السيد عبدالرحیم التهامي.
تعددت التوجیهات والدعوات من مواقع مرجعیة مختلفة تدعو بأجمعها إلى تنقیة مجالس العزاء الحسیني من شوائب الغلو والخرافة، ومن هذه الدعوات الطیبة نلج إلى الحدث العاشورائي کمساهمة فی النقاش.
یتكرر التحذیر مع كل محرّم من البدع ومن الخرافة التي تقحم على واقعة عاشوراء، وهذا وحده كاف للتدلیل على أنّ مظاهر الإحیاء العاشورائي تتعرض للتشویه، وأنّ بعضا من هذه المظاهر تحولت في الوعي الشعبي إلى جزء غیر منفك عن الطقوس اللازمة لاكتمال مراسم هذا الإحیاء.
ویمكن القول أنّ عاشوراء تمثل مظهرا یمكن من خلاله النظر إلى الواقع الشیعي في بعض عناصر قوته كما فی بعض اختلالاته، وسنحاول التركیز على نقطة محوریة فی هذه المساهمة وهی تحلیل أسباب وعوامل استئثار المجال السوسیولوجي بواقعة عاشوراء وتكییفها بما یخدم حاجات ومتطلبات اجتماعیة، وبتعبیر آخر حدیثنا سینصب على آلیات إخراج عاشوراء من التاریخ وتحویر مفاعیلها التاریخیة والثوریة لمصلحة خدمة لحظة تطهریّة على الصعید الاجتماعي العام؛ مجالس عزاء سقفها الأعلى إثارة الوجدان الجمعي والوصول به إلى ذروة التفجّع، مسیرات اللّطم والبكاء الجماعي وصولا إلى مشاهد التطبیر والإدماء.
لهذا التوظیف السوسیولوجي لعاشوراء عمق فی التاریخ، فبعد واقعة عاشوراء عام61هـ انطلقت دینامیات ثوریة متعددة الأبعاد والأوجه، كان لها الدور الحاسم فی إسقاط الحقبة الأمویة المُقحمة بالتغلّب على التاریخ الإسلامي، لكن هذه المفاعیل ستضعف فی الأمة بعد ذلك، وحتى عندما كان بعض الأصحاب یبدون بعض الاستعداد الثوري فی محیط أئمة أهل البیت علیهم السلام، كان الأئمة یتعاملون مع هذه الرغبة فی الثورة على أنها حالات فردیة معدودة لا تعكس نضجا فی الأمة واستعدادا فعلیا للتضحیة، لذلك انصبّ الاهتمام على التربیة وإعادة التأهیل العام للأمة وبناء الجماعة الموالیة، وتأمین شروط نموّها وتكاملها فی قلب التیار الأوسع للأمة ولیس على هامشه.
بعد الغیبة الكبرى وهي ذات وقع سیكولوجي قاس على الجماعة الشیعیة، لعبت عاشوراء دور اللحمة فی شد تماسك الجماعة الشیعیة واصطبارها، وكان الألم هو العنوان الجامع، وتحولت عاشوراء إلى هویة وانتماء، وهكذا اقتصرت وظیفتها التاریخیة على تامین الشرط السیكولوجي لتماسك الجماعة الشیعیة وضمان صمودها بوجه حملات القمع والاضطهاد المذهبي.
بعد ذلك النمط من الوظیفة یمكن اعتبار الإمام الخمیني(قده) الشخصیة الأبرز التی أعادت عاشوراء إلى وظیفتها التاریخیة، وحوّلتها إلى ثقافة فاعلة على مستوى الصراع مع الطاغوت، فغدا كل یوم عاشوراء وكل ساحة كربلاء، وأصبح الشاه – وكل طاغیة وعمیل على غراره – یزید عصره، ما یتطلب خطوات حسینیة من الجماهیر التوّاقة للعزة والكرامة والحریة.
والحدیث عن الإمام الخمینی(قده) فی هذا السیاق هو في الواقع حدیث عن مرحلة من التجدید والإصلاح والنهضة في التاریخ الشیعي المعاصر، عبّر عنها إلى جانب الإمام الراحل كلّ من الشهید الصدر والشهیدین شریعتي ومطهري والعلاّمة شمس الدین والعلاّمة السید محمد حسین فضل الله..رحمهم الله جمیعا.
لكن للأسف الانجاز الثوري الذي تحقق مع الإمام الخمیني (رض)، والذی فتح على عصر ذهبي فی التجربة الشیعیة، وعلى زمن استنهاضي فی تاریخ الإسلام، اختزل فی وعي الكثیرین إلى مجرد مكسب شیعي تحررت معه مساحات أوسع فی التعبیر عن الذات الشیعیة وخصوصیاتها، ومع تعاظم هذا الإحساس؛ وفی علاقة بتنامي النزعة المذهبیة السنیة التی تسعرّت بعد انتصار الثورة الإسلامیة فی إیران؛ تهیأت أسباب استثمار عاشوراء في سیاق خدمة التمایز المذهبي، وتحویلها إلى طقوس ذات وظائف اجتماعیة وفي مقدمتها وظیفة التطهّر الاجتماعي من خلال البكاء على الحسین وأهل بیته علیهم السلام، بل وتمّ أسْطرَت(التحویل نحو الأسطورة) واقعة عاشوراء استجابة لمتطلبات الثقافة الشعبیة.
هذه الوظائف وجدت فی طائفة عریضة من خطباء المنبر الحسیني وقرّاء العزاء من ینهض بها، ومع هؤلاء؛ وهم – بالمناسبة- من یصوغ الوعي الدیني أكثر من الفقهاء؛ انكفأت عاشوراء عن وظیفتها التاریخیة التحرریّة والاستنهاضیة، وزادتها الخرافة والافتئات على الحسین علیه السلام وعلى زینب الكبرى(ع) من خلال إجراء الكلام على ألسنتهما؛ بعدا عن هویتها وحقیقتها وأهدافها الكبرى.
ومن الحقائق الصادمة أنّ الكثیر من هذا الدجل فی المجالس یمر دون أن یتصدى له أهل العلم؛ وهم فی العادة من جمهور هذه المجالس؛ فلا سلطة ولا رقیب على من یعتلی المنبر الحسیني مهما جدّف وأساء إلى حقائق ومعطیات هذه النهضة العظمى. بل إن ثقافة الدمعة- وهی مطلوبة- تبقى هی الغالبة الآن، أما ثقافة الموقف والنهج والخطوات الحسینیة فهي غائبة إلا فیما ندر.
أما هذه الدعوات التی ترتفع موسمیا لتجنیب مجالس العزاء كل ما یشین الإحیاء العاشورائی، فمع أهمیتها وضرورتها، لا یبدو أنّ لها آثارًا واقعیة، لأن عاشوراء الآن انتقلت إلى الحضن الاجتماعی بمعنى أنها أضحت خاضعة للمتطلبات الاجتماعیة للجمهور، فالجمهور یتناغم مع أسطرة الواقعة، والجمهور یرید فی موسم عاشوراء أن یتطهّر من آثامه بالبكاء واللطم أو التطبیر، والخطباء أنفسهم لهم استعداد ثقافي للمشي فی هذا الاتجاه.
لذلك ندّعي أنّ المطلوب؛ وبشكل استعجالي؛ عملیة إصلاح وتجدید شاملین فی الحوزات الدینیة، وفی الثقافة الدینیة، وفرض ضوابط على الخطباء وتطهیر صفوفهم من المتكسبّة الذین یستثمرون فی دم الحسین علیه السلام.
فالغلو والخرافة لهما رواجهما الواسع، ولهما خطوط تعبّر عنهما داخل الحوزات العلمیة وخارجها، والسلفیة الشیعیة تتنامى وهی كما ردیفتها الوهابیة شرسة وتهاجم كل تعبیرات الاستنارة والأصالة فی الفضاء الشیعي الثقافي والفكري والفقهي.
وبناء علیه فالذین تحدثوا عن الغلو والخرافة بمناسبة مجالس عاشوراء علیهم أن یحوّلوا الدعوة إلى مشروع إصلاح شجاع وجریء لاستنقاذ التشیّع من هدیر سیل السلفویین الشیعة؛ الذین یشوهون المذهب، ویفرضون وصایتهم علیه، ویمارسون الإرهاب الفكری على رموز ورجالات الإصلاح، ویقوّضون فكرة التقریب بین المذاهب، ویریدون قوقعة كلّ الواقع الشیعي فی الجرح والتاریخ والخرافة وحجبه عن لحظته التاریخیة واستحقاقاتها.
لقد ارتبطت عاشوراء بالإسلام والأمّة، فكانت حمایة للدین من التحریف وصونا له من الضیاع، كما كانت استنهاضا للأمة من درك الخمول والسلبیة، وتحریرا لها ولإرادتها من أغلال الخوف والجبن والتقاعس.. لذلك استأهلت كل ذلك الفداء وكل تلك التضحیات.
وعاشوراء الیوم تستنهض العلماء والنخب لتحریر وظیفتها من أسر التسطیح والخرافة وغلبة التفجیع..بله التمییع، فما أحوج البشریة لسماع نداءات عاشوراء، وما أحوجها وهي في كدحها التحرّری للـنهج الذی سطّره الحسین علیه السلام في یوم العاشر من محرّم.