حوار بين أدونيس ومحمد مجتهد شبستري(*)
هذا حوارٌ سريعٌ جرى بين مفكرين إنسانيين في العاصمة الألمانية برلين([1])، وهما: علي أحمد سعيد إسْبِر (أدونيس)؛ ومحمد مجتهد شبستري، وإليكم نص الحوار.
_ أدونيس: كيف نحدِّد الإسلام اليوم بوصفه ثقافة؟
^ شبستري: هو الثقافة التي يعيشها المسلمون في حياتهم اليومية. وهي مؤلَّفة من الدين بحصر المعنى، ومن بعض العناصر المستمَدة من الثقافة الغربية، ومن بعض الثقافات الباقية مما قبل الإسلام، غير أن الإسلامية هي الطابع الغالب. ويمكن تحديد الغلبة هنا بأنها نوع خاص من التفكير يمارسه المسلمون، وبأنه مجموعة من الآداب، ومن كيفيات الترابط والتواصل بين الناس، إضافة إلى قيم أخلاقية معينة.
_ أدونيس: هل يمكن الاستنتاج من تحديدك هذا أن هناك غياباً للثقافة الإسلامية بوصفها رؤية جديدة للعالم والإنسان، وللمشكلات الحديثة، أو بوصفها إبداعاً وتجديداً؟
^ شبستري: نعم، فالثقافة الإسلامية، بهذا المعنى الذي تشير إليه، غير موجودة، دون أن ننفي وجود قلة مبدعة ومجدِّدة بين المسلمين، إلا أنها مهمَّشة، ولا فاعلية لها. المسلمون في كثرتهم الساحقة لا يزالون من هذه الزاوية يعيشون في عالم ثقافي يقوم على الاتباع والتقليد، فهناك بالمعنى الإبداعي غياب مزدوج للثقافة: دينيّاً؛ ومدنيّاً. ليس عندنا مثلاً فلسفة أو علم أو فن كما كان الشأن من قبل، ولم يعد هناك معنى محدد لهذه جميعاً داخل حياتنا، كما كان الأمر سابقاً.
_ أدونيس: لكنْ، هناك وعيٌ بهذا الغياب…
^ شبستري: وعي عند هذه القلة التي أشرتُ إليها. ومع ذلك يظل وعياً بلا أجوبة، بلا حلول. إنه وعي بحيث إننا عندما نحاول أن نخرج إلى الحلول تنغلق أمامنا الآفاق. هكذا تخلق لنا التغيّرات الجذرية في العالم مشكلات معقدة وكثيرة لا نفهمها، ولا نقدر أن نستجيب لها بحرية واستقلالية، وإنما نُجَرُّ إلى تقبُّل نتائجها، أو تُفرَض هذه النتائج علينا فرضاً. ومن ثَمَّ تولِّد فينا الشعور بأننا نعيش في عالم مزلزَل من كلِّ ناحية، وبأن الخلاء يهيمن على حياتنا، ولا نعرف ماذا نفعل، كمثل جائع يهدّده الجوع، ولا يجد أمامه طعاماً. يقال: التاريخ انتهى. وبالنسبة إلينا ــ نحن المسلمون ــ إذا نظرنا إلى أنفسنا بصدق في هذا الإطار وعلى هذا المستوى فمن الممكن القول: إن التفكير انتهى.
_ أدونيس: طبعاً ستبدو الدعوة إلى «أدب إسلامي» أو «فلسفة إسلامية» في هذا الإطار، وكما يتخيل بعضهم، دعوة لا تنهض على أيِّ أساس فكري صحيح…
^ شبستري: لا أدري أي معنى لعبارة «أدب إسلامي» أو «فلسفة إسلامية»! الأصح هو الكلام عن الأدب الذي ينتجه المسلمون، وعلى الفلسفة التي يمارسها المسلمون، أو على الأدب والفلسفة في المجتمعات الإسلامية. إن في إعطاء صفة دينية للأدب أو الفلسفة موقفاً لايصدر عن عقلية تحيط بدلالة أو بخصوصية أيٍّ منهما.
_ أدونيس: ومع ذلك هناك محاولات متواصلة تهدف إلى تأويل النصوص الدينية، ظنّاً من القائمين بها أنهم يؤالفون بينها وبين مقتضيات الزمن الجديد، أو يلغون التعارض بين هذه النصوص وزماننا الراهن…
^ شبستري: غير أنه تأويل لا يجدي، لأنه كمثل التأويل القديم، ينطلق من مسبَّقات إيمانية، ويتم طبقاً للشرع. لا نرى اليوم في العالم الإسلامي تأويلاً بالمعنى الحديث، لغويّاً وفلسفيّاً، للنصوص الدينية، مما يجعل حياتنا الفكرية جامدة، وفقيرة، قائمة على التكرار والاستعادة. لذلك ينبغي على المفكر المسلم، الذي يريد فعلاً أن يطوِّر الفكر الإسلامي، أن يتخطَّى التأويل التقليدي بأشكاله جميعاً، وأن ينظر إلى النصوص الدينية نظرة جديدة تصدر عن مفهوم للتأويل بدلالته الهيرمنوطيقية الحديثة([2])، لغويّاً على الأخص، وفلسفيّاً بشكل عام.
_ أدونيس: وهذا يقتضي من المسلمين أن يتجاوزوا أحادية النظر، والذهنية الإقصائية أو الإلغائية، وأن يقبلوا التعددية بأبعادها وأنواعها جميعاً.
^ شبستري: نعم، بالتأكيد. وقبول التعددية([3]) في التأويل يعني القبول بتعدد القراءات. وفي هذا ما يؤدي إلى قبول الآراء والمعتقدات المتنوعة بالإسلام داخل الإسلام الواحد، بوصفها قراءات وتأويلات متعددة لنصٍّ واحد، دون رفض، أو نبذ، أو تهميش، أو تكفير.
_ أدونيس: ألا ترى في هذا الإطار أن حصر النصّ في أحادية تأويلية يُضمِر نوعاً من عدم الإيمان بهذا النص، أي عدم الإيمان بغناه، وحريته، وانفتاحه؛ إذ كلُّ أحادية تقييد…
^ شبستري: لذلك المهم أن نسأل أولاً: هل المسلمون مستعدون للقبول بتعددية هذا شأنُها؟ تلك هي المسألة.
_ أدونيس: لكن دون هذه التعددية لن يكون مكان للآخر في الرؤية الإسلامية…، أو أنه سيظل «كافراً»!
^ شبستري: إذا نظرنا إلى النصوص الدينية بوصفها ظاهرة من الظواهر، أي إذا نظرنا إليها فينومينولوجيّاً([4])، فلابدَّ من أن نقبل التعددية الدينية بشكل كامل ومطلق. لكن السؤال هنا هو: هل نقبلها بوصفها حقائق، أم نقبلها في إطار التسامح والانفتاح بصرف النظر عن حقيقتها أو عدمها؟ وهذه مسألة تحتاج إلى نقاش وتأمل طويلين، خصوصاً أن في القبول بالتعددية ما يتيح لبعضهم من المنغلقين المتزمتين أن يدَّعوا بأن من يقول بالتعددية كأنه يقول بأن في الوحي تناقضات أو حقائق متعددة. غير أن هذه التناقضات ــ على افتراض وجودها ــ لا تظهر للمتأمل إلا عندما يراها بعين الإنسان، ضمن عالمنا الإنساني، فلا تناقض في عالم الألوهية؛ ذلك أن الحقائق الدينية غير الحقائق الفلسفية، فهذه ذاتية شخصية، والأولى وجودية كونية أو إلهيّة. ثم إن التناقضات نسبية؛ لأن الحقائق نسبية. وهذا لا يعني أن النسبية بطلان أو كذب، وإنما يشير إلى ظهورها بشكل معين في فترة معينة; ويشير كذلك إلى أن تمام الحقيقة أو كمالها غير موجود في أيِّ دين بمفرده أو في أية فلسفة وحدها دون غيرها، فالحقيقة الكلِّية الشاملة موجودة في التاريخ بوصفه كلاً شاملاً، لا في جزء منه دون جزء. وهنا نجد ما يمكن أن يميِّز بين الحقيقة التي تكون من طبيعة دينية وتلك التي تكون من طبيعة فلسفية. هكذا أرى أن الطريق إلى التعددية مفتوحة في الإسلام، في المستوى المبدئي أو النظري.
_ أدونيس: لكن في المستوى العملي، الشرعي…
^ شبستري: لا يجوز ــ في ما أرى ــ أن يُحكم على الاجتهاد في الرأي، أو على التأويل، استناداً إلى نصٍّ شرعي. الشرع شيء، والفكر شيء آخر، وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالأدب والفن.
_ أدونيس: مادمنا وصلنا إلى الجانب العملي أودٌّ أن أسأل: ما الخاص المتميِّز الذي ترى أن في إمكان المسلمين أن يقدِّموه إلى العالم الحديث؟
^ شبستري: يمكن من الناحية الثقافية العامة أن نقدم القراءات العرفانية الصوفية، فهي تتكامل مع العرفانيات الشرقية من جهة، والغربية المسيحية من جهة ثانية. ويمكن من زاوية الرؤية الدينية الخاصة أن نقدم رؤية وسطاً، أو موقفاً متوازناً يؤالف بين رُكْنَي الوجود: الروح؛ والمادة، الطبيعة؛ وما وراء الطبيعة، الظاهر؛ والباطن، فهذه الثنائيات وجهان لحقيقة واحدة.
_ أدونيس: وماذا علينا أن نأخذ من الآخر؟
^ شبستري: لابدَّ لنا أن نأخذ من جميع الينابيع في مختلف الحضارات. من العرفان المسيحي، واليهودي، من البوذية، ومن الأديان جميعاً. بالنسبة إليَّ شخصياً لا أصدر بوصفي مفكراً عن ينبوع ديني واحد، أو عن الإسلام وحده، وإنما أصدر كذلك عن الطاقات الروحية الكبرى في جميع الأديان. أما بالنسبة إلى المجتمعات الإسلامية فليس لديها مؤسَّسات ثقافية أو اجتماعية أو سياسية تدير بدقة واحترام وعدالة وقانونية شؤون مواطنيها، أفراداً وجماعات، في ما وراء انتماءاتهم وآرائهم، كما هي الحال في العالم الغربي. وغياب هذه المؤسسات مقتل إنساني، إضافة إلى كونه مقتلاً حضاريّاً. ولكي نخلق هذه المؤسَّسات، التي لا يمكن المجتمع أن يتطور أو يتقدم في معزل عنها، لابدَّ لنا من الثقافة الغربية، وبخاصة كل ما اتصل منها بالقانون، والديموقراطية، والعدالة، وحقوق الإنسان. وما نأخذه منها علينا أن نهضمه، وأن ندمجه في حياتنا وأفكارنا، بحيث يصبح جزءاً منها. ودون ذلك نبقى تابعين للغرب، مما يزيد في تخلُّفنا.
_ أدونيس: ما تقوله يتعارض ــ لحسن الحظ ــ مع الأفكار السائدة في المجتمعات العربية الإسلامية عن الهوية…
^ شبستري: ليست الهوية إرثا جاهزاً، وإنما هي بناء، وعلينا أن نبنيها. ولا أشك في أن المسلمين اليوم يعيشون أزمة هوية، لا هوية اليوم لهم. يتم بناء الهوية بطريقتين:
1ــ التعمق في الماضي من جميع جوانبه.
2ــ الحوار العميق بين هذا الماضي والعالم الحديث في ثقافته بجميع تجلِّياتها.
عبر هذا الحوار، وفي أثنائه، نبني هويتنا، فيما نعرف من نحن.
الهوامش
(*) من أبرز رموز الحركة الفكرية الإصلاحية في إيران، اشتهر بنظرية تعدُّد القراءات الدينية، وبنقده على نظريات حقوق الإنسان في الإسلام.
([3]) التعددية «Pluralism»: يطلق على المذهب البراغماتي الذي يقول: إنَّ الكون متكثر، فيعارض بذلك الأحادية والجبرية، ويقول: إن مستقبل العالم يحتمل إمكانيات عدة يتوقف تحقيقها على فعل الكائنات التي تقرر مصيره. في مقابل أحادية وثنائية.
([4]) «Phenomenology» الظاهراتية أو الظاهريات: مذهب إدمون هُسرل «Edmund Husserl» (1859 ــ 1938) مؤسس منهج الظاهريات. ولفلسفة الظاهريات أبلغ الأثر في الفلسفة المعاصرة، وخاصة في الوجودية، لا من حيث هي نسق فلسفي، وإنما باعتبار منهجها في استخلاص الماهيات. ولا تعنى فلسفة الظاهريات بما عندنا من النظريات والآراء السابقة، وإنما تضع كل ذلك بين قوسين، وتبحث عن المعطيات بغض النظر عن وجودها، وترد الوقائع الجزئية إلى الماهية الكلية، وتميز بين الواقعي واللاواقعي، وترد المعطيات في الشعور إلى ظواهر متعالية، كالشعور المحض. والظاهرية من الكلمتين اليونانيتين «Phanomenon» التي تعني: يظهر ويخرج إلى النور، و«Logos» تعني: القول، وهو ظهور للمعنى الخفي بحروف منطوقة. إذاً الفينومينولوجية علمٌ ما يُظهر ذاته، ومنهجها هو المنهج الذي يجعلنا نرى الظاهرة، والبنى الداخلية لها والمتعلقة بها، والتي كانت خافية علينا، ولم يكن لها ظهور سافر من قبل.