قراءةٌ جديدة
الشيخ روح الله ملكيان(*)
من الصلوات التي تَعَرَّضَ لها القرآن صلاةٌ يصلّيها المسلمون في حال الخوف من العدوّ الكافر، فسُمِّيت صلاة الخوف؛ تسميةً للشيء باسم سببه. والقرآن الكريم تعرَّض لتفصيلها في الآيات 101 إلى 103 من سورة النساء. فلنذكر هذه الآية، ونحاول تدبّرها، فقرةً بعد فقرةً؛ فهماً لمراداتها.
﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً * وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً * فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً﴾ (النساء: 101 ـ 103).
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ﴾
للضرب أكثر من ثلاثين معنىً حقيقيّاً ومجازيّاً. ففي معجم الأخطاء الشائعة ذكر قريباً من ثلاثين معنىً مجازيّاً له، منها: الضرب في الأرض، فقال: «ضرب الرجل في الأرض: ذهب وأبعد»([1]). وقال الراغب في المفردات: «الضَّرْبُ: إيقاعُ شيءٍ على شيء. ولتصوّر اختلاف الضّرب خولف بين تفاسيرها… والضَّرْب في الأرض: الذهاب فيها، وهو ضَرْبُها بالأرجل. قال: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ﴾…». ومثله في الموسوعة القرآنية([2])، وكنز الدقائق([3])، ذيل الآية 26 من سورة البقرة. وفي معجم ألفاظ القرآن الكريم: «الضرب: إيقاع شيء على شيء، ولاختلاف ما يوقع يختلف تفسير الضرب…». وفي إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن: «الضرب في الأرض الذهاب والتصرّف»([4]). وفي البحر المحيط: «الضرب في الأرض: الإبعاد فيها والذهاب لحاجة الإنسان»([5]). وفي فتح القدير: «معنى الآية أنّ الله سبحانه بعد أن أذن بالنَّبْذ إلى المشركين بعهدهم أباح للمشركين الضَّرْب في الأرض والذهاب إلى حيث يريدون»([6]). ومثله في نيل المرام من تفسير آيات الأحكام([7]). وفي رياض السالكين: «والاضطراب: افتعال من الضرب، ومعناه كثرة الذهاب في الجهات وعدم الاستقرار في جهةٍ، وهو من الضرب في الأرض، وهو الذهاب فيها، وسُمِّي الذهاب في الأرض ضرباً لضربها بالأرجل»([8]). وفي مقدّمة فتح الباري: «قوله: «ويضرب الحوت» أي يتحرّك ليذهب، وهو من الضرب في الأرض، بمعنى الذهاب فيها»([9]).
ولْننظر إلى سائر الآيات التي عُبِّر فيها بـ «الضرب في الأرض» عن نحوٍ من الذهاب فيها؛ ليتّضح مراد القرآن بـ «الضرب في الأرض» في آيتنا هذه.
وهذه الآيات على الترتيب المذكور في المصحف الشريف كالتالي:
1ـ ﴿لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمْ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلحَافاً وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 273). هذه الآية تقول: إنّ الله تعالى جعل الصدقات المذكورة في الآيات السابقة عليها لطائفةٍ خاصّة من الفقراء، وهم الذين اجتمع فيهم وصفان: أحدهما: الإحصار في سبيل الله؛ ثانيهما: عدم استطاعتهم ضرباً في الأرض. وهذان الوصفان لم يعطف أحدهما على الآخر، حيث لم يقُلْ: «أُحْصِروا… ولا يستطيعون». مضافاً إلى أنّ الجملة الأولى جاءت بصيغة الماضي والثانية بصيغة المضارع، فلم يقُلْ: «أُحصِروا… لم يستطيعوا». ولا يكون تقدُّمُ ذكر الأوّل ﴿أُحْصِرُوا﴾ على الثاني ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ﴾ إلاّ لأجل كون الوصف الثاني من حالات الأوّل وقيوده. وعلى هذا تكون الجملة الثانية حالاً من ضمير ﴿أُحْصِرُوا﴾، كما صرّح به الجرجانيّ في آيات الأحكام([10])، والدرويش في إعراب القرآن وبيانه([11])، وغيرُهما. ولذا تأخَّر عن الأولى تأخُّر الحال عن ذيه، أو الصفة عن موصوفها، أو العَرَض عن معروضه، ما شئتَ فعبِّرْ. فعلى هذا لا يكون تقدُّم ذكر الوصف الأوّل ﴿أُحْصِرُوا﴾ على الوصف الثاني ﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ﴾ إلاّ لأجل كون الوصف الثاني من حالات الأوّل وقيوده.
وينبغي أن يُذكَر من أنحاء التأخّر ـ مضافاً إلى أقسامه المذكورة في الفلسفة ـ تأخُّر الحال عن ذيه، أو العَرَض عن معروضه؛ إذ ليس من قبيل: السبق الزماني، ولا السبق بالعلّية، أو بالماهية أو بالحقيقة أو بالدهر أو بالرتبة أو بالشرف. نعم، يمكن أن يكون سبق ذي الحال على الحال من قبيل: السبق بالطبع، وهو تقدم العلّة الناقصة على المعلول، كتقدُّم الاثنين على الثلاثة؛ فإنّ العقل يحكم بأنّه لا تحقّق للثلاثة إلاّ والاثنين متحقّق، ويتحقّق الاثنين ولا تحقّق للثلاثة. بل هو منه على ما صرَّح به المحقّق الطوسيّ في أساس الاقتباس([12]). ففي المقام لا يتحقّق عدم استطاعة الضرب في الأرض إلاّ بعد تحقّق ﴿الَّذِينَ أُحْصِرُوا﴾. وقد يتحقّق عدم استطاعة الضرب في الأرض ولا يتحقّق ﴿الَّذِينَ أُحْصِرُوا﴾. وليس هذا السبق بين نفس وصفي الإحصار وعدم الاستطاعة؛ للزوم أن يكون الإحصارُ جزءَ العلّة في تحقّق عدم استطاعة الضرب في الأرض. وهذا ما يأباه ظاهر الآية؛ إذ بناءً على محاورات العُرْف لزم حينئذٍ عطف الثاني على الأول بالفاء، فيقال: «للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله فلا يستطيعون ضرباً في الأرض».
وعليه يكون المعنى أنّ تلك الصدقات لأولئك الفقراء الذين أُحصروا في سبيل الله حال كونهم لا يستطيعون ضرباً في الأرض، فيكون إحصارُهم المنضمُّ إلى عدم استطاعتهم للضرب سبباً لبقاء فَقْرِهم الموجِب لاستحقاقهم تلك الصدقات. وليس معنى الإحصار هو الحصر؛ لأنّهم لو كانوا محصورين لما أمكن إيتاء الصدقات لهم، بل هو بمعناه في قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ… فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إِلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ…﴾ (البقرة: 196)، والمقابلة بين الإحصار والأمن فيه يدلّ على تضمُّنه لنحوٍ من الخوف وعدم الأمن. والحاصل من الآية أنّ تلك الصدقات للفقراء الذين يعيشون في نحوٍ من الخوف من الأعداء حال كونهم لا يستطيعون أن يذهبوا في الأرض ويبعدوا من تلك الظروف، أو يذهبوا لتحصيل معايشهم.
2ـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا…﴾ (آل عمران: 156). قضية قولهم: «لو كانوا عندنا» أنّ الضاربين في الأرض والغزّى ليسوا عند أولئك القائلين، بل كانوا بعيدين عنهم. وهذا البُعْد ـ لا محالة ـ حصل بالذهاب. والمقابلة بين «ضربهم في الأرض» و»كونهم غزّىً» في الآية تفيد أنّ الضاربين يفترقون عن الغزّى، مع أنّ كلتا الطائفتين ذهبت وكانت بعيدة عن أولئك القائلين. وهذا ممّا يدلّ على أنّ الضرب في الأرض ذهابٌ فيها لغير الغزاء والقتال، كما سيأتي تفصيله.
3ـ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ…﴾ (المائدة: 106). تفرُّعُ شهادة آخرين من غير المؤمنين على أنّهم ضاربون في الأرض يفيد أنّهم بعيدون عن مجتمعهم، فاضطُرّوا إلى غير المؤمنين. ومن المعلوم أنّ بُعْدَهم تحقّق بالذهاب عن مجتمع المؤمنين.
4ـ ﴿فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَأُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ…﴾ (المزمِّل: 20). المستفاد من هذه الآية وسائر الآيات([13]) المشتملة على «ابتغاء الفضل» هو أنّ ابتغاء الفضل من الله هو نحوٌ من الطلب الشديد لرزق الله تعالى، ومن المعلوم أنّ هذا الطلب الشديد يتحقَّق بنحوٍ من الذهاب في الأرض.
وإنْ استُظْهِر من جملة: ﴿يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ﴾ هنا أنّ الضاربين في الأرض هم المبتغون من فضل الله فتكون هذه الجملة توضيحاً لسابقتها، وإنْ كان الأصل في الكلام كونه تأسيسيّاً. والوجه في هذا الاستظهار أنّ الآية بصدد بيان التخفيف في قراءة القرآن على ثلاث طوائف من المسلمين، هم: المرضى؛ والضاربون في الأرض؛ والمقاتلون في سبيل الله. ومن المعلوم أنّ الطالبين لرزق الله لا خصوصيّة لهم حتّى يخصّهم الله تعالى من سائر أصناف الضاربين في الأرض بهذا التخفيف، فلو كان هناك صنفٌ آخر للضرب في الأرض لما خصَّ ابتغاء الفضل بالذِّكر، فقوله: ﴿يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ﴾ قيدٌ توضيحيّ لقوله: ﴿يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ﴾، لا في عرضه مفهوماً وفي مقابله.
فجوابه أنّ هذه الجملة غير ظاهرة في ما ذُكر؛ لأنّ التخفيف المذكور جُعِل لأجل ما فيه الطوائف المذكورة من المشقّة والألم، فيدور الحكم التخفيفيّ مدار المشقّة الواقعة عليهم بالمرض والضرب في الأرض والقتال. ومن المعلوم أنّ الضرب في الأرض بإطلاقه يعمّ أيَّ نحوٍ من الذهاب فيها، سواءٌ كان كثيراً أم قليلاً. ولكنْ ليس على مطلق الضارب في الأرض مشقّة، كمَنْ يذهب من البلد إلى خارجها القريب، فليس هو مشمولاً لهذا التخفيف الدائر مدار المشقّة. ولهذا قُيِّد الضاربون في الأرض بقيدٍ يجعل ضربهم مشتملاً على نحوٍ من المشقّة، وهو أنّهم يبتغون من فضل الله؛ إذ الذهاب القليل أو الذهاب للتفرُّج ليست فيه مشقّة توجب التخفيف على الذاهب.
والذي يُنتجه النظرُ في هذه الآيات المباركات أنّ «الضرب في الأرض» هو الحركة والسير فيها بالذهاب فيها؛ لغرض من الأغراض، غير الجهاد.
والدليل على أنّ هذا الذهاب ليس جهاديّاً ثلاثُ آيات:
الأولى: قوله تعالى: ﴿إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزّىً﴾ (آل عمران: 156). وقد مضى آنفاً أنّ الضاربين في الأرض والغزّى كانوا بعيدين عن أولئك القائلين، وهذا البُعْد حصل بالذهاب. فهاتان الطائفتان اشتركتا في الذهاب، وكان ظرفُ ذهاب كلتَيْهما الأرضَ، فكانتا ذاهبتين في الأرض لا محالة. ولكنْ مع ذلك نرى أنّ كونهم غزّىً عُطِف على ضربهم في الأرض بـ (أو)، القاطعة للشركة بينهما في المعنى ضرورةً. فعنوان الضارب في الأرض يغاير عنوان الغازي بالكلّية، خصوصاً بقرينة الحكاية عن الضاربين في الأرض بأنّهم ﴿مَاتُوا﴾ وعن الغُزاة بأنّهم ﴿قُتِلُوا﴾.
الثانية: قوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾، حيث جعل الضارب في الأرض قسيماً للمقاتل في سبيل الله. ومن المعلوم أنّ القتال المذكور هنا ليس غزوة الأحزاب الواقعة حول المدينة؛ إذ لا يتصوّر قبلها وحينها أنّ طائفة من المؤمنين كانوا ضاربين في الأرض، وسائر المعارك في صدر الإسلام لم تقع في المدينة، فهو يتضمّن ـ لا محالة ـ الذهاب في الأرض، فلو كان الضرب في الأرض شاملاً للقتال لم يجعل الله القتال قسيماً له، بل كان يجعله قسماً له، وقال: «وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله أو يقاتلون في سبيل الله».
الثالثة: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ (النساء: 94)؛ إذ المستفاد من قوله: ﴿وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أنّ الضاربين في سبيل الله كانوا في موضع عدم السلم لمَنْ ألقى إليهم السلام؛ حيث نهاهم الله تعالى عن اتِّخاذ هذا الموضع بقوله: ﴿وَلاَ تَقُولُوا لمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً﴾، بل كانوا في موضع قتله أو قتاله؛ حيث ذمَّهم الله تعالى على أنّهم يبتغون الغنيمة، وهي لا تحصل بدون القتال غالباً. وهذا موقع الذين يذهبون مجاهدين في سبيل الله. مضافاً إلى أنّ القتال لله أظهر مصاديق «سبيل الله». كما يدلّ على اتّحادهم مصداقاً قولُه تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصابَهُمْ في سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 146)؛ إذ ﴿مَا أَصابَهُمْ في سَبِيلِ اللهِ﴾ هو نفس ما أصابهم في القتال المذكور في الآية.
وعلى هذا فـ «الضرب في سبيل الله» هو الذهاب الذي بُدِئ للجهاد، سواءٌ انجرّ إلى القتال أم لا. والدالّ على عدم لزوم تضمّن هذا الذهاب للقتال قولُه تعالى من دون فصلٍ في الآية بعد الضرب في سبيل الله: ﴿فَتَبَيَّنُوا وَلاَ تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً﴾؛ إذ لو كان القتال من أجزاء هذا الذهاب أو لوازمه لم يصحّ إطلاق «الضرب في سبيل الله» على ضربٍ تبيَّنوا فيه ولم يقاتلوا.
وبالجملة نرى في هذه الآيات الخمسة ضربين: أحدهما: الضرب في الأرض؛ والثاني: الضرب في سبيل الله. ويشتركان من وجهٍ ـ قضيّة اشتراكهما في «الضرب في» ـ، ويفترقان من آخرٍ ـ قضيّة تغاير متعلَّقهما ـ؛ إذ متعلَّق الأول «الأرض» ومتعلَّق الثاني «سبيل الله». والمعنى الذي اشتركا فيه هو الذهاب، ولكنْ افترقا في أنّ الأوّل يقع في الأرض، والثاني في سبيل الله. والمستفاد من الآيات المتقدّمة أنّ الضرب في سبيل الله هو الذهاب للجهاد، والضرب في الأرض هو الذهاب لأغراض أخرى. وعليه فالمراد بقوله تعالى: ﴿ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ﴾ في آيتنا المبحوث عنها هو نحوٌ من الذهاب في الأرض، قليلاً كان أو كثيراً، فهو أعمّ من السفر مطلقاً، كما سيأتي مزيد إيضاح له. ولكنْ ليس المراد به الذهاب الجهاديّ؛ إذ القرآن يعبِّر دائماً عن هذا الذهاب بـ «الضرب في سبيل الله»، كما تقدَّم في الآية الأخيرة. وقد تقدّم أيضاً أنّه تعالى جعل الضرب في الأرض قسيماً للغزو وللقتال في سبيله.
فإنْ قلتَ: كيف لا يكون المراد في آية الخوف الذهابُ الجهاديّ مع أنّه في الآية التالية يأمر بأخذ السلاح والحِذْر، وهذا أمرٌ يتّفق في الجهاد، لا في غيره؟ هذا أوّلاً.
وثانياً: إنّ الآية 104 من نفس السورة تقول: ﴿وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ﴾. فابتغاء القوم ـ وهو نحوٌ من طلب الكفّار وتعقيبهم ـ يلائم الجهاد.
قلتُ: من المعلوم أنّ الذهاب في الأرض لغير الجهاد أيضاً في الأعصار الماضية ـ ولا سيَّما في الصدر الأوّل من ظهور الإسلام ـ لم ينافِ مصاحبة السلاح والحِذْر، بل هو متضمّنٌ لحملهما غالباً؛ دفعاً للعدوّ المحتمل. وأمّا ابتغاء الكفّار فلا يلزمه كونُ الذهاب بُدِئ بغرض الجهاد؛ إذ الجهاد قد يَعْرِض الضاربين في أثناء ذهابهم، كما قد يعرضهم القتال بعد أن لم يكونوا قاصدين له. وفي جملة: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ﴾ دلالةٌ على أنّ الضرب هنا غيرُ جهاديّ، وسيجيء الكلام حولها.
ولننظر إلى بعض ما قيل في شأن نزول الآية؛ لنعلم أيّ الأقوال يلائمها.
في تفسير مقاتل: «﴿وَإِذا ضَرَبْتُمْ﴾ يعنى سرتم، ﴿فِي الأَرْضِ﴾ يعني غزوة بني أنمار ببطن مكّة»([14]).
وفي التحرير والتنوير: «وأكثر الآثار تدلّ على أنّ مشروعيّتها كانت في غزوة ذات الرقاع، بموضعٍ يقال له: نخلة بين عسفان وضجنان من نجد، حين لقوا جموع غطفان، محارب وأنمار وثعلبة. وكانت بين سنة ستّ وسنة سبع من الهجرة، وأنّ أوّل صلاة صُلِّيت بها هي صلاة العصر، وأنّ سببها أنّ المشركين لما رأوا حرص المسلمين على الصلاة قالوا: هذه الصلاة فرصة لنا، لو أغرنا عليهم لأصبناهم على غرّةٍ، فأنبأ الله بذلك نبيّهﷺ، ونزلت الآية»([15]).
وفي روح البيان: «قال ابن عبّاس: لما رأى المشركون رسول اللهﷺ وأصحابه قاموا الى صلاة الظهر، وهو يؤمّهم، وذلك في غزوة ذات الرقاع، ندموا على تركهم الإقدام على قتالهم، فقال بعضهم: دعوهم؛ فإنّ لهم بعدها صلاة هي أحبّ إليهم من آبائهم وأولادهم وأموالهم ـ يريدون صلاة العصر ـ، فإنْ رأيتموهم قاموا إليها فشُدّوا عليهم، فاقتلوهم. فنزل جبرائيل× بهذه الآيات بين الصلاتين، فعلَّمه كيفيّة أداء صلاة الخوف، وأطلعه الله على قصدهم ومكرهم»([16]).
وفي جواهر الحسان: «ومعظم الروايات والأحاديث على أنّ صلاة الخوف إنّما نزلت الرخصة فيها في غزوة ذات الرقاع»([17]).
وقالوا أيضاً: إنّ غزوة ذات الرقاع تسمّى بأسامٍ، مثل: غزوة محارب، وغزوة بني ثعلبة، وغزوة بني أنمار، وغزوة صلاة الخوف([18]).
ولكنْ يُعلَم بما قلنا أنّ الآية إنّما نزلت في ذهابٍ غير جهاديّ للمسلمين كان النبيّ| معهم، فلا يلائمها من الروايات ما تقول بأنّها نزلت في بعض الغزوات، سواءٌ كانت غزوة ذات الرقاع أو بني النضير أو عسفان أو غيرها؛ لأنّ المسلمين في جميع هذه الغزوات خرجوا ضاربين في سبيل الله، قاصدين للقتال، فكان ضربهم ذهاباً جهاديّاً يغاير الضرب في الأرض([19]).
وهنا روايةٌ توافق الآية من هذه الجهة، وهي قائلة بأنّها نزلت لمّا خرج رسول الله| إلى الحديبية، يريد مكّة للعمرة والحجّ، فلمّا وقع الخبر إلى قريش بعثوا خالد بن الوليد في مئتي فارس، كميناً يستقبل رسول الله|، فكان يعارضه على الجبال. فلمّا كان في بعض الطريق، وحضرت صلاة الظهر، فأذّن بلال، فصلّى رسول الله| بالناس، قال خالد بن الوليد: لو كنّا حملنا عليهم وهم في الصلاة لأصبناهم ـ فإنّهم لا يقطعون صلاتهم ـ، ولكن تجيء لهم الآن صلاة أخرى هي أحبّ إليهم من ضياء أبصارهم، فإذا دخلوا في الصلاة أغَرْنا عليهم، فنزل جبرئيل× على رسول الله| بصلاة الخوف في قوله: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ…﴾([20]).
ولا يعارضه ما رواه الصدوق، في مَنْ لا يحضره الفقيه، من أنّ النبيّ| قد صلّى بأصحابه صلاة الخوف في ذات الرقاع([21])؛ فإنّ هذه الرواية ليس فيها أنّ جبرئيل قد نزل بصلاة الخوف آنئذٍ، ولا أنّ الآية قد نزلت أيضاً في غزوة ذات الرقاع، وإنْ كان الإمام× بعد أن ذكر كيفيّة صلاته| بأصحابه صلاة الخوف قد أورد الآية، مظهراً بذلك موافقة فعلٍ من النبيّ| لمضمونها. فتشريع صلاة الخوف قد كان في الحديبية التي كانت في آخر سنة ستٍّ، ثمّ صلاها| مرّةً أخرى بأصحابه في غزوة ذات الرقاع، التي كانت في السنة السابعة([22]).
وهنا عبّر بالضرب في الأرض، وفي آيتي الصوم بالسفر، حيث قال تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ (البقرة: 184)، ﴿وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ (البقرة: 185)، وكذا في آية الرهن، فقال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً﴾ (البقرة: 283)، وفي آيتي الطهارة، حيث قال: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ﴾ (النساء: 43 والمائدة: 6). وقال في التحقيق في كلمات القرآن الكريم في وجه العدول هنا عن التعبير بالسفر إلى الضرب في الأرض: «إنّ الضرب في الأرض يطلق على السير إذا كان المشي على تفهُّم وتدبُّر في الأقدام، فكأنّ كلّ قدم وضرب رِجْل يُلاحَظ في نفسه. وهذا بخلاف ما إذا كان النظر إلى تحقّق سير أو حركة أو سفر أو مشي أو عَدْو أو إسراع أو سلوك، فإنّ النظر في كلٍّ منها إلى خصوصيّة في مفهومه، يغاير ضرب الرِّجْل»([23]).
وقال في البحر المحيط: «والضرب: إمساس جسم بجسم بعنف، ويكنّى به عن السفر في الأرض»([24]). وفي تبيين القرآن: «والضرب كنايةٌ عن السفر»([25]).
وفي التحرير والتنوير: «والضرب في الأرض هو السفر. فالضرب مستعمل في السير؛ لأنّ أصل الضَّرْب هو إيقاع جسم على جسم وقرعه به. فالسير ضَرْبٌ في الأرض بالأرجل. فأطلق على السفر للتجارة في قوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ﴾ [المزمل: 20]، وعلى مطلق السفر، كما هنا، وعلى السفر للغزو، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا﴾ [النساء: 94]، وقوله: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ﴾ [النساء: 101]. والظاهر أنّ المراد هنا السفر في مصالح المسلمين؛ لأنّ ذلك هو الذي يلومهم عليه الكفّار. وقيل: أريد بالضرب في الأرض التجارة. وعليه يكون قرنه مع القتل في الغزو لكونهما كذلك في عقيدة الكفّار»([26]). وفيه أيضاً: «والضرب في الأرض: السفر»([27]). وفيه أيضاً: «والضرب في الأرض: السير فيها. والمراد به السفر»([28]).
وفي تفسير آيات الأحكام، لمحمد عليّ السائس: «الضرب في الأرض: السير فيها، والسفر للتجارة والتعيُّش»([29]).
وفي تفسير ابن كثير: «وقوله ﴿لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ يعني المهاجرين الذين انقطعوا إلى الله وإلى رسوله، وسكنوا المدينة، وليس لهم سببٌ يردّون به على أنفسهم ما يغنيهم. و﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ﴾ يعني سفراً، للتسبُّب في طلب المعاش. والضرب في الأرض هو السفر، قال الله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ﴾ [النساء: 101]، وقال تعالى: ﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾ [المزمّل: 20]»([30]).
وفي تفسير ابن القيِّم: «والضرب في الأرض هو السفر. قال تعالى: ﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ﴾، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ﴾»([31]).
وفي الكاشف: «الضرب في الأرض: السفر»([32]).
وفي التفسير المنير، لوهبة الزحيلي: «﴿لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ﴾ أي لا يتمكَّنون من القيام بالسفر أو السَّيْر في البلاد للتجارة والكسب. والضرب في الأرض هو السَّفَر. وعجزهم لأسباب عديدة، منها: الكبر والشيخوخة، ومنها: المرض، ومنها: الخوف من العدوّ، ونحو ذلك من الضرورات»([33]).
وفي تفسير الوسيط: «وقوله: ﴿عَلِمَ أَنْ﴾ «أن» مخفَّفة من الثقيلة، أي إنّه يكون. والضرب في الأرض هو السفر للتجارة»([34]).
وفي تفسير الوسيط، للطنطاوي: «وقوله: ﴿أَوْ كَانُوا غُزّىً﴾ معطوفٌ على ﴿ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ﴾، من عطف الخاصّ بعد العامّ؛ اعتناءً به؛ لأنّ الغزو هو المقصود في هذا المقام، وما قبله توطئةٌ له. قالوا: على أنّه قد يوجد الغزو بدون الضرب في الأرض؛ بناءً على أنّ المراد بالضرب في الأرض السفر البعيد، فيكون على هذا بين الضرب في الأرض وبين الغزو خصوصٌ وعمومٌ من وجه»([35]).
وفيه أيضاً: «قوله: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ﴾ أي إذا سافرتم. وأطلق الضرب في الأرض على السفر؛ لأنّ المسافر يضرب برجله وبراحلته على الأرض. والمراد من الأرض ما يشمل البرَّ والبحر، أي إذا سافرتم أيّها المؤمنون في أيّ مكانٍ يُسافَر فيه، من برٍّ أو بحر»([36]).
ولكنّ التحقيق أنّ الضرب في الأرض أعمّ من السفر مطلقاً. فكلّ سفر متضمّن للضرب في الأرض والذهاب فيه، ولكنْ رُبَما لا يبلغ هذا الذهاب حدّ السفر. وهذا واضحٌ؛ إذ قد يكون الضرب قليلاً، كالذهاب من البلدة إلى حوالَيْها وأطرافها، فلا يطلق عليه السفر، وإنْ كان مشتملاً على الضرب لا محالة. ولذا صرّح الفقهاء بأنّ قصر صلاة الخوف بالكيفيّة المذكورة في الآية غير مشروط بالسفر، فلو كان مطلق الضرب في الأرض يُعَدّ سفراً لكان قولهم هذا خلاف صريح الاشتراط في الآية بقوله: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ﴾. وأيضاً قالوا في تلقّي الرَّكْب المنهيّ عنه ـ وهو الخروج إليهم ـ: إنّ «حدّه أربعةُ فراسخَ فما دون، فلا يُكْرَه ما زاد؛ لأنّه سفرٌ للتجارة»([37]). وهذا الكلام صريحٌ في أنّ السفر قسمٌ خاصّ من الخروج من البلد، لا يطلق على أربعة فراسخ فما دون.
وهذا الفرق يتّضح من الآيات المشتملة على «السفر» أيضاً. فانظر إلى آيتي الطهارة، حيث جعل التيمّم لمَنْ كان على سفر، فلو كان مطلق الضرب في الأرض سفراً لجاز التيمُّم لمَنْ خرج عن بلده قريباً؛ إذ هو ضارب في الأرض بلا رَيْب. ومعلومٌ أنّه لا يجوز له التيمُّم. وكذا آيتا الصوم، فلا يجوز لكلّ مَنْ خرج عن بلده الإفطار إذا لم يكن على السفر، مع أنّه ضارب في الأرض قطعاً. وكذا آية الرهن، وغيرها.
قوله تعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ﴾
«الجناح» معرَّب «گناه» بالفارسيّة على ما قالوه. قال الدكتور محمد معين: «جناح jonah [معرب گناه] (اِ.) گناه، بزه». وقال الدكتور آذرنوش في مدخل «بشر بن أبي حازم» (من شعراء أواخر العصر الجاهليّ) من دائرة المعارف الإسلامية: «في ديوانه ذُكرت عدّة كلمات فارسية، وهي بالتأكيد من المعرَّبات القديمة، وليست من الكلمات الفارسية الجديدة، كالموجودة في ديوان الأعشى، فلاحِظْ: جُناح = گناه». ولعلّ معناه قريبٌ إلى معنى الإثم وإنْ كان بينهما فرق، لا محالة. كما أنّ معناهما قريبٌ إلى معاني الجرم والذنب والظلم والخطيئة والمعصية وما أشبهها. ولا سبيل إلى معرفة الفارق بين هذه الكلمات إلاّ التدبّر في استعمالات القرآن لها. وهذه الكلمات كثيرة الاستعمال في القرآن، فالبحث عنها يحتاج إلى كتابة رسالةٍ مستقلّة موقوفة على توفيقٍ من الله تعالى.
وعبارة ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ﴾ صريحةٌ في الرخصة؛ لدلالة ألفاظها عليها، دلالةً لا يشوبها احتمالُ الخلاف. كما أنها تستفاد صريحاً من نفس الجملة في الآية 198 من البقرة: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُم﴾، والآية 282 من نفس السورة: ﴿إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُديرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ لا تَكْتُبُوهَا﴾، والآية 93 من المائدة: ﴿لَيْسَ عَلَى الِّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِي مَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، والآيات 29 و58 و60 و61 من سورة النور: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ﴾، ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ﴾، ﴿فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ﴾، ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً﴾، والآية 5 من سورة الأحزاب: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِي مَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ﴾.
وكذلك ﴿لاَ جُنَاحَ﴾ في ستّة عشر موضعاً ـ ستأتي قريباً ـ، في خمس عشرة آية (ومنها: الآية التالية: ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ… أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ﴾)، فهو أيضاً صريحٌ في الرخصة في جميع المواضع، ولم نجد قائلاً بالعزيمة في هذه المواضع العديدة، وكذا في المواضع الأخرى من «ليس عليكم جناح». بل قال بعضهم بدلالته على الرخصة، ومنهم: الگنابادي في بيان السعادة، بعد قوله تعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ لاَ تَكْتُبُوها﴾: «وهذا يدلّ على أنّ الأوامر السابقة كانت للوجوب»([38]). ومنهم مكارم الشيرازي في الأمثل: «وتعبير ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ﴾ يعني: ليس هناك ما يمنع من كتابة العقود النقديّة أيضاً…»([39]). وليست في الآية ولا في غيرها من الآيات البيّنات قرينةٌ توجب صرف الكلام عن هذا المدلول الصريح. وعليه فالقول بدلالة هذه العبارة على العزيمة خلاف الصريح من الألفاظ، ويُرَدّ إلى قائله. نعم، لو دلّت آيةٌ أخرى على وجوب العمل المرخَّص فيه فنقول بها بوجوبه؛ إذ لا تنافي بين دلالة «عدم الجناح» على جواز فعل ودلالة آية أخرى على وجوبه؛ إذ الرخصةُ والإلزامُ يجتمعان. فالآية الدالّة على وجوبه ليست قرينةً على صرف «عدم الجناح» عن مدلوله الصريح؛ إذ الجواز لا ينافي الوجوبَ ليُلزمنا رفعَ اليد عن ظاهر أحدهما، بل الآيةُ الثانية حكمٌ آخر شُرِّع ثانياً.
كما أنّ الأمر كذلك في الطواف بالصَّفا والمَرْوة. فقوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 158) يدلّ صريحاً على جواز الطواف بهما، وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ الله﴾ (المائدة: 2)، وقوله: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ﴾ (الحجّ: 32) يدلاّن على وجوبه، لا أنّهما يصرفان مدلول الآية الأولى في الجواز إلى الوجوب. مضافاً إلى أنّ نفي الجناح عن قصر الصلاة جاء بلفظ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ﴾، ونفي الجناح عن التطوّف بالصفا والمروة جاء بلفظ: ﴿لاَ جُنَاحَ﴾، وبينهما فرقٌ ـ سيجيء قريباً ـ، فلا يصحّ قياس أحدهما بالآخر. وهذا واضحٌ لا غبار عليه. وإنّما نبّهنا عليه إيضاحاً لإبطال ما استدلّ به على أنّ قصر الصلاة عزيمة، حيث قيل: إنّ الطواف بالصفا والمروة واجبٌ قطعاً، مع أنّ الله تعالى قال: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا﴾، فالأمر بالنسبة إلى قصر الصلاة كذلك.
ولا بأس هنا بالإشارة إلى الفارق بين مدلولي «لا جناح» و«ليس عليكم جناح»؛ فالأوّل مركَّبٌ من «لا» النافية للجنس واسمها؛ والثانية من «ليس» ـ وهو من الأفعال الناقصة ـ واسمه. ودلالة الجملة الاسميّة آكد من الجملة الفعلية المسانخة لها في المعنى. كما أنّ دلالة «لا» على النفي آكد من «ليس». وعليه يكون «لا جناح» آكد من «ليس عليكم جناح» في نفي الجناح بوجهين. هذا ما قاله علماء العربيّة. والنظر إلى الموارد التي نُفِيَ الجناح عنها بعبارة: «لا جناح»، ومقارنتها بالموارد التي نُفِيَ الجناح عنها بعبارة «ليس عليكم جناح» يوصلنا إلى فارقٍ رئيس بين هاتين الطائفتين، وهو أنّ ما نُفِيَ الجناح عنها بعبارة «ليس عليكم جناح» يكون خلاف التكليف الأوّلي، أعني أنّ الأصل فيه أن يكون على خلاف ما نُفِيَ عنه الجناح، ولكنّ الظروف أو الأحوال اضطرّت المكلَّف إلى أن يأتي بخلاف الأصل، فنفى الله عنه الجناح لأجل اضطرارهم. ففي مقامنا الأصلُ في الصلاة أن تُقام، ولكنّ الخوف من العدوّ الكافر حمل المؤمنين على أن يقصروا منها. فالأصل هو إقامة الصلاة، وخلافه قصرها. ولذا صحّ القول بأنّ ما نُفِيَ الجناح عنها بعبارة «ليس عليكم جناح» كان محظوراً، لولا الظروف أو الأحوال التي منعت عن التكليف الأوّلي، ولكنْ بقي مرجوحاً بعدها. وهذا بخلاف ما نُفيَ الجناح عنها بعبارة: «لا جناح»، فإنّه ليس محظوراً ولا مرجوحاً قبل دخول «لا جناح» عليه. ولهذا نُفيَ عنه الجناح بالأداة النافية للجنس، الدالّة على أنّ هذا الأمر لا بأس به مطلقاً. وبعبارةٍ أخصر: إنّ «لا جناح» يدلّ على نفي الجناح، وأنّه ليس فيه جناح أصلاً، حتّى قبل نزول الآية بشأن عدم الجناح فيه. و«ليس عليكم جناح» يدلّ على رفعه في الشريعة، بعد أن كان فيه جناح. وبينهما من البَوْن ما لا يخفى.
وإليك تفصيل هذا الفرق في كلّ واحدة من طائفتي الآيات المشتملتين على «ليس عليكم جناح» و«لا جناح».
الطائفة الأولى المشتملة على «ليس عليكم جناح» هي ثماني آيات، غير آيتنا المبحوث عنها، وهي كالتالي:
1ـ قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ﴾. وهذه فقرة من فقرات آيات الحجّ من سورة البقرة، التي ابتدأت بالآية 196، المبدوّة بقوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ﴾، والآية التالية لها قوله تعالى: ﴿الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ (البقرة: 197)، ثمّ قال تعالى بعدها: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ (البقرة: 198). وقد تقدّم أنّ ابتغاء الفضل من الله هو نحوٌ من الطلب الشديد لرزق الله تعالى. ومن المعلوم أنّ موسم الحجّ هو موسم العبادات وأداء المناسك والتزوّد بزاد التقوى، وهذه الأمور لا تجامع طلب الرزق، فطلبه في الموسم محظورٌ، ولكنّه أمرٌ يحتاج إليه كثيرٌ من الذين جاؤوا لأداء المناسك، ولهذا رفع الله تعالى عنه الجناح؛ امتناناً عليهم وتوسعةً في معايشهم، وقال: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ﴾، فصار مرخَّصاً فيه، ولكنّه بقي مرجوحاً.
2ـ قوله تعالى: ﴿إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُديرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ لاَ تَكْتُبُوهَا﴾. وهذه فقرةٌ من فقرات أطول آية من آيات القرآن، أي الآية 282 من البقرة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينْ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلاَ تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَنْ لاَ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ لاَ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 282).
بالنظر إلى هذه الآية نعلم أنّ هذه الفقرة استثناءٌ من صدر الآية الآمر بكتابة الدَّيْن، فكأنّه تعالى قال: «يَا أَيُّهَا الذين آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ لاَ تَكْتُبُوهَا» فالأمر الأوّلي (الإرشاديّ أو المولويّ) في الدَّيْن المؤجّل أن يُكْتَب، سواء كان الدين لأجل التجارة والبيع أم لغيره، ولكن التجارة الحاضرة التي تُديرونها، أي تتناقلون العوض والمعوَّض بينكم، بأن يأخذ كلٌّ منكم عِوَضَ ما دفعه في التجارة، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ لاَ تَكْتُبُوها؛ إذ التجارة ـ وهي تقع على أعواض تكون غالباً في الذِّمَم ـ هنا حاضرةٌ، ينتقل العوضان بين المتعاقدين فور العقد، فلا يحدث بينهما اختلاف إلاّ قليلاً، ولذا رفع الله تعالى الجُناح عن عدم الكتابة، فصار مرخَّصاً فيه، ولكنّه بقي مرجوحاً حتّى في التجارة الحاضرة، والراجح كتابتها؛ إتقاناً للمعاهدات، وحسماً لمادّة الخلاف.
3ـ قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِي مَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثمّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثمّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ (المائدة: 93). وهذه الآية رابعةُ أربع آيات، أولاها: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (المائدة: 90)، فقال في الميزان: «الآية في معنى الآيات السابقة عليها على ما هو ظاهر اتّصالها بها. وهي متعرّضة لحال مَنْ ابتُلي من المسلمين بشرب الخمر وطعمها أو بالطعم لشيءٍ منها أو ممّا اقتناه بالميسر أو من ذبيحة الأنصاب. كأنّهم سألوا بعد نزول التحريم الصريح عن حال مَنْ ابتُلي بشرب الخمر أو بها وبغيرها ممّا ذكره الله تعالى في الآية قبل نزول التحريم من إخوانهم الماضين أو الباقين المسلِّمين لله سبحانه في حكمه، فأجيب عن سؤالهم أن ليس عليهم جُناح إنْ كانوا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، إنْ كانوا جارين على صراط التقوى بالإيمان بالله والعمل الصالح، ثمّ الإيمان بكلّ حكمٍ نازل على النبيّ|، ثمّ الإحسان بالعمل على طبق الحكم النازل… والمعنى: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناحٌ في ما ذاقوه قبل نزول التحريم من خمرٍ، أو منها ومن غيرها من المحرّمات المذكورة»([40]). وعليه فما رفع الله تعالى عنه الجناح هو ذوق الخمر وغيرها وطعمها قبل نزول التحريم، ومن المعلوم أنّه كان مرجوحاً حتّى قبل نزول التحريم.
4ـ قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ﴾ (النور: 29). وهذه الآية ثالثةُ ثلاث آيات، أولاها: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾، وهو يدلّ على أنّ دخول بيوت الغير غير جائز إلاّ بعد الاستيناس والتسليم على أهلها. وثانيتها: قوله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ (النور: 28). فالآية السابقة تبيِّن حكم دخول بيت الغير وفي البيت مَنْ يملك الإذن ولا يمنع، ولكن هذه الآية تبيِّن حكم دخول بيت الغير وليس فيه مَنْ يملك الإذن، أو فيه مَنْ يملك الإذن ولكنْ يمنع ولا يأذن فيه. فبيَّنت الآيتان أنّ الحكم عند دخول بيت الغير هو إحراز رضا أهله أو إذنهم. ثمّ الآية الثالثة تبيِّن حكم دخول بيوت الغير حال كونها غير مسكونة، فلا نجد أحداً يأذن لنا للدخول، ولكنْ لنا فيها متاعٌ نريد أخذها، فرفع الله تعالى الجناح في هذا الدخول غير المأذون؛ لغرضٍ عرفيّ. ومن المعلوم أنّ المدار في دخول بيت الغير على رضاه أو إذنه، فهذا الدخول غيرُ المأذون من قِبَل مالك البيوت كان محظوراً قبل نفي الجُناح عنه، ولكنْ بقي مرجوحاً بعده.
5ـ قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاَةِ الفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاَةِ العِشَاءِ ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (النور: 58). بعد أن جعل الله تعالى لزوم الاستئذان من المؤمنين للدخول عليهم في ثلاثة أوقات رفع الجناح عن الدخول من دون استئذانهم بعد هذه الأوقات. ومن المعلوم أنّ الدخول فجأةً على الغير، ولو في غير الأوقات المذكورة، مرجوحٌ؛ إذ الأصل في الدخول على الغير ـ كسائر ما يتعلَّق به شخصيّاً ـ أن يقع مأذوناً فيه.
6ـ ﴿وَالقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (النور: 60). رفع الله للنساء المذكورة الجناح عن وضع ثيابهنّ، بعد أن كان التكليف الأوّلي لهنّ لُبسها. ومن المعلوم أنّ التلبُّس والاحتجاب راجحٌ لهنّ، ولذا قال بأنّ الاستعفاف لهنَّ خير من وضع الثياب. فكون وضع الثياب مرجوحاً حتّى بعد رفع الجناح عنه واضحٌ.
7ـ قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً﴾. هذه فقرة من الآية 61 من سورة النور: ﴿لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاَتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (النور: 61). وكما تقدّم في الآيتين الرابعة والخامسة فإنّ الأصل في التصرّف في ما يتعلَّق بالغير ـ كدخول بيته أو الدخول عليه، ولو من قبل أقاربه ـ أن يقع مأذوناً فيه، فالأكل من أمواله كذلك. ولكنْ لمّا رفع الله تعالى الجُناحَ عن الأكل غير المأذون من بيوت الطوائف المذكورة بقي هذا الأكل على كونه خلافَ الأصل ومرجوحاً؛ إذ من المعلوم أنّ الراجح في أكل مال الغير أن يقع بإذن مالكه.
8ـ قوله تعالى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِي مَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ﴾. وهذه فقرة من الآية 5 من سورة الأحزاب، التي هي خامسة خمس آيات في إلغاء سُنَّتين عريقتين من سنن الجاهليّة، هما: الظِّهار والتبنّي. وقد قال تعالى في الآية السابقة على هذه الآية: ﴿مَا جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ﴾ (الأحزاب: 4)، فألغى هاتين السنّتين، ثمّ يقول في هذه الآية: ﴿ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِي مَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً﴾ (الأحزاب: 5)، فأمر المؤمنين أن يدعوا أدعياءهم لآبائهم، وينسبوهم لهم، لا لأنفسهم كسائر أبنائهم الذين من أصلابهم، وإنْ لم يعرفوا آباءهم فلا ينسبوهم إلى غير آبائهم، بل يدعونهم بالأخوّة والولاية الدينيّة. ثمّ رفع الجناح عما أخطأوا به؛ لسهوٍ أو نسيان، فدعوهم لغير آبائهم. ومن المعلوم أنّ الخطأ أمرٌ مرجوح، حتّى بعد رفع الجناح عنه.
الطائفة الثانية، وهي الآيات المشتملة على «لا جناح»، وهي خمس عشرة آية، كالتالي:
1ـ قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا والمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ومَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَليمٌ﴾ (البقرة: 158). ومن المعلوم أنّ التطوُّف بالصفا والمروة ـ وهما من شعائر الله ـ لم يكن محظوراً قبل نفي الجناح عنه، ليبقى مرجوحاً بعده.
2ـ قوله تعالى: ﴿الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَنْ لاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَنْ لاَ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِي مَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (البقرة: 229). بعد أن حرَّم الله تعالى أن يأخذ الزوج من زوجته التي طلَّقها شيئاً ممّا آتاها استثنى منه صورةً، وهي ما إذا بقي الزوجان على الزوجيّة فيخافان أن لا يقيما حدود الله فيما بينهما، فنفى الجناح عنهما في شيءٍ افتدت به الزوجة نفسها. ومن المعلوم أنّ هذا شيءٌ من مال الزوجة، واختياره بيدها، فإذا رأت المصلحة في أن تعطي شيئاً من مالها وتفتدي به فيصير إعطاؤها وأخذُه لهذا المال غير محظور، ولا مرجوح.
3ـ قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 230). غيّى الله تعالى حرمة المطلّقة ثلاثاً على الزوج الأوّل إلى نكاحها زوجاً ثانياً، فتفيدنا الآية أنّها تحلّ على الأوّل بعد هذه الغاية، إذا طلّقها الثاني. ولذا نفى الله تعالى الجُناحَ عن تراجعهما، وصار هذا التراجع جائزاً غير مرجوح.
4ـ قوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (البقرة: 233). نفى الله تعالى الجناح عمّا إذا أراد الوالدان فصالَ الرضيع عن الرضاعة قبل إكمال الحولين؛ إذ جاء في أوّل الآية: ﴿حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ﴾، فمَنْ لا يريد إتمام الرضاعة، ويريد الفصال قبله، ورضيت به والدة الرضيع، فلا جناح عليه. فكما أنّ إتمام الرضاعة بيد الوالد كذلك أمر الفصال بيدهما، من دون مرجوحيّة فيه إذا أراداه. وكما أنّ إتمام الرضاعة بيد الوالد كذلك أمر الاسترضاع بيده، وكما يجوز له إرادة إتمام الرضاعة كذلك يجوز له أن يسترضع ولده من دون أن يكون مرجوحاً.
5 و6ـ قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالمَعْرُوفِ واللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِير * وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ في أَنْفُسِكُمْ…الآيات * فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (البقرة: 234 ـ 235 و240). المرأة المتوفّى عنها زوجُها تصير بعد تربُّص أربعة أشهر وعشر ليالٍ أملك بنفسها، ولا جناح على المؤمنين في ما فعلته في نفسها بالمعروف، وكذا قبلها فيما إذا خرجت من بيت زوجها المتوفَّى إلى بيوت أهلها أو نفسها. وكذا لا جناح عليهم بالنسبة إلى ميلهم إلى الزواج منها بعد انقضاء عدّة الوفاة.
7ـ قوله تعالى: ﴿لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَريضَةً﴾ (البقرة: 236). نُفِي الجناح عن طلاق النساء قبل مسِّهنّ أو قبل جعل الفريضة لهنّ. والطلاق في الصورتين مباحٌ، ولم يكن محظوراً قبل نفي الجُناح عنه، ليبقى مرجوحاً بعده.
8ـ قوله تعالى: ﴿وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ﴾ (النساء: 23). هذه فقرةٌ من الآية التي تعدّ النساء اللاتي حرَّمهنّ الله تعالى على المؤمنين. وعدّ الحادية عشرة منهنّ الربائبَ، اللاتي هُنَّ بنات نسائهم المدخول بهنّ، ثمّ نفى الجُناحَ عن الربائب اللاتي هنّ بناتٌ لنساء المؤمنين غير المدخول بهنّ. وكما كانت هذه الربائب مباحةً قبل نزول الآية لم تكن أيّ مرجوحيّة فيهنَّ بعده.
9ـ ﴿وَلاَ جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الفَرِيضَةِ﴾ (النساء: 24). نفى الله تعالى الجُناح في التراضي على أجور النساء. ومن المعلوم أنّ التراضي أساس المعاملات بين الناس، وهو مباحٌ، ولم يكن محظوراً قبل نفي الجناح عنه، ليبقى مرجوحاً بعده.
10ـ ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ﴾ (النساء: 102). بعد أن أمر الله تعالى الطائفة المصلِّية بأخذ حذرهم وأسلحتهم، فقال: ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾، هنا نفى الجُناحَ عن وضع أسلحتهم عند الأذى من المطر، أو عند المرض. ومن المعلوم أنّ حدَّ التهيُّؤ لمقابلة العدوّ يتغيَّر بحسب الظروف؛ ففي ظرف الأذى والمرض يلزم التخفيف عنهم؛ لتبقى قوّتهم المخفَّفة بالأذى والمرض للقتال المحتمل، فلم يَبْقَ أيّ مرجوحيّة لوضع السلاح في هذا الظرف.
11ـ ﴿وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً﴾ (النساء: 128). فالإصلاح بين الناس أمرٌ مرغوب فيه عُرْفاً، ومندوب إليه شرعاً، فليس فيه أيّ حزازة أو مرجوحية، خصوصاً بعد قوله: ﴿وَالصُّلْحُ خَيْرٌ﴾.
12ـ ﴿وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ﴾ (الأحزاب: 51)، «أي ومَنْ طلبتها من اللاتي عزلتها ولم تقبلها فلا إثم عليك، ولا لَوْم، أي يجوز لك أن تضمّ إليك مَنْ عزلتها ورَدَدْتها من النساء اللاتي وَهَبْن أنفسهنّ لك بعد العزل والردّ»([41]). ومن المعلوم أنّ للنبيّ| حقّاً في اختيار امرأةٍ كزوجته، من دون أيّ حزازةٍ في إعمال حقّه هذا.
13ـ ﴿لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إِخْوَانِهِنَّ وَ…﴾ (الأحزاب: 55). «الآية في معنى الاستثناء من عموم حكم الحجاب»([42]). وقد استثنى هؤلاء، وهم: محارم المرأة. وعدم الحزازة في نظرهم إليهنّ واضحٌ.
14ـ ﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ (الممتحنة: 10). الآية نفت الجناح عن نكاح المؤمنات المهاجرات إذا أوتين أجورهنّ. وهذه كسوابقها في وضوح عدم أيّ حزازةٍ في ما نُفي عنه الجُناح.
قوله تعالى: ﴿أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ﴾
القصر من صفات الكمّيات وعوارضها، يقال: «ثوب قصير» و«ليل قصير». كما أنّ الطول ـ وهو ضدّه ـ كذلك. ولا يوصف الأعمال والأفعال بهما إلاّ بلحاظ الكمّيات الواقعة ظرفاً لها، كالزمان أو المكان الذي تقع الأعمال فيهما، فيقال: «قراءة قصيرة» باعتبار قصر الزمان الذي وقعت القراءة فيها، أو يقال: «سير قصير» باعتبار قصر المسير، وهو المكان الذي سِيرَ. وبما أنّ الصلاة من الأعمال فلا توصف بالقصر إلاّ بلحاظ زمانها. وقصرُ العمل ونقصُه يشتركان في إفادة معنى تقليله، ولكنّهما يفترقان في أنّ القصر ضدّ الطول، والنقص ضدّ الكمال. فإذا لم يوجب تقليلُ العمل نقصانَه يعبَّر عنه بالقصر، وإذا أوجب نقصانه يعبَّر عنه بالنقص. ولعلّه لذلك عبّرت الآية بالقصر، لا بالنقص؛ فإنّ قصر الصلاة بالكيفيّة المذكورة في الآية التالية لا يوجب نقصانها؛ إذ كما أنّ التي أقامها النبيّ| صلاةٌ كذلك التي قُصِر منها صلاةٌ أيضاً، بتصريح قوله: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ﴾، متفرِّعاً على قوله: ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾ في الآيتين التاليتين. وعلى أيّ حال فالمراد بالقصر من الصلاة واضحٌ؛ إذ الآيتان التاليتان تفسِّرانه، كما سيأتي.
اللام في «الصلاة» ليست للعهد الذكريّ ـ لعدم ذكر «صلاة» في الآيات السابقة ـ، بل للعهد الذهنيّ، وهي الصلاةُ المعهودة عند المسلمين، المكتوبةُ عليهم سفراً وحضراً، وما هي إلاّ الصلوات اليوميّة. وليست إحدى الصلوات اليوميّة بخصوصها، بأن يكون المراد بها صلاةَ الغداة أو صلاةَ العصر خاصّةً مثلاً، بل المراد مطلق الصلوات اليوميّة، المكتوبة على المسلمين سفراً وحضراً. وعلى هذا يصحّ كون اللام للجنس بالنسبة إلى الصلوات اليوميّة؛ إذ لا منافاة بين كون لام الجنس للعهد الذهنيّ أيضاً، فهو يفيد الجنس المعهود ذهناً لدى المخاطب، كما أنّه إذا قيل: «الماء كذا» فقد يكون اللام للجنس المعهود عند السامع. وما رُوي من أنّ الآية نزلت قبل صلاة العصر غير مخصِّصٍ لصلاة الخوف بالعصر؛ إذ المورد ليس بمخصِّص، والعبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب والمورد. ولهذا لم يفصِّل أحدٌ من المسلمين بين صلاتي الظهر والعصر في هذا القصر. مضافاً إلى ما سيجيء من أنّ زمان الخوف من الإغارة لا يلائم كون الصلاة المذكورة صلاة العصر.
قوله تعالى: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾
هذا شرطٌ للقصر المذكور. فثبوت القصر يتوقّف على الخوف من فتنة الكفار؛ قضيةً لقاعدة احترازيّة القيود. وأمّا عدم القصر عند عدم الخوف فيتوقّف على القول بمفهوم الشرط. وعليه سواءٌ قلنا بمفهوم الشرط أم لم نقُلْ به ـ كالسيّد المرتضى وجماعة من المتقدّمين ـ فالقصر من الصلاة حكمٌ شرعيّ علَّقه الشارع على الخوف، فما لم يتحقَّق الخوف فلا حكم للشارع بالقصر. نعم، لو قلنا بمفهوم الشرط فحكم الشارع هنا عدم القصر. وليس هذا الشرط بياناً لما هو الأغلب في الأسفار من كونها مقرونةً بالخوف غالباً؛ إذ ـ كما نرى في القرآن، وصرّحوا به في النحو والبلاغة ـ لفظة «إن» تدخل على شرطٍ مرجوح الوقوع أو على الأكثر ما كان احتمالا حدوثه وعدمه متساويين. هذا أوّلاً. وثانياً: لو سلَّمنا غلبة الخوف فيها فإن الخوف الذي ذكرته الآية هنا، واعتبرته شرطاً، ليس مطلق الخوف، بل هو نحوٌ خاصّ من الخوف، وهو خوفُ فتنة العدوّ الكافر، وهو ليس غالبيّاً، كما هو واضحٌ.
ثمّ الفتنة هي الإغارة، كما صرّحت به الروايات وأهل التفسير والسِّيَر. وتدلّ عليه الآية التالية، حيث تقول: ﴿وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾. ومن المعلوم أنّ الإغارة تتوقّف على المفاجأة، وهي لا تتحقَّق إلاّ في زمان يمكن للمغير السيرُ مع الستر من عيون الجماعة المقابلة، ليقربوا منهم، ويغيروا عليهم غفلةً. ولذا قالوا: إنّه كان من عادة العرب أن يغيروا صباحاً، فسمّيت الغارة صباحاً([43])، و«كانوا يغيرون صباحاً؛ لأنّهم في الليل يكونون في الظلمة فلا يبصرون شيئاً، وأمّا النهار فالناس يكونون فيه كالمستعدّين للمدافعة والمحاربة، أمّا هذا الوقت فالناس يكونون فيه في الغفلة وعدم الاستعداد»([44]). وعليه آيات صلاة الخوف تدلّ على أنّ الصلاة تُقام في أوقاتٍ يحتمل فيها إغارة الكفّار عليهم. ومن المعلوم عدم إمكانيّة الإغارة في ساعات النهار، من طلوع الشمس إلى غروبها؛ وذلك لبروز أيّ حركة منهم في الأرض، وظهورها للمسلمين، فلا تفوت عليهم فرصةُ مقابلة الكفّار.
ولا يخفى أنّ جملة: ﴿إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ﴾ تُعْلِمنا أنّ ظرف الأحكام المذكورة في الآية وبعدها ـ مكاناً وزماناً ـ ليس معركة القتال؛ إذ المعركة محلّ نفس الفتنة بالقتل والجرح، لا محلّ الخوف منها؛ إذ الخوف من الشيء إنّما يصدق عرفاً ويتحقّق قبل وقوعه، كما يُقال: «إنْ خفْتَ أن يعضّك الكلب فكذا»، فالخوف من عضّه إنّما يصدق قبل أن يهجم عليه الكلبُ ويعضّه، فلو هجم عليه وعضّه لا يقال: هو خائف من العضّ. وهذا ظاهرٌ واضح. فصلاة الخوف بالكيفيّة المذكورة في الآية التالية ليست في معركة القتال، بل هي صلاةٌ يصلِّيها المسلمون حال كونهم خائفين من غيلة العدو عليهم، وأمّا عند قيام الحرب فلا يجب إلاّ ما أمكن المقاتلين من الصلاة. ولذا جاء في عددٍ من الروايات: «صَلاةُ الزَّحْفِ عَلَى الظَّهْرِ إِيمَاءٌ بِرَأْسِكَ وَتَكْبِيرٌ، وَالمُسَايَفَةُ تَكْبِيرٌ بِغَيْرِ إِيمَاءٍ، وَالمُطَارَدَةُ إِيمَاءٌ، يُصَلِّي كُلُّ رَجُلٍ عَلَى حِيَالِهِ»([45]).
ومن الجدير بالتنبيه عليه استخدام أداتين اثنتين للشرط في الآية، هما: «إذا» و«إنْ». فالأولى استخدمت في أوّل الآية، ودخلت على الضرب في الأرض؛ والثانية في أثنائها، ودخلت على الخوف. والضرب أمرٌ راجح الحدوث، بل مقطوعه، بخلاف الخوف؛ فإنّه مشكوك الحدوث، واحتمالا حدوثه وعدمه سيّان، لو لم نقُلْ بأنّ احتمال حدوثه مرجوحٌ. ولهذا دخل على مقطوع الحدوث «إذا»، وعلى مشكوكه «إنْ». وهذا موافقٌ لما قال به في الفرق بينهما علماءُ العربيّة([46]).
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ﴾
عَطَف تعالى قولَه هذا على سابقه، ولم يفرِّعه بالفاء ونحوها؛ لئلاّ يوهم أنّ صلاة الخوف مختصّةٌ بما إذا كان النبيّ| في جماعة المسلمين، بل صلاة الخوف تُصلَّى ولو لم يكن النبيّ| فيهم. ولكنْ فرَّع قوله: ﴿فَأَقَمْتَ﴾ على سابقه بالفاء ليفيد أنّه إذا كان النبيّ| فيهم فهو يقيم الصلاة لهم، لا غيرُه.
إقامة الصلاة ضدُّ القصر منها. وهذا ممّا يتّضح من جعل الخوف وصلاته في قوله في الآية الأولى: ﴿أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ﴾ في مقابل الاطمئنان وصلاته في قوله في الآية الثالثة: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ﴾؛ إذ كما أنّ الخوف ضدّ الاطمئنان فكذلك القصر من الصلاة ضدُّ إقامتها. وقلنا آنفاً: إنّ القصر ليس ضدّاً للكمال، بل هو ضدّ الطول، فليست الصلاة التي قصر منها صلاة ناقصةً لتكون الصلاة التي أُقيمت صلاةً كاملة، بل كلتاهما صلاةٌ، كما تقدَّم. نعم، الصلاة المُقامة أطول من الصلاة المقصورة، كما يتَّضح ممّا سيأتي. فما صرَّح به مجمع اللغة العربيّة في معجم ألفاظ القرآن الكريم، حيث قال: «أقام الصلاة: أدّاها كاملةً»([47])، لا يخلو من النظر. وكذا كلام الراغب، حيث قال: «إقامةُ الشيءِ تَوْفِيَةُ حَقِّهِ… ولم يأمُرْ تعالى بالصلاةِ حَيْثُمَا أمَرَ ولا مَدَحَ به حَيْثُمَا مَدَحَ إلاّ بِلَفْظِ الإِقَامَةِ؛ تنبيهاً أنّ المَقْصُودَ منها تَوْفِيَةُ شَرَائِطِهَا، لا الإِتْيَانُ بهَيئَاتِهَا، نحو: ﴿أَقِيمُوا الصَّلاَةَ﴾ في غير موضِعٍ»([48]).
ولام الصلاة في ﴿فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ﴾ للعهد الذهنيّ أو للعهد الذكريّ؛ إذ هي نفس الصلاة التي ذكرَتْها الآية السابقة. والمراد بالصلاة هنا على الذكريّة والذهنيّة واحدٌ، وهي الصلاة اليوميّة.
والجملة تفيدنا أنّ إقامة الصلاة بيد النبيّ| ونظره، ولا يجب عليه| إقامتها؛ إذ لم يأمره الله تعالى بها، حيث لم يقُلْ: «وإذا كنتَ فيهم فأَقِمْ لهم الصلاة». فالنبيّ| إنْ رَأَى المصلحةَ في إقامتها أقامها، أي يأتيها من دون قصرٍ منها، والمسلمون يأتمّون به في صلاتهم الخوفيّة، وإلاّ فهو كسائر المسلمين يصلّي كيفما أمكن. وتقييد الإقامة بقوله: ﴿لَهُمْ﴾ أفاد أنّ النبيّ| يقيمها كلَّها لهم، فلا يقيمها فرادى، وبدونهم، ولو في بعض الركعات. وهذا يعني أنّ صلاته تَتِمُّ مع صلاة الطائفتين اللَّتَين صلَّتا معه، وليس لصلاته شيءٌ زائد على صلاتهم. ولا يخفى أنّ الإقامة قيِّدت بكونها ﴿لَهُمْ﴾، لا الصلاة، حيث لم يقُلْ: «فأقمْتَ الصلاةَ لهم»، وبينهما من الفرق ما لا يخفى.
قوله تعالى: ﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ﴾
النبيّ| يقيم لهم الصلاة، ويجب عليهم أن يأتمّوا به، ولكنّهم يقصرون منها بالنحو المذكور، بأن يصير المسملون طوائف؛ فالطائفة الأولى تقوم مع النبيّ| للصلاة، فيصلّون معه من أوّل الصلاة إلى أن يسجدوا، فيبدأون صلاتهم إذا بدأ النبيّ| صلاته، ويقضونها (أي يُتِمُّونها) إذا سجدوا مع النبيّ|. والظاهر أنّ هذا السجود هو سجود الركعة الأولى؛ إذ الأولى هي الركعة التي لا يحتاج تعيينها إلى الذِّكْر؛ فإنّ الإطلاق ينصرف إليها، فلو كان المراد غيرَ سجود الركعة الأولى لميَّز الله تعالى تلك الركعة بالذِّكْر. قال الطبري: «﴿فَإِذَا سَجَدُوا﴾ يقول: فإذا سجدت هذه الطائفة بسجودك ورفعَتْ رؤوسَها من سجودها»([49]). وبعبارةٍ أخرى: «﴿فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ﴾ يعني من خلفك وخلف مَنْ يدخل في صلاتك ممَّنْ لم يصلِّ معك الركعةَ الأولى بإزاء العدوّ»([50]).
فإنْ قيل: إنّ الآية بظاهرها تدلّ على أنّهم يقومون للحراسة عن النبيّ| والمصلّين معه؛ إذ لو كان المراد القيام للصلاة لقال: «معك للصلاة»، والتقدير خلاف الأصل، ولا يصار إليه إلاّ بالدليل القطعيّ عليه، أو لقال: «فلتصلِّ طائفة منهم معك»، وليس هنا شيءٌ يُلزِم القائلَ بالعدول عنه.
يُقال: لفظة ﴿مَعَكَ﴾ صريحةٌ في المعيّة للنبيّ|، وهي لا تحصل إلاّ إذا كانت هذه الطائفة مشاركة للنبيّ| ومترافقة معه في ما يكون النبيّ| فيه؛ إذ لفظة «مع» لا تستعمل في القرآن في صِرْف الكون عند شيءٍ أو فرد؛ ولذا قال تعالى: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ﴾؛ إذ من المعلوم أنّ جميع الذين كانوا عند النبيّ من أصحابه ليسوا موصوفين بما وصف الله تعالى الذين معه|، بل كان بعض أصحابه ـ بتصريح القرآن ـ منافقين. وكذلك قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً﴾ (النساء: 69)، فعبَّر عن معيّة المُنْعَم عليهم في ذيل الآية برفاقهم. وكذا في العُرْف لا يُقال: «زيد مع عَمْرو» إلاّ إذا كان زيدٌ يرافق عَمْراً ويشاركه في عمله أو نظره أو كلَيْهما في الجهة التي قيل بمعيّته له فيها. وعلى هذا لو كان المراد ما قيل لقال تعالى: «فلتقم طائفة منهم عندك» وما يُشبهه. ولمكان هذا المعنى للفظة «مع» لا يحتاج إلى تقدير؛ إذ المعيّة المستفادة من «مع» تفيد أنّهم يقومون للصلاة مع النبيّ|.
لا يُقال: ظاهر الآية بعد إثبات معيّة هذه الطائفة للنبيّ| أنّ النبيّ وهذه الطائفة جميعاً يقومون للحراسة، فيأخذون السلاح، لا للصلاة؛ فإنّ قوله تعالى: ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾ يبيِّن أنّ رسول الله| كان من مجموعة الحراسة الأولى، وأنّه سيصلّي مع الطائفة التي كانت معه في هذه الحراسة، بعد انتهاء الأولى من الصلاة.
لأنّه يُقال: إنّ قوله: ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى﴾ صريحٌ في أنّها طائفةٌ أخرى في مقابل الطائفة الأولى. وأيضاً قوله: ﴿فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ﴾ بصيغة الماضي يفيد تحقُّق إقامة الصلاة، ولو كان بلسان الشرط، فكأنّها تحقَّقت، فأَمَر الطائفةَ الأولى بالقيام مع النبيّ| للصلاة.
وبما أنّ المقام مقام الخوف فعلى هذه الطائفة المصلِّية مع النبيّ| أيضاً أن يتهيَّأوا للدفاع عن أنفسهم، فقال تعالى: ﴿وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ﴾، وهذا شأن كلّ خائف من أخذ السلاح والتهيُّؤ للدفاع. ﴿فَإِذَا سَجَدُوا﴾ أي سجد الذين يصلُّون مع النبيّ وتمّت صلاتهم، كما صرَّح به في أوّل الآية التالية، ويدلّ عليه قوله: ﴿طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا﴾؛ إذ مفهومه أنّ الطائفة الأولى صلّوا. ﴿فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ﴾ أي ليكونوا من ورائكم غيرَ مصلِّين؛ إذ اشتغالهم بالصلاة يوجب غفلتهم عن العدوّ، بل تجب عليهم حراسة الطائفة الثانية المصلّية حال كونهم ذاكرين لله، ﴿قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ﴾، كما قرَّرته الآية التالية. ومرجعُ الضمير في ﴿وَرَائِكُمْ﴾ النبيُّ والمسلمون المخاطبون بالآية السابقة، حيث خوطبوا فيها بكلمات: ﴿ضَرَبْتُمْ… عَلَيْكُمْ… خِفْتُمْ… يَفْتِنَكُمْ… لَكُمْ﴾، ثمّ توجَّه الخطاب إلى النبيّ| بكلمات: ﴿كُنتَ… فَأَقَمْتَ… مَعَكَ﴾، وأشير إلى المسلمين بضمير الغائب في قوله: ﴿فِيهِمْ… لَهُمْ… مِنْهُمْ﴾. فصار المسلمون المخاطبون في الآية السابقة هنا غائبين عن مكان الخطاب للنبيّ خاصّةً، ثمّ أشير إلى الطائفة المصلّية مع النبيّ| بصيغة الغائب أيضاً أربع مرات: ﴿لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ… سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا﴾، ثمّ قال: ﴿وَرَائِكُمْ﴾، ومن المعلوم أنّهم لا يقدرون على أن يكونوا وراء أنفسهم؛ إذ الإنسان إنّما يقدر على أن يكون وراء غيره، وما هذا الغير هنا إلاّ النبيّ والمسلمون الذين لم يصلُّوا بَعْدُ. ولو فرض أنّ المراد وراء مواضع أنفسهم في الصلاة فإنه لا يصحّ التعبير بـ «ورائهم»؛ لأنّ الإتيان بضمير «هُمْ» يوهم افتراقهم عن النبيّ|.
قوله تعالى: ﴿وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾
ثمّ تأتي الطائفة الأخرى، والنبيّ| بعد سجود الركعة الأولى قائمٌ للركعة الثانية، فيصلّون مع النبيّ. وسكوت الآية عن غاية صلاتهم مع النبيّ| يفيد أنّ هذه الطائفة كالأولى؛ إذ لا فرق بين صلاة الطائفتين بداهةً. وعليه فإذا سجدوا تمّت صلاتهم، كالطائفة الأولى.
عبارة: ﴿طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا﴾ تفيد أنّ المسلمين صاروا أكثر من طائفتين؛ إذ لو صاروا طائفتين لقال: «الطائفة الأخرى» بصيغة المعرَّف، ولكانت جملة: «لم يصلّوا» زائدة؛ لأنّه إذا صار المسلمون طائفتين، وصلَّتْ طائفة منهم، فمن المعلوم أنّ الطائفة الثانية لم تصلِّ بَعْدُ. ولكنْ لو صار المسلمون طوائف لصحّ أن يُقال: «ولتأْتِ طائفةٌ أخرى لم يصلُّوا»، فيظهر أنّ هنا طائفةً أخرى لم يصلُّوا مع النبيّ|، ولا يجب عليهم أن يصلّوا مع النبيّ|، فيصلّون فرادى؛ إذ الذين يصلّون جماعةً يصلّون مع النبيّ| فقط، لا معه أو مع إمام غيره أيضاً. ولكنّ هؤلاء الذين يصلّون مع النبيّ| لا يصيرون أكثر من طائفتين؛ وذلك للإطلاق المقاميّ؛ لأنّه تعالى ذكر كيفيّة صلاة طائفتين، وسكت عن غيرهما، مع أنّه تعالى في مقام البيان لكيفيّة صلاة الخوف لمَنْ أتى بها مع النبيّ|، فلو كانت هناك طائفةٌ ثالثةٌ تأتي بالصلاة معه| أو مع غيره لذكرها الله تعالى. وهذه الطائفة الثالثة غير المصلِّية مع النبيّ هم عيون المسلمين وراصدوهم على رؤوس التلال وفي بطون البوادي ونحوها، حيث لا يمكنهم ترك مواضعهم للصلاة مع النبيّ|، فيصلّون كيفما أمكن لهم. وأيضاً ﴿لَمْ يُصَلُّوا﴾ يفيد أنّ الطائفة الأولى قد صلَّتْ حين تأتي الطائفة الأخرى؛ إذ لو لم تَتِمّ صلاتُها لم يصدق أنّها صلَّتْ، والمفهوم من ﴿طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا﴾ أنّها صلَّتْ.
فظهر من قوله تعالى: ﴿فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ… فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾ أمران:
الأوّل: إنّ صلاة كلّ طائفة ذات ركعة واحدة. قال ابن الجنيد: «فإنْ كانت الحالة الثالثة… صلّى الإمام بالفرقة الأولى ركعةً، وسجد سجدتين، ثمّ انصرفوا، وسلَّم القوم بعضهم على بعض في مصافّهم. وقد رُوي عن أبي جعفر محمد بن عليّ× أنّ رسول الله| صلّى كذلك بعسفان. ورَوَى ذلك أيضاً حذيفة بن اليمان وجابر وابن عبّاس وغيرهم. وقال بعض الرواة: وكانت الصلاة لرسول الله| ركعتين، ولكلّ طائفة ركعةً ركعةً»([51]). وقال الصدوق: «سمعت شيخنا محمد بن الحسن يقول: رُوِّيتُ أنّه سئل الصادق× عن قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ…﴾؟ فقال: هذا تقصيرٌ ثانٍ، وهو أن يردّ الرجُلُ الركعتين إلى الركعة. وقد رواه حريز عن أبي عبد الله»([52]). أراد صحيح حريز عن الصادق× في الآية المزبورة، قال: «في الركعتين ينقص منهما واحدة»([53]). ونحوه: ما رواه العَيَّاشِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ× قَالَ: …وَفَرَضَ عَلَى الخَائِفِ رَكْعَةً، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ عزَّ وجلَّ: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾، يَقُولُ: مِنَ الرَّكْعَتَيْنِ فَتَصِيرُ رَكْعَةً([54]).
الثاني: إنّ صلاة النبي| ليست صلاة الخوف؛ لأنّه أقام الصلاة للطائفتين من المسلمين الذين صلّوا معه، فلو كانت صلاتُه كصلاتهم لما تمكّنت هاتين الطائفتين من الصلاة معه. مع ما تقدّم من أنّ الاطمئنانَ والخوفَ متقابلان، فكذلك القصر من الصلاة وإقامتها. وهذا ما يقتضيه المقابلة والمقارنة بين قوله: ﴿أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ﴾ وقوله: ﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ﴾. فصلاته مُقامةٌ مثلُ سائر صلواته، كما يظهر ذلك من قوله تعالى: ﴿فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ﴾ أيضاً، فالصلاة التي أقامها النبيّ| ذات ركعتين.
وحينئذٍ نتساءل ونقول: ما هذه الصلاة التي أقامها النبيّ بركعتين؟
والجواب: إنّ هنا ثلاثة احتمالات:
الأوّل: إنّها صلاة الغداة.
ولكنّ إطلاق الآية يردّ هذا الاحتمال، وليس في القرآن ولا في غيره من السنّة والسيرة ما يصلح لتقييد الآية به، بل قد تقدَّم أنّ المرويّ أنّ الصلاة التي نزلت الآيات قبلها هي صلاة العصر، وإنْ لم نقبله.
الثاني: إنّها إحدى الصلوات اليوميّة، غير المغرب، حال كونها مقصورةً بالسفر.
وهو أيضاً مردودٌ من وجهين: أحدهما: إنّ مورد الآيات الضرب في الأرض، وهو أعمّ من السفر الذي قال الفقهاء بقصر الصلاة فيه؛ والآخر: إنّه مخالفٌ للإطلاق المقاميّ للآية، ولا يجوز رفع اليد عن هذا الإطلاق بعد كونها في مقام البيان قطعاً. فلو كانت في اليوميّة صلاةٌ ثلاثيّةٌ يقيمها النبيّ|، ويصلّيها المسلمون معه، لبيَّن القرآن كيفيّة قصرها عند الخوف، ولما اقتصر على المذكورة في الآية من الصلاة الثنائيّة للنبيّ|، والأحاديّة لكلّ طائفة من المسلمين. ولو لم يقصر المسلمون من صلاة المغرب على الرغم من خوف فتنة الكفار (كما لم يقصروا من المغرب في السفر) فكيف حَمَوْا أنفسهم؟! وإنْ قصروا منها فما هي كيفية قصرها؟!
الثالث: إنّ الصلاة المفروضة اليوميّة مهما كانت ليست إلاّ ذات ركعتين.
والقول بهذا الاحتمال متعيِّنٌ؛ وفقاً لإطلاق الآية، بعد ردّ الاحتمالين الأوّلين، وعدم احتمال آخر في المقام. والحاصل أنّ إطلاق الآية محكَّمٌ على أنّ الصلاة المفروضة اليوميّة مطلقاً تقام كما أقامها النبيّ|، وتُصَلَّى عند الخوف كما صلّتها الطائفتان من المسلمين معه. وما خالف الآية وإطلاقها في الصلاة المقصورة خوفاً والصلاة المقامة أمناً مردودٌ إلى أهله.
﴿وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ﴾ ليهيِّئوا للدفاع لو أغار الكفّار عليهم.
﴿وَدَّ الذين كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ﴾. وهذا صريحٌ في أنّ ما تقدَّم يتعلّق بغير معركة الحرب وميدان القتال؛ إذ الميدان والمعركة ليسا مظنّة الغفلة عن السلاح والمتاع بالبداهة.
﴿فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً﴾، أي كما في مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام: «فيحملون عليكم حملةً»([55]) دفعةً. ومنشأ هذه الميلة ومقتضيها من العدوّ غفلة المسلمين؛ فانّ العدوّ دائماً ينتظر الفرصة([56]).
﴿وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً﴾.
﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاة﴾: قضاءُ الصلاة بمعنى إتمامها، كما في قوله: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا﴾ (الجمعة: 10)، وقوله: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ﴾ (البقرة: 200). واللام في «الصلاة» للعهد الذهنيّ، يعني إذا أتممتم صلاة الخوف التي صلّيتموها مع النبيّ| ﴿فَاذْكُرُوا اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ﴾، أي حال كونكم قائمين وقاعدين وعلى جنوبكم؛ جَبْراً للقصر من صلاتكم. وليس هذا الذكر إلاّ بعد أن تمَّتْ صلاتُهم بالسجود؛ إذ قوله: ﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاَةَ﴾ متفرِّعٌ على قوله: ﴿فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ﴾ في الآية السابقة، والجملات المذكورة بينهما أجنبيّة من هذا التفريع. فالفارق بين ما ذُكر هنا وما في قوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الوُسْطَى وَقُومُوا للهِ قَانِتِينَ * فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 238 ـ 239) أنّ ظروف الخوف هنا تتيح لكلّ طائفة من المسلمين فرصةً لأن يصلّي كلٌّ منهما ركعةً من الصلاة مع النبيّ|، وهناك لم يُتَحْ لهم ذلك، فيصلّون حال كونهم راجلين أو راكبين. فما هنا صلاة الخوف وما هناك صلاة المطاردة والمسَايَفَة، وهي الواقعة في معركة القتال، كما تقدَّمت روايته.
﴿فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ﴾: لام «الصلاة» للعهد الذكريّ. والمراد إذا ارتفع خوفكم واطمأننتم فأقيموا الصلاة اليوميّة، يعني أدّوها كما تُؤدّونها قبل أن تخافوا. فالواجب عليكم هنا إقامة الصلاة، وإنْ كنتم عند الخوف تقصرون من الصلاة اليوميّة. وهذا ما تفيده أيضاً المقارنة بين هذه الجملة وجملة: ﴿أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ﴾ في الآية الأولى، فالجملتان تقولان: إنْ خفتم فاقصروا؛ وإذا اطمأننتم فأقيموا. وكما أن بين الشرطين مضادّةً واضحة فكذلك بين الجزاءين. فالمضادّة البيّنة بين الخوف والاطمئنان تدلّنا على مضادّة القصر من الصلاة وإقامتها بيّناً.
﴿إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى المُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً﴾. صدق الله العليّ العظيم.
الخلاصة
والحاصل ممّا تقدَّم تفصيلاً أمور، أهمُّها:
1ـ «الضرب في الأرض» هو الذهاب فيها لغرض من الأغراض، غير الجهاد. والرواية التي توافق الآية هي القائلة بأنّها نزلت لمّا خرج رسول الله| إلى الحديبية.
2ـ الآية صريحةُ الدلالة على الرخصة في القصر عند الخوف؛ خلافاً لما قيل من دلالتها على كون القصر عند الخوف عزيمةً.
3ـ صلاة الخوف لا تُصَلّى في المعركة، بل قبلها، وهي ذات ركعةٍ واحدة. وما في المعركة صلاة المطاردة والمسايفة.
4ـ الصلاة التي قد أقامها النبيّ ليست صلاة الخوف، بل صلاتُه مُقامةٌ هنا كسائر صلواته المُقامة.
5ـ الصلاة المفروضة اليوميّة مهما كانت ليست إلاّ ذات ركعتين، بحَسَب تشريعها القرآنيّ.
الهوامش
(*) أستاذٌ وباحثٌ في حوزة قم العلميّة.
([1]) معجم الأخطاء الشائعة: 149.
([2]) الموسوعة القرآنية 8: 332، مادّة «ضرب».
([4]) إرشاد الأذهان إلى تفسير القرآن: 51، ذيل الآية 273 من سورة البقرة.
([5]) البحر المحيط 3: 400، ذيل الآية 156 من سورة آل عمران.
([6]) فتح القدير 2: 380، ذيل الآية 2 من سورة التوبة.
([7]) نيل المرام من تفسير آيات الأحكام: 321، ذيل نفس الآية.
([8]) السيّد علي خان المدني، رياض السالكين 5: 479.
([9]) مقدّمة فتح الباري: 143 ـ 144.
([10]) آيات الأحكام 1: 336، ذيل الآية.
([11]) إعراب القرآن وبيانه 1: 424، ذيل الآية.
﴿لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ﴾ (البقرة: 198).
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللهِ وَلاَ الشَّهْرَ الحَرَامَ وَلاَ الهَدْيَ وَلاَ القَلاَئِدَ وَلاَ آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ والعُدْوَانِ واتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ﴾ (المائدة: 2).
﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ البَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وتَرَى الفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ولِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (النحل: 14).
﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ والنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ والحِسَابَ وكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً﴾ (الإسراء: 12).
﴿رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الفُلْكَ فِي البَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾ (الإسراء: 66).
﴿وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ولِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (القصص: 73).
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ في ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ (الروم: 23).
﴿وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ ولِيُذيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ولِتَجْرِيَ الفُلْكُ بِأَمْرِهِ ولِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (الروم: 46).
﴿وَمَا يَسْتَوِي البَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ومِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفُلْكَ فيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (فاطر: 12).
﴿اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ البَحْرَ لِتَجْرِيَ الفُلْكُ فيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (الجاثية: 12).
﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ والَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيمَاهُمْ في وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ومَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغيظَ بِهِمُ الكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وأَجْراً عَظِيماً﴾ (الفتح: 29).
﴿لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ ورَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ (الحشر: 8).
﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ (الجمعة: 10).
([15]) التحرير والتنوير 4: 241، ذيل الآية 102 من سورة النساء.
([16]) روح البيان 2: 275، ذيل الآية 102 من سورة النساء.
([17]) جواهر الحسان 2: 291، ذيل الآية 102 من سورة النساء.
([19]) وللمزيد انظر: الصحيح من سيرة النبيّ| 8: 302 ـ 310. وراجِعْ ما أرجع مؤلِّفه إليه، ومنه: تاريخ الخميس 1: 464؛ دحلان، السيرة النبويّة 1: 264؛ السيرة الحلبية 2: 271؛ الواقدي، المغازي 1: 396؛ ابن كثير، السيرة النبوية 3: 160؛ البداية والنهاية 4: 83؛ صحيح البخاري 3: 23، 25؛ الكامل في التاريخ 2: 174؛ تاريخ الأمم والملوك 2: 227؛ أنساب الأشراف 1: 340؛ طبقات ابن سعد 2: 61؛ ابن هشام، السيرة النبويّة 3: 214؛ نصب الراية 2: 246 ـ 247؛ صحيح مسلم 2: 214؛ نهاية الإرب 17: 158؛ المواهب اللدنيّة 1: 107؛ الدرّ المنثور 2: 212 ـ 213.
([20]) تفسير عليّ بن ابراهيم: 310.
([21]) مَنْ لا يحضره الفقيه 1: 460.
([22]) الصحيح من سيرة النبيّ| 8: 306.
([23]) التحقيق في كلمات القرآن الكريم 7: 23.
([24]) البحر المحيط 1: 192، ذيل الآية 26 من سورة البقرة.
([25]) تبيين القرآن: 81، ذيل الآية 156 من سورة آل عمران.
([26]) التحرير والتنوير 3: 363، ذيل الآية.
([27]) المصدر السابق 4: 238 ـ 239، ذيل آية صلاة الخوف.
([28]) المصدر السابق 5: 247، ذيل الآية 106 من سورة المائدة.
([29]) محمد علي السائس، تفسير آيات الأحكام: 825.
([31]) تفسير ابن القيِّم: 174.
([32]) الكاشف 1: 409، في ذيل الآية 94 من سورة النساء.
([33]) وهبة الزحيلي، التفسير المنير 3: 78.
([34]) الطنطاوي، تفسير الوسيط 3: 2766.
([37]) الروضة البهيّة، كتاب التجارة، القول في الآداب، العشرون.
([38]) الگنابادي، بيان السعادة 1: 240.
([39]) مكارم الشيرازي، الأمثل 2: 355.
([43]) الكشّاف 4: 68؛ البحر المحيط 9: 131.
([45]) مَنْ لا يحضره الفقيه 1: 466، ح1346؛ تهذيب الأحكام 3: 174، ح386؛ وانظر أيضاً: الكافي 3: 457 ـ 458، بَابُ صَلاةِ المُطَارَدَةِ والمُوَاقَفَةِ والمُسَايَفَةِ.
([46]) وللمزيد من التوسُّع في الفرق بينهما راجِعْ: الخطيب، كتاب الإيضاح إلى تلخيص المفتاح؛ عبد المتعالي الصعيدي، بغية الإيضاح 1: 186، مكتبة الآداب، القاهرة ـ مصر؛ السيد أحمد الهاشمي، جواهر البلاغة في علم المعاني والبيان والبديع: 163، إحياء التراث العربي؛ الدكتور بسيوني عبد الفتاح فيود (المدرِّس بجامعة الأزهر)، كتاب علم المعاني 1: 206، مكتبة وهبي، القاهرة ـ مصر؛ وغيرها من كتب البلاغة والنحو.
([47]) معجم ألفاظ القرآن الكريم 2: 422، مادّة «قوم».
([51]) مختلف الشيعة 3: 42 ـ 43.
([52]) مَنْ لا يحضره الفقيه 1: 464 ـ 465.
([53]) تهذيب الأحكام 2: 300، ح914.