ليست طقوس اللطم والنياحة وضرب الرؤوس والسلاسل (الزنجيل) في عاشوراء سوى مظهرٍ من مظاهر الوجدان الجَمعي المنحرف، حين يُختزل الوعي الديني إلى فعلٍ جسدي استعراضي يُمارَس على الجسد لا في العقل، وعلى ظاهر الجلد لا في باطن القيم. هذه الطقوس التي تُمارس اليوم في كثير من المجتمعات الشيعية ليست من الإسلام في شيء، ولا تمتّ إلى مدرسة أهل البيت إلا بالاسم والشعارات. بل هي، في جوهرها، اختراع تاريخي سياسي سيكولوجي تراكَمَ عبر قرونٍ من التلاعب بالعواطف، واستغلال المظلومية لتحويل الدين إلى حالة شعورية غريزية بدلًا من كونه مشروعًا أخلاقيًا وعقليًا.

الجذر السوسيولوجي: حين يصبح الحزن هوية جماعية

من منظور سوسيولوجي، نشأت هذه الطقوس في سياق الهويات المقهورة والمهمشة سياسيًا واجتماعيًا، حيث تحوّلت واقعة كربلاء من حدثٍ تاريخي له أبعاده السياسية والفكرية إلى مرآةٍ للوجدان الجمعي الشيعي في لحظات الانكسار. وتم استخدام الحزن واللطم كوسيلة لتثبيت هويةٍ مقاومة للاضطهاد، لكنها، مع الوقت، تحولت إلى هوية قائمة على التكرار الطقوسي للألم، لا على إنتاج الوعي ولا على وراثة المشروع الحسيني القائم على الرفض والعدل.

تحولت عاشوراء من منصة للثورة ضد الظلم إلى مسرحٍ للمعاناة المفتعلة، يُعاد فيها تمثيل المأساة لا لتغيير الواقع، بل لتخدير الغضب الثوري وتحويله إلى نحيبٍ أبدي. وهكذا، بدلًا من أن تُحرّض الطقوس الناس على الثورة ضد الظالم، أصبحت تنفيسًا جماعيًا يُفرغ طاقة الغضب في الجلد والدماء بدلًا من الفعل السياسي والاجتماعي الواعي.

البُعد السيكولوجي: التلذذ بالألم والتطهر بالدم

من الناحية السيكولوجية، تنتمي هذه الطقوس إلى ما يسميه علم النفس بـالمازوشية الجمعية، حيث يتم تبرير إيذاء النفس تحت مسميات دينية كـ”التطهير” أو “المواساة”، بينما هي في حقيقتها إسقاط غير واعٍ لألمٍ داخلي غير مفهوم. الإنسان المقهور والمحروم من القدرة على الفعل في الواقع، يلجأ إلى إيذاء نفسه كنوع من التكفير اللاعقلاني أو كوسيلة شعورية بديلة عن المقاومة الحقيقية.

كما أن هذه الطقوس تعزز لدى الأفراد ـ خاصة الأطفال واليافعين ـ نوعًا من الارتباط المرضي بين الألم والقداسة، وبين الدم والتقوى. وهذا ما يتناقض مع جوهر الإسلام الذي جعل حفظ النفس من المقاصد العظمى، والذي لم يجعل القرب من الله في الجلد المسلوخ ولا الرأس المضروب، بل في العقل الراجح والنية الصادقة والعمل الصالح.

التاريخ الملفَّق، متى بدأ كلّ هذا؟

لو عدنا إلى المصادر التاريخية الموثوقة، فلن نجد لهذه الطقوس وجودًا في القرون الإسلامية الأولى. لا النبي أوصى بها، ولا الأئمة مارسوا شيئًا منها، ولا ورد عنها أثر معتبر في كتب الحديث. بل بدأ ظهور هذه الطقوس بشكل جلي بعد القرن الرابع الهجري، خصوصًا في عهد الدولة البويهية التي رعت الطقوس الشعائرية لإثبات حضورها السياسي وتمييز هويتها الطائفية. ثم تضخمت في العهد الصفوي، حيث تبنّت الدولة هذه الممارسات كوسيلة لتكريس الانتماء والولاء، فدخلت عناصر فارسيّة وهندية وحتى مسيحية (كالتطبير وضرب الذات) في التشكّل الطقسي الشيعي، بعيدًا عن مدرسة أهل البيت القائمة على الوعي والعقل والسلم.

مدرسة أهل البيت… واغتيال المعنى

إن مدرسة أهل البيت، في جوهرها، مشروع وعي لا مشروع بكاء، مدرسة إصلاح اجتماعي لا مآتم حزينة، خطاب تحرر لا صراخ نائح. كان الحسين ثائرًا لا باكيًا، كان صوتًا ضد الخنوع، لا مشهدًا داميًا يتكرر كل سنة على الإيقاع نفسه دون أن يغير شيئًا من واقع القهر والظلم.

والغريب أن الذين يجلدون أنفسهم باسم الحسين، غالبًا لا يجلدون الظالمين ولا يثورون على الفساد الحقيقي، بل يفرّغون طاقاتهم في جلدٍ استعراضي يعلّق المظلومية في الماضي ويعفيهم من مسؤولية الحاضر.

تحويل الحسين إلى مجرّد رمز طقسي

في تحول خطير، أصبح الحسين في المخيال الجمعي مجرد رمز شعائري محصور في طقوس مناسباتية، لا قائدًا ثوريًا ولا معلمًا أخلاقيًا. وتم تشييء الحسين إلى “ذريعة طقسية”، تُستحضر سنويًا في مشهدية مأساوية تتكرر دون وعي بالسياق التاريخي أو بالمقاصد الكبرى التي خرج لأجلها. وبهذا، اختُزلت القضية إلى رماد البكاء، لا نار الثورة.

لم يكن الحسين يريد أن نبكيه، بل أن ننهض بفكره. لم يكن يطلب من محبّيه أن يلطموا، بل أن يثوروا على الظلم، أن يرفضوا الذل، أن يُعيدوا للحق كلمته. والمفارقة المؤلمة أن من يذرفون الدموع عليه اليوم، قد لا يذرفون دمعة واحدة على المستضعفين في أوطانهم، أو على المنكوبين من الفقر والقهر والاستبداد.

الاقتصاد الطقسي، صناعة الحزن المربحة

ومن منظور اقتصادي سياسي، تحوّلت هذه الطقوس إلى صناعة كاملة للحزن. هناك من يستثمر في المآتم، في المواكب، في الدموع، في المجالس، في إنتاج اللطمية، في تسويق “القداسة”، في صناعة خطاب العزاء، وتحويل المأساة إلى موسم ربح مالي واحتكار رمزي. والمستفيد الأكبر من هذا كله هو السلطة الدينية التقليدية التي تضفي شرعية رمزية على وجودها عبر سيطرتها على الرموز العاطفية في الوجدان الشيعي.

وهنا تتحول الطقوس إلى أداة هيمنة ناعمة. يُعاد إنتاج الحسين كـ”رمز محتكر” في يد طبقة من رجال الدين والمؤسسات، لا يُسمح بتأويله خارج حدود الطقس. وكل محاولة لتفكيك هذه البنية، أو لطرح بديل عقلاني وروحي، تُواجه بالتكفير والتخوين و”اتهام بالتفريط في الولاء”.

سؤال البديل: كيف نُحيي الحسين بلا جلد؟

إن المطلوب اليوم ليس إلغاء عاشوراء، بل تحريرها من الطقس نحو المعنى. وليس المطلوب إسكات العاطفة، بل تهذيبها وترشيدها حتى لا تتحول إلى انفعالات غوغائية تفقد روح الثورة جوهرها. فالحسين لا يُستعاد بجلد الجسد، بل بإحياء مشروعه في الوعي والعمل.

كيف نُحيي الحسين؟ بأن نقرأ سيرته في ضوء العقل والحرية، لا في ضوء المجالس والنوائح. بأن نجعل من عاشوراء مناسبة للنقد السياسي والاجتماعي، ولإحياء مفهوم المسؤولية الفردية والجماعية في مواجهة الظلم. بأن نجعل المآتم منابر توعية لا مراكز تأنيب ذاتي.

لقد خسرنا الكثير حين حوّلنا كربلاء إلى طقس سنوي، ولم نلتقط إشارتها إلى أن كل يوم عاشوراء، وكل أرض كربلاء، وكل ظالم هو يزيد، وكل ساكت شريك.

إصلاح الخطاب الحسيني: من التبرير إلى التنوير

من واجبنا اليوم، كمنتمين إلى مشروع أهل البيت، أن نعيد تشكيل الخطاب الحسيني بعيدًا عن المظلومية المُدْمِنة، وأن نعيد وصل الحسين بالرسالة الإسلامية الكبرى، لا أن نفصله عنها بشعائر لا أصل لها. ولا يمكن لهذا الإصلاح أن يتم من دون تفكيك البنية الطقسية التقليدية وإعادة بناء خطاب عقلاني يتناسب مع حاجات العصر وروح الرسالة.

لابد من تنقية الذاكرة الشيعية من الروايات المكذوبة، والخرافات التي دُست في قصص كربلاء، ومن إعادة قراءة النصوص بعينٍ نقدية تربط بين الثورة الحسينية ومقاصد الإسلام الكبرى: العدل، الحرية، حفظ الكرامة، ورفض الاستبداد.

الحسين فينا، لا علينا

إن الحسين ليس ميتًا في ذاكرة التاريخ، بل حي في ضمائر من يحملون مشعل الوعي والحرية. ولكن حين يُختزل الحسين في مشهد الدم والجلد، فإنه يُقتل من جديد، لا على يد جيش يزيد، بل على يد المؤمنين البسطاء الذين حُرموا من الوعي وسُيّجوا بالخرافة.

لقد علّمنا الحسين أن الدم لا يُراق عبثًا، بل من أجل حياةٍ أرقى، وأن الألم ليس غاية بل طريق، وأن المأساة ليست للعرض بل للعبور نحو التحرر. فهل نجرؤ اليوم على أن نحيا الحسين في وعينا وسلوكنا؟ أم نواصل قتله بجهلنا كل عام؟

خاتمة

إن أكثر ما يهدد القضية الحسينية اليوم ليس نسيانها، بل تشويهها بالطقوس المفرغة من المعنى. لم يمت الحسين لنظل نلطم، بل لنقوم. لم يُذبح لكي نبكي، بل لكي نرفض. وكل فعل طقسي لا يقودنا إلى الوعي، هو خيانة شعورية متخفية بعباءة الولاء.

ولذلك، فإن أسمى أنواع المواساة للحسين ليست التطبير ولا الزنجيل، بل أن نعيد للعدالة معناها، وللعقل مكانته، وللدين إنسانيته. أن نواجه “يزيد” كل عصر، لا أن نصرخ عليه في الماضي.

الحسين، باقٍ في من يُفكّر لا في من يُلطم. والإسلام، مشروع تحرير لا استعراض ألم.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email