نقد نظريّة الفراغ القانوني في الإسلام
تحت إشراف: الشيخ ناصر مكارم الشيرازي(*)
مقدّمة
أـ إن العالم الذي نعيش فيه محكومٌ لنظام خاصّ، حيث نرى جميع ذرّاته تسير نحو غايةٍ وهدف، فهي خاضعة لهداية وتوجيه شامل. لا يشذّ عن ذلك أصغر الذرّات، ولا أكبر المجرّات والأجرام السماوية التي تمّ اكتشافها حتّى الآن، وكلّ ما في الوجود يشهد على هذه الحقيقة. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بقوله: ﴿رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ (طه: 50).
ب ـ إن الإنسان؛ بوصفه جزءاً من هذا الكون، لم يشذّ عن هذا القانون الإلهي التكويني. وحيث يتمتَّع بقوّة العقل والشعور فقد قرن الله تعالى هدايته التكوينية للإنسان بالهداية التشريعية من طريق الأنبياء^([1]).
ج ـ إن الإنسان ـ من ناحية أخرى ـ كائنٌ اجتماعي؛ إذ لديه حاجات لا يمكن تلبيتها إلا في إطار الحياة الاجتماعية، من قبيل: الحاجات المادية والعاطفية.
د ـ إن الحياة الاجتماعية لا تخلو من التعارض والتضارب بين مصالح أفراد المجتمع. يُضاف إلى ذلك أن مواصلة الحياة الاجتماعية واستمرارها بحاجة إلى توزيع الأدوار، وتقسيم المسؤوليات بين أبناء المجتمع، وتحديد الصلاحيات ومَنْ يتولّى الإدارة الاجتماعية العامّة. من هنا يحكم العقل البشري ـ من أجل استمرار الحياة ـ بضرورة وجود قانون يعمل على حلّ الخلافات بين أبناء المجتمع، ويحول دون حدوث التزاحم بينهم، وكذلك يعمل على تقسيم الوظائف الاجتماعية بين الأفراد. كما تمسّ الحاجة إلى وجود مَنْ يطبّق القانون بين الناس بشكلٍ عادل.
هـ ـ إن تاريخ الحياة الإنسانية حافلٌ بالجهود الكثيرة للوصول إلى قانونٍ يضمن تطبيق الحقوق لجميع الناس من قبل العدول. ولكنْ حيث كان الإنسان يعاني من النقص المعرفي في ما يتعلَّق بنفسه، وما يُحيط به، لم تفلح أيٌّ من تلك الجهود في الوصول إلى نتيجةٍ حاسمة، ولذلك نشاهد عل الدوام تعديلاً وإصلاحاً في القوانين الوضعية. وعليه هل يمكن القول: إن القوانين التي توصَّل إليها الإنسان في القرن الحادي والعشرين هي أكمل وأتمّ القوانين، بحيث لن تمسّ الحاجة إلى تعديلها وتغييرها وإصلاحها؟ إن المقنِّنين أنفسهم يجيبون عن هذا السؤال بالنفي، حيث يذهبون إلى الاعتقاد باستحالة الحديث عن قانونٍ نهائي حاسم وكامل، بل إن المسار الذي تسلكه عملية التقنين ـ كسائر القرارات التي يتَّخذها الإنسان في حياته ـ خاضع لاختبار الخطأ والصواب، بمعنى أن الإنسان يعيش تجربة مختلف الطرق، وبعد إدراكه الخطأ يسعى إلى إصلاحه، ليشهد حالة مخبرية تتعلَّق بالبديل، ليدرك خطأه مجدَّداً، وهكذا دواليك. وبذلك فإن الإنسان يقرّ ويعترف بعجز عقله عن التوصّل إلى قانون كامل وشامل يضمن للناس جميع حقوقهم.
وقد بعث الله نبيّه محمد بن عبد الله‘ بوصفه خاتم الأنبياء، وحاملاً لأكمل الرسالات السماوية، وأتمّ الأديان الإلهية؛ ليضع الأغلال العقائدية والآراء الباطلة عن أعناق البشر، ويفكّ القيود عن أيديهم، والسلاسل عن أرجلهم، وأن يحرِّر العقول بمساعدة الوحي، ويأخذ بيد الناس إلى أفضل وأكمل القوانين، كما قال القرآن الكريم في وصف النبيّ الأكرم‘: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ﴾ (الأعراف: 157).
ومن الناحية العقلية واضحٌ تماماً أنْ لا أحد غير الله ـ بوصفه خالق الإنسان والعالم بجميع تفاصيل وجوده وحياته ومبدئه ومعاده ـ يستطيع وضع قانونٍ كامل؛ لتنظيم حياته بما يشتمل على سعادته في الدنيا والآخرة.
وبعبارةٍ أخرى: يدرك العقل أن المقنِّن الأكمل يجب أن يتحلّى بالخصائص والصفات التالية:
1ـ أن يكون عالماً بجميع أبعاد الإنسان، وخصائصه الجَسَدية والروحية، وما يضمن له سعادته.
2ـ أن لا يكون شحيحاً في بيان ما يضمن سعادة الإنسان.
3ـ أن لا يعمل على تفضيل مصالحه الفردية والشخصية والفئوية والجماعية، وبعبارةٍ أخرى: أن يراعي العدالة بشكلٍ كامل.
ومن الواضح أن هذه الخصائص والصفات لا تتوفَّر بشكلٍ كامل إلّا في ذات الله تعالى، ولذلك فإنّه وحده المؤهَّل والقادر على وضع القوانين الثابتة والدائمة للإنسان. كما قال في القرآن الكريم: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ﴾ (يوسف: 40).
ويتمّ التعبير عن هذا الأمر أحياناً بـ «التوحيد في التشريع».
إن السؤال الهامّ الذي يفرض نفسه في هذا المجال يقول: بالالتفات إلى التحوُّل والتغيُّر المستمر الذي تشهده حياة الإنسان، والحاجات المستجدّة التي تطرأ على حياته طوال القرون والعصور، وبالالتفات إلى الأحداث الكثيرة التي تقع للإنسان، كيف يمكن للقوانين والأحكام الشرعية الثابتة والمعدودة أن تلبّي حاجات الإنسان المتغيِّرة؟
للإجابة عن هذا السؤال لا بُدَّ قبل كلّ شيء من بيان بعض المفاهيم:
1ـ تعريف الحكم، وأقسامه
إن الأحكام الشرعية هي مجموع التعاليم والقوانين والتشريعات الصادرة عن الله تعالى؛ لتنظيم حياة الإنسان المادية والمعنوية. ولها تقسيماتٌ متنوّعة. ومن تلك التقسيمات ما لا يرتبط ببحثنا الراهن؛ أما التقسيم الذي يرتبط ببحثنا فهو تقسيم الأحكام الشرعية إلى: أحكام أوّلية؛ وأحكام ثانوية؛ وأحكام حكومية.
أـ الحكم الأوّلي
إن الأحكام الأولية هي الأحكام التي يتمّ وضعها للموضوعات بغضّ النظر عن العوارض والحالات الثانوية التي تعرض على تلك الموضوعات، من قبيل: وجوب الصلاة، ووجوب الحجّ، أو طهارة ماء الكرّ، والماء الجاري، وصحّة البيع، وبطلان المعاملات الربوية.
ب ـ الحكم الثانوي
إن الأحكام الثانوية هي الأحكام التي يتمّ وضعها بسبب عروض بعض الحالات الخاصّة، من قبيل: موارد العُسْر والحَرَج والضَّرَر، أو المقدّمية التي تؤدّي إلى وجوب المقدّمة، أو التقيّة التي تغيّر بعض الأحكام. ففي مثل هذه الموارد تعمل الأحكام الثانوية على رفع الحكم الأوّلي، واستبداله بحكمٍ آخر.
فعلى سبيل المثال: قال تعالى في القرآن الكريم: ﴿فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ (البقرة: 173)، حيث رفعت هذه الآية الحكم بحرمة أكل الميتة بداعي الاضطرار.
كما قال تعالى: ﴿لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ (آل عمران: 28)، حيث يتمّ تمتين عُرى الصداقة معهم لغاياتٍ أهمّ.
ج ـ الحكم الحكومي
إن الأحكام الحكومية عبارةٌ عن القوانين الخاصّة التي يضعها الحاكم الإسلامي لتطبيق الأحكام الأولية أو الثانوية، من قبيل: الضوابط المرتبطة بالجوازات، وقيادة السيارات، والقوانين المرورية، والمؤسَّسات العسكرية، وما إلى ذلك من الأمور التي تدخل بأجمعها في إحلال النظم في المجتمع، الذي يُعتبر وجوبه من الأحكام الأوّلية في الإسلام، والتي يتمّ وضعها من قبل الحكومة تحت إشراف الحاكم الإسلامي. إن الأحكام الحكومية تأتي في سياق تطبيق الأحكام الأولية، من قبيل: ما تقدّم ذكره، أو في سياق تطبيق الأحكام الثانوية، من قبيل: تعاطي المخدِّرات (وكذلك ما يذهب إليه البعض من تعاطي جميع أنواع التدخين) المحرَّمة بحكم قاعدة لا ضرر. فالحكومة الإسلامية ـ من أجل تطبيق هذا الحكم ـ تصدر مختلف الأحكام في حقل معاقبة المهرِّبين، وكيفية التعامل معهم، ومع المدمنين. إن هذه الأحكام، التي تمثِّل مقدِّمة لتطبيق الحكم الثانوي بحرمة المخدِّرات أو الدخان، تعتبر من الأحكام الحكومية.
وعليه يجب أن لا يذهبَنَّ بنا التصوُّر إلى اعتبار الأحكام الحكومية مرادفة للأحكام الأوّلية والثانوية، وأن الحكومة الإسلامية يحقّ لها أن تضع القوانين على مزاجها ورغبتها؛ لأن الشارع المقدَّس هو الله وحده، وإنْ كان الله قد سمح لنبيِّه في بعض الموارد المحدودة بالتشريع، وإنّ الله قد أمضى هذه الموارد.
نعم، هناك من علماء أهل السنَّة مَنْ أجاز للفقيه أن يشرِّع في مورد «ما لا نصّ فيه»، واعتبروا هذا النوع من الأحكام مرادفاً للأحكام الأوّلية، وطبقاً لقاعدة التصويب يعتبرون ذلك هو حكم الله. إلاّ أن الروايات المأثورة عن أهل البيت^ قد أنكرَتْ هذا المعنى.
وعلى هذا الأساس فإن الأحكام الحكومية هي دائماً من الأحكام التطبيقية، ولا تخرج أبداً عن دائرة الأحكام الأولية والثانوية.
كما أن إقالة المسؤولين وتنصيبهم في المناصب يُعدّ من الأحكام الحكومية، وهي بأجمعها ذات صبغة تطبيقية وتنفيذية في سياق تطبيق الأحكام الأولية والثانوية.
والمسألة الجديرة بالاعتبار أن أصل اختيار الحاكم لوضع الأحكام الحكومية يُعتبر من الأحكام الأوّلية، بمعنى أن الله سبحانه وتعالى قد أذن للحاكم الإسلامي ـ من أجل تطبيق الأحكام الإلهية ـ أن يضع بعض القوانين والضوابط، طبقاً لما يراه أو ما يصل إليه من خلال الهيئة الاستشارية الخاضعة لإشرافه([2]).
2ـ القوانين الثابتة والمتغيِّرة، وتأثير الزمان والمكان
على الرغم من بحثنا المستوفي لهذا الموضوع في هذا الكتاب، ولكنّنا لا نجد بُدّاً من الإشارة هنا إلى هذه المسألة، ولو على نحو الإجمال.
لا شكَّ في وجود أحكامٍ ثابتة لا يطرأ عليها التغيّر، من قبيل: وجوب الصلاة والصوم والحجّ والجهاد وما إلى ذلك.
وهناك أحكام أخرى تتغيّر بتغيُّر واختلاف الزمان والمكان، بمعنى أن الزمان والمكان يتدخّلان في تغيير الموضوعات، وعندها يتغيَّر الحكم، تَبَعاً لتغيُّر الموضوع؛ لأن الحكم تابعٌ للموضوع دائماً. وعليه فإنْ قلنا: «الخمر حرام» فإنّ هذا الحكم يبقى ما دام موضوع الخمر باقياً، وأما إذا تحوّل الخمر إلى خَلٍّ فسوف يغدو طاهراً حلالاً. ومن البديهي أن حرمة الخمر لم تُنْسَخ أبداً، ولكنّ الموضوع قد تغيَّر.
وهكذا الأمر بالنسبة إلى تأثير الزمان والمكان في تغيير الأحكام أيضاً. فعلى سبيل المثال: كان بيع الدم وشراؤه في السابق حراماً؛ لعدم ترتُّب منفعة محلَّلة عليه يمكن أخذها بنظر الاعتبار، أما اليوم فقد ظهرت فوائد عظيمة للدم في إنقاذ أرواح الجرحى وبعض المرضى وأمثال ذلك؛ فيكون الموضوع قد تغيَّر هنا بتغيُّر الزمان، ويغدو للدم منفعةٌ محلَّلة ملحوظة، فيكون بيعه وشراؤه حينئذٍ جائزاً.
من هنا يمكن حلّ الكثير من المسائل المستحدثة في عصرنا والعصور المقبلة، من خلال الأصول والقواعد العامة الواردة في الكتاب والسنّة، بعد أخذ تغيّر الموضوعات بنظر الاعتبار.
إن المسائل المتعلِّقة بتشريح جسم الإنسان، وتطوير علم الطبّ، وكذلك زراعة الأعضاء، والمسائل المصرفيّة، وأنواع الشركات التجارية، ومؤسَّسات الضمان، والتجارات الإلكترونية، والأسفار الفضائية، وما إلى ذلك، يمكن حلُّها بأجمعها في ضوء الأصول والقواعد العامّة، وأخذ تغيُّر الموضوعات بحَسَب الزمان والمكان بنظر الاعتبار. ومن هنا لا يوجد هناك فراغٌ قانوني من هذه الناحية.
3ـ انفتاح باب الاجتهاد
في ما يتعلَّق بفتح باب الاجتهاد أو عدمه كان البحث التفصيلي محتدماً بين العلماء منذ القدم، ولا يزال. وقد أجمع فقهاء الإمامية على الاعتقاد بفتح باب الاجتهاد في جميع المسائل الفقهية. وبعبارةٍ أخرى: إن الاجتهاد في الأحكام الإسلامية لا ينحصر ببضعة أشخاص، ولا يقف عندهم، بل يمكن لجميع المجتهدين الفقهاء العالمين بقواعد الشرع أن يستنبطوا الأحكام، بل يمكن القول: إن الاستعداد الذي يملكه الفقهاء في الوقت الراهن أكثر من الفقهاء السابقين؛ لكونهم ورثوا علمهم، وأضافوا إليه علوماً من عندهم.
هذا في حين كان علماء أهل السنّة في السابق غالباً ما يذهبون إلى غلق باب الاجتهاد، حيث قالوا: إن الاجتهاد مقتصرٌ على عدد محدود من الفقهاء السابقين، ولا يحقّ لغيرهم أن يجتهد في المسائل الشرعية، بل على الجميع تقليد هذا العدد المحدود من الفقهاء الذين وقف الاجتهاد عندهم.
وأما مؤخَّراً فقد بدأ بعض علماء أهل السنّة يذهبون إلى التجرُّد من هذا الرأي، وقالوا بفتح باب الاجتهاد على جميع العلماء بالقواعد الشرعيّة، ولا سيَّما في المسائل المستحدثة التي لم يَرِدْ حكمها في كلمات الفقهاء المتقدّمين.
لقد أسهبنا في الحديث عن أدلّة ومستندات كلا الطرفين من القائلين بفتح باب الاجتهاد أو غلقه في هذا الكتاب، مع الإشارة إلى المصادر والمراجع. والشيء الوحيد الذي نهدف إليه هنا هو ذكر مقدّمة نستفيد منها في القول بعدم وجود الفراغ القانوني في الإسلام.
هل هناك فراغٌ قانوني؟
بالالتفات إلى المقدّمات السابقة ندخل الآن في صُلْب الموضوع، والإجابة عن السؤال المتقدِّم. وقبل كلّ شيء لا بُدَّ من بيان المراد من الفراغ القانوني.
إن الكلام يدور حول السؤال القائل: هل الشريعة الإسلامية ـ بالالتفات إلى خلودها وعالميّتها ـ قد استوعبت الأحكام الشرعية لجميع الموضوعات الموجودة في حياة الإنسان الفردية والاجتماعية، أم هناك موارد لم يذكر الإسلام حكمها، وهو ما يُعْرَف بـ «موارد الفراغ القانوني»؟
لقد اختلفت إجابات المذاهب الإسلامية عن هذا السؤال. وقد ذهب الكثير من علماء أهل السنّة إلى الاعتقاد بوجود الفراغ القانوني، وقالوا بأن هناك مسائل لم تَرِدْ في الكتاب والسنّة، رغم قولهم بأنها من المسائل الابتلائية.
قال الغزالي، في معرض الحديث عن هذا النوع من المسائل، التي عبَّر عنها في كتابه «المستصفى» بـ «ما لا نصّ فيه»: «اختلف الفريقان جميعاً في أنه هل في الواقعة التي لا نصّ فيها حكمٌ معيّن لله تعالى هو مطلوب المجتهد؟ فالذي ذهب إليه محقِّقو المصوِّبة أنه ليس في الواقعة التي لا نصّ فيها حكمٌ معيّن يطلب بالظنّ، بل الحكم يتبع الظنّ. وحكم الله تعالى على كلّ مجتهد ما غلب على ظنِّه. وهو المختار، وإليه ذهب القاضي [أبو بكر الباقلاني]. وذهب قومٌ من المصوِّبة إلى أن فيه حكماً معيّناً يتوجه إليه الطلب؛ إذ لا بُدَّ للطلب من مطلوبٍ. لكنْ لم يكلَّف المجتهد إصابته، فلذلك كان مصيباً وإنْ أخطأ ذلك الحكم المعيَّن الذي لم يؤمر بإصابته، بمعنى أنه أدّى ما كُلِّف، فأصاب ما عليه»([3]).
بَيْدَ أن القول بالتصويب، ووجود «ما لا نصّ فيه»، ليس مجمعاً عليه من قبل كافة علماء أهل السنّة. فها هو ابن حزم يقول في رسالته (إبطال القياس والرأي والاستحسان): «إن القول بما لا نصّ فيه غير صحيحٍ؛ لأن الدين كلَّه منصوص عليه»([4]).
من هنا، وعلى الرغم من عدم إجماع علماء أهل السنة على القول بفقدان النصّ، فإنّ هناك الكثير منهم يذهب إلى الاعتقاد بذلك، هذا أوّلاً.
وثانياً: في ما يتعلَّق بموارد فقدان النص هل هناك حكم لله أم لا؟ هناك قولان: أحدهما: ما ذهب إليه الغزالي (والكثير من الأشاعرة)، وهو القول بعدم وجود حكم لله في هذه الموارد، وأن المجتهد في هذه الموارد يعمل على طبق ظنّه (من الاستحسان والمصالح المرسلة وما إلى ذلك)، فيضع المجتهد الحكم على أساس ذلك، ثمّ يمضيه الله، وبذلك تكون عندنا في الواقع أحكام متعدِّدة بعدد آراء الفقهاء (وهذا هو التصويب الأشعري).
وثانيهما: القول بأنّ هناك لله حكماً في تلك الموارد، يسعى المجتهد إلى العثور عليه، ولكنّه إذا لم يصل إليه لا يكون مسؤولاً عنه، وتكون مسؤوليته في ما يصل إليه ظنّه (وهذا هو التصويب المعتزلي).
هذا في حين يذهب فقهاء الإمامية بشكلٍ عامّ إلى أنّه:
أوّلاً: ليست هناك مسألة من المسائل التي يحتاج إليها الإنسان إلى آخر الحياة إلاّ وجاء فيها حكم في الكتاب والسنّة، إما بشكلٍ خاصّ أو بشكلٍ عامّ. وقد استدلّ لذلك بالكتاب والسنّة، ومن ذلك:
1ـ قوله تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ (النحل: 89)، فإن هذه الآية تقتضي بعمومها أن يكون هناك حكمٌ لجميع الموارد التي يحتاج إليها الإنسان، مبيَّنٌ في القرآن الكريم، على نحوٍ خاصّ أو عامّ.
2ـ قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾ (المائدة: 3). فكيف يكون الدين الإسلامي كاملاً في حين هناك فراغٌ في بعض الموارد الابتلائية؟! ومن هنا رُوي عن الإمام الرضا× أنه قال: «ما ترك الله شيئاً تحتاج إليه الأمّة إلاّ بيّنه، فمَنْ زعم أن الله عزَّ وجلَّ لم يُكْمِل دينه فقد رَدَّ كتاب الله»([5]).
3ـ رُوي عن النبي الأكرم‘ أنه قال، في الحديث المعروف في حجّة الوداع: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، وَاللهِ، مَا مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ النَّارِ، إِلاَّ وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ. وَمَا مِنْ شَيْءٍ يُقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ، وَيُبَاعِدُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، إِلاَّ وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ»([6]). وطبقاً لهذا الحديث لم يُترك مورد إلاّ وبيَّن النبيّ الأكرم‘ حكمه في الإسلام، بشكلٍ عامّ أو بشكلٍ خاصّ.
4ـ رُوي عن الإمام الصادق× أنه قال: «إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْزَلَ فِي الْقُرْآنِ تِبْيَانَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى ـ وَاللهِ ـ مَا تَرَكَ اللهُ شَيْئاً يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعِبَادُ، حَتَّى لا يَسْتَطِيعَ عَبْدٌ يَقُولُ: لَوْ كَانَ هَذَا أُنْزِلَ فِي الْقُرْآنِ، إِلاَّ وَقَدْ أَنْزَلَهُ اللهُ فِيهِ»([7]).
5ـ ورد في الكثير من الروايات أن عند الإمام علي× كتاباً فيه جميع ما تحتاج إليه الأمّة إلى يوم القيامة، وهو بخطّ عليٍّ× وإملاء رسول الله‘([8]).
6ـ حديث الثِّقْلَيْن، المتواتر في المصادر الروائية لدى الفريقين، من الشيعة وأهل السنة، شاهدٌ آخر على هذا المدَّعى. فقد رُوي أن النبيّ الأكرم‘ قال فيه: «إني تارك فيكم الثِّقْلَين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا أبداً: كتاب الله؛ وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض»([9]).
وطبقاً لهذا الحديث يكون الرجوع إلى كتاب الله وأهل البيت^ حلاًّ لجميع الأحكام المشكلة.
وقد استلهم فقهاء الإمامية هذا الحديث، فعمدوا إلى جمع كافّة الأحاديث المرويّة عن الأئمّة من أهل البيت الأطهار بطرقٍ صحيحة، ودوّنوها في موسوعاتهم المعروفة. ومع الالتفات إلى اشتمالها على أحكام العامّ والخاص لا يرَوْن فراغاً لحكم؛ كي يلجأوا لحلِّه إلى أمور أخرى.
وبعبارةٍ ثانية: ليس هناك واقعة وقعت في الماضي، أو تقع الآن، أو ستقع في المستقبل، إلاّ ولها حكمٌ، غاية الأمر أنه في الكثير من الوقائع قد ورد هناك حكم خاص، وفي الكثير من الموارد الأخرى يُستفاد حكم الواقعة من عمومات وإطلاقات الأحكام الأولية أو الأحكام الثانوية، بحيث ليس هناك من موردٍ لا يندرج تحت واحد من النصوص الخاصّة أو العامّة (الأعمّ من الأحكام الأولية والثانوية).
وبعبارةٍ ثالثة: إن مسألة إمامة الأئمة من أهل البيت^ قد ألغَتْ السدود الماثلة أمام الفراغ القانوني بالنسبة إلى الشيعة الإمامية، وعلى فقهاء أهل السنّة أن يأخذوا أحكامهم الفقهية من روايات أهل البيت؛ بمقتضى حديث الثِّقْلَين ـ حتّى إذا لم يقرّوا بإمامتهم ـ؛ كي لا يواجهوا فراغاً قانونياً في الأحكام الإسلامية.
كم هو الفرق فارقٌ بين مدرسة أبي حنيفة، الذي كان يقول: لم يصحّ عندي من المأثور عن النبيّ الأكرم‘ سوى سبعة عشر حديثاً([10])، وبين أولئك الذين روَوْا عن الأئمة من أهل البيت^ عشرات الآلاف من الأحاديث، التي روي الآلاف منها في الحدّ الأدنى من طرق الرواة الثقات!
وثانياً: إنّ ما تقدّم ذكره تحت عنوان التصويب الأشعري يفضي بنا إلى فوضى وهرج ومرج عجيب. وقد أشار إليه أمير المؤمنين× في إحدى خطبه المروية في نهج البلاغة؛ إذ يقول: «تَرِدُ عَلَى أَحَدِهِمُ الْقَضِيَّةُ فِي حُكْمٍ مِنَ الأَحْكَامِ، فَيَحْكُمُ فِيهَا بِرَأْيِهِ، ثُمَّ تَرِدُ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ بِعَيْنِهَا عَلَى غَيْرِهِ، فَيَحْكُمُ فِيهَا بِخِلافِ قَوْلِهِ، ثُمَّ يَجْتَمِعُ الْقُضَاةُ بِذَلِكَ عِنْدَ الإِمَامِ الَّذِي اسْتَقْضَاهُمْ، فَيُصَوِّبُ آرَاءَهُمْ جَمِيعاً، وَإِلَهُهُمْ وَاحِدٌ، وَنَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ، وَكِتَابُهُمْ وَاحِدٌ، أَفَأَمَرَهُمُ اللهُ سُبْحَانَهُ بِالاخْتِلافِ فَأَطَاعُوهُ؟ أَمْ نَهَاهُمْ عَنْهُ فَعَصَوْهُ؟ أَمْ أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ دِيناً نَاقِصاً فَاسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى إِتْمَامِهِ؟ أَمْ كَانُوا شُرَكَاءَ لَهُ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا وَعَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى؟ أَمْ أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ دِيناً تَامّاً فَقَصَّرَ الرَّسُولُ‘ عَنْ تَبْلِيغِهِ وَأَدَائِهِ؟ وَاللهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ (الأنعام: 38)، وَفِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ»([11]).
سؤالٌ وجواب
قد يتساءل البعض، ويقول: كيف لا يكون في الإسلام أيّ فراغ قانوني، في حين ظهرت بمرور الأزمنة مسائل لم يتحقَّق موضوعٌ لها في السابق، فضلاً عن أن يكون لها حكمٌ، وهي الأمور التي تعرف بالمسائل المستحدثة، من قبيل: الكثير من القضايا الطبِّية (من زراعة الأعضاء، والتبرُّع بالأعضاء، والتشريح، والتلقيح الصناعي، والاستنساخ)، وفي أبواب المعاملات، من قبيل: أنواع الضمان الاجتماعي، والتجارة الإلكترونية، والحقوق المتعلِّقة بتأليف الكتب، وإنتاج الأفلام، وبراءات الاختراع ممّا يُصْطَلح عليه بالملكية المعنوية، وما يُستفاد منه في الأبحاث والمسائل المتعلِّقة بالحكم والدولة، من أساليب الديمقراطية، والانتخابات في المجالس التشريعية، ورئاسة الجمهورية، وما إلى ذلك، بل حتّى في قسم العبادات هناك مسائل تتعلَّق بالصلاة والصوم في الرحلات الفضائية والمناطق القطبية، التي لم يكن الناس يشدّون الرحال إليها إلاّ نادراً، وأصبحت اليوم من الأمور المألوفة. فهل يمكن العثور على أحكام هذه الموارد في الكتاب والسنّة؟
والجواب عن ذلك: كما تقدَّم في بحث المسائل المستحدثة في هذا الكتاب بالتفصيل، هناك أصول وقواعد معروفة في الإسلام، مستنبطة من الكتاب والسنّة ودليل العقل والإجماع. وليست هناك مسألة من المسائل المستحدثة إلاّ وتكون مشمولةً لواحدة من هذه القواعد والأصول. فالكثير من المسائل المستحدثة يمكن وضعها تحت عنوان (لزوم حفظ النظام في المجتمع الإسلامي)، الثابت بالإجماع والدليل العقلي والروايات، ويقع بعضها تحت عنوان (مقدّمة الواجب)، من قبيل: مسألة التشريح، والكثير من المسائل الطبِّية الأخرى، التي تعدّ مقدّمة لحفظ الأرواح والأنفس، الذي هو من أوجب الواجبات، ويندرج بعضها تحت عنوان (لا ضرر)، والضرورة، والاضطرار، ويقع القسم الأهمّ الآخر تحت قانون (الأهمّ والمهمّ)، وترجيح الأهمّ على المهمّ عند دوران الأمر بينهما، وهو كذلك من الأصول العقلية والنقلية الثابتة، وكذلك سائر الأمور المستحدثة التي لم يَرِدْ بشأنها نصٌّ خاصّ.
وفي ما يتعلَّق بالمسائل العبادية تكون قاعدة الميسور، أو قاعدة نفي العُسْر والحَرَج ـ ذات الدعامة العقلية والنقلية ـ، حاكمةً في الكثير من الموارد، حيث يتَّضح التكليف في مثل هذه الحالات.
هل هناك وجودٌ لـ «منطقة الفراغ»؟
قام بعض العلماء المعاصرين([12]) بوضع نظرية تحت عنوان «منطقة الفراغ»؛ للإجابة عن السؤال المتقدِّم في خصوص حقل الاقتصاد الإسلامي. وقد تمّ التعبير عن هذه النظرية في بعض الكتب بـ «المساحة المفتوحة في التشريع»، وفي بعضها الآخر بـ «المنطقة الخالية من التشريعات الثابتة، والتي لا تقبل التغيير». ويتَّضح من خلال القرائن الموجودة في مجموع كلمات صاحب هذه النظرية أن التعبير الأدقّ لهذه النظرية يجب أن يكون هو «المنطقة الخالية من التشريعات الإلزامية»([13]).
ويمكن تلخيص ما ذكره في توضيح نظريته في هذا الشأن على النحو التالي:
1ـ إن الإسلام لا يقدِّم مبادئه التشريعية في ما يتعلَّق بالحياة الاقتصادية بوصفها علاجاً موقوتاً، أو تنظيماً مرحلياً يجتازه التاريخ بعد فترةٍ من الزمن إلى شكلٍ آخر من أشكال التنظيم (كما تقول الماركسية)، وإنّما يقدِّمها باعتبارها الصورة النظرية الثابتة والخالدة الصالحة لجميع العصور.
2ـ لا بُدَّ لإعطاء الصورة هذا العموم والاستيعاب أن ينعكس تطوُّر العصور فيها ضمن عنصرٍ متحرِّك يمدّ الصورة بالقدرة على التكيّف وفقاً لظروف مختلفة. ولكي نستوعب تفصيلات هذه الفكرة يجب أن نحدِّد الجانب المتطوِّر من حياة الإنسان الاقتصادية.
3ـ هناك في الحياة الاقتصادية للإنسان نوعان من العلاقة: الأولى: علاقة الإنسان بالطبيعة أو الثروة، التي تتمثّل في أساليب إنتاجه لها، وسيطرته عليها. والثانية: علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، التي تنعكس في الحقوق والامتيازات التي يحصل عليها هذا أو ذاك.
4ـ إن الفارق بين هذين النوعين من العلاقات يكمن في أن النوع الأول من العلاقات (علاقة الإنسان بالطبيعة) متغيِّر ومتطوِّر، بمعنى أن هذه القوانين تتغيَّر، تَبَعاً لتغير إمكانية وحجم بسط الإنسان لسيطرته على الطبيعة، وإلاّ تعرَّضَتْ العدالة الاجتماعية للخطر. فعلى سبيل المثال: إذا كانت قاعدة «مَنْ أحيا أرضاً فهي له» تضمن العدالة في عصر حراثة الأرض بالفأس والمعول فإنّها قد تؤدّي إلى الظلم في عصر تطوير وسائل حراثة الأرض بالآلات التي لا يمكن أن تتوفَّر إلاّ عند الأغنياء، الأمر الذي سيسمح لبضعة أفراد بعمارة الأرض وإحيائها، وتكديس الثروة عندهم بشكلٍ لا يضمن العدالة للجميع. من هنا كان هذا النوع من العلاقات يستدعي وجود عنصرٍ متحرِّك يحول دون حدوث مثل هذا الظلم والإجحاف.
وأما النوع الثاني من العلاقات (علاقة الإنسان بسائر إخوته في الإنسانية)، التي تحدِّدها الحقوق والامتيازات والواجبات، فهي بطبيعتها تتوقَّف على وجود الإنسان ضمن جماعةٍ، فهي بذلك لا تقبل التطوّر، وتستدعي قوانين ثابتة (في مقابل النظرية الماركسية التي تقول: بأن العلاقة الحقوقية بين الناس أمرٌ عارض، وتابع لتطور علاقة الإنسان بالطبيعة). فعلى سبيل المثال: كلّ جماعة إذا حصلت على ثروةٍ إثر ارتباطها بالطبيعة ستواجه مشكلةً في كيفية التوزيع العادل لهذه الثروة، وهذه الحاجة حاجةٌ ثابتة، ولا فرق في تلبيتها ورفعها بين أن نعيش في عصر الآلة البدائية أو في عصر التطوّر الصناعي. وإن القانون الذي يتمّ وضعه لتلبية مثل هذه الحاجة ـ من قبيل: قانون توزيع الثروة على أساس العمل ـ قانونٌ عامّ صالح للتطبيق في جميع المراحل التاريخية.
5ـ إن العنصر المتحرّك الذي يحول دون حدوث الخطر من القوانين المتعلقة بالقسم الأول من العلاقات، ويضمن تطبيق العدالة، هو الذي نطلق عليه مصطلح «منطقة الفراغ»، مع ضمّ ولاية وليّ أمر المسلمين إليه. فمنطقة الفراغ تعني المنطقة الخالية من القوانين الإلزامية، ومن هنا يكون وليّ أمر المسلمين والحاكم الإسلامي مبسوط اليد، ويمكنه، على أساس مقتضيات الزمان، أن يحكم في سياق الأهداف الإسلامية العامّة (العدالة الاجتماعية) في تلك المنطقة.
وبعبارةٍ أخرى: إن منطقة الفراغ تشمل الأفعال التي يكون حكمها الشرعي الأولي هو الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة. في هذا النوع من الموارد يمكن للفقيه أو الحاكم الإسلامي ـ الذي تجب إطاعته؛ لقوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ (النساء: 59) ـ أن يحكم طبقاً لمصالح وأهداف الإسلام والقواعد العامّة بوجوب أو حرمة الشيء، الذي كان حكمه الأوّلي هو الإباحة (أي الإباحة بالمعنى الأعمّ، الذي يشمل الاستحباب والكراهة أيضاً).
6ـ إن الأفعال التي ثبت تشريعيّاً تحريمها بشكلٍ عامّ، كالرِّبا مثلاً، ليس من حقّ وليّ الأمر الأمر بها. كما أن الفعل الذي حكمت الشريعة بوجوبه، كإنفاق الزوج على زوجته، لا يمكن لوليّ الأمر المنع عنه؛ لأن طاعة أولي الأمر مفروضةٌ في الحدود التي لا تتعارض مع طاعة الله وأحكامه العامّة.
7ـ اتَّضح ممّا تقدَّم أن «منطقة الفراغ» لا تدلّ على نقصٍ في الصورة التشريعية، أو إهمالٍ من الشريعة لبعض الوقائع والأحداث، بل على العكس من ذلك، فإنها تعبّر عن استيعاب الصورة، وقدرة الشريعة على مواكبة العصور المختلفة؛ لأن الشريعة ـ كما تقدَّم أن أشرنا إلى ذلك ـ لم تترك منطقة الفراغ بالشكل الذي يعني نقصاً أو إهمالاً، وإنما حدَّدت للمنطقة أحكامها، بمنح كلّ حادثةٍ صفتها التشريعية الأصلية، مع إعطاء وليّ الأمر صلاحية منحها صفة تشريعية ثانوية حَسْب الظروف. فإحياء الفرد للأرض مثلاً عملية مباحة تشريعياً بطبيعتها، ولوليّ الأمر حقّ المنع عن ممارستها، وفقاً لمقتضيات الظروف([14]).
نقدٌ وتحليل
بغضّ النظر عن الإشكال الوارد على كلام صاحب هذه النظرية في ما يتعلق بثبات علاقة الناس فيما بينهم، وتغيُّر علاقة الإنسان بالطبيعة؛ لأن علاقات الإنسان بإخوته في الإنسانية ليست ثابتة دائماً، كما أن علاقة الإنسان بالطبيعة ليست متغيِّرة دائماً، هناك بعض الأمور التي تدعو إلى التأمّل في هذه النظرية، ومنها:
1ـ هل يفيد البيان المتقدِّم عدم وجود الأحكام غير الإلزامية في حقل العلاقات القائمة بين الناس؟ ألا يوجد في هذا الحقل أحكامٌ مستحبّة أو مكروهة؟ وهل يستحيل على العنصر المتحرِّك «منطقة الفراغ وولاية وليّ الأمر» أن يتدخّل في هذه المساحة؟
2ـ هل العنصر المتحرِّك المتقدِّم إنّما يخصّ حقل المباحات، وإنّ وليّ الأمر لا يستطيع أن يتدخّل في حقل الواجبات، سواء في حقل العلاقات مع الطبيعة أو علاقات الناس فيما بينهم، عند تزاحمها مع الأهمّ، وإبدال الحكم الإلزامي بالحرمة إلى وجوب، أو الحكم الإلزامي بالوجوب إلى حُرمة، أو تبديل الحكم الإلزامي بحكم غير إلزامي؟ فعلى سبيل المثال: ألا يمكنه في الحالة الثانية (حقل علاقة الإنسان بإخوته في الإنسانية) أن يغضّ الطرف عن الحكم الأولي «حرمة التصرُّف في مال الغير»؛ بغية إيجاد النظم في المجتمع، وتعبيد الطرق الضرورية لتسهيل حركة الناس (في حالة عدم رضا صاحب الملك بالقيمة الواقعية والسوقية لأرضه)، ويصدر الأمر بشقّ الطريق عبر أرضه؟
وأساساً ما هو الفرق بين الأحكام الإلزامية وغير الإلزامية؟ فإذا كان وليّ الأمر لا يستطيع تغيير الأحكام الإلزامية؛ بسبب معارضتها لوجوب الطاعة لله، وقاعدة (حرام محمد حرامٌ إلى يوم القيامة)، فإن الأحكام غير الإلزامية هي من أحكام الله الثابتة؛ بحكم قاعدة (حلاله حلالٌ إلى يوم القيامة)، و«إنّ الله يُحبّ أن يؤخذ برخصه كما يُحبّ أن يُؤخذ بعزائمه»([15])، وما ورد في القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ﴾ (المائدة: 87)، وقوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ﴾ (يونس: 59). فعلى سبيل المثال: إذا كان الحكم بـ «حرمة الربا» ثابتاً إلى يوم القيامة؛ بحكم قاعدة «حرام محمد حرامٌ إلى يوم القيامة»، وأنه لا ينبغي أن يتغيَّر، يجب أن يكون الحكم بـ «جواز امتلاك الأراضي بإحيائها» حكماً ثابتاً، ويجب أن لا يتغيَّر؛ طبقاً لقاعدة «حلال محمد حلالٌ إلى يوم القيامة» أيضاً.
وإذا كان بإمكان وليّ الأمر أن يرفع اليد عن الأحكام غير الإلزامية عند تزاحمها مع حكمٍ أهمّ، وعروض العنوان الثانوي (كما هو الحال بالنسبة إلى المثال المتقدِّم في «جواز إحياء الأرض»، حيث يحكم الحاكم بحرمة ذلك؛ حفاظاً على مصلحة أهمّ)، يمكنه أيضاً أن يرفع اليد عن الأحكام الإلزامية أيضاً عند فرض تزاحمها مع الأهمّ، كما صنع النبيّ الأكرم‘ في قضية سمرة بن جندب، حيث غيّر الحكم بحرمة اقتلاع الشجرة والتصرّف في مال الغير إلى الجواز والإباحة، وكما هو الحال بالنسبة إلى بعض الموارد التي ذكرها الشهيد (الصدر) نفسه في نهاية هذا البحث كأمثلةٍ لإعمال ولاية الحاكم الإسلامي، وإنْ كانت هي من زاويةٍ من الموارد التي تمّ فيها رفع اليد عن حكمٍ غير إلزامي (حيث تمَّ ـ على سبيل المثال ـ تبديل جواز «منع فضل ماءٍ وكلاء» أو جواز «بيع الثمرة قبل بدوّ صلاحها» أو «جواز إجارة الأرض» إلى الحرمة)، ولكنْ من زاوية أخرى عمد النبيّ الأكرم في بعض هذه الموارد إلى تبديل الحكم بالحرمة إلى الجواز، كما قام مثلاً في المثال الأول بتبديل حرمة تصرّف الآخرين في فضل ماءٍ وكلاء إلى جوازه.
3ـ إن ما يتمّ التعبير عنه تحت عنوان وليّ أمر المسلمين هل يفوق الولاية على تشخيص العناوين الثانوية، وعلى رأسها «تقديم الأهمّ على المهمّ»، ويفوق القدرة على إصدار الأحكام في إطار تطبيق الأحكام الأولية والثانوية؟ عندما يعمد فقيهٌ، مثل: الميرزا الشيرازي، إلى تبديل حكم إباحة التنباك بالحرمة ألا يكون قد فعل ذلك لأنه رأى الحكم بإباحته معارضاً للحكم بـ «وجوب حفظ كيان الإسلام والمسلمين»، والحكم بـ «وجوب الحفاظ على علوّ الإسلام وعزّته»، والحكم بـ «وجوب المنع من سيادة الكفّار على المسلمين»، بمعنى أنه في إطار العمل بهذه العناوين أفتى بحرمة التنباك؟ أو عندما حكم رسول الله ـ بوصفه وليّ أمر المسلمين ـ بوجوب بذل فضل ماءٍ وكلاء، ألم يكن ذلك لأنه رأى الحفاظ على كيان المسلمين قائماً على تنمية وتطوير الثروة الزراعية والحيوانية، وأن حاجة المسلمين هي التي اقتضَتْ ذلك، كما عبَّر عن ذلك السيد الشهيد الصدر نفسه، حيث قال: «لأن مجتمع المدينة كان بحاجة شديدة إلى إنماء الثروة الزراعية والحيوانية…»([16])؟
إذا كان الأمر كذلك، لن يكون هناك من معنى للتعبير بـ «الفراغ»؛ لأن وليّ الأمر في مثل هذه الحالة سيكون مبسوط اليد في إصدار الأحكام حيثما دعَتْ المصلحة إلى ذلك، طبقاً لقاعدة «تقديم الأهمّ على المهمّ»، والعمل بالحكم الثانوي المتقدِّم على الحكم الأوّلي.
4ـ اتَّضح ممّا تقدَّم أن عنصر «منطقة الفراغ» لم تقدِّم للشريعة الاستيعاب والشمول، وإنما الذي يؤدّي إلى شمولية الشريعة واستيعابيّتها هو ذلك الإذن الممنوح للحاكم الإسلامي من قبل العقل والشرع في الاستفادة من العناوين الثانوية ـ من قبيل: قاعدة الأهمّ والمهم ـ؛ لرفع المشاكل الفردية والاجتماعية، وكسر السدود والحواجز التي تعيق تقدُّم المجتمع. وعلى هذا الأساس فإن الذي يقع على عاتق وليّ الأمر هو تشخيص وتحديد المصداق للعناوين الأوّلية (الأعمّ من مواد الأحكام الإلزامية وغير الإلزامية)، وتشخيص العناوين الثانوية، وعروضها وعدم عروضها على الموضوعات([17]).
الهوامش
(*) أحد كبار مراجع التقليد الشيعة اليوم، ومفسِّرٌ قرآنيّ مشهور. له أعمالٌ علميّة كثيرة. يُشار إلى أن هذا المقال نُشر في موسوعة الفقه المقارن التي يُشرف عليها.
([1]) انظر: ناصر مكارم الشيرازي، تفسير نمونه (التفسير الأمثل) 13: 219.
([2]) للمزيد من التوضيح راجع: أنوار الفقاهة، كتاب البيع 1: 536، وكتاب الأصول العامّة للفقه المقارن: 73 ـ 74.
([3]) أبو حامد الغزالي، المستصفى من علم الأصول 2: 311 (الحكم الثاني: في الاجتهاد، التصويب والتخطئة)، المكتبة العصرية، بيروت، 2012م.
([8]) ورد تفصيل هذه الروايات في مقدّمات كتاب جامع أحاديث الشيعة، الباب الرابع.
([9]) وردت مصادر هذا الحديث في كتاب (النصّ والاجتهاد) من صحيح الترمذي، وتفسير ابن كثير، وجامع الأصول، لابن الأثير، وغيرها من الكتب الأخرى.
([10]) انظر: تاريخ ابن خلدون 2: 796، الفصل السادس، علوم الحديث.
([11]) نهج البلاغة، الخطبة رقم 18. وقد أورد الشيخ الكليني في كتاب (الكافي) باباً تحت عنوان: «ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج الناس إليه إلاّ وقد جاء في كتاب أو سنّة»، وذكر في هذا الباب عشرة أحاديث، يدلّ أكثرها ـ في الحدّ الأدنى ـ على ما تقدَّم. (انظر: الكافي 1: 59).
([12]) هو الشهيد السيد محمد باقر الصدر&.
([13]) انظر: السيد الشهيد محمد باقر الصدر، اقتصادنا: 689.
([14]) انظر: المصدر السابق: 285 ـ 289.
([17]) ومن بين موارد الغموض الأخرى في نظرية السيد الشهيد الصدر حصره معادلة (منطقة الفراغ) في خصوص المسائل الاقتصادية من الإسلام فقط.