شبكة الملكيّات
تحليل البُنَيات العقلائيّة لأنظمة المال والملك والحقّ
«القسم الأوّل»
السيد محمّد باقر الصدر
السيد محمّد باقر الصدر(*)
بقلم: السيد عبدالغني الأردبيلي
كانت إحدى أمنيات السيد الصدر – كما يقول تلميذه السيد كاظم الحائري – أن تسنح له الفرصة للقيام بدراسة مقارنة – على مستوى فقه العقود والمعاملات – بين الإسلام والفقه الوضعي الغربي، ولكنّ بعض الظروف حالت دون أن يكون هذا درسَه الرئيس؛ فاغتنم العطلة الدراسية في شهر رمضان المبارك عام 1387هـ، وألقى عشر محاضرات حول مسألة الحقّ والحكم والملك، بدأت في الثاني من شهر رمضان، لتنتهي في السابع عشر منه، مخصّصاً المحاضرات الثلاث الأخيرة للمقارنة بين الفقه الإسلامي والفقه الغربي، وقد قرّر هذه الدروس – بنصّها الحرفي – السيد عبدالغني الأردبيلي(ره)، أحد خلّص طلاب السيد الشهيد، وقد قدّم لمجلّة «الاجتهاد والتجديد» – مشكوراً – هذه الدراسة التي تُنشر للمرّة الأولى «مركزُ الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر» في مدينة قم الإيرانية، وقد قام الشيخ حيدر حبّ الله بتحقيق وتصحيح هذه المحاضرات العلميّة؛ عبر تقويم نصّها، واستخراج مصادرها، وعنونة موضوعاتها، وتحويل صيغتها من محاضرات إلى نصّ مدوّن، كما يراه القارئ هنا، واعدين القارئ بنشر سلسلةٍٍ من بحوث السيد الصدر لم يسبق نشرها من قبل، آسفين لتأخّر نشرها إلى اليوم، بعد عقدين ونصف على استشهاده(ره) (التحرير).
مدخل إلى الحقّ، والملك، والحكم
الحقّ والملك والحكم، والعهدة، والذمّة، والدين، والضمان، والمال، مفاهيم أساسية ومقولات رئيسة في فقه المعاملات، وهي مفاهيم ارتكازية عقلائية اتفقت لها أسباب عقلائية، وآثار عقلائية ارتكازية من ناحية الشرع، ولهذا لا بدّ بصورة أساسية من تحديد هذه المفاهيم، وتوضيح مصاديقها؛ كي لا يشتبه مفهوم بآخر، كما يتّفق في كثير من الأحيان في كلمات الفقهاء أن يقع الاشتباه أو الاختلاف بين العهدة والذمّة، أو بين الذمّة والضمان، أو بين الحقّ والحكم، أو بين الملك والحقّ، ونحو ذلك من الاختلافات الناشئة عن عدم تميّز هذه الأمور، كلّ واحد منها عن الآخر، وهذا الاشتباه يؤدّي – تلقائياً – إلى إسراء حكم أحدها إلى الآخر، فتعطى الذمّة حكم العهدة، أو بالعكس، أو الضمان حكم الذمّة، أو الحقّ حكم الملك، أو الملك حكم الحقّ، وهكذا.
من هنا، لا بدّ من تحديد هذه المقولات والمفاهيم الأساسية في فقه المعاملات، بحيث ينضبط كلّ واحد منها في قبال الآخر، وهذا النحو تفصيل خارج عن عهدة هذا البحث، لكنّنا نستعرض – بنحو الإشارة – ما يناسب هذا الغرض، وعنوان بحثنا هو الفرق بين الحقّ والحكم والملك.
ونعرف بنحو القضية المجملة – قبل الدخول في البحث – أنّ الحقّ يتميّز عن الحكم والملك بكونه موضوعاً لجواز الإسقاط، بخلاف الحكم والملك فإنّه لا يجوز إسقاطهما.
وهذا البحث عقد في كلمات الفقهاء لتحقيق موضوع هذا الفرق الثابت إجمالاً بين الحقّ والملك والحكم، وهذا التحديد الذي يراد من هذا البحث:
أ – تارةً يراد بمعنى تحصيل معرّف وعنوان إجمالي في التشريعات التي تكون قابلةً للإسقاط في مقابل ما لا يكون قابلاً له من الأحكام، والمقصود من تحصيل هذا العنوان والمعرّف إلقاؤه إلى المتعلّم لفنّ الفقه؛ لأجل أن يستطيع تطبيقه على موارده، فيقال له هذا العنوان الإجمالي: كلّ تشريع مرتبطٍ بالأموال قابل للإسقاط، وأمّا إذا كان مربوطاً بغيرها فلا يكون قابلاً له.
ويراد من هذا الكلام العام تحصيل معرّف إجمالي للأدلّة التي تدلّ على سقوطه بالإسقاط، لكي يطبّقها على مواردها، بلا حاجة إلى تتبّع كلّ مورد ومورد، وهذا الغرض لا يحقق أثراً بالنسبة إلى عملية الاستنباط، وإنّما هو غرض تنظيمي لمعطيات عملية الاستنباط نفسها، بحيث نعرف أنّ هذا التشريع سيسقط بالإسقاط وذلك لا يسقط به، فننتزع عنواناً معرّفاً يعرّف هذه التشريعات التي ستسقط بالإسقاط، ونعطي هذا العنوان المعرّف بيد الآخر لأجل أن يصدّقه، فهو تنظيم لنتائج عملية الاستنباط، لا أنّ له دخلاً فيها.
ب – وأخرى يفرض أن الغرض من هذا البحث ليس فقط تنظيم معطيات عملية الاستنباط ونتائجها، بل يراد منه التأثير عليها نفسها؛ وذلك بأن نفرض أنّنا نستوحي من الأدلّة نفسها التي دلّت على أنّ التشريع الفلاني سيسقط بالإسقاط النكتة المشتركة التي بحيث لو اقترنت بالتشريع سقط بالإسقاط، فهل هناك نكتة مشتركة ما بين تمام هذه التشريعات التي دلّت الأدلّة التفصيلية على أنّها تسقط بالإسقاط، بحيث نستكشف كونها ملاك السقوط المذكور، وهذا ما يسمّى في كلمات العلماء بالاستقراء.
وإذا كان الأمر على هذه الشاكلة ستكون النتائج مؤثّرةً في تطبيق هذا الحكم على بعضٍ آخر من الأفراد التي لم يرد دليلٌ على سقوطها بالإسقاط، إذ إنّنا إذا فرضنا أنّ النكتة الثابتة بالاستقراء – كاستقراء الخيار وغيره – توجد في أرش العيب أيضاً، وفرضنا أنّ الاستقراء قطعيّ، فسوف يسري هذا الحكم أيضاً إلى الأرش، فيقال: إنّ الأرش أيضاً يسقط بالإسقاط.
إلاّ أنّ مثل هذا الاستقراء حيث لا بدّ وأن يكون قطعيّاً، لا يكتفى فيه بمجرّد الظنّ، فقد لا يحصل مثل هذا الاستقراء القطعي بملاحظة تمام الأدلّة، فضلاً عمّا إذا وجد ما يخرم النكتة في موردٍ أو موردين، دلّت الأدلّة على عدم السقوط بالإسقاط فيهما، رغم وجود النكتة/ الملاك فيهما، فينخرم حينئذ الاستقراء، ويخرج عن كونه استقراءً قطعياً، مما يضع هذا الدليل في معرض السقوط والتلاشي.
ج – وثالثة نطرح غرض البحث، بنحوٍ يكون مؤثّراً في عملية الاستنباط دون لحوق الضرر بالانخرام في موردٍ أو موردين، بمعنى أنّه لو انخرم في مورد أو موردين أو أزيد، يكون هذا الانخرام تخصيصاً في النكتة لا موجباً لانكشاف بطلانها في نفسها، وذلك بأن يقال – كما أشرنا في أوّل البحث -: إنّ التمييز بين التشريعات وكون بعضها قابلاً للإسقاط وبعضها الآخر غير قابل له، ليس أمراً تأسيسياً من قبل الشارع، وإنّما هو شائع في سائر الشرائع والقوانين أو الأحكام العقلائية، فكلّ المجتمعات العقلائية تبني على هذه القسمة في تشريعاتها، أي جعل بعض التشريعات قابلةً للإسقاط دون بعضها الآخر، إذاً فهذه القابلية للإسقاط – إثباتاً ونفياً – تندرج في واقع أمرها في الأحكام الممضاة من قبل الشارع، لا الأحكام المؤسّسة، أي تلك الأحكام ذات الجذور العقلائية الارتكازية.
ومؤدّى هذا الكلام إخضاع الارتكاز العقلائي، للفحص والفلسفة والتحليل؛ لنرى ما هو الضابط في هذا الارتكاز العقلائي الذي تقوم عليه مسألة السقوط بالإسقاط أو عدمها، فإذا استكشفنا – بحسب الارتكاز العقلائي – ما به يكون الحقّ حقّاً، أو يكون قابلاً للإسقاط، وما به يكون الحكم حكماً وغير قابل للإسقاط، فحينئذ بعد فرض إمضاء هذا الارتكاز والسيرة العقلائية من قبل الشارع على حدّ سائر الارتكازات والسير العقلائية يصحّ ذلك قاعدةً في نفسه، وهو أنّ كلّ تشريع وجدت فيه تلك النكتة يكون قابلاً للإسقاط، وكلّ تشريع لا تتوافر فيه، بل تتوافر فيه نكتة الحكمية لا يكون قابلاً له، ولو فرض انخرام القاعدة في مورد أو موردين، يكون ذلك من باب الردع عن السيرة والارتكاز العقلائيين، مع لزوم الرجوع إلى هذا الارتكاز في سائر الموارد الأخرى.
بل يمكن أن يقال: إنّ هذا الارتكاز العقلائي – بقطع النظر عن الاستدلال بالسيرة العقلائية بما هي سيرة عقلائية – يغدو أساساً لتكوّن ظهور في الأدلّة اللفظية، على النحو الذي بيّناه مراراً في الفقه؛ حيث قلنا: إنّ كثيراً من الظهورات في الأدلّة اللفظية إنما هو حصيلة الارتكازات الاجتماعية لا الأوضاع اللغوية القاموسية، فهذه الارتكازات الموجودة عند العقلاء – كالذي نحن فيه – يوجب انعقاد ظهور في الدليل نفسه على نحو يكون قابلاً للإسقاط أو لا، فإذا فرض أنّ التشريع الذي دلّ عليه الدليل كان من تلك التشريعات الحقّية بحسب الارتكاز العقلائي فلا يبقى له إطلاق لما بعد الإسقاط، فيكون هذا الارتكاز العقلائي بمثابة القرينة المتّصلة، فكأنّه يقول: له حقّ الخيار ما لم يسقط، فإنّه حينما يقول: إنّ شاء فسخ وإن شاء لم يفسخ، والمتبايعان بالخيار إلى ثلاثة أيام، لا يحتاج لإضافة جملة: ما لم يسقط، بل حينما يقول: هو بالخيار مع ضمّ الارتكاز العقلائي القاضي بأنّ الخيار واجد لتلك النكتة التي بها يكون التشريع حقّاً ويكون بها قابلاً للإسقاط، يكون ذلك كالقرينة المتّصلة على تفسيره، بخلاف ما إذا فرض الارتكاز مختلفاً؛ فإنّ الإطلاق يبقى على حاله.
وهذا تقريب ثانٍ غير الأوّل، يتّفق معه في النتيجة ويختلف عنه في الآثار، وعليه فالإمضاء يكون ضمن حدود هذا الارتكاز وشؤونه؛ فلا بدّ من الرجوع إلى هذا الارتكاز في فهم حدوده وشؤونه، وأمّا إذا فرضنا أنّ هذا الارتكاز لم يثبت إمضاؤه من قبل الشارع وإنّما أوجد ظهوراً في الدليل اللفظي، فهنا نرفع اليد عن إطلاق الدليل بعد الإسقاط، فكأنّ الشارع حينما قال بالخيار لم يطلق كلامه لما بعد الإسقاط، إلاّ أنّ مثل هذا لا يكون دليلاً على عدم وجود الخيار بعد الإسقاط؛ لأنّ الارتكاز العقلائي أوجب عدم انعقاد إطلاق في اللفظ، إلاّ أن يقال: إنّ الشارع اعتمد على هذا الارتكاز في مقام التقييد، أي أنّ هذا الارتكاز كان بنحوٍ من الوضوح والجلاء في الأذهان العقلائية، بحيث إنّه لم يكن مانعاً عن انعقاد مقدّمات الحكمة فحسب، بل لقد اعتمد عليه المولى في مقام التقييد، وهو تعبير آخر عن إمضائه وعدم ردعه عنه.
وهذا هو الذي ينبغي أن يثار الحديث عنه هنا؛ إذ يُقطع النظر عن الأدلّة اللفظية، ويركّز على البناءات العقلائية المركوزة في الموضوع، ثم تحليل نكتة الارتكاز لإعطائها الشرعية، إمّا عن طريق الاستدلال بالسيرة العقلائية، والإمضاء من قبل الشارع من باب عدم الردع، فيصبح هذا أصلاً ما لم يُردع عنه بردع خاص في مورد مخصوص، أو من باب أنّ هذا الارتكاز يوجب – بمناسبات الحكم والموضوع – انعقاد ظهورات سياقيّة اجتماعية داخل الأدلّة اللفظيّة نفسها، وبهذا يلزم الأخذ بهذه الظهورات طبقاً لهذين البيانين.
نظرية الأستاذ الخوئي في الفرق بين الحكم والحقّ
إلا أنّ السيّد الأستاذ الخوئي لم يرَ فرقاً بين التشريعات والقوانين بقطع النظر عن مسألة قابلية بعض الحقوق للإسقاط وعدم قابلية بعضها الآخر له، بمعنى أنّ التشريعات القابلة للإسقاط وتلك غير القابلة له لا تتميّز عن بعضها عنده سوى بهذا الحكم عينه، أي قابلية الإسقاط حيناً وعدمها حيناً آخر.
ولمّا لم يرَ تمييزاً يتخطى نفس الاختلاف المذكور لم يكن هناك معنى عنده للبحث في الفرق ما بين الحقّ والحكم؛ لأنّ حقّية التشريع أو حكميته في طول قابلية الإسقاط وعدمها، فلا بدّ من الرجوع في كلّ التشريع إلى دليله؛ ليُرى هل يقبل الإسقاط أم يأباه؟ فإن كان قابلاً له سمّيناه حقّاً، وإلا سُمّي حكماً.
وذهب الأستاذ إلى وضع هذا الاصطلاح فيما بعد بغية الإشارة لما هو قابل للإسقاط، كأنهم سمّوا ما هو قابلٌ له بالحقّ، تمييزاً له عمّا لا يقبله([1]).
وبما ذكرنا، ظهر أنّ البحث على هذا المستوى بهذه الصورة له مجال واسع؛ لأنّ هذا الحكم ليس حكماً تأسيسيّاً من قبَل الشارع، بل إمضائي؛ فلا بدّ من النظر إلى النكتة الممضاة في المقام في المرتبة السابقة.
ويمكننا أن نستفيد من بعض الأدلّة الشرعية إمضاء هذا الارتكاز العقلائي أيضاً وإمضاء كبرى أنّ الحقّ في المقام قابل للإسقاط بحيث يفرض أنّ قابليّته له من شؤون الحقّية لا أنّ الحقّية من شؤون هذه القابلية، وذلك مثل ما ورد في صحيحة محمّد بن مسلم عن الإمام الباقر(ع) في كتاب القصاص والديات، قال: bقلت له: رجلٌ جنى إلى (عليّ) أعفو عنه أو أرفعه إلى السلطان ؟ قال: هو حقّك، إن عفو (ت) عنه فحسن، وإن رفعته إلى الإمام فإنما طلبت بحقك، وكيف لك بالإمامv([2]).
فإنّ ظاهر قوله: إن عفوت فحسن وإن.. أنّه بيان لحقّه وتفريع مبنيّ على هذا الحقّ، فحينئذٍ إن شئت تعفو وإلاّ فاشكه إلى السلطان، وظاهر هذا التفريع أنّ الإسقاط من شؤون الحقيّة، فيكون الإمام قد بيّن الصغرى في المقام، وأمّا الكبرى وهي أنّ كلّ حقّ قابل للإسقاط فأحاله إلى الارتكاز العقلائي والفهم العرفي كما هي الحال في كثير من التعليلات، من قبيل قوله: العمري وابنه ثقتان([3])، أو قوله: آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالم ديني([4]) و.. فهذا بيان للصغرى، وأمّا الكبرى – كلّ ثقة تؤخذ عنه معالم الدين – فهي حقيقة ارتكازية وعقلائية؛ ولهذا استغني عن بيانها في المقام، فهذه الصحيحة بنفسها دالّة على أنّ الكبرى – بوجودها العقلائي والارتكازي – منظورةٌ للشارع وممضاة منه، هذا كلّه في تحرير المسألة.
والمسألة مرتّبة على مقدّمات، وتنبيهات، فيقع الكلام في أقسام ثلاثة: الأول: مقدّمات المسألة. والثاني: أصل المسألة، والثالث: تنبيهات المسألة.
تحليل شبكة الملكيات في الارتكاز العقلائي
ونستعرض فيها استعراضاً تحليلياً شبكة السلطنات والملكيات والحقوق الثابتة بحسب الارتكاز العقلائي الممضي شرعاً، على ما أشرنا إليه آنفاً.
لكن وعلى سبيل التمهيد لذلك، نستعرض ما ذكره الأساتذة في المقام، من تقسيم الملكية إلى أقسام متعدّدة؛ لنصل – من خلال ذلك – إلى السبيل الذي نراه هنا، فقد سلك الفقهاء في البحث مسلك تقسيمها بحسب طبيعتها وهويّتها، بدلاً من استعراضها بحسب تسلسلها وترابطها، وتفرّع بعضها على بعض.
معاني الملكية وتقسيماتها في الموروث الفقهي
ذكر السيّد الأستاذ الخوئي – تبعاً للمحقّق الإصفهاني وغيره([5]) – أنّ الملكية ذات معانٍ أربعة:
المعنى الأوّل: الملكية الحقيقيّة الثابتة لله تعالى بالنسبة إلى عباده، بل بالنسبة إلى تمام عالم الإمكان، وهذه الملكية ليست ملكيةً اعتبارية أو تشريعية، بل هي ملكية حقيقيّة، مرجعها إلى الإحاطة والقيمومة التكوينية من قِبله تبارك وتعالى، وإلى الافتقار الذاتي لموجودات عالم الإمكان، وهذا الافتقار الذاتي مساوقٌ لتعلّقها وارتباطها بساحة الواجب سبحانه وتعالى.
المعنى الثاني: الملكية الحقيقية أيضاً، ولكن بنحو أدنى وأضعف من الملكيّة الأولى، وهي ملكية الإنسان لنفسه وذمّته وأعماله وشؤونه وهيئاته المتّصلة به؛ فإنّ الإنسان مالكٌ لهذه الأمور، وهذه الملكية ليست أمراً اعتبارياً أو مجعولاً على حدّ ملكية الإنسان للأموال الخارجية، بل هي أثرٌ واقعيّ حقيقي ثابت بقطع النظر عن الجعل والاعتبار والتشريع؛ فالإنسان مسلّط – بحسب طبعه – على نفسه وعلى فعله وذمّته، وهذه السلطنة التكوينية هي حقيقة هذه الملكية، وروحها.
أمّا ما يُقال من أنّ الحرّ لا يملك عمله، فينبغي أن يراد به عدم ملكيّته له بالملكية الاعتبارية على حدّ مالكية المستأجر لعمل الأجير، أو على حدّ مالكية المولى لعمل عبده، لا على حدّ هذا النحو من المالكيّة، وإلاّ فهذا النحو من السلطنة والمالكيّة ثابت للإنسان بالإضافة إلى ذاته وأعماله وأفعاله بلا حاجةٍ إلى جعلٍ خارجي.
من هنا، تترتّب عليه آثار الملكية؛ فيجوز جعله عوضاً ومعوّضاً في باب الإجارة أو في باب البيع على مناسبات المقامات، مع اشتراطها فيها، وليس ذلك سوى لتحقّق الملكية بهذا المعنى الواقعي، غير المحتاج إلى الجعل والاعتبار.
المعنى الثالث: الملكية المقولية، أي ما يسمّى في لسان الفلاسفة بمقولة الجدة، فإنّهم بعدما زعموا أنّ المقولات العرضية تسع، اعتبروا مقولة الملك أو الجدة أحدها، ومثّلوا لذلك بالتقمّص والتعمّم والتختّم ونحو ذلك.
وهذا أيضاً فردٌ حقيقيّ من الملكية، تكوينيّ وثابت بقطع النظر عن الجعل والتشريع والاعتبار، على حدّ سائر المقولات الحقيقيّة الأخرى.
المعنى الرابع: الملكية الاعتبارية، وهي الملكية التي تُجعل للإنسان بالنسبة إلى الأموال الخارجية ونحو ذلك، وهي ملكيّة غير حقيقية، تختلف عن الملكيات الثلاث السابقة.
وبعد ذلك، صار الفقهاء إلى بحث نوعية الملكية الثابتة في المعنى الرابع؛ أهي أمرٌ حقيقي أم اعتباري جعلي؟ وأدّى بهم ذلك إلى البرهنة على جعليّته واعتباره، في مقابل الملكيات الحقيقية، وبعد ذلك وردوا بحثاً آخر في أنّ هذه الملكيّة الجعلية مجعولةٌ بالاستقلال أو منتزعة من مجعول آخر بالاستقلال كالأحكام التكليفية، وهذا ما سنستعرضه نقطةً نقطة.
الملكيّة الإلهية الحقيقيّة، قراءة تقويميّة
أمّا المعنى الأوّل، وهو ملكية الله تعالى للعباد بل لعالم الإمكان بتمامه، والمُرجَعة إلى الإحاطة والقيمومة، وما يسمّى في لسانهم بالإضافة الإشراقية، فلا ينبغي إبرازها في المقام، أي أنّ هذه الملكية لله تعالى ليست من نوع الملكيات التي تدخل في نطاق البحث الفقهي والتصوّر القانوني بوجهٍ من الوجوه، وإنّما هي ملكية أخرى حقيقية تكوينية واقعة لله تعالى غير الملكية التي ذكرت، هي التي تدخل في نطاق تصوّرنا الفقهي.
وكأنه وقع خلط بين هاتين الملكيّتين الحقيقيّتين التكوينيّتين لله تعالى، فاشتبهت إحداها بالأخرى؛ فإنّ الله تعالى – بحسب ما يُدرك العقل الفطري – له إحاطة الواجب بعالم الإمكان بما في عالم الإمكان من إنسان وبشر، فالإنسان مملوكٌ للواجب بملكيّة إحاطية تكوينية، بما هو موجود إمكاني، بقطع النظر عن خصوصيّة كونه شخصية معنوية متميّزة عن سائر موجودات عالم الكون، إلاّ أنّ هذه الملكية وحدها ليست موضوعاً لأثر من الآثار بالنسبة إلى تصوّرنا الفقهي بشكل خاصّ، نعم تترتب على هذه الملكية الحقيقية ملكية أخرى حقيقية أيضاً، وهي ملكية تقع ضمن مدركات العقل العملي، لا النظري، فالعقل العملي الذي يدرك ما ينبغي أن يُعمل وما لا ينبغي، يدرك – مترتّباً على إيمانه بالإحاطة التكوينية والقيمومة الخالقية لله تعالى على عالم الإمكان – ملكيّةً أخرى لله تعالى ذات صفة حقيقيّة وواقعيّة، تتعلّق بخصوص الإنسان القابل لأن يكون مسؤولاً ذا شخصيّةٍ معنوية، وهذه الملكية الحقيقية المترتّبة على الملكية الأوّلية هي عبارة أخرى عن مولوية الله تعالى للعبد، فهذه المولويّة أمرٌ واقعيّ تكويني ثابت بقطع النظر عن ألوان الجعل والاعتبار والتشريع، بل ملاكها الملكيّة الخالقية، فحيث هو قيّم خالق لهذا يكون مولى، ومعنى مولويّته أنّه من شأنه أن يأمر ويحكم ويتصرّف، كما ومن شأن الإنسان – في المقابل – أن يطيع.
وقد شرحنا هذه المولوية في علم الأصول تفصيلاً([6])، ورأينا أنّ أحد مظاهرها حقّ الطاعة ونفوذ الحكم.
ومرجع المولوية الإلهية أن يلزم تكليفاً أو وضعاً، فتكون هذه الصلاحية نحواً آخر من الملكية، يدركها العقل العملي وراء تلك الحقيقة الواقعية التكوينية الثابتة بقطع النظر عن الجعل والاعتبار التي يعقلها العقل النظري.
إذن، فهذه الملكية هي التي تقع تحت نظر الفقيه في المقام، وهي التي ينبغي أن تذكر – في المقام – قسماً من أقسام الملكية، وأمّا الملكية بمعنى الإحاطة الخالقية فتغدو ملاك هذه المالكية، وميزانها ومناطها.
الملكيّة الإنسانية الحقيقيّة، وقفة فاحصة
وأمّا المعنى الثاني، فهو ملكية الإنسان لنفسه وذمّته وعمله الخارجي، والتي ادّعي – أيضاً – في هذا التقسيم كونها ثابتةً ثبوتاً حقيقياً بقطع النظر عن الجعل والاعتبار، لكون روحها ومرجعها إلى سلطنة الإنسان على حيثيّاته، وهي سلطنة ثابتة تكويناً ولا تحتاج إلى تحصيل تشريعي.
إلا أنّ هذا الكلام غير صحيح أيضاً؛ وذلك أنّ كثيراً من أنحاء التصرّف للإنسان في نفسه وفي ذمّته وعمله، غير نافذة عقلائياً فضلاً عن النفوذ الشرعي، فأن يشغل الإنسان – مثلاً – ذمّته ابتداءً بشيء، لا في حدود معاملة، ليس تصرّفاً عقلائياً، كما لو ملّك إنسانٌ نفسَه لآخر، فإنّ ذلك لا ينفذ، وهكذا.
من هنا، نستكشف أنه لا بدّ من أن تُصاغَ القضية بصياغةٍ أخرى غير هذه الصياغة، وتوضيح ذلك: ثمّة عنصران في سيطرة الإنسان على نفسه وذمّته وعمله، لا بدّ من تحليلهما، وفرز أحدهما عن الآخر، أحدهما يمثّل الكبرى، فيما يمثّل الآخر الصغرى.
أمّا الكبرى فتحديد مدى نفوذ تصرّفات مَن له الأمر والولاية على الذمّة، بحيث يتحدّد تصرّفه النافذ من غير النافذ، وذلك بعد فرض ولاية شخص على آخر في نفسه وذمّته وعمله.
وهناك بحث صغروي آخر في أنّ من له الولاية ماذا هو نفس زيد، أو أنّ هناك شخص آخر تكون له ولاية على زيد.
أمّا في البحث الأوّل وهو أنّ من له الولاية على زيد ما هو مقدار سلطانه، فهذا كلّه مجعول، لا أمراً حقيقياً وواقعياً أو تكوينياً، ولهذا لا جعل لأحد في كثير من أنحاء التصرّف في النفس وغيرها، لا لنفس صاحب الذمّة والعمل ولا لشخصٍ آخر بالنسبة إليه، وهو أمرٌ يرجع إلى الجعل العقلائي والجعل الشرعي، ولهذا تختلف المجتمعات العقلائية والقوانين الزمنية عصراً بعد عصر، في دائرة هذا المجعول.
وبعد ذلك يبحث في حدود هذه السلطنة ودائرتها، إنّ من له ولاية الأمر على زيد نفساً وذمّة وعملاً، وهنا يمكن ادّعاء أنّ هناك أولوية ذاتية واقعية ثابتة بقطع النظر عن الجعل والتشريع، وهي أنّ زيداً هو بنفسه أولى بأن يعطى هذه الولاية من شخص آخر في عَرضه، فكما أنّ الله أولى منه بهذه الولاية، كذلك هو أولى بهذه الولاية – بقطع النظر عن الله – من شخصٍ آخر، ولعلّه إلى هذا أشير أيضاً في الحديث الذي عيّن فيه أمير المؤمنين(ع) خليفةً؛ حيث قال رسول الله(ص): ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا: بلى، قال: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه([7])، فهنا إشارة إلى هذا الأمر المركوز في الأذهان، وهو أنّ كلّ إنسان أولى بنفسه من غيره، أمّا ما هي دائرة هذه السلطنة؟ فهذا يرجع إلى التقنينات العقلائية أو الشرعية والتي تختلف باختلاف المصالح والمفاسد، أو الأغراض التي يدركها المقنّن في مقام تقنينه، لكن بالنتيجة هناك أولوية لهذا الشخص بالنسبة إلى شخص آخر، فهذه الأولوية أولوية واقعية، وهذا الحديث، حيث يشير إلى تلكما الملكيّتين اللتين أشرنا إليهما، يشير – أيضاً – إلى هذه الملكية، أي إلى هذه الأولوية الواقعية للإنسان من غيره، ويشير إلى ملكيّته لله تعالى، بالمعنى الذي قلناه في المقام، غاية الأمر يضيفه إلى نفسه(ص) باعتباره مصداقاً من مصاديق ولاية الله تعالى؛ لأنّ ملكية الله تعالى بالمعنى الأوّل الذي قاله الفقهاء لا معنى لتطبيقه وسريانه إلى غير ذاته تبارك وتعالى، إلاّ بمعنى صوفي غير مفهوم عندنا.
أمّا الملكية بالمعنى الثاني، أي الولاية المولوية الواقعية بهذا المعنى من المولوية الواقعية فيمكن أن يكون قول النبيّ مصداقاً له، على أساس أنّ الله سبحانه يأمر بإطاعة الرسول، فيكون كلام الرسول – حينئذٍ – كلام الله وأمرُه أمرَه، ممّا يجعله أولى بالمؤمنين من أنفسهم؛ إذ هو ملحوظ هنا بوصفه معبّراً عن الله تعالى، وبما هو مصداق لمولويته سبحانه.
وبناءً عليه، يفترض فهم الملكية الثانية – أي ملكية الإنسان لنفسه – على هذا النحو، وتنحلّ إلى أمرين: أحدهما كون هذا الشخص وليَّ أمر نفسه، وأولى من غيره، وثانيهما ما هو الكبرى، بتحديد الشؤون التي تعطى للوليّ، فالكبرى هنا جعلية، والصغرى واقعية.
مقولة الجدة، وقفة نقدية للمقولات الأرسطية
أمّا القسم الثالث، وهو مقولة الجدة، فلا نريد الدخول في بحثها؛ إذ لا نقصد هنا الخوض في الموضوع الفلسفي، إلاّ أنّ هؤلاء الأصلحين الذين ذكروا مقولة الجدة في المقام أخذوها عن الفلاسفة الذين لم يفهموا أنفسهم معناها، بشهادة الشيخ الرئيس ابن سينا؛ حيث يرى أنّه لم يتحصّل له معنىً لمقولة الجدة، فهل هي الهيئة الحاصلة لالتصاق شيء أو إحاطة شيء بشيء آخر، بحيث يتحرّك بحركته فتكون هذه الهيئة هي مقولة الجدة بعينها؟ فمقولة الجدة ليست نسبة العمامة إلى المتعمّم، أو نسبة المتعمّم إلى العمامة؛ لأنّ هذه النسبة تدخل في مقولة الإضافة، ولا تندرج في مقولة الجدة، فأراد الفلاسفة فصل مقولة الجدة عن مقولة الإضافة؛ ولهذا قالوا: هيئة قائمة، كما قالوا في الأين: هيئة قائمة متحصّلة من نسبة الشخص إلى المكان، لا عين نسبته إلى المكان.
وهذه المقولات بأجمعها لا محصّل لها؛ فلا بُرهان على خارجيّة هذه الهيئات، بل يمكن أن يقدّم افتراضٌ آخر هنا مساوٍ للافتراض المذكور عند الفلاسفة وهو أن تكون من خصوصيات الصورة الذهنية، أي أنّ الإنسان حينما يتصوّر موجوداً خاصّاً مرتدياً قميصاً معيّناً يدمج نسبة القميص إلى المتقمّص، ونسبة المتقمّص إلى القميص ثم ينتزع منهما هيئةً خاصّة في صورته الذهنية، ولا برهان على كون هذه الهيئة هي هيئته الخارجيّة.
ونتيجة هذا الكلام أنّ المظنون كون مقولات أرسطو التي يقوم عليها هذا البحث مأخوذةً من اللغة، لا من الواقع الخارجي، بمعنى أنّ العقل الأرسطي راجع القاموس المحيط فكتب المقولات، لا أنّه راجع العالم الخارجي ثمّ دوّنها، إذ حتّى الساعة لم يستطع أحدٌ تحديد الميزان الذي توصّل أرسطو – عبره – إلى تعيين المقولات بهذه التي قدّمها منطقه، حتّى قيل – كما هو الرأي السائد عند الفلاسفة الذين يُحسنون الظنّ بالفلسفة – : إنّها بُنيت على استقراء من الخارج، فيما نظنّ قيامها على استقراء من اللغة، فحيث وجدوا فيها التقمّص والتعمّم والتختّم و.. وضعوا مقولةً أخرى أسموها مقولة الجدة. ولعلّه لو لم تختزن اللغة مثل هذه الأوضاع والتراكيب اللغوية لما كان هناك معنى لهذه المقولة.
الملكيّة الاعتبارية، تحليل البُنية والحقيقة
وهي تملّك الإنسان للأموال الخارجية تملّكاً اعتباريّاً، من هنا، ذكر السيّد الأستاذ الخوئي([8]) أمرين: أحدهما البرهنة على أنّ هذه الملكية ليست أمراً واقعياً، بل اعتباريّ جعلي، وثانيهما كون هذا الأمر الجعلي مجعولٌ بالاستقلال، لا منتزع عمّا هو مجعولٌ في نفسه.
أ – أمّا الأمر الأوّل، وهو أنّ الملكية في المقام من الأمور الاعتبارية لا الواقعية أو الخارجية، فيمكن أن يقال: إنّه مجرّد بحثٍ تاريخيّ لا واقعي حقيقي؛ إذ من يعيش قصّة الملكية وتاريخها واطّرادها في المجتمعات البشرية والعملية التقنينية والتشريعية في مختلف أدوار التاريخ وحقبه، قد يستغرب وجودَ جماعةٍ من المحقّقين الباحثين عن طبيعة الملكيّة، وهل أنّها من الأمور الواقعية أو القياسيّة الاعتبارية! فإنّ الواقع المعاش – تاريخياً وارتكازياً وحضورياً – في المجتمعات البشرية إذا لم يكن في الكشف عن حقيقة هذه الملكية وأنها من الأمور الاعتبارية وتغيّرها من يوم لآخر، واضحاً جليّاً، فالبراهين المقولية في فلسفة أرسطو لا تكفي لإثبات هذا الأمر، فإن أراد هؤلاء المحقّقون البرهنة على اعتباريّة هذه الملكية المعاشة وتقنينيّتها وعدم كونها أمراً واقعياً، ولا من مقولات الكمّ أو الكيف أو غيرها، فهذا مسلكٌ لا يمكن اتّباعه واختيار سبيل البراهين إذا لم يكفنا واقعنا المعاش لفهمه ووعيه.
وإن أرادوا البرهنة على عدم وجود ملكيّة وراء هذه الملكية المعاشة، يحتمل أن تكون واقعيّةً حقيقية ثابتة بأسباب واقعية، فإنّ ذلك مما لا سبيل إلى بلوغه أو نيله؛ إذ تمام البراهين في المقام قاصرة، لكنّنا سنحاول هنا تلخيص هذا البرهان المتصوّر لتحليله ودرسه.
براهين المحققين على اعتباريّة الملكيّة، تعليقات نقدية
وقد ذكروا هنا على عدم واقعيّة الملكية وإثبات اعتباريّتها، براهين ثلاثة:
البرهان الأوّل: يذهب السيّد الأستاذ الخوئي والمحقّق الإصفهاني إلى أنّ الملكية اعتباريّةٌ؛ كونها لا تحتاج إلى موضوع، مع أنّ الأعراض الحقيقيّة تحتاج إليه بحسب الواقع الخارجي، فالملكية لا تحتاج إلى موضوع بحسب الخارج؛ ذلك أنّكم:
أ – إن فرضتم أنّ الموضوع هو المال المملوك، والملكية هي العَرَض، فنفرض الكلام في الكلّي الذمّي؛ فإنّ الملكية كما تتعلّق بالأعيان الخارجية، تتعلّق بالكلّي الذمّي، والكلّي هذا ليس أمراً موجوداً بحسب الخارج كما في بيع السلف وبيع مَنّ مِِنَ الحنطة في ذمّته، فالكلّي الذمّي موضوعٌ للمالية، مع أنّه لا خارجيّة له.
ب – وإن فرضتم أنّ الموضوع عبارةٌ عن المالك، فتكون الملكيّة عرضاً قائماً بالمالك، فيكون الكلام في ملكية الجهة أو ما يسمّى اليوم بالشخصيات المعنوية، والعناوين الكليّة، كالفقير، فهنا قد يفرض الفقير مالكاً مع عدم وجوده في الخارج بمعنى إسلامي صحيح؛ فتفرد له حصّةٌ من الضرائب الإسلامية، وعليه يلزم بقاء العرض بلا موضوع، فعدم احتياج الملكية إلى موضوع خارجي دليلٌ على أنّها أثرٌ اعتباريّ لا أمراً واقعياً([9]).
إلا أنّ هذا الكلام من هؤلاء الأعلام غير صحيح؛ وذلك:
أوّلاً: إنّ هذا الكلام في شقّه الأوّل لو صحّ يُثبت عدم كونّ الملكية من الأعراض الخارجية، على حدّ عرضية الكيف والكم، دون أن يبطل أصل واقعيتها، في مقابل اعتباريّتها، كما هو محلّ الكلام، فإنّ كونها أمراً واقعياً لا ينافي عدم احتياجها إلى موضوع خارجي، إذ كثيراً ما لا تحتاج الأمور الواقعية إلى موضوعٍ خارجي، فإمكان الإنسان أمرٌ واقعي غير مجعولٍ بقانونٍ من القوانين؛ فالإنسان ممكن بقطع النظر عن أيّ اعتبار أو جعل.
وقد بيّنّا في مباحث علم الأصول مفصّلاً أنّ لوح الواقع أوسعُ من لوح التشريع، فهناك الكثير من الأمور الواقعية التي انصبّت عليها مقولات أرسطو خارجةٌ عن نطاق المنطق الوجودي، وعليه فمجرّد كون الملكية غير محتاجة إلى موضوعٍ خارجيّ، لا يُبرهن على كونها أمراً اعتباريّاً، بل يمكن – مع هذا – أن تكون أمراً واقعياً كإمكان الإنسان، وكالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته.
ثانياً: لو سلّمنا أنه حينما تتعلّق الملكيّة بالكلّي الذمّي لا تحتاج إلى موضوع خارجي، فتكون أمراً اعتبارياً، لا مقولياً، كما بدا في الشقّ الثاني لكلمات الأعلام، إلاّ أنها حينما تتعلّق بعينٍ خارجية تكون أمراً حقيقياً ومقولياً، مع كون المفهوم واحداً في المقام، لكن يختلف حال هذا المفهوم باعتبار اختلاف الظرف والوعاء، من حيث كونه حقيقياً أو اعتبارياً.
وهذا المطلب ممّا يعترف به الفلاسفة أنفسهم في مقولة الإضافة؛ فإنّ الإضافة كما تعرُض على الموجودات الخارجية، تعرُض – أيضاً – على الأمور الاعتبارية، فيكون هناك مفهومٌ واحد بعينه يعرُض على الأمور الخارجية تارةً، وعلى الأمور الاعتبارية أخرى، فحينما يعرض على الأمور الخارجية يسمّيه أرسطو وابن سينا مقولة الإضافة، أمّا حينما يعرض على الأمور الاعتبارية يقولون عنه: إنّه أمر اعتباري بحسب ظرفه وطبيعته.
من هنا قالوا بأنّ الإضافة تختلف من حيث كونها مقولة وعدمه باختلاف وعائها وظرفها بحسب الخارج، فمثلاً التقدّم والتأخّر، تارةً يعرضان على موجودين بحسب الخارج كالإمام والمأموم في صلاة الجماعة؛ حيث يتقدّم الإمام على المأموم تقدّماً عارضاً على موجود خارجي بحسب المكان، فيكونان مفهوماً مقولياً خارجياً محتاجاً إلى موضوع خارجي، إلاّ أنّ هذين المفهومين عينهما قد يعرضان على أمور اعتبارية تحليلية؛ فلا يُحتاج حينئذٍ إلى موضوعٍ خارجي؛ فلا يكونان أمراً مقولياً، فحينما نحلّل – مثلاً – الماهيّة إلى جنس وفصل، ونقول: إنّ الجنس متقدّم على الماهية تقدّمَ الجزء على الكلّ، تلك الماهية المتصفة بذلك في وعاء تقرّرها الماهوي، إلاّ أنّ التقدّم والتأخّر هنا ليسا من المقولات الخارجية؛ وذلك لأنهما منتزعان عن عالم تحليل الماهية، وهو عالمٌ من عوالم الاعتبار والفرض والخيال، لا الحقيقة الخارجية.
إذن، فالتقدّم مفهومٌ واحد بلحاظ ظرفه ووعائه، تارةً يكون أمراً مقولياً يحتاج إلى موضوع، وأخرى لا يكون كذلك، وعليه، فليكن الأمر في المقام على هذا المنوال أيضاً، أي أنّ الملكية حينما تتعلّق بموضوعٍ خارجي تغدو أمراً مقوليّاً، وحينما لا تتعلّق به كأن تتعلّق بأمرٍ ذمّي تكون أمراً اعتبارياً صرفاً باعتباريّة ظرفها وموضوعها.
فهذا البرهان – في الحقيقة – ليس برهاناً واقعياً، نعم يمكن أن يُستخدم بياناً لذاك الأمر المعاش وجوداً وارتكازاً، إذا فرض أنّ الإنسان يغفل عنه، فيكون منبّهاً له إلى شأنٍ واقعي لا برهاناً على شيء، بحيث يثبت بقوانين الإمكان والاستحالة.
البرهان الثاني: ما ذكره الشيخ الإصفهاني من أنّ الملكية تختلف باختلاف الأنظار، فلا يحصل اتفاقٌ عليها، فكون السقف فوق ما دونه أمرٌ متّفق عليه عند الجميع، حتى عند الرأسمالي والاشتراكي والشيوعي، أمّا ملكيّة الإنسان ريع عقاره فهو أمرٌ مختلف فيه بين الاشتراكيين والرأسماليين، وكذا ملكيّته نتيجة عمله، وهكذا تختلف الأنظار الشرعية والعقلائية في تحديد هذه الملكية وتعيينها، واختلاف الأنظار في المقام يكشف عن كونها – أي الملكيّة – أمراً اعتبارياً لا حقيقيّاً([10]).
وقد اعترض على هذا البرهان السيّد الأستاذ الخوئي مدّ ظلّه، معتقداً أنّ الأمور الحقيقية تقع على قسمين: قسمٌ يكون من البديهيات التي لا تختلف فيها الأنظار، وقسم من النظريات التي يقع الاختلاف فيها، فيتناقشون في أنّ الجزء الذي لا يتجزّأ مستحيل أو ممكن؟ مع أنه أمر واقعي، ويتناقشون في أنّ المسيح(ع) مصلوبٌ أو لا؟ مع أنّ حادثة صلبه أو رفعه إلى السماء شأنٌ واقعي، فالأمور الواقعية قد يقع فيها النقاش([11]).
لكنني لا أدري كيف ارتضى السيد الخوئي تفسير كلام الشيخ الإصفهاني بإرادة عدم وقوع الخلاف في الأمور الواقعية؟! فيا ليت ذاك العالم الذي لا يقع فيه نقاش في الأمور الواقعية موجود، إذ لو وجد لكان الجنّة عينها.
إنّ الشيخ يدرك جيّداً أنّ الأمور الواقعية يقع فيها نقاش وخلاف، ولذلك كتب حاشية المكاسب لبيان الأمور الواقعية التي خفيت على الشيخ الأنصاري ، إلاّ أنّ مراده هنا من هذا الاستدلال هو الاستدلال باختلاف الأنظار الإنشائية لا الأنظار الإخبارية.
وتوضيح ذلك: أنّ الأنظار تارة تختلفُ في شيءٍ على نحو التكاذب؛ بحيث يقول الطرف الأوّل للثاني: أنت كاذب في نظري، من قبيل قصّة المسيح بالنسبة للمسيحيين والمسلمين، وهذا اختلاف مقرونٌ بالتكاذب؛ حيث يكذب كلّ منهما الآخر؛ لأنّ النظر هنا نظرٌ حكائي إنبائي.
وأخرى يكون اختلاف الأنظار في الأنظار الإنشائية لا الإخبارية، أي أنّ كلّ واحد منهما مختلفٌ مع الآخر في وجهة نظره، لكن الطرفين يسلّمان بالأمر من وجهة نظر الطرف الآخر بحسب نظره، فالمسلم حينما يُسأل عن مملوكيّة الخمر عند العقلاء، يجيب بالإيجاب، بيد أنّه يعقب ذلك بأنّ الخمر عينه غير مملوك عندنا بوصفنا مسلمين، وهكذا الاشتراكي عندما يُسأل عن ملكيّة الإنسان لريع عقاره في المجتمع الرأسمالي، فإنّه يجيبنا بالإيجاب، لكنّه – من وجهة نظره – ظلمٌ؛ إذ الأصحّ والأحسن عدم جعل الملكيّة في المقام، فهو يميّز بين نظره ونظر غيره، وهذا معناه وجود اعترافٍ ما بواقعية الملكية، وهو ما لا يمكن الالتزام به إلاّ مع فرض كون الملكيّة أمراً إنشائياً؛ إذ لو فرضت أمراً واقعياً خارجياً ثابتاً بقطع النظر عن جعل الجاعل واعتبار المعتبر فلن تكون – حينئذٍ – واقعاً نسبيّاً، قد يختلف الناس فيها لكن اختلافاً مطلقاً لا اختلافاً نسبياً، تماماً كما يختلفون في قصّة السيّد المسيح(ع)، فحيث يختلفون اختلافاً نسبياً حيث يعترف كلّ منهما بحقّية نظر الآخر نسبياً، يكشف ذلك عن أنّ الملكيّة أمرٌ إنشائي جعلي، لا أمراً واقعياً خالصاً خارج حدود هذه الأنظار.
وهذا الكلام لا بدّ أن يستعمل – أيضاً – منبّهاً لا أكثر، وإلاّ فوضوح الأنظار في نفسها، بقطع النظر عن اختلاف موضوعها في كونها إنشائية، مغنٍ عن الالتفات إلى هذه النكتة، ولو فرض أنّ الأنظار في نفسها لم تكن واضحةً في الإنشائية فلا يسلّم حينئذٍ في أنّ اختلافها اختلاف في النظر الإنشائي، فلعلّه اختلاف في النظر الإخباري، فكون هذا الاختلاف اختلافاً بحسب النظر الإنشائي فرعُ وضوحِ أن يكون كلّ نظر منهما نظراً إنشائيّاً في نفسه.
البرهان الثالث: ما ذكره المحقّق الإصفهاني([12])، وحاصله الحوالةُ على الوجدان، لكن لا الوجدان بالنحو الذي قلناه، من أنّ كلّ إنسانٍ يواجه ظاهرة الملكيّة في مجتمعه، فلينظر إليها، هل هي تشريعيّة أم أنّها أمر واقعي؟ وهي الحوالة التي اعتبرناها مغنيةً عن هذا البحث، وإنّما حوالةٌ أخرى قصدها المحقق الإصفهاني، بمعنى أن ينظر كلّ منّا إلى وجدانه إذا باع كتابَه للآخر، فهل يحدُث شيءٌ في الخارج، في الكتاب أو في المشتري أو البائع، لم يكن – أي هذا الحادث – موجوداً فيه من قبل؟
وهذه الإحالة على الوجدان مبنيّةٌ على دعوى أنّ النافذة التي يطلّ منها الإنسانُ على العالم نافذةٌ كفيلة بأن تريه كلّ ما يقع فيه، فهو قائمٌ على سعة هذه النافذة كما كان يتخيّل في العصور القديمة، أمّا بعد أن نعرف أنّ هذه النافذة ليست نافذةً إلاّ بمقدار ضئيل ممّا يقع خارجاً، فنحن ندرك الأمور الخارجية بحواسّنا، وحواسّنا لا تدرك منها إلاّ شيئاً ضئيلا جدّاً؛ لو جاء وسواسيّ وافترض الملكية أمراً خارجيّاً، لكن ممّا يدرك بحاسة البصر أو السمع.. فكيف يمكن أن يقال له: إنّ الوجدان شاهد على أنه لم يحدث شيءٌ، فلعلّه قد وقع شيء خارج نطاق النافذة التي نبلغ بها العالم الخارجي، فهذا أيضاً ليس برهاناً في المقام، فالصحيح استعراض الأمر بوصفه تاريخاً، وإلا فالأمر أوضح من أن يساق في براهين.
وبهذا ينتهي الكلام في المقدّمة الأولى التي كانت معقودةً لعلاج التقسيم العرضي والأفقي لأقسام الملكية؛ حيث إنّ ملاحظة هذه الأقسام بما هي مفاهيم متباينة يجعل التقسيم أفقياً.
التراتبيّة العمودية لأنواع الملكيّة ونشوء مقولة العهدة
وفي المقدّمة الثانية نستفيد من نتائج البحث في المقدّمة الأولى للقيام بتقسيم عمودي بدلاً عن الأفقي، فيقال: إنّ المستخلص ممّا سبق أنّ الإنسان بقابليّاته وطاقاته أوّل ملكية تتعلّق به هي ملكية الله سبحانه وتعالى بالمعنى الذي بيّنّاه، وهو المولوية، أي كون الله سبحانه وتعالى أولى بالإنسان من نفسه، فهذه هي الملكية الأولى التي تتعلّق به، ثمّ وفي طول هذه الملكية، توجد ملكيةٌ أخرى، وهي عبارة عن ملكية الإنسان لنفسه وشؤونها وأطوارها، وهذه الملكية مرجعها – في الحقيقة – إلى أنه أولى من غيره، أي أنه متى ما دار الأمر بينه وبين غيره في مقام الاستفادة من هذه النفس وقواها وشؤونها فهو أولى من غيره بذلك، وهذه الملكية إنّما جعلت في المرتبة الثانية، لا لتفرّعها عنها أو نشوئها منها، بل لأنها محكومة لنا؛ حيث إنّ الإنسان أولى من غيره بنفسه، لكن هذه المولوية تندكّ في المولويّة الأولى، التي تعيّن حقّ الله بالنسبة إلى الإنسان ومولويّته، ولأجل أنها تندكّ كذلك جعلت في المرتبة الثانية، فحاصل هذه الملكية كون الإنسان أولى من غيره بالتصرّف والاستفادة بنفسه وقواه وقابليّاته، وهذا المعنى من الملكيّة لعلّه هو الذي أصبح بعدها منشأً لمفهوم الملكية لدى سائر المجتمعات البشرية العقلائية الذي تبلور وجداناً يتمثّل في هذا الأمر الواقعي المدرك بالعقل العملي، وهذا المفهوم حينئذ جُسّد بتجسيدات اعتبارية متعدّدة ضمن التشريعات والقوانين المختلفة من مجتمعٍ لآخر في مفهوم الملكية المؤدّي إلى وقوع هذا المفهوم في صراط الجعل والاعتبار والتشريع لعلّه هو هذا الأمر الواقعي الذي هو من أوّليات العقل العملي.
وهذا المعنى من الملكية، أي كون الإنسان أولى من غيره بنفسه لا ينافي أن يكون الإنسان ممنوعاً عن بعض أنحاء التصرّف في نفسه وفي قواه وقابلياته، من قبل مولى له حقّ المنع بالنسبة إليه بقانون نافذ عليه، وهو – بحسب نظرنا – منحصر في الله سبحانه وتعالى، فمثل هذا المنع الناشئ من القانون الثابت عليه والنافذ لا ينافي كونه بحدّ نفسه مالكاً لهذا العمل بذاك المعنى من الملكية، أي هو أولى به من غيره، وإن كان في نفسه ممنوعاً عنه كالغناء، فالغناء في نفسه لا يجوز له بمقتضى قانونٍ نافذ يحجر عليه أن يستفيد من مواهبه فيه، لكن هذا لا ينافي مالكيّته لهذا العمل أيضاً باعتباره شأناً من شؤون وجوده، بهذا المعنى للملكية، أي كونه أولى به من غيره، فمتى ما دارالأمر بينه وبين غيره فهو أولى به من غيره، فالملكية محفوظةٌ أيضاً بالرغم من المنع والحظر القانوني الملزم من قبل من ينفُذ قانونه على مستوى العقل العملي، أي من ناحية حُسن العدل وقبح الظلم، فهذا الإلزام لا ينافي بقاء الملكية بذاك المعنى من الأولويّة، بل إنّه حيث كان من مدركات العقل العملي يفتح باباً جديداً من الاعتبار في الذهن العقلائي، وهو اعتبار المسؤولية والتعهّد بدخول الشيء في مسؤوليّته وعهدته.
وبهذا وُلد في الاعتبار العقلائي مفهوم المسؤولية والعهدة، ومرجع هذا المفهوم – في الحقيقة – إلى أنّ هناك اعتبارات إلزاميّة متعدّدة تُجعل موازيةً لذلك الإلزام والتحميل الواقعي، الذي ينشأ من قوانين العقل العملي، وهذه التحميلات إنما هي بالاعتبار، بينما تقع تلك التحميلات بحسب الواقع والحقيقة، فإذا فرض صدورها ممّن له الاعتبار تنفذ لا محالة، وتؤدّي إلى إلزامات حقيقيّة بقانون العقل العملي.
أمّا مَن هو الذي له الاعتبار؟ فالجواب إنّه إمّا من ينفّذ قانونه، أي المولى الحقيقي سبحانه أو هذا الشخص عينه حيث له – أيضاً – من تبعات مالكيّته نفسَه وكونه ذا حقّ في التصرّف بها، أن يحمل على نفسه إلزاماً وتعهّداً والتزاماً، بشرط أن تكون كبرياتُ هذه الإلزامات ممضاةً بقانون عامّ، فإذا كان كذلك فيكون إلزاماً لا محالة، فالتحميل والإلزام الاعتباري ينفذ إذا صدر ممّن له المولوية أو من نفس هذا الشخص، بعد فرض تماميّة الكبرى، أي كبرى إمضائية النذور أو الوعد الابتدائي كليّةً، نعم لو فرض أنّ الكبرى غير ممضاةٍ، كما هي الحال في الوعد الابتدائي فلا لزوم ولا وعد ابتدائيّ؛ لأنّ الكبرى تحتاج إلى جعل وهي غير مجعولة، أمّا لو جعلت الكبرى فحينئذ يقال: حيث إنّه مسلّط على نفسه فهو أولى بأن يدخل في عهدته هذا الإلزام فينفذ ما يحمّل نفسه بنفسه.
من هنا، يظهر في الذهن العقلائي وعاء العهدة، وكأنه وعاء يحمل هذه الإلزامات والمسؤوليات الثابتة بمدركات العقل العملي، كما يستوعب تلك الجعلية الاعتبارية الثابتة من قبل القانون، من قبيل تحميل النفقة على والديه، أو أي تحميل من قبله، على فرض إمضاء الكبرى من قبل القانون، مثل تحميله نفسَه بالنذر والشرط في ضمن عقد لازم، أو ما شابه ذلك، ممّا وقع الإمضاء القانوني لكبراه، هذا هو وعاء العهدة.
وسوف يظهر فيما بعد – إن شاء الله – أنّ هذه العهدة هي التي يعبّر عنها الفقهاء بالضمان، سواء أريد بالضمان الضمان المعاوضي أو أريد به ضمان الغرامة؛ لأنّ الضمان يستبطن – بتمام أقسامه – مسؤوليات؛ فالغرامة عبارةٌ عن عهدة إرجاع المال إلى المالك، ففي مورد الغصب تكون عهدة الغرامة وضمانها، أي مسؤوليّة الغاصب عن إرجاع المال إلى المالك، وهو ما نسمّيه: ضمان الغرامة، أمّا ضمان المعاوضة فيعني مسؤوليّة البائع عن إعطاء المبيع إلى المشتري وتسليمه بيده، كما المشتري مسؤول عن إعطاء الثمن إلى البائع، فهذه المسؤولية – أي مسؤولية التسليم والتسلّم والقبض والإقباض – نسمّيها ضمان المعاوضة، وإنّما جاءت التسمية بالضمان باعتبار النصّ، فالعهدة كأنها تتضمّن هذه الأمور، ومرجع الضمان والعهدة إلى شيء واحد في المقام.
الحقّ الشخصي في الفقه الإسلامي، نقد مستعجل لتصوّرات الفقه الغربي
وسوف يأتي إن شاء الله أنّ العهدة بهذا المعنى والمفهوم الفقهي يقابلها في الفقه الغربي – الذي سوف نتعرّض لبعض مقولاته – الحقُّ الشخصي، فإن الحقّ في الفقه الغربي يقسّم إلى قسمين: الحقّ العيني والحقّ الشخصي، وقد ادّعي أنه لا يوجد هناك مرادف للحقّ الشخصي في الفقه الإسلامي.
ونعلّق هنا – بصورةٍ مختصرة – على هذا الكلام، ويأتي تفصيل البحث فيه، ذلك أنّ المرادف للحقّ الشخصي بحسب مفهوم الفقه الإسلامي عبارة عن مفهوم العهدة، بالشكل الذي قلناه، والمستعمل في كلمات الفقهاء، فما قلناه ليس اصطلاحاً مستحدَثاً من قبلنا، غاية الأمر أنّ الفقهاء يستعملونه في موارد متعدّدة بالملاحظة والاستقراء، ممّا يستخلص منه معنى عامّ في المقام يناسب هذا المفهوم العريض.
التمييز بين مقولتي: العُهدة والملكيّة
وإلى جانب مفهوم العهدة، ثمّة وعاء اعتباريّ آخر واسمه وعاء الذمّة يأتي – إن شاء الله – بيان درجته بالتسلسل الذي سوف نستعرضه، والآن – وبعد أن اتّضح أنّ الإنسان مالكٌ لنفسه وقابلياته وأطوار وجوده بهذا المعنى من الملكية التي لا ينافي المسؤولية – بانَ أنّ العهدة بابُها مختلفٌ عن باب الملكية، أي أنّه يمكن أن يكون في العهدة شيء، لكنّه – مع هذا – يملك هذا العمل الذي في عهدته، ففي عهدة الزوج الإنفاق على زوجته، وفي عهدة الولد الإنفاق على أبيه، كما أنّ في عهدة الأب الإنفاق على أولاده، لكن ذلك لا يعني صيرورة الابن مالكاً للإنفاق على أبيه، أو مالكاً لعمله، وبهذا يظهر أنّ العهدة لا ترتبط بالملكيّة، فتقع فيها إلزامات ومسؤوليّات دون أن تطال الملكيّة في شيء، غاية الأمر يطرأ هنا نحوٌ من المسؤولية القانونية أو المسؤولية الشخصيّة بنذر أو غيره.
من هنا، يُعرف – أيضاً – أنّ التعهّد الموجود في النذر لا يجب أن يُخلط بباب الملكية والتمليك؛ ففي قوله – مثلاً – : لله عليّ أن أتصدّق بدرهم، تعهّدٌ والتزام بحسب الارتكاز العقلائي، لا التمليك، فهو لا يريد أن يملّك الله فعلاً من أفعاله، وإنّما يريد أن يتعهّد له سبحانه بالتصدّق بدرهم، فبابه باب العهدة لا باب التمليك، واللام في bللّهv لامُ الإضافة في المتعهّد له؛ حيث إنّ المتعهّد به يُضاف إلى المتعهّد له، فكما يضاف المملوك للمالك، فيقال: هذا ملكٌ لفلان، كذا يقال: هذا متعهّد به لفلان؛ فاللام هنا لام العهد لا الملك، ويترتّب على هذا التمييز بين العُهدة والملك ثمراتٌ كثيرة، تظهر أثناء البحث.
الحيازة والعمل، حلقة الانتقال من ملكيّات الذات إلى ملكيّات الأعيان
وعلى أيّة حال، فهذه هي ملكية الإنسان لنفسه وقواه وأطوار وجوده، ثمّ يأتي بعدها ملكيتُه للموجود الخارجي، والارتكاز العقلائي يساعد على أن تكون الحيازة حلقة الانتقال في المقام، فالحيازة والعمل هما حلقة الانتقال والخروج من نطاق ملكيّات الذات إلى نطاق ملكيّات الأعيان الخارجية، على أساس أنّ الإنسان إذا حاز شيئاً أو عمل فيه وعالجه، يرى الارتكاز العقلائي وكأنّ العمل انصبّ فيه فأصبح نتيجةً له، وبلحاظ صيرورته نتيجةً كذلك يظهر تقريباً نوعٌ من الاختصاص، كأنّ العمل سرى في المادّة الخارجية، ولهذا كان التملّك بالحيازة أوّل ملكية اعتبارية تثبت بحسب الارتكاز العقلائي؛ على أساس أنّ الحيازة والعمل في المقام، كأنّهما يُنتجان شيئاً خارجياً، فتحصل علقة الاختصاص عقلائيّاً.
وقلت: الحيازة أو العلاج، قاصداً بذلك الإشارة إلى أنّ أنحاء الأعمال المملّكة تختلف – بحسب الارتكازات العقلائية – من موردٍ لآخر؛ فقد يكون المملّك وضع اليد على شيء، كما في حيازة الثروات المنقولة، كحيازة الماء والحجر، وقد يكون أعمالاً أزيد من ذلك، كإحياء الأرض الميتة، أو نحو ذلك، فيختلف نحو العمل الذي يبذل في مقام التملّك بمناسبات الحكم والموضوع المركوزة في الأذهان العقلائية والممضاة شرعاً، ويختلف من نوع من العمل إلى نوع آخر، ومن نوع من الثروة إلى نوعٍ آخر، ولهذا عبّرنا بالحيازة أو العلاج.
ولا أريد بالعلاج في المقام ما جاء في تقريرات سيّدنا الأستاذ الخوئي مدّ ظلّه([13])، حين اعتبر العملَ هو الحيازة والعلاج، من قبيل أنّ الإنسان بعد أن يحوز خشباً يصنع سريراً، والسريريّة هنا صارت بالعلاج، فليس المقصود هذا؛ إذ السريرية هنا لم تُملك باعتبار العلاج، وإنّما كان السرير ملكاً باعتبار ملكية المادّة بحسب الارتكاز العقلائي، ولهذا لو أنّ شخصاً حاز الخشب، ثمّ جاء شخصٌ آخر وصنع منه سريراً بدون إذنه، كان هذا السرير ملكاً لمالك الخشب، لا لصانع السرير، فالسريريّة هنا تملك بالتبع، نعم، الذي ينبغي أن يقال: إنّ ما يملك بالعلاج، هو الأرض الميتة إذا أحييت، لا الخشب الذي حازه مالكه في المرتبة السابقة بعد تصييره سريراً.
بناء نظام الملكيّات على مقولة التوسّع العنائي العقلائي في مفهوم الحيازة
وبهذا يظهر أنّ الحيازة هي واسطة الانتقال من عالم الذات إلى عالم الخارج، ومن الممكن أن يقال – بحسب الارتكاز العقلائي – : إنّ هذه الحيازة التي هي الملك الأساس للأموال الخارجية لها نحوٌ من التوسعات بالعناية العقلائية، وهذه التوسعات هي التي توجب تعدّد أسباب الملكية في المرتبة الثانية؛ فالأسباب الثانوية للتمليك – في الواقع – يمكن أن يدّعى انتهاؤها كافّةً إلى الحيازة، فتكون النتيجة نحوُ توسعةٍ بالحيازة.
ولأجل التأكّد من مطابقة هذه الدعوى للارتكاز العقلائي، نستعرض – إجمالاً – هذه الأسباب الثانوية؛ لنرى إمكان رجوعها للحيازة بوجهٍ من الوجوه أو عدم إمكان ذلك.
أنواع التوسّع العقلائي في مفهوم الحيازة
1 – التوسّع في الحائز
فمن جملة أنحاء التوسّع بالعناية في الحيازة التوسّع في شخصية الحائز؛ وذلك بأن يُفرض غير الحائز امتداداً للحائز، كما هي الحال في ملكيّة الورثة، على ما ذكر ذلك جملةٌ من الفقهاء +، منهم المحقّق النائيني؛ فقد ذكر النائيني في بعض تحقيقاته في الإرث أنّ المناسب للارتكاز العقلائي في قانون الإرث أن يكون الوارث قائماً مقام المورّث، بمعنى كونه امتداداً لشخصيته، وكأن المالك قد مات بمرتبة منه، ولا يزال باقياً ضمن الوارث بمرتبةٍ أخرى، ولهذا يرى النائيني أنّ إضافة الملكيّة كأنّها لم تسقط، وإنّما تبدّل طرفها، فبعد أن كان الأب صار الابن([14])، مع أنّ هذا فيه نحوٌ من العناية؛ لأنّ الإضافة تتغيّر – لا محالة – بتغيّر أحد طرفيها، إلاّ أنّ المراد من هذا الكلام تحميل ما هو المركوز عقلائياً، لا تحميل المطالب الفلسفية، وبحسب الارتكاز العقلائي كأنّ الإضافة لا تزال باقيةً، غاية الأمر تبدّل طرفُها، فينظر إلى الوارث في المقام باعتباره امتداداً للمورّث، فهذا نحو من التوسّع في قانون ملكية الحيازة، وهو ما يُساعد عليه الارتكاز العقلائي، فلا يرى العقلاء الإرثَ ملكاً آخر في مقابل الحيازة، بل هو توسيع لنطاق الحائز.
2 – التوسّع في المال المُحاز
ومنها أيضاً التوسّع في نطاق المال المُحاز، لا في نطاق الحائز؛ وذلك بإسراء حكمه إلى ثمراته ونتائجه ومنابعه، فلو أنه حاز حيواناً فأولد الحيوان أو حاز أشجاراً فأثمرت فحيث تعتبر هذه الثمرة رتبةً من مراتب وجود المُحاز، ونحواً من امتداده، فتكون مملوكةً بتبع تلك الحيازة، فكأنّ مال المُحاز امتدّ وأصبح الآن أصلاً وثمرة، فلا ترى مالكيّته للثمرة مالكيّةً جديدة، بل تتّسع بعنايةٍ ارتكازية عقلائية دائرة الحيازة.
3 – الحيازة في طول الحيازة
السبب الثالث هنا هو الحيازة الواقعة في طول الحيازة؛ كيدٍ أخرى تقع على المال المُحاز، كزيدٍ يحوز ماءً ثمّ تقع يدٌ أخرى على هذا المال؛ فتوجب تملّكه.
توضيح ذلك: إنّ اليد التي مرجعها إلى الحيازة لها مقتضي عقلائي بحسب طبعها، وهو التمليك، إلاّ أنّ هذا المقتضي العقلائي الارتكازي يمنع عنه مانعٌ، وهو سبق فردٍ آخر من اليد أثّرت الأثر عينه، فهذا المال إذا فرض – في السابق – قد وقعت عليه حيازة وأثّرت تلك الحيازة في إيجاد مقتضاها، وهو إيجاد ملكيةٍ تامّة لصاحب اليد الأولى، فحينئذ لا تبقى الملكية الثانية مطلقة العنان في مقام التأثير فيما تقتضيه، بل يتولّد لها من هذه الناحية استعدادٌ لاقتضاء مطلبٍ آخر، وهو الضمان، وهذا هو ما يسمّى بضمان اليد بحسب الارتكاز العقلائي؛ فإنّ هذه اليد لولا سبقها باليد الأولى كانت تقتضي – بحسب طبعها – التمليكَ فتغدو الآن ذات اقتضاءٍ للضمان.
وعليه، ففي هذه اليد نحوان من الاستعداد: استعدادٌ لولا سبق اليد الأولى، وهو استعداد اقتضاء الملكية، واستعدادٌ بلحاظ سبق اليد الأولى، وهو استعداد الضمان، وفعليّة كلا هذين الاستعدادين منوطةٌ – بحسب الارتكاز العقلائي – بإرادة صاحب اليد الأولى، فإنّ صاحب اليد الأولى الذي مَلَكَ هذا المال يرجع إليه أمر اليد الثانية في مقام تحديدها وتقييدها والتحكّم فيها، وهنا صور:
الصورة الأولى: أن يُفرض أنه يجعل اليد الثانية يدَ استئمان، فيؤمّن هذا المال عند شخصٍ آخر، وهذه اليد حينما تُعطى من قبل الشخص الأوّل قوّةَ الاستئمان تكسب – عقلائيّاً – كلا الاستعدادين: استعداد التمليك واستعداد الضمان؛ ذلك أنّ يد الاستئمان تعدّ – في الحقيقة – يد المستئمِن عينه، ومن شؤون المستئمن وأدواته، كأنّما يد المستئمن تصبح ممتدّة ويد الأمين كأنّها يدٌ جديدة للمستأمن، ومن المعلوم أنها لا تقتضي الملكية؛ لأنها بهذا اللحاظ منظور إليها على أنها المالك الأوّل نفسه؛ فلا معنى لأن تقتضي ملكيّةً أخرى، كما أنه لا معنى لاقتضاء الضمان فيها؛ للسبب عينه، وهو اتحادها عقلائيّاً مع يد المستأمن؛ فيسقط بذلك كلا الاستعدادين، فيما إذا أعطيت صفة الاستئمان.
الصورة الثانية: أن لا يُفرض أنّ اليد الأولى أعطت صفة الاستئمان، بل كانت اليد الثانية يد عدوان، فهنا تؤثّر هذه اليد في الضمان دون الملكية، أمّا التأثير في الضمان فبلحاظ سبق اليد الأولى، وأمّا عدم التأثير في الملكية فباعتبار تحكيم نظر اليد الأولى في كيفيّة تحديد اقتضاء تمليك اليد الثانية.
الصورة الثالثة: أن يُفرض أنّ صاحب اليد الأولى يرفع المانع من إطلاق عنان اليد الثانية في اقتضاء التمليك، أي أنّه يُمضي اليد الثانية، بما هي تسليط وتسلّط كامل على هذا المال، أو يرضى بتأثير اليد الثانية في التملّك، وفي هذه الصورة تندرج حالات ثلاث هي:
الحالة الأولى: أن يرضى بذلك مجّاناً، فإذا كان كذلك فتكون هبة، فتؤثّر اليد في الملكية دون الضمان، أمّا أنها تؤثّر في الملكية فلأنها بطبعها تقتضي ذلك، وأمّا أنها لا تقتضي الضمان فلأنّ صاحب اليد الأولى رفع يده عن حقّه، ومن الغريب جدّاً أن يكون هذا هو مرجع القبض في الارتكاز العقلائي.
الحالة الثانية: أن يُفرض أنّ المالك الأوّل يرضى بذلك لكن لا مجّاناً، بل على وجه الضمان؛ فيقول: لا بأس بأن تؤثّر هذه اليد في الملكية لكن مع هذا أنا لا أرفع يدي عن حقّي رأساً، بل تؤثّر هذه اليد في كلا المقتضيين في عرضٍ واحد، في الملكية وفي الضمان معاً، يعني يأذن في أن تؤثّر هذه اليد في الملكيّة نوعاً مع التحفّظ على الضمان لا مطلقاً ومجّاناً، وهذا بحسب الحقيقة هو مرجع القرض بحسب الارتكاز العقلائي.
توضيح ذلك: إنّ الضمان في باب القرض ضمانٌ لليد وضمان للغرامة لا ضمان المعاوضة، فهذا المستقرِض إنّما يضمن وتشتغل ذمّته على أساس أنه وضع يده على مال الغير، فإن قيل: إنّ لازم ضمان اليد وضمان الغرامة أن يضمن وتشتغل ذمّته حين تلف المال، أمّا هذا فتشتغل ذمّته بمجرّد أن يضع يده على المال، يقال بأنّ التلف على المالك تحقّق بخروجه من حكمه، والمفروض أنّ هذه اليد أثّرت في إخراجه عن ملكه بإذنه إذناً مشروطاً بالضمان، إذاً فالتلف تحقّق بنفس وضع يده عليه، فلا محالة تشتغل ذمّته بمجرّد وضع اليد، فبمجرّد وضع يده عليه يتحقّق أثران طوليان: الأوّل تملّك المتعرّض له باليد وبالحيازة، والثاني في طوله وهو الضمان؛ لأنّه أتلف المال على المالك بلا إذنٍ من المالك في المجّانية، إذاً فيكون ضامناً؛ فتشتغل ذمّته.
وهذا هو المعنى التحقيقي التحليلي للقرض بحسب الارتكاز العقلائي؛ ولهذا نرى القرضَ متقوّماً بالقبض، فبدون القبض لا يكون هناك قرض، وتقوّم القرض بالقبض أوضح من تقوّم الهيئة بالقبض بحسب الارتكاز.
الحالة الثالثة: وهي عين الحالة الثانية، بأن يفرض في المقام أنّ صاحب اليد الأولى يأذن في أن تؤثّر اليد الثانية في التمليك، لكن مع التحفّظ على الضمان، غاية الأمر فرقها عن الحالة الثانية، أنه في الثانية كان يأذن بالتمليك مع التحفّظ على الضمان بقولٍ مطلق، أمّا في هذه الحالة فيأذن به مع التحفّظ على الضمان بعينٍ خاصّة، بحيث يشخّص ما به الضمان، وذلك كما في المعاطاة، فالمعاطاة قد لا يُنشأ بها البيع وإنّما تقع لمجرّد التسليط خارجاً؛ ولهذا قال جملة من الفقهاء بأنّ المعاطاة ليست بيعاً، ووقع في هذا كلام مفصّل من قبل المتأخّرين؛ حيث أوردوا أنّها كيف لا تكون بيعاً مع أنّ فيها تمليك وتملّك([15])؟!
ففي ضوء كلمات الفقهاء المتقدّمين يمكن أن يقال: إنّ المعاطاة على نحوين: فتارةً يُنشأ بها التمليك والتملّك بحيث تكون فعلاً أداةً للإنشاء عوضاً عن اللفظ، فتكون بيعاً بلا إشكال، وأخرى يكون حالها حالَ القرض، أي تسليطٌ من هذا للآخر بالنحو الذي يجعل المال تحت يد المقترض، فكأنّ كلاًّ منهما مقترضٌ من الآخر، غاية الأمر يتعيّن في المعاطاة الضمان في الطرف الآخر، أمّا في القرض فيقع ما به الضمان مطلقاً.
إعادة فهم حقائق المعاملات على ضوء تحليل شبكة الملكيّات
الحيازة – كما قلنا – همزة الوصل بين الملكيّات الثابتة بلحاظ الذات، والملكيّات الثابتة بلحاظ الخارج عن الذات، وتبيّن أنّ في طول الحيازة ملكيّات أخرى متفرّعة عليها، تنتهي إليها، وقد استعرضنا فيما تقدّم سبب هذه الملكيّات الثانوية المتفرّعة على الحيازة، والمنتهية إليها؛ قاصدين بذلك التفتيش عن نكات عقلائية اقتضت التوسّع العنائي بالحيازة، بحيث بات يُرى أنّ تلك الملكيات كأنّها ملكياتٌ بالحيازة أيضاً.
القسم الأوّل من تلك الملكيات هو ما يحصل بالإرث، أمّا القسم الثاني فهو التوسّع في مال المُحاز وذلك بلحاظ الثمرات والأشياء التي تتولّد من المال، والقسم الثالث هو ما سمّيناه باليد الثانية التي تقع على المال بعد الحيازة الأولى، وبيّنا أنّ اليد الثانية لها اقتضاءان بحسب الطبع العقلائي: أحدهما اقتضاء الملكية، وثانيهما اقتضاء الضمان:
أمّا اقتضاء الملكية، فالذي يمنع عنه كون المال مملوكاً في المرتبة السابقة لمالكٍ آخر، دون أن يرضى المالك الآخر بتأثير هذه اليد في هذا المقتضي، فإذا فرض أنه كان مملوكاً لمالكٍ سابق وهو لا يرضى في أن تؤثّر اليد في هذا المقتضي، فإنّه يشلّ بذلك تأثير اليد في اقتضائها الأوّل، أمّا لو لم يكن المال مملوكاً في المرتبة السابقة أو كان مملوكاً لكن المالك الأوّل لم يكن عنده مانعٌ بل كان راضياً في أن تؤثّر اليد في اقتضائها الأوّل فإنّها تؤثّر فيه حينئذ.
وأمّا اقتضاء الضمان، فالذي يمنع عنه أحد أمرين: إمّا أن تكون يد الغير الواقعة على المال منزّلةً منزلة اليد الأولى، فلا تكون ضامنةً، كما في فرض النيابة والتوكيل وما شابه، أو تتغاير اليدان مع رضا المالك الأوّل بتسلّط اليد الثانية على المال فيمنع – أي الرضا – بإطلاقه لا بمطلقه، أي الرضا بوقوع يد الغير على هذا المال رضاً مطلقاً غير مقيّد بأن يكون له ما يقابل ويعوّض ويتدارك، أمّا مطلق الرضا كما لو رضي بوقوع يد الغير على هذا المال لكن لا بنحو بحيث يبقى بلا إزاء، فلا يكون مؤثّراً في رفع الضمان، فالواقع في تأثير اليد في الضمان إحدى نكتتين، إمّا كون يده يد المالك بالاستنابة والتوكيل، أو الرضا المطلق لا مطلق الرضا.
تحليل بُنية عقود الاستئمان وأنواعها
وهنا تظهر صور: إحداها الاستئمان كما في الوديعة؛ لأنّها – في الحقيقة – استنابةٌ في الحفظ وتوكيل، فترجع إلى ما قلناه من مسألة امتداد اليد الأولى في الثانية، فلا ضمان، ويعبّر عن الوديعة في كلمات الفقهاء بالأمانة بالمعنى الأخصّ، في مقابل الأمانة بالمعنى الأعمّ المراد بها ما يشمل العارية والعين المستأجرة و.. أي مطلق موارد رضا المالك بالتسلّط على المال من قبل الغير.
نعم لا ضمان في الجميع لكن الأمر في الوديعة يحتلف منطلقه؛ إذ يرجع الأمر فيها إلى أنّ يد المودَع عنده يد المودِع، أمّا في غيرها فإن ادّعينا – بالملازمة العرفية – أنّ عقد الوديعة مستبطنٌ في تلك العقود فيرجع إليه، وإلاّ – كما هو الظاهر تقريباً من الفقهاء ولو من خلال سكوتهم – فلا استنابة في الحفظ، غاية الأمر هناك تسليط ورضا من قبل المالك بوقوع يد المستأجر على العين المستأجرة، ويد المستعير على العين المستعارة، وهذا الرضا إن كان رضاً مطلقاً فيكون موجباً لتحقّق النكتة الثانية الموجبة لخروج اليد عن اقتضاء الضمان.
وبهذا يظهر أنّ المنشأ في الوديعة يوجب بنفسه ما يرفع اقتضاء الضمان، أمّا المنشأ في غير الوديعة من عقود الأمانات فهو يوجب ذلك أيضاً لكن بإطلاقه لا بنفسه؛ لأنّ المنشأ فيه هو التسلّط والرضا، وبمطلقهما يغدو موجباً لذلك، لا بصرف وجودهما ولو مقيّداً بأن لا يكون على وجه الضمان، ولهذا اتفق الفقهاء في الوديعة على بطلان جعل الضمان، أمّا في غيرها من عقود الاستئمان فاختلفوا في ذلك.
قد يقال: إنّ الفقهاء إن كانوا يرون أنّ اشتراط الضمان جائز؛ بمقتضى أنّ المؤمنين عند شروطهم، إذاً فكلاهما جائز، وإن لم يكن جائزاً، ففي كليهما كذلك، فكيف اتّفقوا في الوديعة على عدم الجواز واختلفوا في موارد الاستعمال الأخرى في الجواز وعدمه؟!
والجواب: ليس نظر المتفقين هنا والمختلفين هناك إلى الضمان المجعول بالشرط، (والمشهور – كما في العروة الوثقى([16]) – عدم النفوذ والصحيح هو النفوذ) حتّى يقال: إنّ دليل وجوب الشرط نسبته إلى تمام هذه العقود واحدة، وإنّما ينظرون إلى مسألة ضمان اليد، حيث إنّ المنشأ في عقد الوديعة بذاته يسلخ اليد عن اقتضاء الضمان، أمّا في غيرها من عقود الاستئمان فبإطلاقه يوجب ذلك لا بذاته؛ مما يجعله قابلاً للتقييد لا محالة، فلو تحفّظ المالك على الضمان في باب الوديعة لكان هذا خلاف المُنشأ فيها، أمّا لو تحفّظ عليه في غيرها فيكون مخالفاً لإطلاق العقد لا لنفسه، من هنا، كان هذا التحفّظ غير معقول فيها بالاتفاق، فيما وقع كلامٌ في صحّته في غيرها من عقود الاستئمان.
أمّا ثاني تلك الصور، فهي أن يفرض أنّ المالك يسجّل عدم رضاه، وبذلك ينسلخ تأثير اليد في الملكية رأساً، واقتضائها الملكية منوطٌ برحمة المالك الأوّل، وحيث لم يأذن بإنفاذ هذا الاقتضاء فإنّه يتعطّل، أمّا اقتضاء اليد في الضمان فيبقى على حاله.
تحليل حقيقة الهبة وشرطيّة القبض فيها
وأمّا ثالث الصور، فهو فرض إرادة المالك الجمع بين كلا المقتضيين، لكن على شرط التأثير في الضمان، وإلاّ فهو لا يرضى بالتمليك المجاني، أمّا لو رضي بالمجانيّة فيوجب ذلك انتقال المال إلى الموهوب له بمقتضى اليد والحيازة بلا ضمان، أمّا أصل الملكية فلأنّ المقتضي موجود والمانع مفقود، أمّا المقتضي فهو الحيازة، وأمّا المانع فهو عدم رضا المالك وهذا مفقود، وأمّا الضمان فلا موجب له، بعد فرض أنّ المالك قد رضي بالمجانية، فينتقل الملك بلا ضمان، وهذه هي حقيقة الهبة عقلائيّاً، ولهذا كانت متقوّمةً – بحسب الارتكاز العقلائي والشرعي معاً – بالقبض، فلا هبة بدون قبض، كما جاء في النصوص([17])؛ حيث كان التملّك المجّاني بالحيازة، وتقوّمت الحيازة بالقبض.
وهذا بخلاف ما إذا فرضنا أنّ التمليك المجاني لا يرجع إلى التملّك بالحيازة بهذا التحليل الذي قلنا، وأنّه نحو سلطةٍ للمالك على ما له، فالمالك ينشئ هذا التمليك ابتداءً، لا أنّ باب الهبة يرجع إلى التملّك بالحيازة، غاية الأمر بإذن من المالك الأوّل، فلو فرض أنّ الأمر كان كذلك فتكون شرطية القبض تعبّديةً، لا على مقتضى القاعدة.
وممّا يؤيّد قواعديّة شرطية القبض هنا عقلائيّاً، وأنّ التملّك المجاني في باب الهبة إنّما هو بملاك الحيازة كما بيّنا، أنّ الارتكاز العقلائي لا يقبل الهبة بالنسبة إلى أموال لا تُملك بالقبض ولا بالحيازة، كهبة الأعمال وهبة الكلّي في الذمّة، إذ لا تصحّ هبة العمل، مع صحّة التملّك المعاوضي للعمل والذمّة.
وقد يقال: حيث إنّ مرجع الهبة إلى التملّك بالحيازة، فيختصّ التمليك المجّاني بخصوص ما يمكن تملّكه بالحيازة، وإنّما هو الأموال الخارجية؛ ولهذا تختصّ الهبة بها لا تتعدّاها إلى غيرها.
وعليه، فتأثير هذه اليد في الملكية مجاناً، يقع ضمن حدود رضا المالك؛ فقد يرضى المالك في التأثير على مستوى تمام العين وشؤونها فتكون بتمامها ملكاً، وهذا ما يحصل في الهبة، وقد يرضى بمقدار المنفعة خاصّة دون العين، وهذا ما يحقّق العارية، فهذه اليد في اقتضائها الثبوتي تتبعّض وتتنجّز بمقدار إرادة المالك.
ويشبه ذلك ما يُقال في قاعدة اليد، إحدى القواعد الأماريّة؛ أليست تتبعّض في مقام كشفها عن ثبوت مقتضاها أيضاً؛ إذ تقتضي – أوّلاً وبالذات – كون هذا المال بتمام المراتب ملكاً لصاحب اليد، فلو اعترف صاحبُ اليد بأنّ الكتاب ليس له ظلّت القاعدة مثبتةً لغير هذه الملكيّة، بل هذه التجزءة يمكن تصوّرها – حقيقةً – في اليد الأولى أيضاً فضلاً عن الثانية؛ فإنّ من يحوز قد يفرض أنّ الحيازة تكون مقصودةً بنحوٍ بحيث توجد هذا النحو من التجزءة، فمن حفر بئراً في الطريق لأجل أن ينتفع به أو يشرب منه المستطرق، فلا يبعد أن يقال: إنّه بهذه الحيازة يوجِد له نحواً من ملكٍ أو حقّ، كما يوجد نحو حقٍّ للمستطرقين؛ فهذا الحائر يضيّق دائرة ملكيّته تبعاً للقصد من الحيازة، فيجعل لنفسه شريكاً معه في هذه البئر.
حقيقة القرض وتقوّمه بالقبض
أمّا رابع الصور، فيريد المالك فيها الجمع بين اقتضاء الضمان واقتضاء الملكية، فتؤثّر اليد في كلا المقتضيين، أي التمليك على وجه الضمان، وهذه هي حقيقة القرض، ولهذا قلنا: إنّ القرض متقوّم بالقبض، فلا قرض قبل القبض؛ لأنّ تملّك المقترض إنّما كان بالحيازة لا بإنشاءٍ معامليّ لفظي من قِبَل المقترض، غاية الأمر أنّ هذه الحيازة أذن لها التأثير المقرون بالضمان، وهذا الضمان – بناءً على هذا التحليل – عبارة عن ضمان اليد الذي يسمّيه الفقهاء ضمانَ الغرامة، لا ضماناً منشأ مجعولاً من قبل المقرِض نفسه.
ووجه كون هذا الضمان ضمانَ الغرامة – على ما بيّناه أيضاً – أنّ هذه اليد تخرج المال عن كونه مالاً له، فيكون قد تلف عليه، فتشتغل ذمّة المقترض بالبدل بمجرّد وضع يده عليه لا بتلفه خارجاً؛ لأنّ تلفه على المالك كان قد تحقّق بنفس وضع يده عليه، وإن بقي على حاله بعد ذلك، وهذا هو المعنى العلمي التحقيقي لكلام الشيخ الأعظم الأنصاري (1281هـ) حينما اعتبر القرضَ تمليكاً على وجه الضمان([18]).
وقد اعترض بعض المحقّقين على كلام الشيخ الأنصاري، ذاهباً إلى أنّ الصحيح اعتبار القرض تمليكاً مجّانيّاً مع استئمان أصل المالية، فيتركّب القرض من مجموع الوديعة والهبة([19])، وهو ما لا معنى له ما لم يرجع إلى ما قلناه؛ ذلك أنّنا نسأل عن المستأمَن؟ أهو شخص هذه المالية المحفوظة ضمن هذا المال، أي المالية المضافة إلى هذا الوجه الخارجي، أم هو المالية المضافة إلى الذمّة، أم المالية المضافة لا إلى الوجود الخارجي ولا إلى ذمّة المقترض؟
أمّا أنّ المستأمن عليه هو المالية المضافة إلى هذا الموجود الخارجي، فهذا خُلف فرض حقّ المقترض في إتلاف هذا الموجود الخارجي، فكيف يتصوّر الاستئمان مع فرض جواز الإتلاف؟!
وأمّا فرض أنّ المستأمَن عليه هو المالية المضافة إلى ذمّة المقترض، فهو صحيح، إلاّ أنّ الكلام في أنّ ذمّة المقترض قد اشتغلت بهذه المالية، ونحن نغيّر كيفية اشتغال ذمّة المقترض بها، مما يعني أنّه لابدّ من التفتيش عن سبب هذا الضمان، وليس إلاّ اليد، بالوجه الذي ذكرناه.
وأمّا فرض أنّ المستأمَن عليه هو طبيعيّ المالية بلا إضافةٍ، لا إلى الذمّة ولا إلى الخارج، فهو مفهومٌ خيالي اعتباري صرف، وليس مالاً من الأموال، حتّى يستأمَن عليه بوجهٍ من الوجوه، فالصحيح في تفسير القرض ما قلناه.
أمّا خامس الصور والحالات، فأن يكون المالك راضياً بتأثير اليد في الملكية وفي الضمان، لكن بعينٍ معيّنة، لا الضمان بالبدل الواقعي، فيوجب ذلك تصرّفاً في قاعدة اليد؛ حيث تستدعي القاعدة ضمان البدل الواقعي، فيما يمكن للمالك التفاوض مع شخصٍ آخر لتعيين البدل الواقعي في عينٍ مخصوصة، ومع اتفاقه مع الضامن على أن يكون الضمان لا بالبدل الواقعي على إطلاقه بل بهذه العين، يتعيّن الضمان بها لا محالة، وقد قلنا: إنّ المعاطاة التي لا يُقصد بها التمليك من هذا القبيل.
مسألة المعاطاة
وبهذا تنحلّ مشكلة المعاطاة التي ليس في أخذها عطاءً من قبيل بيع السقّاء، فمن يضع قربةً في مكانٍ ويضع كأساً هناك، بحيث يضع كلّ من يشرب من الماء فلساً، كيف يكون حكمه؟ وهو بحثٌ أشكل على القائلين بالمعاطاة؛ حيث لا وجود لفعلٍ خارجيّ يُنشأ به التمليك بعوض، فلا يمكن تطبيق قوانين البيع في المورد؛ لأنّ البيع يحتاج إلى إنشاء التمليك بعوض، وهو مفقودٌ هنا قولاً وفعلاً، اللهمّ إلاّ أن نُرجع هذا العمل إلى التوكيل، بأن نقول: إنّ السقّاء يقول في نفسه: كلّ من يشرب من هذا الماء فهو وكيلٌ عنّي في إيقاع المعاملة إيجاباً وقبولاً، وهو بعيدٌ جدّاً بحسب الارتكاز العقلائي.
من هنا، اضطرّ السيّد الأستاذ الخوئي مدّ ظلّه([20]) – في مقام تصوير هذه المعاملة – إلى اعتبارها إباحةً بعوض، فلا تندرج عنده في أبواب المعاملة والتمليك والتملّك، وهو – أيضاً – خلاف الارتكاز العقلائي؛ وذلك لأنّ ظاهر الارتكاز العقلائي أنّ الذي يشرب من هذا الماء ويضع مكانه فلساً يكون مالكاً له، فيكون حال هذا الماء بالنسبة إليه حال سائر أمواله، لا أنه مجرّد إباحة له في مقام التصرّف والاستعمال.
كما أنّنا لا نفهم ما معنى الإباحة المشروطة هنا؟! إذ عليه يلزم أن لا يملك السقّاء الفلس أو يملكه مشروطاً بملكه؛ فيرجع إلى باب التمليك، فيحتاج إلى القبول من قبل السقّاء نفسه، اللهمّ إلاّ أن نقول: إنّ هذا موكّل في القبول، إذاً فليكن من أوّل الأمر وكيلاً عنه في إجراء المعاملة البيعيّة إيجاباً وقبولاً، فهو ليس بأحسن حال من التوكيل الأوّل.
والمسألة كلّها قابلةٌ للحلّ على النمط الذي بيّناه؛ فالسقّاء يجعل تأثير اليد الثانية في الملكية ثابتاً على وجه الضمان، فبمجرّد أخذ الماء تشتغل الذمّة بالبدل، وهو الفلس، وهذا التطبيق الخارجي يقع موقع الرضا من السقّاء نفسه، بمقتضى ظهور الحال، فيتمّ المطلوب بلا أيّ نكتةٍ زائدة على الارتكاز أو مخالفة له.
النقل المعاوضي وتحليل حقيقة المعاوضات
من الأسباب المتفرّعة على الحيازة النقلُ المعاوضي وما يكون شبيهاً به، فمن يحوز مالاً يمكنه نقله إلى آخر بمعاوضةٍ من المعاوضات، وقد يتراءى في بادئ الأمر هنا عدّة افتراضات، لا بدّ من تمحيصها؛ للوقوف على الافتراض المطابق للارتكاز العقلائي في تفسير المعاوضة، ونأخذ البيع مثالاً لتطبيق ذلك عليه.
الافتراضات المتصوّرة في تحليل بُنية المعاوضة
1 – أيلولة مفهوم البيع إلى مقولة التملّك بالحيازة بعد الإعراض
الافتراض الأوّل: أن يقال: إنّ مرجع التملّك بالبيع إلى التملّك بالحيازة؛ ذلك أنّ الذي يحوز مالاً ويريد بيعه لآخر يرجع بيعه – بحسب الحقيقة – إلى إبراز الإعراض عن المال، وسوف نشير – في ثنايا البحث – إلى أنّ الإعراض مسقطٌ عامّ للملكيات الناشئة بالحيازة وفقاً للارتكاز العقلائي والحكم الشرعي معاً، إذاً فالإعراض بنفسه مسقطٌ لأثر الحيازة، ومعه يمكن القول برفع يد البائع عن المال استطراقاً لوضع المشتري يده عليه، ومعه فيصلح هذا المال – بعد سقوط حيازة الأوّل – لتملّكه بحيازة جديدة من طرف المشتري.
نعم، حيث لم يكن الإعراض مطلقاً وإنّما استُطرق لمصلحة المشتري، لم يجز لطرفٍ ثالثٍ اغتنام الفرصة بعد الإعراض والقيام بالحيازة؛ إذ الإعراض الاستطراقي لا يفسح المجال إلاّ للمستطرق إليه أن يمارس الحيازة طبقاً للمرتكزات العقلائيّة.
وهذا الافتراض معقولٌ ثبوتاً في تفسير المعاوضات؛ لكنّه غير مطابق للارتكاز العقلائي؛ فلا يصحّ إثباتاً، وذلك:
أوّلاً: إنّ البيع غير محتاجٍ إلى القبض بحسب الخارج؛ فإنّ المرتكز عقلائيّاً في تأثير البيع أنه يؤثّر حتّى قبل القبض والإقباض الخارجيّين، وعلى أيّ حال فلو صحّ ما يستشمّ من كلمات الفقهاء الواردة في موارد مختلفة أنّ الارتكاز العقلائي يقتضي أن يكون أفراد المعاملة تامّة بمجرّد المعاملة بلا حاجة إلى حيازة خارجية من قبل المشتري، فلا إشكال في أنّ هذا الارتكاز لا يمكن تفسيره وفقاً لهذا الافتراض؛ لأنّه يستدعي حيازة المشتري للعين، والمفروض عدمها، فقبل الحيازة والقبض يكون النقل والانتقال تامّين، ومعه فلابدّ من فرض ملاكٍ آخر لتماميّتهما.
ثانياً: إنّ هذا الافتراض لا يتمّ في بعض حالات البيع، مثل بيع العمل أو تمليكه بأجرة ممّا نسمّيه بالإجارة، وكذلك في موارد بيع الكلّي بالذمّة مثل بيع السلف، فهنا لا ملكيّة بالحيازة لكنّ الملكيّة واقعةٌ بالبيع، وعليه فلابدّ من الإقرار بعدم رجوع التمليك البيعي إلى التملّك بالحيازة، وإلاّ فلن يتصوّر فيما لا يملك بها.
2 – أيلولة مفهوم البيع إلى مقولة الحيازة البقائيّة عن الغير من قبل البائع
الافتراض الثاني: أن يقال: إنّ مرجع البيع إلى أنّ البائع يحوز – بقاءً – للمشتري لا لنفسه، وتوضيح ذلك: أنّ الحيازة – وهي من المملّكات – تارةً تقع من الشخص نفسه، فيقصد الحيازة لنفسه، وأخرى يقصدها لغيره؛ فيملك ذلك الغير المُحاز له، سواءً أكان هو الحائز نفسه أو شخصاً آخر، فالبائع يبدّل هذه الحيازة لنفسه والتي اقتضت ملكيّته للعين إلى الحيازة للمشتري، فيصبح الأخير مالكاً؛ لأنه هو المُحاز له، وهذا الافتراض يمثّل محاولةً تستهدف إرجاع الملكية المعاوضيّة إلى الحيازة، وأنّ التملّك يكون بها، غايته بهذا النحو الخاص.
ويختلف هذا الافتراض عن الافتراض السابق في أنه لا يأتي عليه الإشكال الأوّل الذي كان يأتي على الفرض الأوّل، لكنّه ما زال يواجه الإشكال الثاني؛ لأنّ جملةً من الأشياء التي تُنقل بالبيع لا تُملك بالحيازة كالعمل والكلّي في الذمّة، وبهذا يكون هذا الافتراض مخالفاً للارتكاز العقلائي.
3 – أيلولة مفهوم البيع لاستئمان الماليّة والتمليك المجّاني للخصوصية
الافتراض الثالث: ما ذكره المحقّق الإيرواني وهو عبارة عن استئمان المالية والتمليك المجّاني للخصوصية، ذلك أنّ البائع في المقام يلحظ التحفّظ على مالية مبيعه دون أن يكون له شغلٌ بماهية الثمن بما هو ثمن، فالمبيع ينحلّ – بحسب الحقيقة – إلى أمرين: مالية، وخصوصية كونه ماءً مثلاً، فالبائع لا يهتمّ بخصوصية كون المبيع ماءً؛ لأنه ليس عطشاناً، بينما المشتري هو العطشان؛ لذا يكون مستعدّاً لهبة هذه الخصوصية له، لكنّه يهتمّ بأصل المالية، فيريد حفظها ضمن الثمن؛ لأنه ينظر إلى الثمن بما هو صرف المالية، وعليه فكأنّ البائع أعطى المالية إلى الآخر بوصفها ماليّةً محفوظةً ضمن الثمن، فيسترجع ماليّة المبيع بأخذه الثمن، على أساس تمثيل الأخير لصرف الماليّة، أمّا خصوصية المبيع فيبذلها مجّاناً للمشتري، وبهذا يأتلف البيع من تحفّظٍ على أصل المالية ضمن الثمن، وبذلٍ مجاني للخصوصيّة.
إلاّ أنّ هذا الافتراض مخالفٌ للارتكاز العقلائيّ أيضاً؛ لعدّة وجوه، منها: أنّ هذه المالية التي يريد أن البائع حفظها كيف فُرض صيرورتها ضمن الثمن؛ فإنّ تحوّلها هذا يستبطن – في المرتبة السابقة – فرض بيعٍ أو معاوضة، بحيث تفسّر لنا هذه الصيرورة، ودعوى أنّ مالية الثمن – عقلائيّاً – عين مالية المبيع، على حدّ كون بدل الغرامة في باب الضمانات هو نفس العين التالفة، قياسٌ مع الفارق، على ما يتّضح في بحث الضمان والعهدة.
4 – أيلولة مفهوم البيع لاستدعاء الحيازة السلطنةَ على النقل
الافتراض الرابع: حصول النقل باعتبار أنّ المالك بالحيازة من شؤون مالكيّته هذه السلطنة على النقل، سواءً فسّرت هذه السلطنة – بحسب الارتكاز العقلائي – على أساس أنها سلطنة على إيجاد ملكيّةٍ جديدة للمشتري وإعدام ملكيّتها السابقة، أو تسليم عين الملكيّة السابقة للمشتري، فكما تُحفظ الملكيّة في الإرث فيما يتبدّل الظرف، كذلك الحال هنا حيث تُحفظ الملكيّة فيما يتبدّل المالك، فملكيّة المشتري هنا ملكيةٌ بالحيازة، على أساس سلطنة البائع على النقل المعاوضي، وهذا هو الافتراض المطابق للارتكاز العقلائي.
ويمكن الالتزام – إلى جانب هذا الفرض – بسلطنة المالك على النقل المجّاني، فترجع الهبة – كما أشرنا فيما سبق – إلى التملّك بالحيازة، وإلى عنوانٍ مستقلّ، وهو سلطنة المالك على النقل المعاوضي والمجّاني معاً، إمّا مطلقاً بحيث تكون الهبة من شؤون هذه السلطنة، وإمّا بلحاظ تمليكات مجّانية غير الهبة، من قبيل التمليك بالشرط بنحو شرط النتيجة، كما لو باع مالاً لآخر بشرط تملّك ثوبه مثلاً، فلا يدخل ذلك ضمن الهبة بحسب النظر العرفي، بل يقع مقابلها، بل هذا تمليك مجّاني.
ولعلّه من هذا القبيل المهر، وإن قال الفقهاء بأنّه مطعّم بالمعاوضة([21])، لكنّ المقصود من ذلك وجود الداعي على نحو الحيثية التعليلية لا التقييدية، فليس في البَينِ معاوضة بحسب قانون المعاملة، ولا بحسب المُنشأ فيها فالزواج ليس معاملةً أو معاوضة أو مبادلة، وإنّما هو إكرامٌ وإحسان وإنعام للمرأة من قبل الزوج، وتمليكٌ شبه مجّاني لا يُشترط فيه القبض خارجاً.
على أيّ حال، فمرجع هذه التمليكات المجانية التي لا يشترط فيها القبض خارجاً إلى سلطنةٍ من قبل المالك مجانياً كسلطنته على النقل المعاوضي.
– يتبع –
من مجلة الاجتهاد والتجديد العدد الأوّل
الهوامش
(*) مفكّر إسلامي شهيد، أشهر من أن يعرّف، فالسكوت عن تعريفه أجدى.
([6]) محمد باقر الصدر، بحوث في علم الأصول 4: 28 ـ 30، بقلم السيد محمود الهاشمي، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، إيران، الطبعة الثانية، 1417هـ .
([9]) الإصفهاني، حاشية المكاسب 5: 330 ـ 331؛ تحقيق الشيخ عباس القطيفي، نشر المحقق، إيران، الطبعة الأولى، 1418هـ؛ والخوئي، مصباح الفقاهة 2: 25 ـ 26.
([14]) النائيني، منية الطالب (حاشية المكاسب) 1: 16، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم، إيران، الطبعة الأولى، 1418هـ .
([16]) اليزدي، العروة الوثقى 5: 418 ـ 419، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، الطبعة الأولى، 1420هـ .
([18]) الشيخ مرتضى الأنصاري، المكاسب 3: 15 ـ 16، لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم، إيران، الطبعة الأولى، 1418هـ .
([19]) الميرزا علي الإيرواني، حاشية كتاب المكاسب 2: 15، تحقيق: باقر الفخار الإصفهاني، منشورات دار ذوي القربى، إيران، الطبعة الأولى، 1421هـ .
([21]) راجع ما يلوح منه هذا المعنى في كلمات الفقهاء مثل: المحقق الحلي، الرسائل التسع: 165، نشر مكتبة آية الله المرعشي النجفي، إيران، الطبعة الأولى، 1413هـ؛ والفاضل الآبي، كشف الرموز 2: 96، نشر جماعة المدرسين، إيران، الطبعة الأولى، 1410هـ؛ وفخر المحققين، إيضاح الفوائد 2: 599، الطبعة الأولى، 1388هـ؛ والشيخ الإصفهاني، حاشية المكاسب 2: 89، 90.