ترجمة: حيدر حب الله
المقدّمة
يفترض بأيّ أيديولوجيا أو مدرسة; كي تدعو الناس إليها، أن تأخذ بعين الاعتبار الحاجات الفطرية للبشر والمشكلات الاجتماعية التي يعيشونها، ثم تقوم بتشييد أسسها ومعالمها وفقاً لذلك، لتقدّمها للمجتمع الإنساني، قال تعالى: )فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا( (الروم:30). والسبب في ذلك أن التعامي عن حاجات الإنسان في الحياة سوف يعيق أيّ مدرسة فكرية عن النجاح في جذب الناس إليها، فأحد طرق اعتراف المجتمع تكمن في سهولة الدين، وهي مفهوم يرجع إلى فطريته وتلبيته لحاجات الإنسان، جاء في الحديث: «بعثني بالحنيفية السهلة السمحة»([1]).
من هنا، أمر الله الحكيم سبحانه ـ وهو خالق الإنسان الترابي والعارف بحاجاته أكثر من أيّ شخص آخر ـ الأنبياءَ والرسل أن يطرحوا رسالاتهم ضمن برامج تتضمّن نشر العدالة ورفع الظلم وأشكال التمييز في المجتمع، ومع الأخذ بعين الاعتبار هذا المعيار، كان الحكيم سبحانه يذكّر في القرآن الكريم نبيّه بأنّ ربّه لا يظلم عباده أبداً، وأن قيمة كل إنسان إنما هي بأعماله ونوعها، وأنه لا أفضلية ولا ترجيح لإنسان على آخر، بل معيار القرب من الله إنما هو التقوى والورع والأعمال الصالحة، لا العرق ولا القومية، وهي أمور تقع بدورها لمصلحة الإنسان; فإن التقوى مانع عن وقوع الظلم والجور والتعدّي.
وطبقاً لهذا الأساس، نرى أن تمام الأحكام الشرعية لابدّ لها أن تقوم على أساس العدالة، وهو مبدأ لا يقبل الاستثناء، وبناءً عليه، يمكن للمدارس التي ترى العدالة محوراً لها أن تطرح وتشكّك في أيّ حكم مخالف للعدالة وموافق للظلم والتمييز; والسبب في ذلك أن المعيار للأحكام كلّها من جهة الشارع إنما كان العدالة والإنصاف، ومن الواضح أن الشارع الحكيم لن يُصدر على الإطلاق حكماً ظالماً، وعندما نجد في الكتاب والسنّة حكماً مشوباً بالظلم فعلينا إعادة النظر في أسسه وفي سبيل استنباطه وطريقة استخراجه.
ومع الأخذ بعين الاعتبار هذا المبدأ، وهذا المعيار الهام في جعل الأحكام وتشريعها، نرى أن من بين هذه الأحكام التي تواجَه اليوم بشبهة التمييز وعدم العدالة والمساواة الحكمُ بعدم تساوي شهادة النساء مع الرجال، وهو عدم تساوٍ يرجع إلى المباحث المرتبطة بالدعاوى القضائية، كما يرجع إلى إثبات بعض الأحكام الشرعية، مثل رؤية الهلال، ففي بعض الدعاوى القضائية ـ مثل الحدود العرضية ـ أو بعض الأحكام الشرعية، مثل ثبوت الطلاق، رفضت شهادة النساء رفضاً كلياً وباتاً، وهو ما من شأنه أن يفجّر شبهة الظلم وعدم العدالة في الإسلام. وانطلاقاً من ملاحظة الشبهات المثارة هنا في موضوع شهادة النساء، نستهدف في هذه الدراسة معالجة هذا الموضوع على مستوى أدلّته في الكتاب والسنّة وأقوال الفقهاء، هادفين من ذلك:
أ ـ معرفة هل صدر حكم من هذا القبيل من جانب الشارع سبحانه أم لا؟ بمعنى أن الشارع الحكيم الذي يرفض التمييز والظلم في أحكامه وينفيهما، هل وضع هنا حكماً عاماً كلياً على الموضوعات الفقهية والدعاوى المحتاجة إلى شهادة الشهود فاعتبر أن قيمة شهادة امرأتين تساوي شهادة رجل واحد؟ أم أنه لا يوجد من الأساس حكم من هذا القبيل، وهو ما من شأنه رفع شبهة التمييز والظلم من جذورها، بحيث لا يعود يمكن الحديث عن مخالفة تشريعات الإسلام للعدالة في شهادة النساء؟
ب ـ إذا ثبت في بعض الحالات ـ عبر الأدلة المتقنة، والنصوص الصريحة الثابتة ـ أنّ قيمة شهادة امرأتين تساوي قيمة شهادة رجل واحد، أو ثبت أنه لم تقبل شهادة النساء من رأس، فكيف يمكن تفسير هذا الحكم الشرعي وتبريره؟
ولكي نصل إلى هذين الهدفين، أعددنا هذه الدراسة على قسمين، حيث تحدثنا في القسم الأول حول جملة موضوعات، من قبيل قيمة شهادة المرأة، والأصل العملي في الشهادات، والأدلّة العامة على عدم تساوي شهادة الرجل والمرأة، أما القسم الثاني ـ وهو ما يمثل المحور الرئيس لهذه الدراسة ـ فقد استوعبنا فيه بالبحث والتنقيب أدلّة بعض الملفات مثل شهادة النساء في الأمور المالية، ورؤية الهلال، والطلاق، والرضاع، والنكاح، والحدود (العِرْضية وغيرها) و…
ومن الضروري الإشارة هنا إلى أنّ هذه الأبحاث تقوم على دروس بحث الخارج في الفقه، والتي ألقاها سماحة آية الله العظمى الشيخ يوسف الصانعي (دام ظله) في العام الدراسي 79 ـ 80 هـ.ش/ 2000 ـ 2001 م في المدرسة الفيضية المباركة في مدينة قم، وحيث قد تلمّذت في تلك الفترة على يديه، ومع الأخذ بعين الاعتبار النظريات الجديدة التي كان الشيخ الأستاذ يطرحها حول شروط الشاهد والشهود، لا سيّما شرطية الذكورة، وانطلاقاً من حثّ الإخوة والأصدقاء في مؤسسة (فقه الثقلين)، قرّرت القيام بتنظيم هذه الدروس وتصحيحها وتقويم نصّها. ولا يفوتنا التذكير بأنّ إعادة كتابة المباحث الفقهية المليئة بالاصطلاحات والتدقيقات والتعقيدات التي يحتاج فهمها إلى التوفر على مقدّمات، والحضور في مجالس دروس الأساتذة الفخام في الحوزات العلمية ـ صانها الله عن الحدثان ـ إعادة كتابتها في قالب يمكن لغير طلاب الحوزات العلمية، مثل طلبة الجامعات والمثقفين، الاستفادة منها… إنّ ذلك كله يظلّ عملاً صعباً، لكني سعيت في هذه الأوراق ـ قدر الإمكان ـ لعرض ما يطرح على مستوى أبحاث الخارج حول شهادة النساء وما فيها من إشكاليات وأجوبة وما يتصل بذلك، بما يحقّق الهدف من ورائها.
وفي الختام، يلزمني تقديم ألوان الشكر والتقدير لوالدي المعظّم في إرشاداته التي قدّمها لي، على مستوى كيفية طرح الأبحاث والإشارة إلى نكات فقهية دقيقة.
الفصل الأوّل
قيمة شهادة المرأة
المبحث الأول: التقسيمات والمعايير
لم يحمل الفقهاء نظريةً واحدةً حول قيمة شهادة المرأة، بل كانت لديهم نظريات مختلفة، ولو اختلافاً طفيفاً، عرضوها في كتبهم وآثارهم، ويمكن تقسيم هذه النظريات على الشكل التالي:
1 ـ تقسيم شهادة المرأة بحسب الموارد: حيث تقسّم إلى موارد جنائية، وجزائية، ومسائل مالية أو ما يُقصد به المال، ورؤية الهلال، والطلاق، وما يثبت بشهادة النساء وحدهنّ، وهذا التقسيم موجود في أغلب الكتب الفقهية([2]).
2 ـ تقسيم شهادة المرأة على أساس مصاديق حق الله وحق الناس: وقد جاء هذا التقسيم في كلمات الشيخ الطوسي في المبسوط([3])، والمحقق الحلي في شرائع الإسلام([4])، وقد لاحظناه بعده في كلمات شارحي الشرائع([5]).
3 ـ تقسيم شهادة المرأة على أساس القبول بها وعدمه: وهذا النوع من التقسيم يلاحظ وجوده في كلمات الشيخ الطوسي في النهاية([6])، وسلار في المراسم([7])، وعبارة القاضي ابن البراج في المهذب([8]).
4 ـ تقسيم شهادة المرأة على أساس عدد الموارد المحتاجة إلى شهود في القضايا المختلفة: وهذا التقسيم نلاحظه عند ابن حمزة في كتاب (الوسيلة)([9]).
هذه هي الأنواع الأربعة للتقسيمات، ويمكن ذكرها تحت عنوانين مجتمعةً تحتهما وهما:
1 ـ تقسيم شهادة المرأة على أساس مصاديق الحقوق
نظراً إلى أن بحثنا سوف يقوم ـ إلى حدّ ما ـ على أساس تقسيم صاحب الشرائع، لا يخلو ذكر تقسيمه من فائدة فهو يقول: «في أقسام الحق، وهي قسمان: حقّ الله سبحانه، وحق الآدمي. والأول منه: ما لا يثبت إلا بأربعة رجال كالزنا واللواط والسحق… ويثبت الزنا خاصّة بثلاثة رجال وامرأتين، وبرجلين وأربع نساء، غير أن الأخير لا يثبت به الرجم، ويثبت به الجلد، ولا يثبت بغير ذلك. ومنه ما يثبت بشاهدين، وهو ما عدا ذلك من الجنايات الموجبة للحدود، كالسرقة وشرب الخمر والردّة. ولا يثبت شيء من حقوق الله تعالى بشاهد وامرأتين، ولا بشاهد ويمين، ولا بشهادة النساء منفردات ولو كثرن.
وأما حقوق الآدمي، فثلاثة: منها ما لا يثبت إلا بشاهدين، وهو الطلاق، والخلع، والوكالة، والوصية إليه، والنسب، ورؤية الأهلة، وفى العتق والنكاح والقصاص تردّد، أظهره ثبوته بالشاهد والمرأتين. ومنها ما يثبت بشاهدين، وشاهد وامرأتين، وشاهد ويمين، وهو الديون والأموال كالقرض والقراض والغصب… و عقود المعاوضات كالبيع، والصرف، والسلم، والصلح، والإجارات، والمساقاة، والرهن، والوصية له… والجناية التي توجب الدية… الثالث: ما يثبت بالرجال والنساء، منفردات و منضمّات، وهو الولادة والاستهلال، وعيوب النساء الباطنة، وفي قبول شهادة النساء منفردات في الرضاع خلاف، أقربه الجواز.
وتقبل شهادة امرأتين مع رجل في الديون والأموال، وشهادة امرأتين مع اليمين. ولا تقبل شهادة النساء منفردات ولو كثرن. وتقبل شهادة المرأة الواحدة في ربع ميراث المستهلّ، وفي ربع الوصية، وكل موضع تقبل فيه شهادة النساء لا تقبل بأقل من أربع»([10]).
2 ـ تقسيم شهادة المرأة على أساس أهمية الحقوق
تكرّر كثيراً في باب الشهادات كلمات من نوع: حق الله وحق الناس، وقد ذكر الفقهاء هذه المفاهيم بوصفها معايير عامة كلية، وفكّكوا بينها على مستوى الأخذ بشهادة النساء، واعتبروا أنه عندما لا يكون هناك حقّ للناس بل الحق لله وحده فإن شهادة النساء لا تكون معتبرةً، مثل حدّ اللواط والمساحقة، أما في حقوق الناس فإن شهادة النساء تكون مثل شهادة الرجال ذات قيمة واعتبار.
ومع الالتفات إلى ما ذكرناه حتى الآن، يتحدّد أن شهادة النساء لا تقبل أصلاً في بعض الحالات، أما في حالات أخرى فإنها تقبل على أن تكون شهادة المرأتين موازيةً لشهادة الرجل الواحد، وبعبارة أخرى: إن قيمة شهادة المرأة تعادل نصف قيمة شهادة الرجل، ومع الأخذ بعين الاعتبار هذا الأمر سنسعى في هذه الدراسة لرفع هذا التمييز; انطلاقاً من المناهج الفقهية المتداولة في الحوزات العلمية، بمعنى أننا نريد أن نرى ـ عبر إعادة النظر والبحث في أدلة هذه الموارد والحالات، بنظرة واعية فاحصة لهذا التمييز بين الجنسين ـ أنه يمكننا القول بعدم التمييز أو ضرورة ذكر تبرير آخر في المقام.
ومن الجدير ذكره أنه كلما وجدنا دليلاً على أن شهادة النساء على النصف من شهادة الرجال فإننا سوف نقبل به ونسلّم له ونتبعه، فنحن أتباع الدليل.
المبحث الثاني: آليات تبرير التمييز بين الجنسين في الشهادات، قراءة وتقويم 1ـ النظريات المطروحة الحدود
عرفنا من التقسيمات المذكورة أن شهادة المرأة لا تقبل أساساً ومن رأس في الكثير من موارد الحدود وقوانين العقوبات، ولكي نرفع هذا التمييز ونردّه، لابد لنا من ذكر طريقين:
أ ـ تعطيل الحدود في زمان غيبة المعصوم(ع)
يقف المحقق الحلي([11])، والعلامة الحلي([12])، على رأس الفريق الذي يعارض إقامة الحدود في عصر الغيبة، يناصرهما في نظريتهما هذه بعض الفقهاء المعاصرين الموقرين مثل الميرزا القمي([13])، والفقيه المعروف الحاج السيد أحمد الخوانساري([14]).
ب ـ جواز إجراء الحدود في عصر الغيبة
يقف الشيخ النجفي على رأس الموافقين على نظرية جواز إجراء الحدود في عصر الغيبة؛ فهو يعتقد أنّ مشهور الإمامية على أنّ الأشخاص الواجدين لشروط العدالة والاجتهاد واستنباط الفروع من المصادر الأصلية.. يمكنهم إقامة الحدود الشرعية على أولئك الذين يرتكبون جرائم تستدعي حدوداً([15]); وطبقاً لهذا المبنى في باب الحدود، لابد من شرح وإثبات أنّ عدم الأخذ بشهادة النساء مطلقاً أو القبول بها بشرط ضمّ شهادة الرجال في بعض المواضع، وأن شهادتهنّ تساوي شهادة رجل واحد… أن ذلك كله لا يلغي حقاً من حقوقهنّ، ولا يفرض تمييزاً عليهن; ذلك أنّ عدم التساوي إذا كان سببه كونهنّ نساءً فقد يغدو منطلقاً لإشكال يقول: لقد مورس على المرأة هنا ظلمٌ وتمّ تضييع حقٍّ من حقوقها.
2 ـ دراسة النظريات المطروحة وتقويمها
أ ـ قراءة في نظرية تعطيل الحدود
لن يكون هناك معنى للحديث عن قبول شهادة النساء وعدم قبولها، على النظرية الأولى القائلة بعدم جواز إقامة الحدود في زمان الغيبة، وإذا وقع هنا إشكال أمكن الجواب حينئذ: إن الإمام(ع)يعرف أكثر منّا في زمان حضوره كيف يقبل شهادة الشهود، وهو بنفسه سيجيب عن الشبهات الواردة; وعليه، فلا يمكن بأيّ وجه من الوجوه إقامة النظام الجزائي (الحدود) في زمان الغيبة، حتى نضطر إلى الجواب عن التمييز الموجود بين الرجال والنساء في مجال الشهادة، وفي شيء مشابه لهذا الموضوع يتحدّث المحقق الأردبيلي في موارد من كتاب القضاء والجهاد، ثم يؤيّده، ونشير هنا إلى مثالين منهما، حيث يقول الأردبيلي: «واعلم أن أكثر مسائل هذا الكتاب (الجهاد) إنما تقع مع حضور الإمام(ع)، إما متعلّق بنفسه أو بأصحابه، فلا يحتاج إلى العلم به وتحقيقه»([16]). ويقول في ذيل الحديث عن نصب القاضي الفاقد لصفات القضاء من جانب الإمام: «نعم، لا شك في جوازه مع الضرورة، على أنّ البحث عن هذه مستغنى عنه; لأنه فعله(ع)، وهو عالم بما يفعله، وليس لنا التصرّف فيه، والبحث عنه، وهو ظاهر»([17]).
ب ـ قراءة في نظرية إقامة الحدود
أما إذا انطلقنا من نظرية إقامة الحدود في عصر الغيبة، وأردنا أن نثبت أنه لم يقع ظلم على النساء في شهادتهنّ ولم يضع هناك حق من حقوقهنّ، فيلزمنا التدقيق في نقطتين هامتين وضروريتين، كي ندلّل على أن عدم القبول بشهادة النساء موافق ـ إلى حدّ ما ـ للاعتبار العقلي.
النقطة الأولى: إن إجراء الحدود والعقوبات من حقوق الله، ومن حق الله تعالى في حقوقه ـ وهو الشارع ـ أن يختار أيّ سبيل لإثبات حقه، وهذا الفعل من الشارع منسجم مع الاعتبار العقلي; ذلك أن الشارع بمنزلة المدّعي وصاحب الحق، والمدّعي صاحب اختيار في أن يجعل أي شخص مكلّفاً منه في استيفاء حقّه، إننا ندرك هذا الأمر بعقلنا القاصر وهو أن المدعي المشرّع يمكنه أن ينصّب أيّ شخص في استيفاء حقه، ولا يمكن إطلاقاً أن نحسب السبل التي يستخدمها المدّعون للوصول بها إلى حقوقهم ظلماً بحق الآخرين، اللهم إلا إذا تصرّفوا بحقوق غيرهم; وعليه ففي شهادات باب الحدود ليس هناك أي تصرّف في حقوق النساء حتى نقول: إنه قد مورس ظلمٌ عليهنّ في هذا المجال.
النقطة الثانية: إن مبدأ قيام الحدود على التخفيف يعدّ من المبادئ المسلّمة المتفق عليها بين الشيعة والسنّة، كما أن قاعدة الدرء([18]) التي تسقط الحدود بمجرّد عروض شبهة، تقوم على أساس: «ادرؤا الحدود بالشبهات»([19])، سيّما في الحدود التي ترجع إلى مكانة الناس وشخصياتهم وسمعتهم; ذلك أنه من الممكن في الحدود العرضية أن تُخدَش سمعة الإنسان وعرضه; وعليه فقد راعى الإسلام تمام الجهات سيما في باب الأعراض، فاهتمّ بسبل الإثبات وطرقه، حتى أنه لو أن واحداً من الشهود الأربعة في حدّ الزنا تأخر في الوصول للشهادة، وكان الثلاثة الآخرون قد سبقوه بالشهادة في المحكمة بحيث لم تكن شهادة الرابع متصلةً بشهادة الثلاثة الأول، لزم إقامة الحدّ عليهم ـ أي الثلاثة([20])ـ إن هذا التعزير لهم كان من باب حفظ سمعة الناس وماء وجهها وأقاربها([21]). والملفت أكثر أنّ العلامة الحلي في القواعد([22])، وفخر الدين في الإيضاح([23]) ذكرا أنه لابد من أن يجتمع الشهود قبل جلسة المحكمة وإقامة الشهادة، وإذا لم يحصل ذلك، وإنما اجتمعوا في جلسة الشهادة، فلابد من حدّهم بسبب الفرية.
الأمر الآخر: إن الشارع وضع شروطاً بالغة الصعوبة لإثبات حدّ الزنا، وهذا ما يجعلنا نستنتج أنه ميّال أكثر لعدم سرعة إجراء الحدود; لأن الإجراء السريع والإثبات اليسير للجرم نوعٌ من إشاعة الفحشاء في المجتمع، ومن الممكن أن يغدو ذلك وسيلةً لتخريب سمعة الناس وتضييع ماء وجهها وكرامتها على يد أشخاص غير منضبطين بالدين و… وعليه، فعدم قبول شهادة المرأة في باب الحدود يمكن تفسيره طبقاً لهذا الكلام، كما قال صاحب الجواهر: «..وبابتناء الحدود على التخفيف، ودرئها بالشبهات»([24]).
وبناءً عليه، فعدم قبول شهادة النساء أو عدم تساوي شهادتهنّ مع شهادة الرجال فيما يؤدي إلى عدم إثبات الجرم أو صعوبة إثباته، إنما هو من جهة التخفيف في العقوبة، والتسهيل في المجازاة; ذلك أن باب الحدود باب خاص، سواء من ناحية طرق الإثبات فيه وكيفيته، أم من ناحية عدم الشهود، وهو بنفسه مراعاة للمصلحة الأهم، ويمكن أن يكون تبريراً مقبولاً لوجود هذا التمييز بين الرجل والمرأة فيها.
السبل المذكورة في غير مجال الحدود
يحتوي هذا البحث على الحديث عن شهادة النساء في حقوق الناس وبعض حقوق الله أيضاً من التي ليس فيها بُعد حدّي (من الحدود)، فشبهة الظلم والتمييز بالنسبة للمرأة تجري في مثل هذه الحقوق، دون أن توافق اعتباراً عقلياً; ذلك أن الحديث هنا عن حقوق الناس، والمدّعي فيها هو الناس أنفسهم، فيلزم أن يكون المدّعي فيها قادراً على إثبات حقه بأيّ طريقة يريد، وواحد من هذه الطرق هو الاعتماد على شهادة النساء، يضاف إلى ذلك أن التمييز المذكور في بعض الأحكام الإلهية يعدّ ظلماً أيضاً، ومن الواضح أن الظلم في القوانين الإلهية ممنوع، بل مقطوع البطلان.
وانطلاقاً من هذه الشبهة وعدم جريان الأجوبة المتقدمة في باب الحدود هنا; ذكر بعضهم بعض التبريرات لذلك، وأبرزها تبريران:
أ ـ الشهادة تكليف: إن الشهادة تكليفٌ وواجب ومسؤولية; وذلك لأن تحمّلها واجب، كما أن أداءها واجب أيضاً، وكتمانها حرام، وبناءً عليه، ليس هناك حقّ حتى يكون عدم الأخذ بشهادة النساء موجباً لتضييعه.
يضاف إلى ذلك ـ ثانياً ـ ليس هناك نفع في الشهادة، حتى يضيع هذا النفع بالقول بالتمييز بين الرجل والمرأة فيها، بل إنّ الإسلام، وإرفاقاً بالنساء «فإن المرأة ريحانة وليست قهرمانة»([25])، أسقط هذه المسؤولية عن كاهلهنّ، فهذا الإسقاط لمسؤولية التكليف لطف بالمرأة، لا ظلماً; لأن الشارع أراد أن يقلّ التوجه إلى النساء في الدعاوى، ليستحكم بناء الأسرة بعدم أخذهنّ قدر الإمكان إلى المحكمة.
ب ـ تنوّع الشهادة: الشهادة نوعان هما: 1 ـ الشهادة في الفقه الإسلامي. 2 ـ الشهادة في المحاكم الدنيوية؛ فطبقاً لهذا التقسيم، يظهر أن الشبهة الثانية لا تصدق في النوع الثاني؛ ذلك أن الشهادة في النوع الثاني ـ وهي الشهادة في الدنيا ـ لا فرق فيها عندنا بين الرجل والمرأة; فهذه الشهادة في الدنيا هي من نوع الأمارة والشاهد والقرينة على أمر خارجي، لا من إحدى الجهتين (البيّنة ـ القَسَم) وموضوعية الشهادة.
لكن ومع التأمل في هذين الجوابين، يمكن تسجيل عدة مناقشات على كل واحد منهما، ذلك أن الجواب الثاني خروج عن موضوع البحث، ومؤيّد للإشكال، وتغييرٌ لصورة القضية، وليس هو في واقعه جواباً، أما الجواب الأول فمن الواضح أنه لا يرفع التمييز في قيمة الشهادة; ذلك أنّ العرف يرى ذلك تمييزاً بين الجنسين حتى مع فرض كونه مسؤولية، مضافاً إلى ذلك أنه لو حصلت حالة احتاجت إلى شهادة شخصين، ولم يكن عند المدّعي سوى امرأتين أو امرأة ورجل واحد، فإنّ الحكم بعدم قبول شهادة المرأة الواحدة في مكان الرجل الواحد ظلمٌ في حق المدعي وموجب لتضييع حقّه.
وعليه، لابد لنا من التفتيش عن حلول لهذه الشبهة، وهو أمر منوط بممارسة بحث فقهي، مستخدمين منهج إعادة النظر في المصادر الفقهية ومعتمدين على منهج الفقه الجواهري وموازين السلف الصالح ـ وهي الكتاب والسنّة ـ لنرى هل هناك مجال وموضع لهذا الإشكال في غير باب الحدود أم لا؟ بمعنى أن ندرس هل لهذا الحكم وجود أساساً، كي يأتي شخص ويشكل عليه، من باب «ثبّت العرش ثم انقش».
وبعبارة أخرى، لابد لنا من البحث في أن ما يقوله الفقه من عدم القبول بشهادة النساء مطلقاً أو الحكم بعد تساويهنّ مع الرجال، هل كان على أساس كون المرأة امرأةً أم لأسباب وخصوصيات؟ وإذا كان الأمر لخصوصيات فهل يمكن رفعها مما يوجب ارتفاع الحكم أم أن هذه الخصوصيات عارضة على الرجال أيضاً مما يوجب عدم قبول شهادتهم أو نقول بأن شهادة اثنين من الرجال تساوي شهادة شاهد كامل أم لا؟
ومع الأخذ بعين الاعتبار ما ذكر، سنرى في المباحث القادمة وهذه هي دعوانا، عدم وجود موضع في الفقه يحكم بالتمييز بين شهادة الرجل والمرأة على أساس كونها أنثى، وإنما بسبب الخصوصيات المشتركة بين الطرفين، حيث يتبع الحكم تلك الخصوصيات من حيث الوجود والعدم، ولا علاقة لكون المرأة امرأةً بهذا التمييز.
الفصل الثاني
تأسيس الأصل العملي
نظراً لكون شهادة الشاهد من الظنون، والأصل في الظنون عدم الحجية، كان مقتضى الأصل الأولي في الشهادات مطلقاً هو عدم الحجية، وذلك أن ترتّب الأثر على حجةٍ ما منوط بثبوت الحجية الفعلية، والحجية الفعلية مرتهنة بنظر العقل ـ وهو الحاكم الوحيد في قضايا الحجية والإطاعة والعصيان ـ بإحراز هذه الحجية، ذلك أنه إذا كان هناك شك فلا يرتب العقل أيّ أثر على هذه الحجية المشكوكة بل يعتبرها كالعدم. وعليه، فموضوع الحجية من وجهة نظر العقل هو العلم بالحجية، فالعلم عنده له حيثية موضوعية، لا طريقية، وبعبارة أخرى: إن الشك في الحجية الواقعية يساوي اليقين بعدم الحجية الفعلية، وطبقاً لذلك تكون تمام الظنون محكومة بحكم عدم الحجية فلا تكون منجزةً ولا معذرةً، إلا إذا ثبتت حجيتها بدليل ثابت.
ولا يفوتنا الإشارة إلى أن الخراساني ـ صاحب الكفاية([26])ـ قد استدلّ على مبدأ عدم حجية الظنون بهذا الوجه الذي ذكرناه، وهو وجه قوي جداً ومتين، ويخلو من تمام الإشكالات الواردة من جانب العلماء على الأدلّة التي استند إليها الشيخ الأنصاري([27]) لإثبات هذا الأصل; والسبب هو أن محور كلام صاحب الكفاية هو الحجية نفسها، لا لوازمها ولا صحّة نسبتها إلى الشارع، كما كانت الحال في المحور الذي دار حوله الأنصاري، هذا هو مقتضى الأصل الأولي في باب الظنون.
وأما الأصل الثانوي العملي في باب القضاء والشهادات، فهو أيضاً عدم الحجية، فإن عدم الحجية هنا يستند ـ أولاً ـ إلى أصالة براءة ذمة (أعم من الحق والدين) من أقيمت ضدّه الشهادة، أي براءة المدّعى عليه من التكاليف واللوازم المترتبة على الشهادة، كما أن استصحاب عدم هذه التكاليف ـ ثانياً ـ مقتضٍ لعدم حجية الشهادة.
أدلّة حجية شهادة الشاهد
بعد أن عرفنا أن نتيجة الأصل الأولي في الظنون هي عدم الحجية، والأصل العملي في باب الشهادات والقضاء هو عدم الحجية أيضاً، لابد لنا من دراسة الأدلّة التي تستدعي حجية شهادة الشاهد في القضاء وهي:
أ ـ بناء العقلاء
إن بناء العقلاء في القضاء والشهادات يشكّل دليلاً على حجية قول الشاهد، تماماً مثل حجية خبر الثقة، مع اختلاف في أن حجية خبر ثقة واحد قائمة في مجال الموضوعات وكذلك في إثبات الأحكام الشرعية، ويكون قوله حجةً، أما في مجال الشهادة فإن الحجية لا تثبت إلا بخبر شاهدين ثقة، سواء فيما بيننا وبين الله، أم فيما يتعلّق بإصدار الحكم في الدعوى.
إن كلمة الثقة، سواء عند العقلاء واللغة أم في الآيات والروايات، تشمل الرجل والمرأة، تماماً كما جاء في «المنجد» حيث فسّرها بقوله: «الثقة من يعتمد عليه ويؤتمن، ويستعمل بلفظ واحد للمذكر والمؤنث.. وقد يُجمع فيقال: ثقات للمذكر والمؤنث»([28]) وبناءً عليه فإن كلّ أدلّة حجية خبر الثقة ـ سواء أخذت من بناء العقلاء أم من الأدلّة اللفظية كالكتاب والسنة، وسواء في مجال الأحكام والموضوعات أم في مجال القضاء والشهادات ـ تشمل الرجل والمرأة معاً، ولا اختصاص لها بالرجل، وهذا البناء العقلائي سيكون دليلاً على الحجية، كما سيكون دليلاً على كفاية شهادة ثقتين في باب القضاء والشهادات. ومستند هذا البناء والارتكاز العقلائي هو:
1 ـ فطرية الاعتراف بالشهادة: فإن الاستناد إلى شهادات الآخرين في مقام إثبات الدعاوى من الأمور الفطرية، إلى درجة أنه حتى الأطفال في ألعابهم الصبيانية يستفيدون من هذه الطريقة لحلّ وفصل دعاواهم.
2 ـ الحدّ من الجريمة في المجتمع الإنساني: يقوم إحساس الإنسان المجرم على احتمال أن يشاهده الآخرون لدى ارتكابه الجريمة، وهذا الإحساس يصير باعثاً على الحدّ من الجرائم في المجتمع،فإذا لم تكن الشهادة من أدلّة إثبات الدعوى ووسائله، فإن الجرائم سوف تزداد ـ يوماً بعد يوم ـ في المجتمع، بما يؤدي إلى اختلال الحياة ونظامها بشكل تام، ممّا يعرّض أرواح الناس وأموالها وأعراضها لمخاطر جدية حقيقية.
3 ـ تكريم شخصية الإنسان عن طريق الاعتماد على الآخرين والثقة بهم: إن حرمة الإنسان وشخصيته من الأمور التي تجعل الحياة المعقولة ممكنةً في المجتمع البشري، وإن واحدةً من لوازم تكريم الإنسان هو حصول الثقة بين الناس، ومن لوازم هذه الثقة الأخذ بشهادة الإنسان. إن هذا التكريم، إضافةً إلى تأكيد الأديان الإلهية ـ سيما الإسلام ـ عليه بشكل كبير، جرى الحديث عنه بشكل جاد في المواد الراجعة إلى حقوق الإنسان أيضاً، وهو أمر مقبول في المجتمعات الإنسانية.
ب ـ الكتاب الكريم
ثمة آيات دالّة على وجوب تحمّل الشهادة وأدائها وحرمة كتمانها([29])، وهنا لا فرق بين الرجل والمرأة; فالجميع مخاطبون بهذا الحكم، وكلّهم مكلّفون به، وهو ما يدل بالدلالة الالتزامية على وجوب قبول الشهادة، ذلك أنه من دون ذلك سوف يغدو وجوب أدائها وحرمة كتمانها لغواً.
ج ـ السنّة الشريفة
ومن الأدلّة الأخرى على قبول شهادة المرأة ـ بعد البناء العقلائي ـ هو الروايات والتي منها الرواية المعروفة: «إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان..»([30])، وهناك رواية أخرى أيضاً، وهي رواية مسعدة بن صدقة جاء فيها: «..كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، وذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته وهو سرقة، أو المملوك عندك، ولعله حرّ قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك وهي أختك أو رضيعتك، والأشياء كلها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البينة»([31]). ولا شك في أن كلمة «البينة» في اللغة تعني الحجة والدليل الواضح، أما في الشرع فقد استعملت بمعناها اللغوي، لذلك ليس لها أيّ حقيقة شرعية ولا متشرعية، والشاهد على ذلك أنها جاءت في القرآن الكريم بمعنى البيان الواضح: )حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ((البينة: 1)، كما أن الرسول الكريم’ قد أشار في الحديث: «إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان» إلى أنه لن يعمل في القضاء والحكم ورفع الخصومات بالعلوم الإشراقية التي تحصل بطريق غير طبيعي، على مقتضى النبوة والإمامة، وإنما سيكون اعتماده صرفاً على الأدلّة السائدة والحجج العرفية، مثل كلمة «البيع» التي استعملت في البيع، كما حملها الفقهاء على معناها العرفي أيضاً.
من هنا، فالبينة شاملة للشاهد إذا كان رجلاً أو امرأة، وعليه فشهادة المرأة ـ طبقاً للرواية النبوية، وكذلك خبر مسعدة بن صدقة ـ حجة في تمام الموضوعات، اللهم إلا تلك التي دلّ الدليل الخاص على عدم حجية شهادة المرأة فيها أو اشترط عدداً خاصاً فيهنّ.
الرواية الأخرى هنا، هي رواية عبد الكريم بن أبي يعفور; حيث يروي عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: «تقبل شهادة المرأة والنسوة إذا كنّ مستورات من أهل البيوتات، معروفات بالستر والعفاف، مطيعات للأزواج، تاركات للبذاء، والتبرّج إلى الرجال في أنديتهم»([32])؛ وعلى أساس هذه الرواية، فإن شهادة المرأة مقبولة، وإنما المهم هو عدالتها، والفقرات التي جاءت في هذه الرواية، مثل أن تكون المرأة من أهل الستر والعفاف، والأسرة الصالحة، إنما هي سبل لإثبات عدالة المرأة المسلمة.
الاستنتاج
والخلاصة: إن الأصل الثانوي في شهادة الشاهد هو حجية خبر الثقة في باب الشهادات، سواء كان الشاهد رجلاً أم امرأة، إلا إذا جاء دليل من الخارج على عدم حجية الشهادة أو عدم حجية شهادة المرأة أو على اشتراط الزيادة على الثقة الواحد في الشهادة.
أدلّة عدم حجية شهادة المرأة، دراسة وتحليل
أ ـ الأدلّة والشواهد
يذكر الفاضل الهندي([33])، ثلاثة أدلة على عدم حجية شهادة النساء، نذكرها وهي:
1 ـ إن مقتضى الأصل العملي هو عدم حجية خبر الثقة في باب القضاء، وهذا الأصل يشمل الرجال كما يشمل النساء، إلا أن الرجال خرجوا بالقطع واليقين وعبر الأدلة الشرعية عن تحت استيعاب هذا الأصل، فبقيت النساء مشمولات لأصالة عدم الحجية، ولا دليل على خروجهنّ من تحته ومن داخل دائرته.
2 ـ إنّ ضعف النساء في الشهادة كضعفهنّ في القضاء والإفتاء، حيث أفتى الفقهاء هناك، وقالوا: إنّ المرأة لا يمكنها أن تكون قاضيةً ولا مرجع تقليد.
3 ـ صحيحة ابن مسلم، عن أبي جعفر(ع) قال: «لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد إذا علم منه خير، مع يمين الخصم في حقوق الناس، فأما ما كان من حقوق الله عزوجل أو رؤية الهلال فلا»([34]). وكيفية الاستدلال بهذه الرواية هي ورود كلمة «الرجل» فيها، وهذا التصريح دالّ على عدم حجية سوى شهادة الرجال.
ب ـ دراسة الأدلّة والشواهد
يُعلم مما تقدم عند الحديث عن مقتضيات الأصل، سقوط أصالة عدم الحجية ببناء العقلاء، فتكون الشهادة عند العقلاء حجة، وعليه فالأصل عند العقلاء هو الحجية لا عدمها، وبعبارة أخرى: مع وجود الأمارة والدليل لا تصل النوبة إلى الأصل، ذلك أن «الأصل دليل حيث لا دليل» ولا يفوتنا أنّ وجه تقدّم الأمارة والدليل على الأصل هو حكومة أو ورود أدلة الأمارات على أدلة الأصول.
أما فيما يتعلّق بضعف المرأة في القضاء والإفتاء، فلابدّ لنا أن نعلم هنا أن بعض الفقهاء قد صرّح بأنه يمكن للمرأة أن تكون قاضيةً ومرجعاً للتقليد أيضاً، كما أن بعضهم الآخر، مثل المقدّس الأردبيلي([35])، وصاحب نهج الحق([36])، شكّكوا في وجود إجماع على شرط الذكورة، كما أن الشيخ الطوسي في مباحث القضاء من كتاب الخلاف([37]) ذكر حوالي مائة إجماع إلا أنه لم يذكر ادعاء الإجماع في مسألة الذكورية، وهو ما يشكّل دليلاً على وجود قائل معتدّ به على قضاء المرأة في زمان الشيخ وقبله.
وبين الفقهاء المتأخرين، هناك سماحة آية الله العظمى الصانعي يذهب إلى القول بعدم لزوم الذكورة في المرجعية([38])، ولا القضاء([39])، وهذا نصّ جواب الاستفتاء منه حول القاضي حيث يقول: «ليست الذكورة ولا الرجولة شرطاً في القاضي، ومعيار قضاوة القاضي هو اعتداله واستقامته في القضاء، وعلمه ومعرفته بالموازين الإسلامية القضائية والقانونية، ولا يوجد عندنا أيّ دليل معتبر على شرطية الرجولة، كما أن مقتضى إطلاق المقبولة([40]) وإلغاء خصوصية التقييد بـ«رجل» في رواية أبي خديجة([41])، هو عدم الشرطية وصحّة قضاء المرأة كقضاء الرجل. وبعبارة أخرى أعتقد أن كافة العلماء بموازين جواز القضاء، والحائزين على العدالة والوثاقة وسائر الشروط، كانوا ومازالوا مشمولين لأدلّة جواز القضاء، والعرف والعقلاء لم يروا ولا يرون أيّ خصوصية أو اختلاف بين القاضي الرجل والمرأة، ولا يرون أيّ شيء مناطاً وملاكاً سوى العلم بالقوانين والعدالة وسائر الشروط، لا علم الرجل وعدالته بما هو رجل، ولو كان الشارع والمقنّن مريداً لتعبّد من هذا القبيل لاحتاج إلى روايات كثيرة وأدلة أكثر وضوحاً، وبيانات تدل بحيث لا تقبل إلغاء الخصوصية، أي أنه كما أنّ الشارع ولكي يحول دون العمل بالقياس ـ وكان مطابقاً للاعتبار ـ تحرّك بطريقة يعرّف الشيعة بترك العمل بالقياس، كان لابد له من الأمر نفسه في مورد السؤال هنا، ودون إثبات ذلك العمل خرط القتاد» (19 ـ 6 ـ 79 ش/ 2000 م).
والأمر الذي يلزم التذكير به في هذا المبحث هو ملاحظة الاستدلال بضعف الرأي والإدراك عند النساء في مسألة الشهادة([42]) أو في مسائل فقهية أخرى، وهو ليس سوى اعتبار، ولا اعتبار بالاعتبار; فهذا صاحب الجواهر يقول في كتابه الفقهي الوزين والقيّم حول مسألة تقدم الرجل على المرأة في الولاية على غسل الميت: «نعم، قد يشهد له الاعتبار; لكون الرجل غالباً أعقل وأقوى على الأمور وأبصر بها»، لكنه عقب ذلك يقول: «إلا أنه لا يصلح لأن يكون مستنداً شرعياً»([43]). كما أن الاستناد إلى صحيحة ابن مسلم يعاني من إشكال، ذلك أن الحديث ليس في مقام بيان كفاية الرجولة وعدم كفاية الأنوثة، وإنما هو ناظر إلى أن يمين المدّعي تقبل في مكان الشاهد الواحد; لأن أهل السنّة يقولون بأنه لو احتجنا في مورد إلى شاهدين وأتى المدّعي بشاهد واحد وأراد أن يلقي القسم مكان الشاهد الآخر، فإن ادّعاءه لا يثبت بذلك، فهذه الرواية وسائر روايات الباب ـ والتي تصل إلى عشرين مورداً ـ كلّها في مقام بيان قبول اليمين مكان الشاهد الواحد، ولم ترد فيها إطلاقاً كلمة «الرجل» إلا في هذه الرواية فقط، فعدم ذكر الرجل في سائر الروايات يمثل بنفسه شاهداً على أن هذه الكلمة استعملت من باب الغلبة في المكالمات، وإلا فلو كان للرجل خصوصية كان لابد من ذكرها في سائر الروايات، وبناءً عليه تدل هذه الرواية ـ بما قدّمناه ـ على قبول شهادة المرأة بما يساوي شهادة الرجال، لا أنها تدل على عدم القبول أو عدم التساوي.
الفصل الثالث
عدم تساوي شهادة الرجل والمرأة، الأدلّة العامّة
1ـ الكتاب الكريم واختلاف الشهادات
قال تعالى:{..وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة: 282).
لقد استدل بهذه الآية على أن شهادة المرأتين تساوي شهادة رجل واحد في تمام الموارد والحالات أو في مورد الآية وهو الدَّين، وعدم التساوي هنا ينشأ من خصوصية الأنوثة في المرأة، لا من خصوصيّة عارضة، وبعبارة أخرى: إن المرأة لأنها امرأة تساوي شهادة الاثنين منها شهادة الواحد. وكيفية الاستدلال بالآية أنها فرضت للكتابة شاهدين من الرجال، وعلى تقدير عدم توفر رجلين لزم اختيار رجل واحد مع امرأتين بوصفهما شاهداً; فهذه الآية نصّ في أن شهادة المرأتين تساوي شهادة الرجل الواحد مطلقاً، أو على الأقل تكون كذلك في باب الدَّين، ومع الأخذ بعين الاعتبار صراحة الآية لا يمكن ادّعاء أن ذكر كلمة الرجل هنا إنما جاء من باب الغلبة.
إشكاليات وانتقادات في الدلالة القرآنية على عدم تساوي الشهادات
وقد أورد على الاستدلال بالآية الشريفة إشكالات ثلاثة:
أ ـ الإشكال الأول ونقده: ليست الآية في مقام بيان الشهادة وحجيّتها في المحكمة، وإنما هي في مقام الاستشهاد وطلب الشاهد وتحمّل الشهادة، فالأمر هنا أمر إرشادي، فمن الممكن أن يقول شخص بأن الآية مرتبطة بالمحكمة والقضاء من باب الملازمة العقلائية; إذ عندما تطالب بالإتيان بشاهد فإن غرضها أن يستند لحلّ الاختلاف قضائياً إلى هذا الشاهد; ذلك أنه لا مصلحة في الجعل نفسه.
لكننا نجيب بأن هناك احتمالان متصوّران هنا: الأول أن يكون الشاهد بهدف رفع الاختلاف في المحكمة. والثاني عدم ارتباط الآية بالقضاء ولا المحاكم وإنما تهدف تذكير الطرفين، أي يكون ذلك لتذكير الطرفين، ومع وجود هذا الاحتمال لا يغدو الاستدلال بالآية صحيحاً، بل إن الاحتمال الثاني إن لم نقل بأنه نصّ، فلا أقلّ من أنه ـ لعدة شواهد ـ قريب وظاهر، وهذه الشواهد هي:
الشاهد الأول: جاء في صدر الآية: {..يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ}، حيث لا حديث أساساً عن وجود مخاصمة أو دعاوى، وإنما جاء الأمر بالكتابة للاطمئنان وراحة البال وإقناع الطرف الآخر، وإلا فلا يمكن في المحكمة الحكم طبقاً لهذه الكتابة، إذ من الممكن للطرف الآخر أن يُنكر الكتابة، وهو ما أشير إليه في استفتاءات الميرزا القمّي([44]).
الشاهد الثاني: إن أمر المديون بالكتابة في قوله تعالى: {..فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} يمثل شاهداً آخر على عدم ارتباط الآية بالحجية وباب القضاء، بل تتصل بأمر شخصي ورفع قلق فردي، بغية حصول الاطمئنان.
الشاهد الثالث: جاء في ذيل الآية: {..ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا}، وهو واضح في أنه ليس من شؤون القضاء والمحاكمات; ذلك أن الوصول إلى الحق وعدم زواله «إنه لا يصلح ذهاب حقّ أحد»([45])، وإحياء الحق: «أكرموا الشهود; فإنّ الله تعالى يحيى الحقوق بهم»([46])، لا علاقة له بالأقسط والأقوم {وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا..}، وهي من أفعل التفضيل، فالقاضي ملزم بالحكم مع قيام البينة والشاهد، والقسط كاف في باب القضاء، ولا حاجة إلى الأقسطية والأقومية.
وهذا الإشكال ـ مع كل مؤيداته وشواهده ـ ليس وارداً لسببين:
الأول: تدلّ الآية ـ في الجملة ـ على أن المرأتين تساويان رجلاً واحداً، حتى لو لم يكن ذلك في المحكمة وفي مجال القضاء.
الثاني: إن ظاهر الشهادة عند العقلاء أنها للحجية والاحتجاج، ذلك أن الأمر بالشهادة ملازم للحجية، أي أن المشهود عليه مسؤول عن قبول الشهادة، سواء كان هناك اطمئنان أم لم يكن، فما قيل من أن الشهادة لكي «به ينظر» ليس تاماً; ذلك أن ظاهرها الحجية لا الإرشاد، وعليه فإشكال عدم التساوي ما زال قائماً باقياً، والاستدلال بالآية تام.
ب ـ الإشكال الثاني ونقده: إن الآية الشريفة مربوطة ببحث تحمّل الشهادة لا أدائها، وذلك بمعنى أنه في مقام حمل الشهادة يلزم وجود امرأتين، وذلك بسبب احتمال النسيان في النساء، ذلك أنهنّ ينسين غالباً، أما عند أداء الشهادة فإن المرأة الواحدة تكون كافية، ووجود امرأة أخرى إنما يكون للحيلولة دون حصول اشتباه، وعندما لا يحصل اشتباه ولا يطرأ النسيان، وتكون الشاهدة امرأة حافظة ملتفتةً متنبّهة للجزئيات التي تحتاجها المحكمة وتستجوبها فيها، فإن شهادتها تكون كافيةً حينئذ، وعليه، فالآية ساكتة عن مقام الأداء، وتحتمل الوجهين والاحتمالين، وإذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.
وقد أجيب عن هذا الإشكال بأن كلمة (تذكّر) تدلّ على أن التعدّد ضروري في مرحلة أداء الشهادة، ذلك أن الآية تبيّن أنه لو عرض النسيان على المرأة الأولى ذكّرتها الثانية، وإلاّ فلو لم تكن هناك حاجة للتعدّد في الأداء، كان من المفترض بالآية أن تقول: إذا نسيت إحداهما شهدت الأخرى، لا ذكّرتها الأخرى.
ج ـ الإشكال الثالث: ويقوم هذا الإشكال على أنّ عدم تساوي الرجل والمرأة في الشهادة إنما هو بسبب خصوصية عارضة، لا لكون المرأة امرأةً، فعندما تنتفي هذه الخصوصية لا يعود هناك أيّ امتياز بين الرجل والمرأة في الشهادة، وعليه فالاستدلال بالآية لإثبات مطلوبكم غير صحيح.
وتوضيح ذلك، أولاً: إننا نوافق على أن الآية تجعل شهادة المرأتين مساويةً لشهادة رجل واحد، بل إن هذا الحكم منحصر بمورد الآية، ذلك أن كل حكم يقع على خلاف الأصل، لابد من الاقتصار فيه على مورده، وهو باب الدَّين.
ثانياً: إن العلّة تخصّص كما أنها تعمّم، فإذا قلت: «لا تأكل الرمان; لأنه حامض» دلّ ذلك على عدم جواز أكل سائر الحوامض أيضاً; والذي أرشدنا إلى ذلك ارتباط حكم عدم جواز الأكل بكون الرمان حامضاً، وهذا ما من شأنه ـ من جهة أخرى ـ أن يخصّص تحريم الرمان بحالة الحموضة; فيجوز أكله لو لم يكن كذلك، ومع الأخذ بعين الاعتبار ما قلناه، نلاحظ أن الآية الشريفة: )أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى((البقرة:282) بيّنت العلّة، وهذه العلّة هي النسيان وقلّة الحافظة وعدم الدقة والمهارة في الأمور المالية والاقتصادية، وهو ما كان طبع النساء عليه في زمان نزول الآية، أي أن ذاكرتهنّ كانت في المتعارف منها أقلّ من ذاكرة الرجال، ونتيجة ذلك انخفاض معدّل الاطمئنان في شهادتهنّ وهو ما يجعل شهادة اثنتين منهما معادلةً لشهادة رجل واحد. أما إذا جاء زمان وظرف بحيث صارت ذاكرة النساء والرجال متساويةً أو كانت ذاكرة النساء أقوى من ذاكرة الرجال، بحيث ارتفع معدّل الوثوق بشهادتهنّ ليساوي معدّله عند الرجال، ويتساوى ـ نتيجةً لذلك ـ احتمال النسيان في الرجال والنساء، بما يلحق المقدار الموجود من النسيان بعدمه; هنا تصبح شهادة النساء مساويةً لشهادة الرجال، بل قد تكون شهادة المرأة الواحدة مساويةً لشهادة رجلين، وحصيلة الاستنتاج أن الآية مربوطة بالنسيان الذي جعل العلّة في التنصيف المذكور، وليس المراد به النسيان الطبيعي، بل نسيان خاص; لأن النسيان الطبيعي موجود في الرجال أيضاً كما هو عند النساء، وهو نسيان يُلحِقه العقلاء في احتجاجاتهم بالعدم، فإذا كان المقصود من الآية هذا النوع من النسيان فسيكون بطلان التعليل واضحاً جداً; لأن النسيان بهذا المعنى موجود عند الرجال والنساء معاً، ولا يمكن للشارع ـ انطلاقاً من وجود علّة النسيان هذه ـ أن يحكم بقبول شهادة المرأة على أن تكون على النصف من شهادة الرجل. وبصيغة عامة: إن المعلول ـ وهو الحكم ـ دائر مدار العلّة وسعتها وضيقها، فيكون وجوده ومعدّل وجوده تابعاً لها.
ويؤيد هذا الكلام كله:
أولاً: إن الفقهاء لم يستدلّوا بهذه الآية على نحو شائع في الموضوعات الفقهية المختلفة.
ثانياً: إن الروايات كافة التي وردت حول هذه الآية والتي استندت إليها، أو كان السؤال فيها عنها، ضعيفة السند وليست معتبرة، فليس عندنا أيّ رواية معتبرة يستدلّ فيها الأئمة بهذه الآية على عدم تساوي شهادة النساء مع الرجال، وسوف نذكر في بحث أدلّة المستدلّين على عدم التساوي، هذه الروايات مع ذكر الإشكالات حولها.
ثالثاً: إن لدينا موارد في الفقه تقبل فيها شهادة المرأة الواحدة، وفي هذه الموارد لم تكن شهادة الرجل حجةً، وهذا ما يدفعنا لاستنتاج أن عدم تساوي شهادة المرأة والرجل في باب الدَّين كان لخصوصية عارضة، مربوطة بالدَّين والأمور المالية، لا لكون المرأة أنثى، وإلا كان المفترض في هذه الموارد أن يحكم الشارع هنا أيضاً بكون شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، وبعض هذه الموارد:
1 ـ شهادة المرأة الواحدة في ربع وصية الوارث، حيث يثبت بها ربع الوصية، أما شهادة الرجل هنا فلا تثبت شيئاً([47]).
2 ـ شهادة القابلة الواحدة في العيوب الخاصّة بالنساء([48]).
استنتاج من الدلالة القرآنية
توصلنا بدراسة هذه الآية إلى أنّها ـ أولاً ـ خاصة بهذه الموارد، وأن حكمها الذي أصدرته في هذه الموارد إنما هو لخصوصية عارضة توجب انخفاض معدّل الاطمئنان بشهادة النساء، وهذه الخصوصية هي قلّة معرفة النساء بالأمور المالية، وهي خصوصية توجب عدم القدرة والدقة المتعارفتين في الشهادة بلا فرق بين الرجل والمرأة. وإذا ساوت القدرة العلمية والرياضية للنساء في مورد الدَّين نفسه ـ وهو مورد الآية ـ معدّل الوثوق الموجود في أقوال الرجال في القضايا المالية فإن شهادة امرأة واحدة ستحلّ حينئذ محلّ شهادة الرجل الواحد وستكون مقبولةً.
وبناءً عليه، لا يعتبر القرآن العلّة هنا في كون المرأة امرأةً، وإنما في وصف عارض سبق بيانه; ولهذا حكم بقبول شهادة امرأتين مكان شهادة الرجل الواحد في الحالات التي يكون فيها هذا الوصف العارض (النسيان العارض) موجوداً، ولا تكون الآية شاملةً لتمام حالات شهادة المرأة حتى تلك التي لا وجود لهذه الخصوصية فيها; ذلك أن الملاك هو النسيان العارض لا أنوثة الأنثى.
الروايات الشريفة ومسألة التمييز بين الشهادات
الدليل الثاني هنا الذي استند إليه في مسألة مساواة شهادة المرأتين لشهادة الرجل الواحد هو مجموعة من الروايات التي يلزمنا البحث فيها، لكن قبل ذلك من الجدير الإشارة إلى بعض النقاط وهي:
النقطة الأولى: إن رؤية القرآن للمرأة رؤية إيجابية تماماً، فالمرأة والرجل في القرآن الكريم متساويان في الإنسانية والحقوق، ففي القرآن نجد الخطابات التي تحمل عناوين: الإنسان، الناس، بني آدم، أولي الألباب، ولا توجد فيه أيّ من أشكال التمييز لصالح الرجال على النساء. فإذا رأينا في الروايات والأحاديث أحياناً في بعض المواضع ما يدلّ على تمييز في حق النساء وظلم، بحيث كانت معارضةً للرؤية القرآنية للمرأة في حقوقها وشرفها وتكاملها العقلاني، فإن أمامنا أحد سبيلين:
الأول: في كل حالة تتعارض فيها الأحاديث والآيات تكون الآيات القرآنية ـ كما يقول العلماء الكبار([49])ـ هي الأصل والبناء الرئيس، ومن ثم يجب أن تُفهم الأحاديث في ضوء القرآن، وعلى تقدير المخالفة يجب طرحها جانباً، أو إحالة علمها إلى أهل البيت^، ونتيجة الأمرين معاً عدم حجية هذا النوع من الروايات.
الثاني: إذا لم تنسجم الروايات مع القرآن أو العقل القطعي أو سيرة المعصومين، فإنها تقبل حينئذ إعادة النظر فيها بشكل أساسي مجدداً ; فكيف يمكن أن يصدر عن أمير المؤمنين(ع) ـ مع كل هذه المحبّة والاحترام للسيدة فاطمة ومع كل تأكيداته على مشورة النساء في سيرته الشخصية مثل: سودة الهمدانية، وأم الخير و..([50]) ـ ما يفيد تجنّب المرأة السيئة و «كونوا من خيارهنّ على حذر»([51])؟!
النقطة الثانية: إنّ وضّاعي الأحاديث كانوا موجودين في عصر النبي الأكرم(ص) إلى حدّ أنه’ ـ كما يقول الإمام علي(ع) في كلمته رقم (210) في نهج البلاغة ـ قام يوماً وقال: «من كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار»، ثم يضيف الإمام علي نفسه بعد ذلك: «ثم كُذب عليه من بعده»، ليكمل حديثه بوصف حال الرواة والمحدّثين، وأن بعض رواة الحديث منافقون، وبعضهم مخطئون، وبعضهم أهل شبهة، وفقط الفريق الرابع هو الفريق الحافظ الصدوق.
وثمة أمر يحوز قدراً كبيراً من الأهمية فيما يتعلّق بروايات المرأة وحقوقها، وهو أنّ النبي(ص) كانت من مهماته الكبرى التي صرف عمراً في سبيلها، الحيلولة دون تحقير المرأة ووأد البنات و… وقد كان النبي يقدّم للمرأة احتراماً خاصاً، سيما للسيدة فاطمة الزهراء، وعندما لم يتمكّن مخالفو الإسلام من الهجوم على فاطمة بشكل مباشر لعدم تقبل المجتمع آنذاك لذلك، وكان ذلك سبباً لمشاكل وقفت أمامهم، فقد استخدموا طريقاً آخر عندما شنّوا حملاتهم على أهل البيت عبر الحمل على المرأة ـ ومن مصاديقها الزهراء ـ وبذلك حاربوا الثقافة النبوية في الدفاع عن المرأة، كما كشفوا عن حقدهم الدفين للنبي عبر الهجوم على محبوبته فاطمة، ولكي يتحقق الهجوم على الثقافة النبوية فلا سبيل أفضل من جعل الأحاديث على لسان النبي، وبجعل الأحاديث الكثيرة، أحكموا عملهم بإتقان عبر عدم اهتمام أحد بسند الحديث، فجاء وضّاعون من نوع أحمد بن عبد الله الجويباري الذي وضع لوحده أكثر من ألف أو عشرة آلاف حديث. وقد عدّ العلامة الأميني في المجلد الخامس من كتاب الغدير([52]) الوضاعين حتى بلغوا أكثر من سبعمائة شخص وبعضهم وضع لوحده أربعة آلاف حديث، وبعضهم عشرة آلاف حديث([53])، وقد نبّه الأئمة المعصومون^ في روايات مختلفة على خطر الوضاعين، عبر بيانات مختلفة، ما نشير إلى بعضه هنا.
فعن الإمام الصادق× أنه قال: «إنّا أهل بيت صدّيقون، لا نخلوا من كذاب يكذب علينا»([54])، وفي روايات أخرى له أنّه قال: «إنّ الناس أولعوا الكذب علينا; كأنّ الله افترض عليهم ولا يريد منهم غيره»([55]) من هنا، فالأنسب في دراسة الروايات هو الاهتمام ـ أكثر فأكثر ـ بالأسانيد، ومقارنة محتواها ومضمونها مع القرآن.
ومع الأخذ بعين الاعتبار هذه النقاط، نشرع في بحثنا للروايات الواردة هنا، ولابد من الانتباه إلى أن الروايات المستدل بها هنا على عدم التساوي بين الرجل والمرأة تقع على مجموعتين: إحداهما ما تعلّق بذيل الآية الشريفة رقم 282 من سورة البقرة، وثانيهما ما جاء في الأبواب الفقهية المختلفة والتي استدلّ بها هناك على عدم التساوي.
أ ـ الروايات المتعلّقة بآية الدَّين
1 ـ رواية تفسير العسكري
نقل عن الإمام الحسن العسكريعن أمير المؤمنين أنه قال:«(فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان)، عدلت امرأتان في الشهادة برجل واحد، فإذا كان رجلان أو رجل وامرأتان أقاموا الشهادة قضى بشهادتهم، قال أمير المؤمنين(ع): كنّا نحن مع رسول الله’ وهو يذكرنا بقوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} قال: أحراركم دون عبيدكم ; فإن الله عز وجل قد شغل العبيد بخدمة مواليهم عن تحمّل الشهادات وعن أدائها وليكونوا من المسلمين منكم، فإنّ الله ـ عز وجل ـ إنما أشرف المسلمين العدول بقبول شهاداتهم، وجعل ذلك من الشرف العاجل لهم ومن ثواب دنياهم، قبل أن ينقلوا (يصلوا خ ل) إلى الآخرة، إذ جاءت امرأة فوقفت قبالة رسول الله، وقالت: بأبي وأمي يا رسول! أنا وافدة النساء إليك، ما من امرأة يبلغها مسيري هذا إليك إلا سرّها ذلك، يا رسول الله! إن الله ـ عز وجل ـ ربّ الرجال والنساء وخالق الرجال والنساء، رازق النساء والرجال، وإن آدم أب الرجال والنساء، فما بال امرأتين برجل في الشهادة (في) الميراث؟ فقال رسول الله(ص): يا أيتها المرأة! ذلك قضاءٌ من عدل حكيم لا يجور لا يحيف ولا يتحامل، لا ينفعه ما منعكنّ ولا ينقصه ما بذله، لكن يدبّر الأمر بعلمه، يا أيتها المرأة! لأنكنّ (لا تكنّ) ناقصات الدين والعقل، قالت: يا رسول الله! وما نقصان ديننا؟ قال: إن إحداكنّ تكون تقعد نصف دهرها لا تصلي بحيضة (ولا تصلّي بحيض عن الصلاة لله خ)، وإنكنّ تكثرن اللعن وتكفرن النعمة، تمكث إحداكنً عند الرجل عشر سنين فصاعداً يُحسن إليها وينعم عليها، فإذا ضاقت يده يوماً أو خاصمها، قالت له: ما رأيت منك خيراً قط; فمن لم يكن من النساء هذه خُلُقها فالذي يصيبها من هذا النقصان محنة عليها وتصبر فيعظم الله تعالى ثوابها، فأبشري، ثم قال لها رسول الله(ص): إنه ما من رجل ردي إلا والمرأة الردية أردى منه، ولا من امرأة صالحة إلا والرجل الصالح أفضل منها، وما سوّى الله قط امرأة برجل إلا ما كان من تسوية فاطمة بعلي^، أي في الشهادة»([56]).
وكيفية الاستدلال بهذه الرواية لدعم مساواة المرأتين الشاهدتين للرجل الشاهد الواحد واضح جداً; لذا لا داعي لإطالة الكلام في هذا المجال.
وقفة نقدية مع خبر تفسير العسكري
في هذا الحديث من ناحيتي: السند والمتن، إشكالات عديدة توجب سقوطه عن الاعتماد عليه في الاستدلال.
1 ـ 1 ـ دراسة سند الرواية: لم يثبت ـ سندياً ـ أن هذا التفسير للإمام العسكري×، ولم يكن هذا الكتاب معروفاً حتى لا يحتاج ـ أمثال كتاب الكافي، والتهذيب، والاستبصار، ومن لا يحضره الفقيه ـ إلى سند له، وعليه فلا سند لنا ـ أولاً ـ إلى هذا الكتاب، كما أن هذه الرواية ليست ـ ثانياً ـ سوى خبر مرسل، وعدم حجيته من الضروريات والبديهيات، ذلك أنه حتى مع وجود سند للروايات يلزم أن يكون تمام الرواة ثقات ومحل وثوق، كما أن وثاقتهم لابد أن تحرز، وعليه فكيف يمكن بمجرّد نسبة كتاب إلى إمام، أن نعتمد على رواياته، رغم أن سند الرواية غير معلوم، ولا سند الكتاب أيضاً؟!
2 ـ 1 ـ دراسة متن الرواية: ثمة مواضع في هذه الرواية تخالف الأصول والضوابط المعتبرة شرعاً وعقلاً، كما تخالف الوقائع الخارجية والأمور المسلّمة، إلى جانب مخالفة الكتاب والسنّة.
المورد الأول: جاء في الرواية: «..فإن الله إنما شرّف المسلمين العدول بقبول شهادتهم، وجعل ذلك من الشرف العاجل لهم ومن ثواب دنياهم…»([57]).
أولاً: إن هذا التمييز بين المسلمين وغيرهم ظالم وغير سليم; ذلك أنه لا وجه لهذا الامتياز هنا مع فرض أن غير المسلم لا تقصير لديه في عقيدته، فأغلبية غير المسلمين قاصرون; فكيف يمكن القبول بأن الرحمن الرحيم والإله الذي وسعت رحمته كل شيء قد حرم هؤلاء من لطفه هذا؟ أليس هذا الانحصار ترجيحاً بلا مرجح كما أن اللطف بالبعض دون الآخر لا وجه له؟ أفهل لله علاقة قرابة ببعض الناس فلا يرحم ولا يرأف ولا يحبّ غيرهم؟ وبعبارة أخرى: إن هذه الأنواع من الحصر تقوم على خلاف العدل في اللطف والرأفة، كما أن إعطاء الامتيازات للبعض بلا جهة ولا وجه كذلك، ولا يفوتنا أنه كما يكون العذاب والمجازاة والعقوبة بلا جهة ودون ارتكاب جرم ظلماً وجوراً; كذلك إعطاء الشرف بلا مبرّر لبعض الأفراد، لا سيما فيما يخصّ ذات الباري تعالى وهو المنزه عن كل ظلم، مخالفاً للعدالة والحكمة.
ثانياً: إن هذا التشريف والاحترام للمسلمين يوجب تضييع حقّ من له الحقّ في الدعاوى; ذلك أنه إذا كان لدى من له الحقّ شاهد عادل غير مسلم ولم تقبل شهادته، فإنّ حقّ من له الحقّ سوف يزول ويذهب ويضيع، وبعبارة أخرى: أيّ تشريف هذا الذي يُجعل للمسلمين فيبعث على تضييع حقوق الآخرين؟! إن هذا الأمر مخالف للعدالة وموازين المولى الحكيم. وإذا أشكل أحد وقال: إنه لا يضيع حقّ هذا الشخص، بل يكون كمن لم يجد شاهداً، قلنا له: إن عدم وجود شاهد لهذا الشخص إنما هو بسبب ضعفه الشخصي لا لضعف في القانون ولا لظلم من المقنّن له، إنّ ضعف الإنسان في عمل يوجب حتى عدم استجابة الدعاء، كما جاء في حديث عن الإمام الصادق(ع): «أربعة لا تستجاب لهم دعوة: رجل جالس في بيته يقول: اللهم! ارزقني، فيقال له: ألم آمرك بالطلب؟..»([58])، وهذا على خلاف من حصل على شاهد لكنّ المقنّن أسقط عن شهادة هذا الشاهد الاعتبارَ والقيمة.
ثالثاً: في هذه الفقرة من الرواية اعتبر قبول شهادة المسلم العادل ناتجاً عن احترامه ومنحه القيمة والشخصية، مع أنه ثبت في موضعه أن حجية شهادة العدول إنما كانت من باب البناء العقلائي والارتكازات العرفية، ومع الأخذ بعين الاعتبار هذا المعيار فإن شهادة المسلم العادل إنما اعترف بها ببناء العقلاء، وليست بحاجة إلى ملاك آخر للاعتراف بها حتى تكون هناك منّة إضافية في رقبته.
رابعاً: إن هذا الحصر في قبول شهادة المسلمين ينافي قبول شهادة غير المسلمين في قضاياهم; ذلك أن شهادة غير المسلم مقبولة في المحكمة الإسلامية في حقّ غير المسلم، ويحكم على طبقها.
المورد الثاني: جملة: «إن إحديكن تكون تقعد نصف دهرها لا تصلي بحيضة»، وهي جملة غير مطابقة للواقع الخارجي، وذلك:
أولاً: إذا رأت المرأة في تمام عمرها حيضاً، وكان ذلك في كل شهر عشر أيام، وهي أعلى معدّل للحيض، وكانت تصلّي عشرين يوماً في الشهر، فسوف يكون ثلث حياتها بلا صلاة لا نصف عمرها.
ثانياً: مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ بلوغ المرأة قبل الرجل، وأن توجّه التكليف عندهنّ يسبق ـ كما تدل عليه أحاديث البلوغ المشيرة إلى ذلك ـ توجّهه للرجال، فهذا معناه أن النساء سوف يقمن الصلاة قبل الرجال بعدة سنوات.
ثالثاً: إذا أردنا استنتاج معيار كمّي لأيام الصلاة عند المرأة طبقاً لعدد الأيام، وجعلنا ذلك معياراً، فهو معارض لروايات أخرى ترفض هذا المعيار، وترى أن الصدق والصلاح ـ وهما ثمرة العبادة الصحيحة ـ هما الميزان لتديّن الإنسان، بل حتى على الصعيد الكمي لا يمكن الجزم بأن الرجال يقيمون الصلاة أكثر من النساء، لأن المرأة تشرع بالصلاة قبل الرجال، وهذا ما يجبر النقصان المسبّب عن أيّام العادة الشهرية.
رابعاً: يجب على النساء وفي فترات اليأس إقامة الصلاة والصيام، وعليه تتساوى المرأة والرجل في هذه الأيام من ناحية التكاليف، وهذا الواقع الخارجي ينافي ما قيل من أن النساء لا يصلّين نصف عمرهنّ.
خامساً: إن عدم إقامة المرأة للصلاة في أيام العادة وظيفة شرعية، فيجب عليها ترك الصلاة، بل إنها لو صلّت تكون مذنبةً تعصي الله تعالى، وعليه فترك الصلاة منهنّ علامة قوّة الإيمان والتسليم أمام القانون والتكليف الموضوع عليهنّ من جانب الباري تعالى; فكيف يمكن أن يترك الإنسان عملاً بأمر إلهي وهو ما يدلّ على كمال دينه وإيمانه، ويكون تركه هذا في الوقت عينه دليلاً على قلّة الإيمان وعدم التدين؟!
المورد الثالث: جملة: «ما من رجل ردي إلا والمرأة الردية أردى منه، ولا من امرأة صالحة إلا والرجل الصالح أفضل منها، وما سوّى الله قط امرأةً برجل». وهنا:
أولاً: إن هذا الكلام يخالف أصول الإسلام والعقل المسلّمة، وهي تدلّ على تساوي المرأة والرجل في الاختيار في أعمالهم الحسنة والسيئة، ذلك أنه عندما يكون تمام النساء ـ بلا استثناء ـ أسوأ من الرجال السيئين، وتمام الرجال الصالحين أحسن من تمام النساء الصالحات. سيكون التفاضل في الحُسن والسوء جبرياً غير اختياري، وإلا فإذا كان الحُسن والقبح اختياريين، فلابد أن تنتقض القاعدة المذكورة في بعض الموارد. وبعبارة أخرى: إذا أخذنا هذا المقطع من الرواية بعين الاعتبار فسوف تكون خصوصيات الأفضلية والأحسنية على نحو العلّة التامة التي لا تخلّف فيها، كما لا اختيار، وفي غير هذه الحالة، إذا كانت هذه الخصوصيات دخيلة على نحو الاقتضاء كان فيها اقتضاء التخلّف، ولم تعد القضية إطلاقية في الأحسن والأسوأ.
ثانياً: تخالف هذه الجملة الكثير من الآيات القرآنية، ولعلّه يمكن القول: إنها تعبّر عن أحد النماذج البارزة من الأحاديث المخالفة للقرآن، والتي أمرنا ـ طبقاً لأوامر الأئمة(ع) ـ بطرحها وضربها عرض الجدار; ذلك أنّ هذا الحديث يخالف روح الآيات القرآنية الرائعة الدالّة على العدالة واللطف الإلهيين، مثل قوله تعالى: {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} (آل عمران: 195)، و{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}(النحل:97)، و{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الأحزاب:35).
إن هذه الآية من الآيات التي ركّز الله فيها ـ عبر تكرار الصفات ـ على صيغة المذكر والمؤنث، كي يُفهم أنّ الإسلام يرى الرجل والمرأة متساويين في صفات الخير والحسن الموجبة للمغفرة الإلهية. وثمة آية أخرى يمكن الاستفادة منها هنا، وهي قوله تعالى:{لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} (الأحزاب: 73)،وكذلك ما جاء من أن الأفضلية لها معيارٌ واحد هو التقوى لا الجنس والعرق والقومية، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (الحجرات: 13).
المورد الرابع: إنّ هذه الرواية تجعل تمام النساء ناقصات العقول وناقصات الدين، ومتهمات باللعن وعدم الشكر، ولم تستثن سوى البعض، إنّ هذه الطريقة في الحديث مع امرأة جاءت إلى محضر النبي’ وقدّمت نفسها ممثلةً عن النساء، مستخدمةً كلمات مثل «بأبي وأمي» دالّة على محبتها ومحبّة المجتمع النبوي للرسول الأكرم’.. إن هذه الطريقة غير مناسبة، ولا تنسجم مع خُلق النبي الذي وصفه الله تعالى في القرآن الكريم بـ {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(القلم: 4).
المورد الخامس: الشيء المثير للعجب في هذه الرواية أن النبي(ص) ـ ولتبرير عدم تساوي الشهادة بين الرجل والمرأة ـ لم يُشر إطلاقاً إلى الآية الكريمة، وإنما استعاض عنها بسلسلة وجوه تخالف الموازين الشرعية والعقلية; وهذا بنفسه دليل محكم على بطلان هذه الرواية وعدم صدورها عمّن هو محلّ نزول الوحي.
ومع الأخذ بعين الاعتبار تمام هذه الإشكاليات المثارة حول هذه الرواية، فإن هذه الرواية تصبح محلّ استفهام جاد في صدورها، كما أن في دلالتها إشكالات أيضاً، ذلك أن الحديث لا يشمل ذيل الآية الشريفة وغير موردها، أي أنه مختص بذاك المورد الخاص، وهو قضية النسيان في باب الدَّين، لا عدم التساوي في تمام الموارد والموضوعات. وما تقدّم بتمامه يخدش في صحّة هذه الرواية ونسبتها إلى الإمام المعصوم.
وشبيه هذه الرواية في مخالفة القرآن والقواعد والارتكازات العقلائية، بعض الفقرات الواردة في نهج البلاغة([59]) عن الإمام علي(ع) حول النساء، ذلك أنّ هذه الصورة للمرأة تخالف صورتها التي رسمها القرآن الكريم، ومناخ هذه الصورة مناخ مليء بفتن الزمان ودسائس شياطين السياسة. إن المرأة في نهج البلاغة وصفت بأوصاف مثل: العقرب، الشرّ، ناقصات العقول، ناقصة الإيمان، ناقصة الحظ، ومع الأسف فقد انبرى أكثر شرّاح نهج البلاغة لإثبات هذه المقولات، على أساس أن النساء أنقص من الرجال في مقام العبودية، والعروج والتكامل، والتلقي الذهني، والانتزاعات العقلية، غافلين عن كيفية تفسير الآيات القرآنية في هذا المضمار، أليس معيار معرفة كلام الأئمة عن غيرهم في أدعيتهم وأحاديثهم هو الانسجام مع القرآن والكلام الإلهي في المفاهيم والمعاني؟ أين قدّم القرآن المرأة حقيقةً ناقصةً وماهيةً غير كاملة؟!
من هنا; فالإشكالات التي ذكرناها سابقاً حول الحديث المتقدم، من مخالفة الأصول المسلّمة للإسلام ومذاق الشرع والآيات القرآنية، يجري في هذه الخطبة أيضاً، يضاف إلى أنه قد جاء هناك أنهنّ «نواقص الإيمان ونواقص الحظوظ»، وهذا ما يضاعف الإشكالات; ذلك أنه ـ وكما يقول العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان([60]) ـ يتساوى الرجل والمرأة في الحظ والملك، أو أن المرأة تحظى بمالكية أكبر; لهذا كانت هذه الرواية مخالفةً للواقع الخارجي; من هنا لا يمكن أن يكون مثل هذا الكلام صادراً عن أمير الكلام وباب مدينة علم الرسول.
2 ـ رواية داوود بن الحصين
عن أبي عبد الله×: «…وكان أمير المؤمنين(ع) يجيز شهادة المرأتين في النكاح عند الإنكار، ولا يجيز في الطلاق إلا شاهدين عدلين، فقلت: فأنّى ذكر الله تعالى قوله: فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ؟ فقال: ذلك في الدّين، إذا لم يكن رجلان، فرجل وامرأتان، ورجلٌ واحد ويمين المدّعي، إذا لم يكن امرأتان، قضى بذلك رسول الله(ص)وأمير المؤمنين(ع) بعده عندكم»([61]).
وكيفية الاستدلال أنه حيث سأل السائل عن الآية الشريفة، وأقرّه الإمام في سؤاله، عنى ذلك أن الآية ـ بإمضاء المعصوم ـ تدل على أن شهادة المرأتين في باب الدَّين تساوي شهادة الرجل الواحد، وفي كافة الموارد الأخر كذلك، فتساوي شهادتهما شهادته.
قراءة نقدية لرواية ابن الحصين
عندما يكون السؤال عن الآية والجواب في موردها، يرتبط تقرير الإمام تلقائياً بالآية نفسها، فكل ما يفهم من الآية سوف يكون حجةً; وقد ذكرنا أن في الآية علّةً وسبباً، وأن الحكم فيها تابع لهذه العلّة، وبعبارة أخرى: إن تقرير المعصوم لا يضيف شيئاً على معطى الآية، والآية تدل على تساوي قيمة شهادة المرأتين مع شهادة رجل واحد انطلاقاً من خصوصية النسيان، لا لمحض كون المرأة امرأةً، وهذه الخصوصية موجودة في نصّ الآية بوصفها سبباً ومبرراً للحكم.
ب ـ الروايات الواردة في الأبواب المختلفة
1 ـ روايات باب الحدود والوصية والإرث والديات
من جملة الروايات التي يمكن الاستناد إليها في مجال مساواة شهادة المرأتين لشهادة الرجل الواحد، ما جاء في أبواب مختلفة من الفقه الإسلامي; إذ يستنبط من هذه الروايات أن شهادة المرأتين تساوي شهادة رجل واحد في تمام الموارد والمواضع، انطلاقاً من كونها امرأة.
أ ـ باب الحدود: لقد وردت في باب الحدود أحاديث تدلّ على أن شهادة ثلاثة رجال وامرأتين يمكنها أن تثبت عقوبة الجلد أو الرجم في الزنا، ومع الأخذ بعين الاعتبار لزوم توفر أربعة شهود من الرجال في إثبات جريمة الزنا، يُعلم أن المرأتين قد جعلتا هنا في موضع الرجل الواحد، وذلك مثل روايات: أبي بصير([62])، وإبراهيم الحارثي (الحارقي)([63])، ومحمد بن الفضيل([64])، وعبد الله بن سنان([65])، وزرارة([66]).
ب ـ باب الوصية: وهي الأحاديث التي نقلت حول شهادة المرأة في باب الوصايا، والتي قُبِل فيها بشهادة المرأة الواحدة في ربع الوصية، مثل صحيحة السندي التي يرويها محمد بن قيس عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: «قضى أمير المؤمنين(ع) في وصية لم يشهدها إلا امرأة، فقضى أن تجاز شهادة المرأة في ربع الوصية»([67]).
ج ـ باب الإرث: تُثبت شهادة المرأة القابلة في ولادة الطفل ـ كما هي الحال في مجال الوصايا ـ ربع الإرث للولد، ففي خبر ابن سنان عن الإمام الصادق(ع)أنه قال: «تجوز شهادة القابلة في المولود إذا استهلّ وصاح في الميراث، ويورث الربع من الميراث بقدر شهادة امرأة واحدة»، قلت: فإن كانت امرأتين؟ قال: «تجوز شهادتهما في النصف من الميراث»([68]).
د ـ باب الديات: ثمة مجموعة من الروايات تقبل ـ أيضاً ـ شهادة المرأة الواحدة في ربع دية القتل، من قبيل رواية عبد الله بن الحكم أنه قال: سألت أبا عبد الله(ع)عن امرأة شهدت على رجل أنه دفع صبياً في بئر فمات، قال: «على الرجل ربع دية الصبي بشهادة المرأة»([69]).
ولا يفوتنا أنه سينتج بالدلالة الالتزامية من هذه المجموعات الثلاث من الروايات (الوصية ـ الإرث ـ الديات) أنه بشهادة أربع نساء تثبت الوصية والإرث والدية بتمامها، إذ عندما يثبت بشهادة المرأة الواحدة ربع هذه الموارد الثلاثة، فإن اللازم العرفي لذلك أن تكون شهادة أربع نساء موجبةً لثبوت الوصية والإرث والدية كاملةً. من ناحية أخرى، حيث إن هذه المواضيع تثبت بشهادة رجلين كان لازم ذلك أن تساوي شهادة الأربع نساء شهادة رجلين اثنين.
الانتقادات والإشكالات
أ ـ النقد المشترك
الجواب الإجمالي والمشترك الذي يتناول هذه الروايات كافة، هو أنها تدل على أزيد مما دلّت عليه الآية القرآنية، فقد جاء في كتاب الله تعالى أن علّة عدم المساواة هي إمكان النسيان في النساء، والآية واردة في الدَّين وهذه الروايات واردة في الدية والوصية والإرث، وهي أنحاء من الدين وتعدّ من القضايا المالية، فعبر الشهادة يثبت مال أو حق مالي للمشهود له، فتضيف مطلباً للآية، لكن الروايات عندما تريد بيان حكم على خلاف الآية، سواء بالإضافة أو الإنقاص، أو تريد أن تؤسّس حكماً تعبدياً، فإنها تحتاج لحشد من الروايات والأدلة أكثر وضوحاً; فلابد أن تكون النصوص صحيحةً صريحةً في هذا المضمون عن الأئمة المعصومين، ذلك أنه ثبت في محلّه أن الشارع عندما يريد بيان حكم على خلاف القواعد والبناءات العقلائية فإنه يبرزه ببيانات مختلفة، وفي أزمنة متفاوتة، وأمكنة متنوّعة، وبعبارات صريحة ونصّ قويم، مثل الردع عن القياس في استنباط الأحكام الشرعية، وإلاّ فإذا لم يكن الأمر كذلك، فسوف يحمل العقلاء والعرف تلك الأدلة الخاصة المحدودة التي تخالف بناءاتهم.. على مبانيهم وعلى ما لا يخالف تلك الارتكازات العقلائية. وبعبارة أخرى: إن الارتكاز العقلائي مانع عن التعبّد، وأيّ دليل لا يكون بهذه القوة والمتانة والاستحكام بحيث يمكنه أن يثبت ما يخالف البناءات العقلائية، فسوف يكون بنفسه دليلاً وتقريراً للأعمال العقلائية من قبل الشارع.
وخلاصة الكلام أن مدلول الروايات لا يدلّ على أكثر مما تفيده الآية الشريفة، وأن العلّة التي أبدتها الآية الكريمة تعود لتلعب دوراً في التعميم والتخصيص، كما بيّناه في الأبحاث السابقة، فنصرف النظر عنه فعلاً.
ب ـ الانتقادات الخاصة
وفي مجال الحديث عن الانتقادات الخاصة بكل باب من هذه الأبواب لابد من القول: إن روايات باب الحدود ليس فيها سوى إشعار بالأمر، ولا يمكن ـ بسبب الخصوصيات القائمة في باب الحدود، سيما تلك المجموعة من الحدود التي ترتبط بسمعة الأشخاص ومكانتهم الاجتماعية ـ التعدّي منها إلى أيّ باب آخر، ذلك أن بعض الخصوصيات من نوع «درء الحدّ بالشبهة» و«التخفيف» مما جاء في الحدود، تفرض أن يكون الشاهد رجلاً بل متعدداً وأن يُعمل بالإقرارات، وهذا ما يميز هذا الباب عن سائر الأبواب، ولذلك لا تكون الشهادة في الحدود العرضية جائزةً إلا عندما يكون هناك وضوح تام لدى الشاهد، بحيث رأى الميل في المكحلة، كما أنه في الأبواب الأخرى لابد أن تكون الشهادة عن علم واطلاع كافيين; وبناءً عليه لا يمكننا ـ مع وجود اعتبارات خاصة بباب الحدود ـ أن نعدّي هذا النوع من الشهادة إلى الأبواب الأخرى في الفقه ونلغي الخصوصية; ذلك أن الخصوصية واضحة ومعلومة، وإلغاء الخصوصية العرفية مع احتمالها غير صحيح ولا تام، فكيف مع العلم بها؟!
وهكذا الحال في الروايات الراجعة إلى نفوذ شهادة المرأة في ربع الإرث والوصية والدية، فليس فيها أكثر من إشعار، وإلا فالحكم في هذه الروايات لا علاقة له بحجية الخبر وشهادة المرأة، ذلك أنه عندما تكون شهادة أربع نساء حجةً، فإن خبر إحداهنّ لن يكون له أثر من الحجية والاعتبار، مع أنّ الشارع جعله حجةً; وعليه فنفوذ خبرها في الربع حكم تعبدي خاص; لأن الحجية لا تقبل التبعيض عند العقلاء، كما أنها غير معقولة في بعض المدلول دون بعض، رغم أنه لا مانع من تبعّضها من طرف الشارع في الأمور الاعتبارية، إلا أنّ هذا التعبد لابد له أن يثبت بالكثير من الأدلة والنصوص المحكمة.
2 ـ صحيح منصور بن حازم
ثمة رواية أخرى يرويها منصور بن حازم ـ وهو من الأصحاب والمحدّثين الكبار ـ عن أبي الحسن(ع)، قال: حدثني الثقة، عن أبي الحسن(ع)قال: «إذا شهد لصاحب الحق امرأتان ويمينه فهو جائز»([70]). وظاهر هذه الرواية أنها تبيّن أن شهادة المرأتين تساوي شهادة رجل واحد، ذلك أنه قد ثبت في محلّه أن شهادة الرجل الواحد تكفي ـ إذا صاحبتها يمين المدعي ـ في إثبات حقّه.
لكنّ هذه الرواية يعاني الاستدلال بها من مشاكل:
أ ـ أمّا من الناحية السنديّة، فلا تخلو هذه الرواية من إشكال; ذلك أنها مرسلة، ولا يُعلم من هو الثقة الذي نقل الرواية لمنصور بن حازم، ولعلّه لا يكون ثقةً عندنا، لكن يمكن القول: إن توثيق منصور ــ كتوثيق النجاشي ــ يعتبر حجةً بالنسبة إلينا.
ب ـ وأمّا من الناحية المتنية، فتعاني الرواية من مشكلة لغوية ودلالية; ذلك أنه جاء فيها: «إذا شهد لصاحب الحق امرأتان ويمينه فهو جائز» ولا يُعلم مرجع الضمير «هو» الوارد فيها; ذلك أن الشهادة مؤنث ولا يرجع ضمير «هو» إليها، كما أن رجوع هذا الضمير إلى صاحب الحق أمر لا معنى له، من هنا ثمة احتمال في حصول سقط أو زيادة في الرواية، وهو احتمال قوي، وإنما يجري أصل عدم الزيادة وعدم النقيصة وعدم تصرّف الراوي في الرواية عندما لا تكون هناك حجة على خلافه، وهذه المشكلة اللغوية الموجودة هنا تصلح حجةً على الخلاف; من هنا لا يمكن الاعتماد على هذه الرواية.
والإشكال الرئيس في هذا الحديث هو أنه في مقام بيان أنه لو اجتمعت شهادة المرأتين مع القَسَم كان ذلك في نفع المدّعي، وليست في مقام بيان أن شهادة المرأتين تساوي شهادة الرجل الواحد في تمام الحالات; وعليه لا إطلاق في الحديث من هذه الزاوية حتى نأخذ به ونحكم بمساواة شهادة المرأتين للرجل الواحد في تمام الموارد; وفي نتيجة الأمر لا يمكن أن يدلّ هذا الحديث على أزيد مما دلّت عليه الآية الكريمة، وقد تقدم أنّ الآية الشريفة قد جعلت النسيان في النساء هو العلّة للحكم، والحكم يدور مدار علّته وجوداً وعدماً، كما أنّ سعته وضيقه يتبعانها تلقائياً.
ونتيجة البحث: أنّه مع الأخذ بعين الاعتبار ما تقدم حتى الآن، نرى أن شهادة المرأتين لا تساوي شهادة الرجل الواحد بوصفها قاعدةً عامة، وأنه عندما جعل الشارع هذا القانون جعله في موارد خاصة لأسباب ترجع إلى المرأة، لا لمحض كون المرأة امرأةً.
وفي الأبحاث القادمة، وبالاعتماد على ما توصّلنا إليه، سندرس ونعالج فقهياً الموارد والموضوعات التي طرح فيها قانون مساواة شهادة المرأتين للرجل الواحد، وكذلك تلك الموارد التي لم تقبل فيها شهادة المرأة مطلقاً، ونرصد أدلّتها وبراهينها، لعلّنا نخرج بنتيجة تخالف ما توصّل إليه الفقهاء في هذا المضمار.
ـ يتبع ـ
الهوامش
(*)باحث وأستاذ في الحوزة العلمية، من إيران.
([1]) الفروع من الكافي 5: 494، كتاب النكاح، باب كراهية الرهبانية وترك الباه.
([2]) الكافي في الفقه: 436، 438.
([3]) المبسوط 8: 172.
([4]) شرائع الإسلام 4: 136.
([5]) مسالك الأفهام 14: 245.
([6]) النهاية: 332، باب شهادة النساء.
([7]) المراسم: 233.
([8]) المهذب 2: 558.
([9]) الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 222.
([10]) شرائع الإسلام 4: 137.
([11]) المختصر النافع في فقه الإمامية: 192.
([12]) تذكرة الفقهاء 9 : 445، مسألة: 265.
([13]) جامع الشتات 2: 713، حيث يقول: «ذكر أن إثبات حدّ الزنا واللواط لا بدّ ـ كما قرّر في محلّه ـ أن يكون بأربعة إقرارات أو أربعة شهود، كما فصّل في محلّه من كتب العلماء، وحيث لا نقول بإجراء الحدود في زمان غيبة الإمام× ونتوقف فيه، فلا ثمرة حينئذ لهذا البيان; إلا أن حاكم الشرع ـ أي المجتهد العادل ـ ربما أمكنه بمقتضى حاله أن يقوم بالتعزير; والأفضل أن يتوب الجاني ويسقط صاحب الحقّ حقه ويعفو، حتى يسقط الحدّ; لأنه من حقوق الناس».
([14]) جامع المدارك 5: 407.
([15]) جواهر الكلام 21: 394.
([16]) مجمع الفائدة والبرهان 7: 437.
([17]) المصدر نفسه 12: 24.
([18]) الجدير ذكره أن قاعدة «الحدود تدرأ بالشبهات» قاعدة إجماعية، ولا خلاف فيها، كما يقول صاحب الجواهر في الحديث عن حدّ السرقة: «كما لا خلاف ولا إشكال في درئه بالشبهة، كغيره من الحدود»، فانظر: جواهر الكلام 41: 481.
([19]) وسائل الشيعة 28: 47، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب مقدمات الحدود وأحكامها العامة، باب 24، ح4.
([20]) المصدر نفسه 28: 96 ـ 97، كتاب الحدود والتعزيرات، أبواب حدّ الزنا، باب 12، ح8، 9.
([21]) رغم أن الفقهاء يعتبرون هذا الحد بتهمة القذف (جواهر الكلام 41: 304)، إلا أن سماحة آية الله العظمى الصانعي، يرى أنه حدّ قائم على المصلحة بهدف الحفاظ والحيلولة دون تعرّض مكانات الأشخاص وسمعتهم للأذية، ولا دليل عرفاً ولا شرعاً ولا عقلاً ولا عقلائياً على أنه من باب الافتراء، كما أن ذلك غير موجود في الروايات لكن من حيث إن الشهادة ليست ظلماً ولا افتراءً، فلا يمكن جعل حدّ لها (تقريرات درس الصانعي)، والشاهد على صحة كلام الأستاذ أن صاحب الجواهر (جواهر الكلام 41: 298) ذكر في حكم جلد الشهود إذا كانوا أقلّ من أربعة أنه وإن أمكن كونهم صادقين، إلا أن الشارع سبحانه اعتبرهم كاذبين (النور: 12) وعليه، فليس الواقع هو معيار الصدق والكذب، وإنما المصلحة وسمعة الناس ومكانتهم.
([22]) قواعد الأحكام 3: 525.
([23]) إيضاح الفوائد 4: 475.
([24]) جواهر الكلام 41: 157.
([25]) وسائل الشيعة 20: 168، كتاب النكاح، أبواب مقدمات النكاح وآدابه، باب جملة من آداب عشرة النساء، ح1.
([26]) كفاية الأصول 2: 55.
([27]) فرائد الأصول 2: 49.
([28]) المنجد، مادة: وثق.
([29]) {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا..} (البقرة: 282)، و {..وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ.. } (البقرة: 283).
([30]) وسائل الشيعة 27: 232، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم، باب 2، ح 1.
([31]) المصدر نفسه 17: 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به، باب 4، ح4.
([32]) المصدر نفسه 27: 398، كتاب الشهادات، باب 41، ح20; وتهذيب الأحكام 6: 242، باب البيّنات، ح 597.
([33]) كشف اللثام 10: 325.
([34]) وسائل الشيعة 27: 268، أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى، باب 14، ح12.
([35]) مجمع الفائدة والبرهان 12: 15.
([36]) جواهر الكلام 41، كتاب القضاء.
([37]) كتاب الخلاف 6: 213، مسألة: 6.
([38]) مجمع المسائل 2: 21، السؤال: 6.
([39]) استفتاءات قضائي 1: 37، السؤال: 3.
([40]) وسائل الشيعة 27، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 9، ح1.
([41]) المصدر نفسه، باب 1، ح5.
([42]) لم يستدل على أن شهادة المرأة تقع على النصف من شهادة الرجل، بمسألة ضعف الرأي والإدراك عند النساء، سوى الفاضل الهندي صاحب كشف اللثام.
([43]) جواهر الكلام 4: 46.
([44]) جامع الشتات 2: 711، الطبعة الحجرية.
([45]) وسائل الشيعة 27: 389 ـ 390، كتاب الشهادات، باب 40، ح1، 4.
([46]) المبسوط 16: 112.
([47]) جواهر الكلام 41: 173.
([48]) المصدر نفسه: 170.
([49]) وسائل الشيعة 27، باب 9، من أبواب صفات القاضي، ح10، 11، 14، وغيرها من أحاديث هذا الباب.
([50]) لمزيد من الاطلاع هنا انظر: جوادي آملي، زن در آيينه جلال وجمال: 295 ـ 298، 306 ـ 316.
([51]) نهج البلاغة، الخطبة: 80.
([52]) الغدير 5: 301; سلسلة الكذابين والوضاعين.
([53]) علم الحديث ودراية الحديث: 114.
([54]) بحار الأنوار 2: 217.
([55]) المصدر نفسه: 246.
([56]) تفسير البرهان 1: 263.
([57]) وسائل الشيعة 27: 399، كتاب الشهادات، باب 41، ح22.
([58]) أصول الكافي 2: 511، كتاب الدعاء، باب من لا تستجاب دعوته، ح2.
([59]) نهج البلاغة، الخطبة: 80.
([60]) الميزان 4: 207.
([61]) وسائل الشيعة 27: 360، كتاب الشهادات، باب 24، ح35.
([62]) المصدر نفسه: 351، كتاب الشهادات، باب 24، ح4.
([63]) المصدر نفسه: 352، ح5.
([64]) المصدر نفسه، ح7.
([65]) المصدر نفسه: 353، ح10.
([66]) المصدر نفسه: 354، ح11.
([67]) المصدر نفسه: 355، ح15.
([68]) المصدر نفسه: 364، ح45.
([69]) المصدر نفسه 27: 359، كتاب الشهادات، باب 24، ح33.
([70]) المصدر نفسه، ح31.