دراسـةٌ فـي المسـوِّغات الفقـهيّة والمسـتند الأصـولي
أ. د. عبد الأمير كاظم زاهد(*)
ممّا يتفق عليه العقلاء أن حاجات البشر هي موضوع المحمولات الفقهية، فكلما تطورت هذه الحاجات لا بُدَّ أن ترافقها تطورات العقل الحقوقي؛ لتحدد الالتزامات والاستحقاقات للعقود الجديدة.
لقد تطور الطبّ وتطورت أساليب العلاج والوقاية الصحية بتطوّر بيئة الإنسان وتعقدها، وبتطوّر المدنية وتعقيداتها، فصارت حاجة الإنسان إلى خدمات صحية وقائية أو علاجية حاجة ضرورية، وتحولت هذه الخدمات من نطاق الأفراد إلى نطاق المؤسسات، وصارت الخدمة الطبية سلعة اقتصادية، لها ثمن وكلفة وقيمة مالية.
مقابل ذلك فإن دساتير بلدان العالم اعتبرت حقّ المواطن في التمتُّع ببيئة صحية سليمة حقّاً طبيعياً ودستورياً، وحقه في الحصول على خدمات صحية من الدولة حقّاً دستورياً، ودعت الدول إلى بذل الجهد لتسهيل استيفاء المواطن لهذا الحقّ. إلاّ أن تعقيدات الحياة وتعقيدات وظائف الدولة حوَّل هذا الحقّ إلى حقّ إيجاد المؤسسات، وليس حقّ البذل، أي إن الدولة توجد فرص الاستشفاء، ويبقى على المواطن شراء هذا الانتفاع (الاستشفاء) من المؤسّسات الصحية ببدلٍ مالي، فخضع هذا الحقّ للمنطق التجاري.
وفي مقابل ذلك وجدت طبقات من الناس من أصحاب الدخول المحدودة، والفقراء الذين لا قبل لهم بالنفقات الباهضة التي يتطلّبها العلاج الطبي، فاختارت بعض التجارب الاجتماعية والسياسية فكرة التأمين الصحي، وأصدرت بعض الدول قرارات ملزمة على الدوائر الرسمية والأفراد لدفع أقساط إلزامية من أجور العاملين الشهرية لشركات تأمين؛ لأغراض خدمات طبية علاجية لهؤلاء.
وتوزّعت دول العالم في هذا الموضوع إلى أكثر من صنفٍ؛ منها: ما توفر لمواطنيها كل الخدمات الصحية مجّاناً؛ ومنها: ما تستوفي أجوراً رمزية، فتكون الخدمات الصحية مدعومة من خزينة الدولة؛ ومنها: ما تترك موضوع الخدمات الصحية للمواطن، يتعامل معها كتعامله مع أيّ سلعةٍ اقتصادية، لها عوض مالي وفق قوانين السوق.
واتخذت المؤسسات الصحية في دول العالم أكثر من نظام. ومن ذلك مثلاً: نظام المؤسسات الصحية المملوكة للدولة، ونظام المؤسسات التعاونية، ونظام المؤسسات الخاصة. وقد تجد أن هذه النظم جميعاً تعمل معاً، كلّ له نظامه الخاص وآليات عمله. إن تحوُّل قضية (العلاج الطبي) من استحقاق إلى سلعةٍ لها عوض مالي، غالباً ما يكون ثمنها مكلفاً جدّاً، جعل الناس تفكر في مواجهة هذا الحَرَج؛ فالمرض يأتي فجأة وبغتة، والحوادث التي يحتاج المتعرض لها إلى خدمة طبية تأتي بلا حسبان، وقد تقع والمصاب بها لا يملك نفقات العلاج، وعندئذٍ يقع الإشكال الإنساني ومعضل المواطن، فقد يتطلَّب علاجه مبالغ طائلة، لا يملكها، ولا يملك بعضاً منها.
لأجل ما تقدَّم جاءت فكرة التأمين الصحي؛ لتزيل هذا القلق والحَرَج، ولتقدِّم خدمة للمريض أو المصاب، من دون أن يترك لكي يموت أو تشتدّ عليه الأمراض والعاهات؛ بسبب عدم امتلاكه النفقات.
وملخص فكرة التأمين الصحي أن الفرد يتعاقد مع (جهةٍ؛ إما تجارية، أو تعاونية، أو مؤسّسة صحية) لكي تتولّى علاجه عند (الحاجة)، مقابل مبالغ مقسطة يدفعها لهذه الجهة بحَسَب الاتفاق المبرم بينهما. وبهذا يتّضح أن التأمين الصحي:
1ـ عبارة عن عقد بين شخص ومؤسسة (تجارية، أو تعاونية، أو مؤسسة صحية).
2ـ في العقد التزام من الشخص بدفع أقساط شهرية للمؤسسة ابتداءً.
3ـ في العقد تلتزم المؤسسة بدفع نفقات علاجه إذا أصابه مرض، أو حادث يحتاج من جرائه إلى خدمات طبية.
ومؤسسات التأمين الصحي نوعان: إما مؤسسات تعاونية؛ أو مؤسسات تجارية تعمل في مجال توفير العلاج الطبي.
والمؤسسات التعاونية: مؤسّسات يستحدثها عدّة أشخاص، يدفع كل منهم مبلغاً من المال كلّ شهر؛ لتصرف على مَنْ يصيبه منهم ضررٌ صحّي. ولا يقصدون بهذا الاستحداث الربح، بل إعانة أنفسهم على الشدائد، بالتبرُّع من كلٍّ منهم إلى أفراد المجموعة اذا أصاب أحدهم المرض.
أما التجارية: فهي مؤسّسات ربحية مكونة من أشخاص مساهمين (من غير المؤمن عليهم)، هدفها ممارسة هذا العمل للحصول على الأرباح، والعمل ضمن قوانين السوق، فتفتح الأبواب للناس للتعاقد معهم، على أن يدفع الشخص المستأمن (طرف العقد) مبلغاً من المال شهرياً لهذه الشركة، فإذا ما أصيب بضررٍ صحّي تولَّتْ الشركة التجارية الإنفاق على علاجه، فإنْ لم يقَعْ له حادثٌ ولم يُصَبْ بمرضٍ ما، ومات، ليس له شيء مما دفع من أموال، وتذهب تلك الأقساط إلى الشركة. وغالباً ما تستثمر هذه الشركات أموال طالبي التأمين في استثماراتها الاقتصادية؛ لاستحصال الأرباح.
عقد التأمين الصحّي
يُراد بعقد التأمين أنه (عقدٌ بين طرفين، يهدف إلى مساعدة المستأمن على تجاوز الصعوبات التي تحصل من جراء وقوع حوادث أو إصابات مرضية، بتسهيل العلاج وتهيئة نفقاته. وأركانه ثلاثة:
1ـ المستأمن: الذي يطلب التأمين لنفسه ولأسرته.
2ـ الجهة المؤمنة: وهي الشركة أو المؤسسة الصحية التي تقوم إما بدفع نفقات العلاج؛ أو إجراء العمليات العلاجية مباشرة بلا استيفاء الأثمان.
3ـ صيغة العقد: وهي مجموعة البنود والشروط والموانع والمحترزات.
ويعرَّف أيضاً بأنه (اتفاقٌ يلتزم بموجبه شخص أو مؤسسة تتعهّد بضمان نفقات علاجٍ لآخر، أو هو وأسرته، وحسب ما تقتضيه بنود العقد).
وقيل: (هو عقدٌ بين شخص ومؤسسة، تقدّم الأخيرة خدمات طبية للشخص المؤمن له نظير اشتراكات مالية).
والتأمين الصحي على نوعين: تأمين صحي تعاوني، وهو من عقود التبرُّع؛ وتأمين صحي تجاري، وهو من عقود المعاوضة. ويهدف التعاوني إلى تفتيت الأخطار والتعاون على تحمُّل الضرر المتوقَّع، وتخفيف وإزالة آثاره كاملة؛ أما التجاري فهو شركة أسهم، هدفها تحقيق الفوائد. ويؤسس التعاوني على فكرة التساند والتآزر الاجتماعي؛ بينما يؤسَّس التجاري على تحصيل الأرباح للمساهمين. وينطوي كلا العقدين على مقدار من الغَرَر، وجهالة العوضين. وسنناقش مدى اعتبار الغَرَر مبطلاً للعقد، ومانعاً من الانعقاد.
شروط عقد التأمين الصحّي
يشترط في العقد ما يأتي:
1ـ أن يحدّد طرفا العقد تحديداً كاملاً.
2ـ يصحّ فيه اشتراط المستأمن لنفسه أو لغيره.
3ـ يجوز أن يقتصر التأمين على أمراض محددة، ويجوز أن يطلق.
4ـ يجوز أن تحدّد لسريانه مدّة محددة، ويجوز إطلاقه زمنياً.
5ـ يحدّد القسط الشهري للمستأمن، ويحقّ للشركة أن تقوم بتوظيف أمواله في مجالات التوظيف الحلال، ويقتضي عرف العقد التنازل عن الأرباح المتولِّدة عن التوظيف.
6ـ لا يجوز أن يعطي المستأمن البطاقة الائتمانية لغير المؤمن له.
7ـ لا يجوز ادّعاء المرض للحصول على الأموال. كما لا يجوز التقليل من خطورة المرض لإنقاص كمية الإنفاق.
8ـ تدفع الأموال في التأمين التعاوني تبرُّعاً، وتدفع في التجاري استحقاقاً.
9ـ يجوز أن تؤمن جهة خيرية أو مؤسسة وقفية لأشخاص.
10ـ يجوز إذا تعدَّتْ النفقات كمّية الأقساط أن يعود المؤمن على المستأمن بالباقي إذا اشترط ذلك مقدّماً.
الإشكالات الفقهيّة على عقد التأمين الصحّي
يرى أغلب الدارسين أن في عموم عقود التأمين (التجارية)، أيّاً كان موضوع التأمين، موانع للانعقاد، وضعاً وتكليفاً؛ وذلك للإشكالات التالية([1]):
أوّلاً: لاشتمال هذه العقود على معاملة غررية؛ لأن كلا طرفي العقد لا يعرف على وجهٍ مقبول عقلاً ماذا عليه؟ وماذا له؟ ناهيك عن التحديد بالضبط، ومن جهة الشخص الذي يطلب التأمين ضدّ (خطرٍ ما) فإن ذلك الخطر قد يقع وقد لا يقع أبداً، فتذهب أمواله هدراً، أو أنه قد يُصاب بمثل هذا الخطر في الشهر الأول من عقد التأمين، فيكون قد دفع قسطاً واحداً، وتكفّلت الشركة بالإنفاق عليه بما يعادل أقساط سنوات عديدة.
ولورود الحديث النبوي من أنه‘ نهى عن بيع الغرر فإنه قد يشمل النهي هذه العقود؛ كونها غرريةً ممنوعةً شرعاً بموجب الحديث.
وسيفرد البحث لمناقشة هذا الاعتراض في مطلبٍ مستقلّ؛ لأن هذا الإشكال هو أبرز الإشكالات وأهمها.
ثانياً: لأن هذه العقود ضرب من ضروب المقامرة؛ لما فيها من المخاطرة في المعاوضات المالية من الطرفين، فتدخل في عموم حرمة القمار، وكأنّ هذه العقود من الرهان المحرَّم.
ويناقش هذا الإشكال بأنه على الأقل ليس مما تعارف الناس على أنه من القمار، وأن الفرد حينما يؤمّن فليس لأجل كسب المال، بل لتفادي الشعور بالقلق إزاء محدودية الدخل والخشية من الحوادث والأمراض. كذلك فهو من جهة الشركة ليس كذلك، بل هو عمل مهني (فهي تمارسه عملاً مهنياً مبنياً على حسابات إحصائية)، تقدم فيه خدمة معتبرة عقلاً وشرعاً، وهي تكفل الإنفاق على (مريضٍ). وقياسه على القمار ليس فيه مناطٌ مشترك.
ثالثاً: إن غرم شركة التأمين للمريض غرم بلا جناية صادرة منها، مباشرة أو تسبب، وهي غنم للمريض بلا جهد مبذول منه أو عوض، ولا سيَّما إذا بلغت التكاليف أكثر من الأقساط، كما إذا حصلت في بواكير انعقاد العقد، ففي ذلك كله إلزامٌ بما لا يلزم شرعاً.
ويناقش هذا الإشكال بأن غرم الشركة لم يأتِ من جراء التسبُّب أو المباشرة، إنما من جراء التعهد والالتزام للمؤمن بأنها التي ستقوم بدفع نفقات العلاج، مهما كانت كمية الأقساط المدفوعة.
رابعاً: تشوب هذه العقود شبهة الربا، وذلك:
أـ إذا دفعت الشركة للمؤمن عليه أكثر مما دفعه من أقساط، فتعامل الأقساط على أنها قرض جرّ منفعة.
ويناقش بأن دفع الأقساط بموجب العقد ليس قرضاً، لا في النية، ولا ينصّ عليه في التعاقد، فلا يعامل المال معاملة القرض، إنما يدفع (عوضاً) لأمر متوقّع حصوله في المستقبل يتطلّب إنفاقاً مالياً.
خامساً: إن هذه العقود في بعض صورها مصداق (لأخذ مال الغير بلا مقابل بالباطل).
ويناقش بأن هذا حكمٌ عام، بلا حيثية فقهية تعلل اعتبار هذا النوع من جنس أكل المال بالباطل.
مسوِّغات المجوِّزين
نظر دارسون آخرون للموضوع من زاويةٍ أخرى، ومالوا إلى الجواز؛ للمسوِّغات التالية:
المسوِّغ الأوّل
إن هذا العقد يحقق مصلحة مشروعة (قطعية، كلية، ضرورية)، ولكون المصلحة دليلاً شرعياً على الجواز فعقد التأمين الصحي جائز.
ويناقش بأن دليل المصلحة سائغٌ إذا لم يوجد شاهدٌ شرعي على إلغائه، حتّى تكون مصلحة مرسلة، على خلاف معروف بين الأصوليين، ولأنه ينطوي على تصرف غرري فقد وجد نصٌّ يُلغي اعتبار هذه المصلحة، فلا تصلح دليلاً على جوازه.
المسوِّغ الثاني
من المتفق عليه أن الأصل في المعاملات المدنية الإباحة، حتّى يقوم دليلٌ يقيني على التحريم؛ لأن الاشتغال اليقيني يستلزم شاغلاً يقينياً، وحيث لا شاغل شرعي مقطوع به فالأصل إباحة مثل عقد التأمين الصحي. وعلى الأصل تترتّب صحة التفاصيل.
والجواب: إن الاباحة الأصلية مشروعة بعدم المانع، فإذا وجد بطل الاستدلال بالأصالة. والمانع موجودٌ.
المسوِّغ الثالث
إن التأمين الصحّي في ظلّ الأوضاع المدنية أصبح ضرورة من ضرورات المجتمع، فيدخل، حتّى مع التسليم بوجود الغَرَر، ضمن قاعدة (الضرورات تبيح المحظورات)، ولا سيَّما أن الغَرَر محتمل ومعقول ومرضيّ به.
ويناقش بعدم التسليم بالمقدّمة؛ إذ إنه لم يصِلْ الأمر في وصف التأمين الصحي إلى الضرورة الملجئة التي لا مندوحة عنها في التدابير الحكومية التي تكفل تأمين العلاج للناس، وضرورته العرفية هذه ليست معتبرةً شرعاً حتّى يدخل في مسوِّغ العنوان الثانوي، فيأخذ حكم العناوين الثانوية.
وقد ألحق بهذا الاستدلال أنه من مستلزمات التقدُّم الاجتماعي.
وأجيب بأن التقدُّم الحقيقي والشرعي ما اندرج ضمن كليات الشريعة، وليس كل ما يسرّ وضعاً ما فإنه يعامل معاملة المقدّمة الضرورية مطلقاً.
المسوِّغ الرابع
قال دارسون: يمكن إدراج عقد التأمين الصحي ضمن عقود المضاربة.
والجواب: ربما يكون الفرض صحيحاً إذا كان المؤمن عليه من المساهمين في شركة التأمين، فيأخذ من أرباحه، على افتراض صحّة المعاملة.
والحقُّ أن مال المستأمن غير المساهم قد خرج من ملكه إلى ملك الشركة، بينما مال المضاربة يبقى على ملكه، ويستحقّه الورثة.
ثم إن الربح في المضاربة بين الشريكين نسبة مئوية، بينما هو في عقد التأمين إما خسارة محضة، أو ربحاً محضاً للشركة، وكذلك إما تغطية لنفقات علاجية للمريض، أو تذهب كلها للشركة.
المسوِّغ الخامس
قاسه آخرون على الوعد الملزم، كالوعد بقرضٍ أو إعارة، أو الوعد بتحمل خسارة للغير، سواء كان تبرعياً محضاً أو معاوضياً.
ويناقش بأن أصل الوعد الملزم مسألة خلافية، فكثيرٌ من الفقهاء لا يقول بإلزامية الوعد، حتّى لو نطق به الواعد.
وتنزُّلاً فإن في عقد التأمين معاوضة عقدية عليها ضمان العقد، وهذا أمر لا يتمتع به الوعد الملزم.
المسوِّغ السادس
كيَّفه آخرون على أنه من قبيل: ضمان شخصٍ لآخر ما يقع له من أمرٍ مجهول الماهية والوقت، مثل: خطر حوادث الطريق، أو ضمان وقوع عدوى مرضية.
ويناقش بأن هذا الضمان إما مقابل شيء (كمعاوضةٍ على مجهول)، وهنا المشكل؛ أو تبرعية بقصد الإحسان، وهي (لا تنطبق على عقد التأمين).
المسوِّغ السابع
جعله آخرون مثل: الراتب التقاعدي، فهو أقساطٌ مأخوذة من الموظف لحين التقاعد، على أن تصرف له كرواتب، ولا يعرف متى يموت حتّى تتوقَّف خزينة التقاعد عن صرفه له.
والجواب: إن ذلك حقٌّ التزمت به الدولة كجزءٍ من الأجر المدفوع للموظف، يراعى فيه ما قام به الموظَّف من خدمات عامّة للناس.
المسوِّغ الثامن
اعتبره دارسون مثل: دية العاقلة، فالعاقلة تدفع دية القتل الخطأ من دون مقابل من القاتل، ولا تسبّب منها بالقتل.
والحال أن ذلك حكمٌ من الأحكام، وليس من العقود.
المسوِّغ التاسع
قاسه آخرون على عقد الحراسة الليلية، بحيث لا يغرّم الحارس قيمة المسروق من آخر إنْ لم يظهر منه تَعَدٍّ أو تفريط أو إهمال.
وعندي أن كلّ موجبات الرفض المتقدّمة، وحيثيات عدم الصحة الانعقادية وكذلك كلّ مسوّغات القبول، ودعوى صحة العقد أصالة، بحاجةٍ إلى مراجعة وتأمُّل، بل كلّها أدلة غير كافية وغير منتجة، ولا تنهض بمطلوبها ومنها أيضاً.
المسوِّغ العاشر
إن ضمان العاقلة لدية الخطأ كان قبل الإسلام وفي الديانات السابقة، وهو نمطٌ من التأمين بصورةٍ بدائية، وإقرار الشارع له إقرار لعقد التأمين في الجملة([2]).
المسوِّغ الحادي عشر
إن عقد التأمين يوجب الشعور بالأمن من الخطر، وهو تعاون على البرّ والخير، ولأنه لا ينطوي على ظلمٍ أو موانع أخرى فإنه تستظهر فيه الصحّة([3]).
محاولات التكييف الفقهي لعقد التأمين الصحّي
يمكن إدراج عقد التأمين الصحّي فقهياً ضمن العقود التالية:
1ـ الهبة المعوَّضة. قال الفقهاء: هي عقد يقتضي تمليك عين من غير عوض، تمليكاً منجزاً، مجرداً عن القربة. وقد أجاز الإمامية والحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة اشتراط العوض في عقد الهبة، بشرط أن يكون معلوماً، وقالوا: رغم أن لفظ العقد عقد هبة، إلاّ أن جوازه جواز البيع، وعنوا بذلك أنه هبة ابتداءً ومعاوضة انتهاءً. وبهذا أشبه هذا عقد التأمين؛ لأنه نصٌّ على تمليك أموال، فهو هبةٌ من المستأمن لشركة التأمين، بمعاوضة الالتزام بدفع نفقات العلاج، مع معلومية إجمالية للعوضين.
لكنْ: لا يخطر على البال ولا ينعقد في النية أن المستأمن حين يدفع الأقساط يدفعها هبة، فلا يصحّ افتراض ما لا يتصوَّر. إضافة إلى أن الحال أن الأقساط التزامات مالية مقرّرة ومفروضة، فافترقت عن الهبة.
2ـ كونه من عقود الاشتراط لمصلحة الغير. إذا تعاقدت مؤسسة لضمان العاملين منها صحياً، أو تعاقد شخص لضمان نفسه وأسرته صحياً، فهذا جائزٌ بجواز الاشتراط الصحيح في العقد لمصلحة الغير، فيجوز أن تكون فائدة العقد لمصلحة الغير.
3ـ كونه من فقه الضمان: والضمان أن يتعهّد شخص بمالٍ أو بنفس للغير.
والتعهُّد بالمال نوعان:
الأول: كفالة السداد عن مدين، فالمدين مضمون عنه، والضامن في التعهد ليس المدين أصلاً، إنما بالتعهُّد أصبح الضامن بحكم المدين.
الثاني: ضمان الشخص للسداد عن نفسه، فالضامن أصلاً هو المدين.
وفي عقد التأمين أن تصبح شركة التأمين ضامنة (لشخصٍ ما) يحتاج خدمات صحية، وتتكفّل بالضمان، فهذا دفع لنفقات هذه الخدمات من ضامن.
والأساس أن للمريض في ذمّة الضامن أموالاً مرصودة عنده لأغراض دفع نفقات العلاج. وهنا يلزم:
ـ أن يخوّل المضمون شركة التأمين في التصرف بالأقساط.
ـ ويخوّلها في صرف ما زاد على الأقساط المدفوعة إذا كان العقد يقضي بالرجوع عليه في ما زاد عن المدفوع.
ـ ويخوّله في هبة ما زاد من أقساطه المدفوعة لشركة التأمين إذا استوفى علاجه بأقلّ ممّا أودعه عندهم.
ويقرر الفقهاء في عقد الضمان أنه بمجرد انعقاد عقد الضمان ينتقل الالتزام إلى الضامن، وتبرأ ذمة المضمون منه، إلاّ أنه من البداهة أن يرجع الضامن على المضمون عنه إذا أدّى عنه بإذنه زيادة، ويرجع المضمون على الضامن بالباقي الفائض عن وديعة المال المدّخر للإنفاق على العلاج إذا حصل فائض بالاستيفاء. بَيْدَ أن هذا لا يحصل في عقد التأمين.
ويشترط الفقهاء لصحّة الضمان العلم بمقدار المال المضمون. وهذا على وجه التحديد لا يحصل، فلا تدري شركة التأمين… كم ستنفق على المستأمن. لكنهم قالوا: إذا رضي المضمون له من الضامن ببعض المال أو أبرأه من بعضه جاز؛ ذلك لأنه صاحب المال، وله إسقاطه وهبته، ولأن الضامن لا يجوز أن يرجع إلاّ بما أدّاه عنه فعلاً.
واختلف الفقهاء في مَنْ الذي يُطالب بالسداد؟ هل هو الضامن أو المضمون عنه؟
قال الأكثر: لما كان الضمان يفيد التضامن بين المدين والضامن فلصاحب الحقّ مطالبة مَنْ شاء منهما، أو مطالبتهما معاً على وجه التفرُّد بالدفع، أو الاشتراك.
قال غيرهم: لا يطالب الضامن إلاّ بعد تعذُّر مطالبة المدين الأصلي؛ لأنه المشغولة ذمته أصلاً بالدين.
وهنا افترق الحال، ففي عقد التأمين لا يطالب المضمون، بل تسقط مطالبته مطلقاً، وتنحصر المطالبة بشركة التأمين. وقال فقهاء الإمامية: لما كان الضامن قد نقل حقّ الدائن إلى ذمته فإنه هو المطالب، فإذا انتهت الكفالة رجع صاحب الدين إلى الأصيل.
4ـ في فقه الكفالة. وصورته: أن تقول شركة التأمين للمستشفى (المؤسسة الصحية) التي تقدم العلاج: أنا كافل المريض، وضامن ديونك عليه بموجب صكّ التأمين.
وهنا: مع قبول الدائن ينعقد التوثيق.
وقد سمّى فقهاء الشافعية كفالة الدين بالضمان؛ لأنها كالضمان لجهة كونها ضمّ ذمّةٍ إلى أخرى في المطالبة، وقيل: في الدين.
وقال المالكية: هي شغل ذمّة بالحقّ؛ لقول الرسول‘: (الزعيم غارم).
أقول: هل يمكن اعتبار الضمان الصحي كفالةً مشروطة مضافةً إلى المستقبل، كالتزام شركة التأمين بـ (دفع ما تفرضه المؤسّسة الصحية أو ضمان دينها) عند مرض المستأمن أو المضمون عنه.
الجواب: إن الفقه الإسلامي ينظر للالتزام عند حلول الفرض. وأكثر الفقهاء يرَوْن أن ذلك الالتزام معلَّقٌ على مجهول.
فإذا كانت كفالة شركة التأمين هي نقل الدين من ذمّة المريض إلى ذمة الشركة فنحتاج إلى عقدٍ ورضا، ولا رضا إلاّ مع وجود سبب الالتزام بالجَزْم. وحيث إن المرض لم يكن ساعة الانعقاد ففي العقد مشكلٌ. ولما كانت غالب عقود التأمين كفالة مقيدة مشروطة ومعلّقة على (ما سيحصل) فمن الصعب تنزيل شركة التأمين منزلة الكفيل لدين المريض. فضلاً عن أن هذه الكفالة هي كفالة بعوضٍ، وهي غير جائزة عند الحنفية مثلاً، حالها حال الكفالة المصرفية لشخصٍ مقابل وضع مبلغ الكفالة واستيفاء أموال أخرى مقابل عمل الكفالة. إلاّ إذا كيِّف الأمر على أن المكفول يجعل (جعالة) للكافل، قالوا: نعم: إنْ لم يكن مشروطاً في عقدٍ فهي جائزة، وإنْ كان مشروطاً فالكفالة صحيحة، والشرط باطلٌ؛ لأن الكفيل في حكم المقرض، والزيادة هنا (ربا).
وشاطرهم المالكية في ذلك؛ لقول الرسول‘: (ثلاثة لا تكون إلاّ لله: القرض والضمان والجاه).
ومن مشكلات هذه التكيّفات أنها من نمط الصفقتين في صفقة، وهو عمل عليه نهيٌ؛ لأن الكفالة بشرط العوض تضمنت عقدين (الكفالة؛ المعاوضة على فعل).
ومن جهة مقدار المال المكفول قال المالكية: إن جهالة الدين غير مانعة من صحة الكفالة.
بينما قال الشافعية: يلزم أن يكون الدين معلوماً جنساً وقدراً وصفة؛ لأنه إثبات مال في الذمّة، فأشبه البيع والإجارة.
واستدلّ الحنابلة على صحة ضمان المجهول مقداره بقوله تعالى: ﴿وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ﴾. ولا يعرف مقدار حمل البعير بالضبط والتحديد والجنس والصفة.
وفي صدد كون المال المضمون سيكون، فهو غير كائن ساعة العقد، قال الحنابلة: يصحّ ضمان ما سيؤول إلى اللزوم، كضمان نفقة الزوجة للمستقبل من الأيام، مع أن مقدارها غير معلوم عند عقد الكفالة، وقالوا: إنه لما جاز ضمان الدرك (ما يحصل فجأة غير متوقع) جاز ضمان (نفقات مرضٍ ما).
ووجدتُ أن فقهاء الإمامية أيضاً يصحّ عندهم ضمان ما سيؤول إلى اللزوم، كضمان مال الجعالة قبل الفعل، لذلك نصّ فقهاؤهم بالقول: (ويصح ضمان المجهول على الأقوى، وضمان الدرك).
إشكالية الغَرَر في عقد التأمين
وقد لاحظ الباحثون في عقد التأمين الصحي موضوع الغَرَر في العقد، وعدّوه مانعاً من صحة الانعقاد. والمشكلة الأساسية في الغَرَر (مجهولية الثمن أو المثمن أو كلاهما)، فهل هو فعلاً مانعٌ من انعقاد العقد؟
إن صور الغَرَر تكمن في جهالة كمية المبالغ المدفوعة من المؤمن وفي مقدار كفلة العلاجات المدفوعة من المؤسسة الصحية أو ثمن العمل المطلوب عند معالجة المرض، فهذه يصعب تحديدها، وتشكِّل جهالة بالعوضين، وتقع تحت محذور ما رُوي في الحديث النبويّ الشريف من أنه‘ نهى عن بيع الغرر.
ويُعرَّف الغرر لغةً بالخدعة، فكما جاء في لسان العرب: غرّه يغرّه غرّاً أي خدعه، جاء في الحديث: (المؤمن غرّ) أي ينخدع؛ لطيبته ولينه، وقد ورد في كتاب الله: ﴿وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ﴾، أي لا يخدعك الشيطان بتزيينه الحياة الدنيا.
وفسرته كتب اللغة الأخرى بالمخاطرة. واعتمد الشيخ الأنصاري في المكاسب هذا المعنى، وإن أضاف له ما ورد في القاموس: إن معنى غرّه أي خدعه وأطمعه، وفسره ماهية بالجهالة.
أما المعنى الاصطلاحي فلم يبتعد عن المعنى اللغوي للغرر كثيراً، فقد قيل: هو الجهالة المؤدية إلى التشاحّ الذي يمنع من تنفيذ الصفقة؛ وقالوا: هو المخاطرة المفضية إلى التنازع.
فإذا عرفنا أن الغرر هو الجهالة المفضية إلى التشاحّ فهل ينطوي عقد التأمين على ذلك؟ وهل الغرر ذاك مانعٌ من شرعية العقد؟
الجواب: إن هناك ثلاثة مسالك أصولية في التعامل مع هذا الموضوع:
1ـ مسلك القائلين بالقياس والتأسيس على العلة المستنبطة: يتساءلون لماذا نهى الله عن بيع الغرر؟ أليس العلة في النهي لكي لا يكون هناك تنازع؟! وبتطبيق علة القياس لا يجدون أن هذا الغرر مانعٌ؛ لأن عقود التأمين لم تجرّ إلى تنازع، إنْ لم يكن العكس.
2ـ مسلك القائلين بالعموم: يرَوْن أن بعض ألفاظ الحديث قد يَرِدُ خاصّاً ويُراد به العام، فكلمة البيع لفظ خاصّ، ولكنْ يُراد به عموم التعاقدات، كما ورد في آية من سورة الجمعة: ﴿وَذَرُوا الْبَيْعَ﴾، فاشتمل على عقد الإجارة والنكاح الذي ينعقد في وقت صلاة الجمعة، فيقع المتعاقد في الإثم…إلخ. وعليه فإن الغرر إذا تحقق في عقد التأمين فهو مانعٌ من صحة الانعقاد.
3ـ مسلك حجِّية الظهور اللفظي: يرى أن الظهور على البيع فقط لا يسري موضوع الغرر إلى بقية العقود، وعليه فلا يشكِّل الغرر مانعاً من صحة العقد.
فالإشكال منحصرٌ في المسلك الثاني، لكنْ هل الغَرَر على المسلك الثاني مبطل للعقد، أم أن المبطل هو الغرر الفاحش، بدليل أن عقود المزارعة والشركات والمضاربة وبيع الخيار وبيع الشرط كلّ تلك العقود فيها قدر من الغرر، فلو كان مطلق الغرر مانعاً من الانعقاد لكانت كلها باطلة، فلا يخلو الأمر من ضرورة القول: إن الغرر المانع هو الغرر الذي يفضي إلى التنازع، أو ينطوي على جهالة فاحشة مانعة من التنفيذ، كما هو المستفاد من فهم الغرر من التقييد المقامي؟ وعليه هل التأمين الصحّي ينطوي على غَرَر كبير مفسد للعقد أو لا؟
يُلاحَظ أن عقود التأمين الصحي، التي تتّسم بالقسط المالي الثابت، وبالمقارنة النهائية للكثير من الحالات، وجد أنه لا يوجد في أكثرها غبنٌ أو غَرَرٌ فاحش.
ويُلاحَظ أيضاً أن عقد التأمين الصحي وإنْ كان عقداً تجارياً، بَيْدَ أنه قائم على أساس تعاوني، فهو عقد تعاوني في مقاصده، وليس فيه ما يؤدي إلى الخديعة أو يقترب منها، كما علق الشيخ الغروي، وليس فيه خطرٌ معاملي، بحيث يؤدي إلى التنازع، كما قال الشيخ الانصاري، كما أنه ليس فيه غرر من النوع الفاحش الذي يضرّ بالعقد، كما عبَّر عنه الزرقا، وليس من الجهالة التي تمنع تنفيذ العقد من الطرفين، وليس هذا العقد مظنّة لنشأة العداوة والبغضاء، وأكل المال بالباطل.
لكلّ هذا، وبدراسة الوضع الاجتماعي دراسة موضوعية، ربما ينتهي الفقهاء إلى أن الغرر الموجود في عقد التأمين الصحي غررٌ غير مانع من العقد.
الشكّ في بقية العامّ بعد التخصيص
عند الشكّ في أدلة النهي عن الغرر في هذا المورد وفي غيره يمكننا التمسك بالعام في مقام الشبهة المفهومية للمخصّص المنفصل. وتقريب الأمر أن هناك أدلّةً عامة أو مطلقة يندرج تحتها أفراد ومصاديق، مثل: كل شيء لك طاهر، وأحل الله البيع، و﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾. فالكل لفظ عام دالّ على العموم؛ لأنه جمع محلى بـ (ال) الاستغراقية، مقابل هذا العموم هناك أدلة مقتضاها التخصيص لهذه العمومات، من قبيل: (إلاّ ما تغيَّر لونه أو طعمه أو رائحته)، أو يأتي النهي عن العقد الغرري فيكون مخصصاً لقوله: ﴿أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ﴾، أو العقد الربوي المخصِّص لقوله: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾. وأدلة التخصيص هذه تارةً تكون واضحة المفهوم ومعلومة المصداق؛ وأخرى ينتابها الغموض والإجمال، فهل يسري إجمال الدليل المخصِّص للشبهة المفهومية إلى العام أم لا؟
توضيح ذلك: إذا ورد نصٌّ عام، وورد نصٌّ مخصص لذلك العام، ووقعت شبهة في مفهوم المخصِّص، فما الحكم؟
مثاله: موردنا هذا. فهناك نصٌّ عام يقول: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، ومن الواضح ضرورة تنفيذ العقود العرفية التي يقرّر العرف أنها عقد تامّ، يقابله نصٌّ خاص يأمر بعدم الوفاء بالعقد الغَرَري، وقد وقع الشكّ في مفهوم الغَرَر بين الأقلّ والأكثر، أي لا نعلم هل الغرر المانع هو الغرر الفاحش المؤدّي للنزاع أو عموم أيّ جهالة في العوضين؟ فالغرر الأقلّ هل هو خاصّ بالغرر المؤدّي للنزاع؛ والغرر الأكثر هل هو الأعم منه ومن غيره من أنواع الجهالة في العوضين؟ فإذا ورد مثل هذا الشكّ فما الموقف المنهجي؟
يقول الأصوليون: إن إجمال النص لا يسري إلى العام؛ لأن ذلك العام قد انعقد ظهوره بشكل كامل، وعندما يرد الدليل المخصص فإنه يخصِّصه في القَدْر المتيقَّن، وهو الغرر الفاحش المؤدي للنزاع، ولكنْ لا يستطيل التخصيص في ما عدا ذلك؛ لأن الدليل الخاصّ لا تعلم حجِّيته في القدر الزائد، فإذا خرج القدر المتيقَّن من تحت العام بحجّة المخصّص بحجّة أخرى فيبقى القدر الزائد في حجية العام.
والمثال الذي أورده السيد الشهيد الصدر في الحلقات كافٍ في الإيضاح، قال: لو ورد (أكرم كل فقير)، ثم جاء المخصِّص أنه لا يجب إكرام فسّاق الفقراء، وتردَّدنا في مفهوم الفسق بين مطلق مرتكب الذنب وبين خصوص مرتكب الكبيرة، فمقتضى الحجِّية ظهور العام في عمومه في مورد الإجمال ووجود المقتضي؛ لما تقدَّم من أن المخصِّص المنفصل لا يهدم الظهور فقط، إنما يتقدَّم عليه بملاك الأظهرية، لذلك فالثابت أن المخصص منحصرٌ بفاعل الكبيرة، أما مرتكب عموم الذنب فلم يثبت بحَسَب الفرض، فيبقى العام على حجِّيته.
من هنا نقول: إن الغرر الذي نهى النبيّ‘ عنه إذا اعتمدنا هذه النتيجة الأصولية منحصرٌ في ما يؤدي إلى النزاع، فإن سقط ذلك المعيار فحينئذٍ لا ملجأ لنا إلاّ التمسُّك بـ ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾؛ بوصفه عامّاً بقي عمومه نافذاً بعد التخصيص.
وهنا لا بُدَّ أن نلفت الأنظار إلى أن عقود التبرُّع والتعاون كقاعدة عامة لا يدخل فيها معنى الغرر؛ لأن الإمامية لا يقرون العمل بالقياس، وإنْ كان أغلبهم ينقح مناط النهي؛ ولأن طبيعة عقد التأمين الصحي طبيعة تعاونية، فمسألة التأمين رغم ظاهرها المعاوضية تحمل معنى التضامن. ويظهر الجواز أكثر إذا كانت أطراف العقد كلها تندرج تحت الإطار الحكومي العامّ، فالعنصر الغرري هنا لا يتصوَّر كثيراً؛ إذ لا معنى لتصور النزاع في ذات الإطار الواحد. فلا نرى بأساً حتّى مع وجود القصد الربحي؛ فإن الاستئجار لقضاء الفوائت فيه قصد الربح، لكنه قصدٌ لا يتنافى مع القربة. وعلى مثل هذه ربما قرب الفقهاء أخذ الأجرة على الواجبات.
دليلٌ ثالث من أدلة الجواز: قاعدة الحَرَج: وهي كما تنطبق على الأفراد تنطبق على المجتمعات أيضاً: «المشتقة تجلب التيسير»، يمكن أن يكون نطاق العمل بها الفرد، ويمكن أن يكون العمل بها في المجتمع. ففي الوقت الحاضر حين تكون المؤسَّسات الصحية غير مجانية فإن حَرَجاً شديداً يصيب الناس، ولا سيَّما الطبقات الفقيرة؛ نتيجةً لعدم جواز عقد التأمين الصحي؛ وذلك أن مصالح الناس تنقسم ثلاثة أقسام: الضروريات والحاجيات والتحسينات (تقسيم الشاطبي)، والاستشفاء إنْ لم يكن من الضروريات فهو من الحاجيات، فقوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ يبيح للناس العقود ولو كان فيها ذلك المقدار اليسير من الغَرَر؛ إذ المنع من التأمين الصحي يشكِّل حالةً حرجية موجبة للتيسير، فقد ورد في الكافي والتهذيب والاستبصار: عن أحمد بن محمد، عن عليّ بن الحسن، عن رباط، عن عبد الأعلى قال: قلتُ لأبي عبد الله×: عثرت فانقطع ظفري، فجعلت على إصبعي مرارة، كيف أصنع بالوضوء، قال×: يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله، قال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾، امسَحْ عليه.
يقول البجنوردي: هذه الآية، والحديث الوارد عن الإمام، تدلّ على أن رفع الأحكام الحَرَجية هبة لهذه الأمة؛ كرامةً لنبيِّنا محمد‘، فلا يمكن أن يكون المراد من النصّ عدم القدرة على الامتثال؛ لأن ذلك يكون قبحاً؛ للتكليف بما لا يطاق، أي إن المراد أن الحكم الشرعي الموجب للعسر على النوع أو على الشخص موجبٌ للتيسير، والعسر النوعي لرفع الحكم من باب أَوْلى، ولو كان لبعض الأشخاص ليس عُسْراً؛ لأن دليل قاعدة رفع الحَرَج من أدلة العنوان الثانوي.
تكييف عقد التأمين الصحّي على فقه الصلح
يُعرِّف الفقهاء الصلح على أنه «عقد وضع لرفع المنازعة». وهو تعريف الحنفية والشافعية وكثير من فقهاء الإمامية. وقد اتكأ التعريف على الغاية من تشريع العقد التي ليس بالضرورة هي جوهر التشريع، إنما بعض المستفادات منه. ومن الغريب أن الفقهاء لم يقيِّدوا المنازعة بعد حصولها حتّى يكون الصلح إحدى ضمانات العقد أو وسيلة لإنهاء المسؤولية العقدية. لكنْ يتسالم الفقهاء على أنهم لم يقصدوا بكون المنازعة شرطاً في صحة الانعقاد بحيث لا يصحّ عقد الصلح إلاّ عندما تسبقه خصومة أو نزاع.
ويعرِّفه الحنابلة أنه عقدٌ يتوصل به إلى الإصلاح بين المختلفين، وهو أعمّ من أن يرتب على النزاع، فيدخل فيه التعويض عن المتلفات بدون حكم القاضي.
وعرَّفه المالكية أنه انتقالٌ عن حقٍّ، أو دعوى بعوضٍ لرفع نزاع قائم أو خوف وقوعه. وفي مجلة الأحكام العدلية وتعريفات القانون أنه (عقد يحسم به نزاع، أو يتوقى به حصول نزاع). فالخصومة والتنازع ملحوظٌ في المفهوم بتركيز عند الفقهاء، حتّى أن بعضهم يرى أنه لا يصحّ ابتداءً بدون منازعة سابقة على الانعقاد.
ومقابل ذلك هناك اتّجاه يرى أن الصلح عقد عامّ مشرَّع لتصحيح أوضاع غير رضائية، سواء في الحيز القضائي أو الديانتي.
وقد ناقش هذا الفريق رأي مَنْ سبقه بأن الحكمة من التشريع ليس بالضرورة اطّرادها. قال صاحب الجواهر: «إن الصلح من الأحكام التي لا تقتضي تخصيصاً أو تقييداً لعموم الدليل أو إطلاقه». واستدلوا على رأيه بأنه لما جاز الصلح على خصومة متوقّعة في الواقع معدومة، فلما جاز على حقوقه ـ في الواقع ـ جاز العقد مطلقاً.
وعلى هذا الخلاف فقد ترتب على ذلك اتجاهان: أوّلهما: إن عقد الصلح عقدٌ مستقل؛ والثاني: إنه عقدٌ تابع.
اختار الشيخ الطوسي من الإمامية، ومشهور الحنفية، وقول الحنابلة والظاهرية، وقولٌ للمالكية، أنه ليس عقداً مستقلاًّ، إنما هو عقد تابع لفضّ نزاع.
بينما ذهب ابن إدريس والشهيد الأول من الإمامية إلى أنه أصلٌ في نفسه، فقال: «وهذا أصح القولين وأشهرهما؛ لأصالة عدم الفرعية».
والراجح عندي القول الثاني؛ لأن النصوص المشرِّعة للصلح أفردته بنفسه، ولم تخصِّصه كما خصصت الخيارات بعقد البيع.
ويحتجّ أصحاب هذا الرأي على خصومهم، الذين أجازوا الصلح على غير المعلوم، أنهم لمجرد قولهم ذاك يجب أن يخرجوه من ملحقات البيع والإجارة؛ لأن شرطهما معلومية العوضين. والحقّ أنه عقدٌ مصحِّح لوضع سابق، بحيث يعدل ترتيب الحقوق والالتزامات، وإنْ كانت صحة الانعقاد لا تتوقَّف على نزاعٍ.
وإذا أردنا تطبيق فقه الصلح على التأمين فإن الطرفين يتصالحان على:
1ـ أن يدفع المستأمن قسطاً مالياً محدّداً شهرياً إلى شركة التأمين، «هبة خالصة» غير قابلة للاسترجاع.
2ـ أن تتكفّل شركة التأمين عند حصول عارض صحي أو حادث بمعالجة المستأمن، أو دفع نفقات علاجه، سواء كانت بقدر ما دفعه من أقساط أو أكثر منها أو أقلّ.
3ـ أن لا يعود كلا الطرفين على بعضهما في ما زاد من الالتزامات.
كأنّ ما زاد على نفقات العلاج تسقطه شركة التأمين لصالح المستأمن صلحاً منها معه، وما زاد من أموال المستأمن في شركة التأمين على نفقات العلاج يسقطه المستأمن بعدم الاسترداد صلحاً مع شركة التأمين، وبذلك تنتهي إشكالية الغَرَر.
مقترحٌ تعاقدي للتأمين الصحّي
تأسيساً على ما تقدَّم من تكييف عقد الصلح أرى أن تصمم وثيقة عقد الصلح على الوجه التالي:
1ـ تكون شركة التأمين، أو الجهة التي تتكفَّل نفقات العلاج، شخصية معنوية (مؤسّسة، شركة، أو مستشفى).
2ـ يكون المستأمن شخصية طبيعية. ويدفع أقساط التأمين على أنها «ادخار مودع في صندوق التأمين مخصّص لأغراض العلاج الصحي إذا حصل المرض».
3ـ يثبت في وثيقة التأمين أن فترة عشرة سنوات لا يحقّ للمستأمن خلالها سحب المبلغ، ويخول المستأمن شركة التأمين الصحي باستثمار الأموال وتشغيلها، ويتنازل عن أرباح التشغيل لصالح الصندوق مهما بلغت؛ صلحاً.
4ـ إذا حصلت له حالةٌ مرضية يقوم صندوق التأمين بالإنفاق على علاجه، فإن زادت النفقات على ما أودع كانت عليه ديناً لصالح الصندوق، إلاّ إذا كان مُعْسِراً، وإنْ زادت مدَّخراته على نفقات العلاج كانت له توفيراً مستأنَفاً في صندوق التأمين.
5ـ إذا مات المستأمن، سواء تمّ صرف جزءٍ من مدخراته، وبقي له في صندوق التأمين مال، أو لم تحصل له حالةٌ مرضية تستوجب الإنفاق، يُعاد المال المدَّخر إلى ورثته، كأيِّ مال ادَّخره المتوفّى في جهةٍ ما. ويُعَدّ من الديون الحالّة على شركة التأمين.
6ـ إذا مات المستأمن، وبقي عليه دينٌ لصندوق التأمين، فإنْ كان له تركة فيها ما يغطي الدين تمّ استيفاؤه من التركة؛ فإنْ لم يكن في تركته ما يسدِّد به الدين فإما أن يُعَدّ من الديون الهالكة، فيتمّ الاتّفاق ابتداءً أن تبري شركة التأمين ذمة المتوفّى (المستأمن)، أو يخصَّص من (المال العام للدولة) إعانات للتعويض عن الديون الهالكة لصناديق التأمين الصحي، ولا يُحمَّل أبناء المتوفّى سداد دَيْن المتوفّى لصندوق التأمين.
وأرى في هذا التصميم تكييفاً ينفي الغَرَر، الذي هو الأساس في شبهة أو عدم جواز عقد التأمين الصحي. وظنّي أن ذلك أسلم من أن نكيِّف العقد المستجدّ على عقود سابقة؛ لما تقدَّم بيانه من أن كلّ عقدٍ قد يلتقي مع بعض أحكام التأمين، وقد لا يلتقي، فنحتاج إلى تكييفاتٍ أخرى تفصيلية مضافة على التكييف الإجمالي.
أخيراً أقول: إن أكثر الفقهاء يرَوْن أن المستأمن حينما يدفع أقساطاً إلى شركة التأمين فإنه يدفعها تحسُّباً لمتوقَّع قد يحصل وقد لا يحصل، وعند عدم حصوله فإنه دفع مالاً في مقابل (لا شيء).
وأرى أن ذلك يحتاج إلى تأمُّلٍ ونظر؛ لأن مجرد الدخول في شركة التأمين الصحي، واعتباره من المضمونين علاجياً وصحياً، يسبِّب له الشعور بالأمن النفسي والاطمئنان الوجداني إزاء نوائب الدنيا واحتمالات المستقبل وظروف الشيخوخة وأعراضها، فلو لم يقع المرض فإن مجرد الاطمئنان النفسي يستحقّ أن يدفع الإنسان مقابله بعض المال.
الهوامش
(*) رئيس قسم الدراسات العليا في كلِّية الفقه، ومدير مركز الدراسات، في جامعة الكوفة. من العراق.