء متعددة حتى استقر قبل حوالي أقل من مئة وخمسين عاماً على اسم رقية دون غيرها.
وقد زاد في قصة رقية كمال الدين الكاشفي ت 910هـ في كتابه روضة الشهداء، ثم أضيفت إليها تفاصيل مع كتاب المنتخب لفخر الدين الطريحي ت 1085هـ، ومن بعده جاء صاحب كتاب أنوار المجالس وهو كتاب فارسي ومؤلفه محمد الأرجستاني من أواخر القرن الثالث عشر الهجري وسمَّاها زبيدة لا رقية.
الغريب أن صاحب أنوار المجالس ذكر رقية بدون أن يذكر مصيرها، ولكن جعل صاحبة الرأس الذي في الطشت والتي توفيت على رأس أبيها هي زبيدة!!
ثم جاء محمد جواد الخراساني من أوائل القرن الرابع عشر الهجري صاحب شعشعة الحسيني وهو كتابٌ فارسي وشكّك متردداً في اسمها بين زبيدة ورقية وزينب وسكينة.
وأخيرا جاء الواعظ محمد علي شاه عبدالعظيمي صاحب كتاب الإيقاد المتوفى ١٣٣٤هـ وهو المتأخر جداً بل المعاصر، ليقول لنا: قيل كانت تسمى رقية، ذاكراً اسمها بصيغة تشكيكية، فتحولت بعده إلى حقيقة لا شك فيها.
إذن نرى أن مصادر القصة كلها مصادر متأخرة ومعاصرة لا تنهض لإثبات شخصية أو قصة تاريخية، ولا تذكر هذه الكتب غير المعتبرة عمن تنقل منه هذه الزيادات والتفصيلات.
أما مشهدها بدمشق الشام فإنما هو في الأصل مسجد رأس الحسين، وهو مسجد معروف بهذا الاسم في كتب التاريخ، وكتب الرحالة الذي زاروا دمشق، ووقفوا على هذا المسجد. أي هو المكان الذي نُصب فيه الرأس، وليس ضريحًا لطفلة من أطفال الحسين!
وقد دفنوا في هذا المسجد القديم رأس الملك الكامل الأيوبي، عندما قتله هولاكو عام ٦٥٨هـ، وقطع رأسه، فدفنوه في مسجد الرأس ليكون قرب موضع رأس الحسين، ويتشرف بجواره، كل هذا قبل أن يتهدم المسجد فيما بعد ويتحول إلى مشهد منسوب لطفلة الحسين لا رأسه.
بعد ذلك فجأة وبطريقة غامضة لا نعرف تفاصيلها وأسبابها تحول المسجد قبل حوالي خمس مئة سنة في القرن العاشر الهجري إلى مشهد لطفلة من أطفال الحسين اسمها في ذلك الحين ملكة بنت الحسين، ثم تغير المشهد إلى مشهد رقية بنت الحسين، حيث ذكره صاحب منتخب التواريخ الشيخ محمد هاشم الخراساني المتوفى 1352هـ بهذا الوصف (يعني ضريح رقية) وثبت الأمر إلى يومنا هذا، ولم يكن الشيعة يزورون هذا المشهد ولا يعرفونه عبر كل القرون الماضية، ولكن الموضع مشهور في الشام كما أسلفنا كمسجد للرأس.
البعض ومن أجل إثبات وجود رقية اعتمد على عبارات نداء الحسين يوم عاشوراء: يا أختاه, يا أم كلثوم, وأنتِ يا زينب, وأنتِ يا رقية. ولكن ليس بهذه الطريقة الواهية نُثبت وجود شخصية لها كل هذا الحضور والاحتفاء في ذكرى عظيمة مثل واقعة الطف حين تعوزنا الأدلة، فضلاً عن أن رقية بنت أمير المؤمنين وزوجة مسلم بن عقيل كانت مع الركب الحسيني، وهي أولى بكون النداء موجهاً إليها ضمن أخواتها، هذا إذا ثبت نص النداء أصلًا وفي الأمر تفصيل.
أيضاً البعض اعتمد على ما ذكره ابن فندق من أن لدى الإمام الحسين أربع بنات، ذكرهن وهن: فاطمة وسكينة وزينب وأم كلثوم. ثم ذكر من أسماءهن ثلاث بنات بقين بعده، وهن فاطمة وسكينة ورقية، ولكن نص ابن فندق مضطرب متناقض، ومخالف لغيره من النصوص، ولا نملك من الأدلة ما يثبت أنه يقصد بأم كلثوم رقية. فتحوير اسم أم كلثوم إلى رقية فيه من التكلف ما فيه. والبعض حاول إثبات وجودها عبر شعر سيف بن عميرة النخعي المروي: ورقية رقّ الحسود لضعفها وهذا الشعر ورد في مصادر متأخرة جدا غير معتبرة تاريخيًا مثل منتخب الطريحي، فضلاً عن عدم دلالته عليها هي.
في النهاية لا أنفي وجودها قطعاً وجزماً, ولكن الأدلة على ذلك ضعيفة متضاربة، ومن نفى وجودها أقرب إلى الصواب ممن أثبت، ويبقى الأمر معلقاً أو مفتوحاً للبحث والله أعلم.