دراسة فقهية جديدة في الملابسات والظروف
ترجمة: السيد حسن الهاشمي
تمهيد
ثمة كلام كثير حول المرتد، يدور بعضه في تعريفه، وبعضه في تقسيمه إلى الفطري والملي، كما يدور بعضه في الأحكام الكلامية، من قبيل: أيُبطل الله عمل المرتد أم لا؟ ومتى يبطله؟ وكيف يمكن الجمع بين بطلان عمل المرتد وعدالة الله سبحانه وتعالى، أو آيات من قبيل قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه}([1])؟ وإذا لم يبطل عمله فكيف يمكن تفسير الآية 217 من سورة البقرة والآيتين 25 و 28 من سورة محمد’؟ وهل تُقبل التوبة من المرتد أم لا؟ وما إلى ذلك من البحوث المطروحة في محلها، ومنها ما يحتاج إلى تنقيح وإعادة نظر.
إلا أنّ البحث الذي احتدمت فيه الآراء في عصرنا وأعطى أعداءنا فرصة ذهبية لبثّ سمومهم وتقديم الإسلام بوصفه دين عنف وقسوة، والتغرير بالشباب من خلال إثارة الشبهات عبر الإنترنت وغيره التي تقول: إنّ الإسلام قد حكم بقتل المرتد، وقال: «من بدل دينه فاقتلوه»، والحال أن الجدير بالبحث هو: أيترتب هذا الحكم على كلّ من بدّل دينه أم أنه يترتب على بعض الأفراد خاصّة؟!
من هنا يبدو من الضروري بحث هذه القضية، فإنّ الدين الذي بنى أساسه على الفطرة وقال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها}([2]) واتخذ من اتّباع العلم والعقل والابتعاد عن العصبيات الجافّة والمقيتة شعاراً له، وصدع قرآنه بقوله: {لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ}([3])، من المستبعد جداً أن يكون قد حكم على شخص أو أشخاصٍ لمجرد إبدال دينهم وارتدادهم عن الإسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) أستاذ الدراسات العليا والبحث الخارج في الحوزة العلمية في إصفهان.
وعليه لابدّ من النظر:
أولاً: هل ورد مثل هذا الحكم في الإسلام؟ وعلى فرض وجوده، ما هو موضوعه؟ وهل يشمل كلّ تغيير للعقيدة أم أن له شروطاً؟ وما هي شروطه؟ وهل هناك اختلافٌ بين الشيعة والسنّة في هذا الباب؟
القرآن وقضية الارتداد
لا شكّ في أنه لم يرد في القرآن ما يدلّ على وجوب أو جواز قتل المرتد، كما لا دخل للعقل في مثل هذهِ الموارد، فتنحصر الأدلة بالروايات والإجماع، ولا يكون في البين إجماع تعبُّدي؛ لأنّ الروايات في هذا الباب متعددة، ويعود دليل الإجماع إلى تلك الروايات، وعليه لابدّ من البحث في روايات حدّ المرتد، وقدبلغت عند الشيخ الكليني 23 رواية، ولكن بعد الفحص يتضح أن ما يخصّ المرتد منها لا يتجاوز عدد أصابع اليد.
إنّ آيات القرآن الكريم وإن لم تبيّن عقوبة المرتد في الدنيا، إلاّ أنّ البحث في ما يتعلّق بالمرتّد لا يخلو من الفائدة، إذ قد يُستنبط منها موضوع المرتد ودوافع ارتداده ومعاقبته، وقبول توبته من عدمها، وعلاقته بالمنافق، وقد يُستخرج منها بعض القرائن التي تنفعنا في بحث الروايات وتعارضها، ومن هنا نبدأ بحثنا بالآيات الكريمة:
1 ـ قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِْيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ * وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}([4]).
أولاً: يبدو من هاتين الآيتين أنّ الحق واضح، ومع اتضاحه لأهل الكتاب ـ والآية في معرض ذمّهم ـ إلا أنهم لا يؤمنون، بل يحاولون إرجاع المسلمين من الإيمان إلى الكفر؛ لا لأنّهم يريدون خيرهم وصلاحهم، بل لأنهم يحسدونهم، فكان من المتوقع بعد اتضاح الحق لهم أن يؤمنوا كما آمن المسلمون، لا أن يسعوا إلى إرجاع المسلمين إلى الكفر حسداً منهم.
ثانياً: تتضح الأساليب المتّبعة لحرف المسلمين عن إسلامهم، وذلك من خلال دعوتهم إلى مطالبة الرسول’ بأمور مستحيلة وغير معقولة، ومن الطبيعي أن لا يستجيب الله ورسوله لما هو مستحيل أو غير معقول، وهذا ما يتذرّع به أهل الكتاب ليُثبتوا عدم صدق النبي في إدعاء النبوة، وحثّ الناس على الارتداد.
2 ـ قوله تعالى: {يَسْألُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالآْخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}([5]) .
بالالتفات إلى صدر الآية وسبب نزولها المتعلّق بخطأ صدر عن بعض المسلمين في تعرضهم لقافلة قريش التجارية، وقتلهم رجلاً في الشهر الحرام، الأمر الذي اتخذه المشركون ذريعة للتشهير بالإسلام، يتضح أنهم كانوا يستخدمون شتى الوسائل بغية حمل المسلمين على الارتداد ابتداءً من التعذيب إلى الإعلام الهدّام والمخرِّب.
هنا تعمل الآية على تحذير المسلمين من مغبّة التأثر بدعاية المشركين، وتحثّهم على الثبات على دينهم، وتخبرهم بأن كفرهم وموتهم كافرين سيبطل عملهم وكل ما قاموا به في سبيل الله قبل هجرتهم وبعدها.
وعليه لا تتحدث هذه الآية عن معنى المرتد، واتضاح الحق له أو لا، ولا تتعرض لحكمه في الدنيا، وأقصى ما تدلّ عليه هو قبول توبته.
3 ـ قوله تعالى: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}([6]).
تصرّح هذه الآيات باستحقاق الذين كفروا للعذاب واللعنة بعد اتضاح الحقّ بالأدلّة اللاهبة الواضحة.
وعليه لا يشمل هذا الحكم الكثير من الشباب المعاصر الذي يجهل الدين ولا يعرف معجزاته، ولا يفهم خصائص القرآن وكونه معجزة خالدة، ولا يدرك بنيته اللغوية ولا تركيبته الأدبية ولا مغيباته، وإذا كان مطّلعاً على ذلك فهو في حدود الاطلاع فقط، من دون أن يثبت له ذلك بالأدلّة الواضحة، فلا يكون هذا وأمثاله من الظالمين الذين لا يهديهم الله، بل قد نكون نحن الذين ظلمناهم حيث تركناهم منذ البداية سادرين في غفلتهم ابتداءً من مشاهدتهم أفلام الرسوم المتحركة والبرامج التي تبثّ عبر الوسائل المسموعة والمرئية، ثم علمناهم فيما بعد، حيث دخلوا المدرسة قراءة وكتابة العلوم التجريبية، نعم ربما روينا لهم بعض الحكايات الدينية التي اضطروا إلى حفظها واستظهارها بغية الحصول على درجة النجاح، إلاّ أننا لم نسعَ قطّ إلى مجالستهم ومخاطبة عقولهم وإعدادها لفهم هذه الأُمور واستجلاء وضوحها في أعماق ذواتهم.
وعليه لا يستفاد حكم القتل وما إلى ذلك من هذه الآية.
نعم، إنّ هذه الآية تدلّ على أنهم كفروا بعد ثبوت الحق لهم بالأدلّة القطعية وازدادوا كفراً، ولم يوفقوا إلى التوبة بسبب إغرائهم بالأموال والمناصب وكثرة الأتباع حتى يدركهم الموت، أو بلوغهم مرحلة من العناد وعدم الانصياع للحق،فيستحقون اللعنة والعذاب لذلك.
4 ـ قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ}([7]).
5 ـ قوله تعالى: {يا أيُّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إن تُطِيعُواْ الّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدّوكُمْ عَلَى أعْقَابِكُمْ فَتَقَلِبُواْ خَاسِرينَ}([8]).
هاتان الآيتان كنظيرتهما الآية التاسعة بعد المئة من سورة البقرة، لا تتحدّثان عن معنى المرتد وحكمه الدنيوي وقبول توبته، وإنّما تقولان: إنّ تعذيب المشركين لا يؤدّي في العادة إلى ذلك، حيث إنّ المسلمين في مراحلهم الابتدائية من ناحية المضمون الديني، فقد يتأتّى لأهل الكتاب استغفالهم بأساليبهم الخاصّة، أو قد تستهويهم بعض خصائص الأديان التوحيدية، دون أن يدركوا أنّ في الإسلام ما هو أكمل منها ويفوقها.
6 ـ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً * بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيماً}([9]).
تتفق هاتان الآيتان مع الآية 90 من سورة آل عمران؛ لكون مضمونها متحداً معهما، فقد جاء فيها: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إيمَانِهمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ}، وورد هنا: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً} ، وعلى الأخص عندما تضاف إلى هاتين الآيتين الآية الثالثة من سورة المنافقون، وهي قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ}، فهذا الكذب واليمين الكاذب سببه أنهم آمنوا ثمّ كفروا فطبع على قلوبهم، الأمر الذي يثبت اشتراكهم في هذه الصفات.
ويحتمل أن يكون حكم المرتد والمنافق في الدنيا واحداً، أي كما أنّ المنافق لا يجازى في الدنيا، فكذلك المرتد، خاصّة أن الآية التي تتحدّث عن المنافقين تقول: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ}([10]).
وهناك تهديد في سورة الأحزاب في قوله تعالى: {لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلاً}([11]).
لما كان القرآن لا يرى فرقاً بين عمل المنافق والمرتد واعتقادهما، بل ويرى المنافق أسوأ حالاً لكثرة تقلبه بين الكفر والإيمان، ويصرّح بأنّ المنافقين في الدرك الأسفل من النار، ويهدّد بالإيقاع بهم، مما لم يرد نظيره بالنسبة إلى المرتد، نجد أن الحكم بقتل المرتد والإبقاء على المنافق حيّاً مخالفٌ للقرآن، لا أنّ القرآن ساكت عن هذا الحكم، وعليه فقبل الذهاب إلى كون قتل المرتد حكماً روائياً، علينا أن ننظر إلى هذا الحكم بشك وترديد؛ لاحتمال وجود دور ليد السياسة فيه، إلاّ إذا كانت دلالة الروايات من القوة بحيث تنفي شبهة التساوي في الحكم بين المنافق والمرتد، مضافاً إلى إثبات الحدّ للمرتد.
7 ـ قوله تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}([12]).
نزلت سورة الأنعام بجميع آياتها في مكّة المكرّمة، فليس فيها سبب نزول، وفي هذه الآية استفهام استنكاري، يتضح منه أن المراد هو الارتداد بعد الهداية عن فهم وتعقّل، لا الهداية الظاهرية الناشئة عن تقليد ومحاكاة.
8 ـ قوله تعالى: {مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَـكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}([13]).
هاتان الآيتان من سورة النحل، وهي مكّية، ومنهما تتضح دوافع الارتداد، فهناك من يرتد طلباً للدنيا وكسباً للأموال، وعليه لا يمكن القول بتوجيه العذاب وغضب الله على الذي يرتد لأسباب وراء هذه الدوافع، فمثلاً لو فرضنا أن عالماً من المسلمين سلك بعض المقدمات الخاطئة التي قادته إلى ترجيح دين على الإسلام، دون أن تكون له أيّ دوافع مادية أو مطامع دنيوية أو إكراه، فإنّ هذا العذاب والغضب لا يمكن أن يشمله.
9 ـ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}([14]).
تبيّن هذه الآية سبباً آخر للارتداد يتمثّل في الغرور والتكبر لدى بعض من يرى في دخوله الإسلام حدوث شوكة للإسلام، فيكفر لغرض الإضرار بالإسلام من هذه الجهة، فجاءت الآية لبيان خطأ هذا الوهم، إذ يُعزّ الله الإسلام بغير هؤلاء من الأمم التي تفوقهم من حيث حبهم الله وحب الله لهم.
10 ـ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ * فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ}([15]).
أ ـ تدلّ هذه الآية دلالة واضحة على أنّ العذاب إنّما هو لمن يرتد عن هداية.
ب ـ الصفات المذكورة للمرتد هنا قد ذكرت للمنافق في آيات أُخر.
فلو ادعى شخص وجود عقوبة دنيوية للمرتد أعم من الحبس والقتل وغيرهما، فعليه أن يأتي بفارقٍ جوهري بينه وبين المنافق؛ لتوجيه الاختلاف في الحكم بينهما.
ربما أمكن القول بأن معاقبة المنافق والمرتد تدور مدار العناد، وبما أن المنافق يتلفظ بالشهادتين فليس عندنا يقين بعناده، خلافاً للمرتد، وعليه تثبت العقوبة على المرتد لعناده، فإذا قبلنا بهذا الفارق علينا أن نشكك بثبوت العقوبة على المرتد إذا احتملنا عدم عناده.
العرض القرآني، خلاصة واستنتاج
1 ـ إنّ المرتد الذي تثبت في حقّه أحكام، من قبيل العذاب الأُخروي ([16]) وغيره هو المرتد الذي اتضحت له الأحكام الإسلامية، وعليه فكلّ من جهل الإسلام، سواء أكان في البلاد الإسلامية أم في غيرها، خارجٌ عن موضوع هذا الحكم، وهذا يفهم من الآيات: 25 من سورة محمد، و71 من سورة الأنعام، و86 و144 من سورة آل عمران، وكذلك الآية 109 من سورة البقرة، بل وربما لا نكون بحاجة إلى تصريح هذه الآيات بعد ضرورة تقوّم الإيمان بالعلم، إذ لا يغدو المسلم من دون علمٍ ودليلٍ بيّنٍ مصداقاً للمؤمن ليحقق بخروجه من الدين مصداقاً للمرتد.
2 ـ ليس في هذه الآيات أدنى إشارة إلى العقوبة الدنيوية، من قبيل حدّ المرتد وتعزيره وقتله أو حبسه، وعليه لو ثبت هذا الحكم، فإنّما يثبت من الروايات فقط.
3 ـ جدير بالذكر أنّ المرتد يشترك مع المنافق في الوصف، فكلاهما قد كفر بعد إيمان، بل إنّ وقع الآيات على المنافق أشد، فقد هدّد اللهُ المنافقين في الآية 60 من سورة الأحزاب بأنهم إنْ واصلوا أعمالهم التخريبية فإنّ الله سبحانه وتعالى سيصدر أمره إلى نبيه باجتثاثهم واستئصال شأفتهم، ومع ذلك واصل المنافقون حياتهم الاعتيادية في المجتمع، بل واستلموا المناصب السياسية أحياناً، في حين كان المرتدّون يحكم عليهم بالإعدام على الدوام، فهذا أمر يجب بحثه وتمحيصه.
4 ـ اتضح من الكثير من الآيات المتقدّمة قبول توبة المرتد، في حين يبدو من بعض الآيات عدم قبول توبة المنافق، أو بقول أفضل: إنه لا يوفّق إلى التوبة.
5 ـ اتضح من بعض الآيات أنّ ارتداد الناس إما بسبب الدعاية المخرّبة من قبل أهل الكتاب والكفّار، وإمّا بسبب تعذيب المشركين، وقد أبدى القرآن الكريم حساسية شديدة تجاه إعلام أهل الكتاب، وذلك لقلة معلومات المسلمين عن الأديان، مما قد تضلهم أقوال أهل الكتاب، خاصّة مع الالتفات إلى أنّ هناك بعض الإيجابيات في جميع الأديان السماوية، وعليه لابدّ من متخصّص لإظهار إيجابيات الإسلام، وبيان نقاط الضعف الموجودة في تلك الأديان.
يمكننا أن نستفيد من الآيات الكريمة ضرورة إبعاد الشباب الجاهل بالمسائل الدينية، وجعلهم بمنأى عن البحوث المطروحة على مواقع الإنترنت وغيرها، وذلك لافتقارهم إلى المعلومات الكافية، وعليه ينبغي أن يتولّى هذه المهمّة علماء الإسلام، دون الشباب المسلم.
6 ـ اتضح من بعض الآيات، وخاصّة آيات سورة النحل، أنه إذا كان سبب الارتداد هو الحصول على الأموال والوصول إلى متاع الدنيا فسيعاقب المرتد بأشدّ أنواع العذاب، وعليه فإنّ الذين يرتدون لا لدوافع دنيوية، بل لمجرد الخطأ في سلوك المقدمات العلمية، لا تشملهم اللعنة والعذاب.
والخلاصة: إنّ عذاب الآخرة إنّما يطال المرتد إذا تبيّن له أنّ الإسلام حقّ، ومع ذلك يختار الارتداد طلباً للمال والمناصب الدنيوية، من دون أن يكون للآيات أدنى تعرض للعذاب الدنيوي، كما أنها لا تتعرض لأفراد عصرنا ممن تكون لهم في العادة مجرّد شبهات علمية، وليس لديهم جحود أو إنكار، وإذا كان لديهم إنكار فهو بسبب الشبهات العالقة في أذهانهم، ويبدو أنّ ما عليه الشباب والمثقفون في عصرنا الراهن مشمول لروح قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ}([17]).
فإذا وجبت إجارة المشرك الذي نقض عهده ووجب قتله بعد انقضاء المهلة المحدّدة له والتي قدّرت بأربعة أشهر، وجبت إجارة المشرك الذي لم يتعهد ولم ينقض عهده بطريق أولى؛ ليتعلم الدين ويبلغ مأمنه، وإذا وجبت إجارة المشرك وجبت إجارة الشاب الذي لا يعرف شيئاً من الدين أو المثقف الذي علقت في ذهنه بعض الشبهات في أصول الدين أو فروعه من طريق أولى، فلابدّ من احتضان الإسلام لهم ليستوعبوا الدين، فإذا حقّ لكل شخص ـ سواء أكان مشركاً أم غيره ـ أن يتعلم فلماذا لا يحقّ للمسلم، الذي عرضت له شبهة قادته إلى الكفر، أن يصرّح بشبهته وأن يبحث بشأنها بحرية كاملة حتى يتضح له الحقّ؟!
بل ويبدو من قوله تعالى: {أفلا تعقلون} و{أفلا تتفكرون} والآيات الناهية عن اتباع الآباء، أنها تدفع الجميع إلى التحقيق في العقيدة، ومعلوم أنّ مقدمة التحقيق والطريقة المثلى للوصول إلى النتيجة هي الشك، وعليه فإنّ الإنكار الذي يعدّ مقدّمة للتحقيق قد أوصى به القرآن الكريم.
هل يتحد المرتد والمنافق في الجرح ويختلفان في العقوبة؟ ازدواجية القانون
اتضح من آيات القرآن الكريم أنّ المرتد هو من آمن ثمّ كفر، وهكذا هو حال المنافق.
تتحدّث الآية 90 من سورة آل عمران عن المرتدين، والآية 137 من سورة النساء عن المنافقين، والسؤال المطروح هو: هل يجوز لنا أن ننسب لله العادل إصدار حكمين مختلفين بالنسبة لمجرمين صدرت عن كل واحدٍ منهما ذات الجريمة التي صدرت من الآخر، فالمرتد حكمه الإعدام وتقسيم تركته بين الورثة وبينونة زوجته، وأما المنافق فيحفظ دمه ويحترم ماله، بل وتحرم غيبته أيضاً؟!
بل نقول: ما دمنا لا نعرف المنافق بشخصه، وكان التجسّس حراماً، إذن لا يمكننا اتهام شخص بالنفاق من دون دليل، وفي الوقت نفسه يُقتل المرتد في عهد الخلفاء الذين جاؤوا بعد النبي’ ويحظى المنافقون تحت غطاء صحبة النبي’ بالتكريم والقربى، وتثبت الحجية لكلامهم، ويقال: إذا قال الصحابي أو أفتى كان ذلك منه صحيحاً، وإن الحديث القائل: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»، يمنحهم نوعاً من العصمة! وهذا كلام عجيب للغاية! فهل يمكن لنا أن ننسب للدين مثل هذه الازدواجية الصارخة؟!
ومن جهةٍ أُخرى ألا يدفعنا هذا النمط من الفكر الديني إلى السطحية الجوفاء؟! فكل من نطق بالشهادتين ظاهراً تمتع بجميع الإمكانات دون التحقق في دخيلته الاعتقادية، ويقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} إذ ليس لدينا معيار لقياس التقوى، فالذي ينطق بالشهادتين في الوقت الحاضر ـ ولو ظاهرياً ـ مساوٍ لذوي السوابق من المهاجرين أو الأنصار، في حين يُعدّ من تطرأ عليه في بعض المسائل الدينية شبهة، أو أنكر ضرورة دينية، أو شكّ وفقاً لبعض المذاقات في حكمٍ من الأحكام مرتداً ووجب إعدامه، وإنْ كان من ذوي السابقة في الإسلام! تخيّل حجم الهوّة السحيقة والمستوى الذي بلغته السذاجة والسطحية!
مقاربة تاريخية لولادة فكرة عقوبة المرتد
يبدو من اختلاف الحكم بين المنافق والمرتد، والشدّة على المرتد والتسامح مع المنافق والتستّر عليه أنّ هناك تسوية للحسابات كانت تحاك خلف الكواليس، وليست غيرة حقيقيّة على الدين، ويبدو أن الذين تربعوا على سدّة الحكم كانوا يبحثون عن بعض المطيعين الذين يمتثلون أوامرهم بشكل مطلق، فقلدوا كلّ من نطق بالشهادتين المناصب الحكومية، وفي المقابل قضوا على خصومهم السياسيين تحت طائلة الارتداد، وقاموا بتوسيع دائرة الارتداد، فلم تقتصر على إنكار الله، بل شملت كل منكر لفرع من الفروع الدينية، فأدخلوا حتى أهل القبلة من المصلين القاصدين لبيت الله الحرام في الارتداد لمجرّد عدم دفع الزكاة للخليفة!
وعليه فإنّ حكم الارتداد بكل صخبه وما جرّه على الإسلام من الويلات حتى تمّ وصمه بعدم المنطقية والقسوة وما إلى ذلك، كان ناشئاً من تحليلٍ انتهازيٍّ للدين، وليس له أي مستند فقهي أو ملاك شرعي.
إشكال: يواجه هذا الكلام إشكالاً أساسياً مفاده: لماذا سكت الأئمة الأطهار^ تجاه مثل هذا الانحراف والقتل والفجائع،بل وأمضوا حكم قتل المرتد بروايات صدرت عنهم؟
بعبارة أُخرى: لو كانت روايات الأئمة الأطهار^ مخالفة لروايات أهل السنّة، لأمكن المصير إلى هذا الكلام، ولكن لما كانت روايات الفريقين في أصل الحكم بقتل المرتد واحدة، وكان الخلاف فقط بين المرتد الفطري والملّي، أمكن القول: إنّ أصل الحكم بقتل المرتد ثابت بضرورة الدين وإجماع المسلمين، فلا غبار على أصل الحكم، وإن أساء الخلفاء بعد الرسول’ استغلاله للقضاء على خصومهم ومناوئيهم، وربما أمكن القول: إنّ سكوت جميع الصحابة ـ ومن بينهم الإمام علي× ـ إزاء الأحكام الصادرة عن الخلفاء بشأن المرتدين دليلٌ على أصالة هذه الأحكام، بل نجد في أحاديث الشيعة والسنّة بعض الموارد التي تظهر الإمام وهو يواجه المرتد بغلظة وشدّة مضاعفة.
جوابه:
أولاً: إنّ الأئمة الأطهار^ قد بيّنوا لنا الملاكات، وقالوا مراراً: «ما خالف القرآن لم نقله»، «لا نقول ما لم يقله ربنا»، «ما بلغكم عنّا ولم تجدوا له شاهداً في القرآن فليس منّا، وهو باطل»، وما إلى ذلك من الأحاديث، وعليه لا يمكن أن ننسب للأئمة حكماً لم يرد في القرآن الكريم، لمجرد وجود موضوعه فيه.
ثانياً: يقتضي تزاحم المصالح أحياناً عدم بيان حكم لمدّة من الزمن، أو عدم مخالفته، أو بيان حكم على نحو إجمالي لغرض إخافة المجرم، في حين أنّ الحكم الواقعي على خلاف ذلك، فمثلاً يجب في إثبات الزنا توفر أربعة شهود، ويشترط فيهم رؤية الواقعة على نحو دخول الميل في المكحلة، وهذا ما لا يمكن تحقّقه في الخارج عادةً، ولم يتحقق أبداً، حتى في صدر الإسلام، حيث كان الفجور متفشياً.
نعم، قد يرى هؤلاء الشهود، أو يقال لهم: تعالوا وانظروا من الكوّة، ولكنهم سيغدون فاسقين قبل بلوغ تلك الكوّة، وتردّ شهادتهم لذلك؛ لأنّ الشهود عندما يذهبون باختيارهم لمشاهدة ما يحرم النظر إليه شرعاً، يفسقون قبل الرؤية، فلا تقبل شهادتهم.
وهكذا البحث هنا، فلو قال الأئمة^ بعدم قتل المرتد، ووقفوا بوجه الحكومات، فسيغتنم الملحدون والانتهازيون وغيرهم هذه الفرصة، لذلك قالوا بقتل المرتد، ولكنهم قالوا أيضاً: «لا نقول ما يخالف قول ربنا»، وقد يكون هذا الحكم راجعاً إلى زمن كان فيه الناسُ يخرجون من الدين بغير شبهة علمية، كما لو كان ارتدادهم عن عصبية أو تقليدٍ للغير، أو للكبر والغرور، أو لأنهم قد أخذتهم العزّة بالإثم مما سنتعرض إلى رواياته وموارده، وعليه قد تكون روايات قتل المرتد آنية ومتعلقة بتلك الفترة، حيث ندرة الشبهات العلمية، ولا دخل لها بعصرنا، حيث تعود أكثر الأفكار إلى الشبهات العلمية، وتصوّر أن الإسلام لا ينسجم ومقتضيات العصر، وربّما عاد تقسيم المرتد إلى فطري وملي واختلاف الحكم بينهما إلى عدم قتل من تُحتمل الشبهة في حقّه، وسيأتي تفصيله.
وعليه إمّا أن يكون القتل صادراً بداعي التقيّة ورعاية المصلحة الأهم، أو هي بيانٌ في تلك الفترة، فليس هو حكماً إلهياً ثابتاً في كلّ العصور، أي حينما سُئل الإمام× عن حكم المرتد، قال: «يُقتَل» أي على يد الحكومة والقانون السائد آنذاك، ولكن هل هذا العمل صحيح أو لا؟ هذا ما سكت عنه الإمام، أو حينما قال: «يجب قتل المرتد» كان يعني المرتد في تلك الفترة وبتلك الشروط الخاصّة، وليس كلّ مرتد. هذا مع أنّ الإمام لم يبادر أبداً إلى إصدار أمرٍ بالقتل، ولم يخبر الخلفاء بارتداد شخصٍ من الناس، كما أنه لم يصدر حكماً على مرتد، ولم يأمر شيعته بإقامة مثل هذا الحكم برغم كثرة المرتدين في زمانه، كابن أبي العوجاء وسائر الدهريين في عصره، وكانوا مع ذلك يحضرون مجلسه ويجأرون بإنكار الحج والطواف، إلى إنكار الله تعالى، فلو كان قتل المرتد من الحدود الإلهية، لوجبَ على الأئمة^ إقامته بكل السبل، ولو بإخبار الحكومات، وهذا ما لم يصل إلينا من الأئمة الذين جاؤوا بعد الإمام علي×، وأما الروايات المتعلّقة بالإمام علي× فسنبحثها لاحقاً.
وعليه اتضح من تفسير الآية 217 من سورة البقرة أنّ هذه الآية ـ ومن خلال التهديد ـ تحول دون ارتداد الناس بسبب التعاطي عاطفياً مع الشبهات الموجودة في المجتمع، وكذلك يحاول الإمام الصادق× من خلال جوابهِ الذي يحتمل عدّة وجوه، والذي يبدو قاسياً في ظاهرهِ الحدّ من ظاهرة الارتداد، إلاّ أنّ هذا الحكم المجمل بالالتفات إلى سائر كلماته بحيث لا تتوفر أرضية إجرائه، أو أنه من الأساس مؤقت بفترة محدودة.
ولو كان حكم المرتد هو القتل حقّاً، فلماذا لم يقم الإمام الصادق× بأي عملٍ لإقامتهِ على الدهريين في عصره، بل كان يعقد معهم النقاشات العلمية؟
إذن يمكن القول: لا يعدم كل مرتد، وإنّما يطبّق هذا الحكم على أفراد من المرتدين بخصوصهم، وفي ظلّ ظروفٍ وشروطٍ خاصّة، فكلّ من الحكم وموضوعه بحاجةٍ إلى تنقيح.
إشكال: ذكر التاريخ أنه قد تمّ بالفعل إقامة حدّ القتل على الارتداد في عصر النبي’ والإمام علي×، وإنّما نخصّ عهد النبي والإمام علي بالذكر بوصفهما حجتين إلهيتين، وعليه يثبت حكم القتل للمرتد إجمالاً.
جوابه: لابدّ من دراسة تلك الموارد، ويظهر منها أنّ المرتد قد ارتكب أموراً أُخرى، وعليه لا يمكن القول بأن عقوبته كانت لمجرد ارتداده، بل علينا دراسة جميع تلك الروايات وبحثها سنداً ودلالة، ومن ثم تطبيقها على ما قام به ذلك الفرد، ليتضح ما إذا كان الارتداد تمام العلّة أو جزءها أو أنه لم يكن له أيّ دور في إقامة الحدّ عليه، وإنّما كان قتله بسبب تصرفات أُخرى، ولم يكن الارتداد سوى عنوانٍ مشيرٍ إلى ذلك الفرد.
قتل المرتدّ في عصر الرسول ’، مطالعة تاريخية تحليلية
ذكر السيد سيف الله الصرامي في ص122 من كتابه (أحكام المرتد في الإسلام وحقوق الإنسان): «لقد أحصينا من خلال البحث والتحقيق في تاريخ نبي الإسلام’ عدداً من المرتدين» ثمّ ذكر أربعة عشر شخصاً ممن ثبت ارتدادهم بإجماع المؤرخين، وأضاف أن خمسة منهم قد قتلوا في معركة بدر، وأن اثنين منهم لم يثبت ارتدادهم إلا بحدسٍ من عمر، وكان ارتداد اثنين منهم ظاهرياً وتحت وطأة التعذيب الذي أنزله المشركون بهم، وواحد تنصّر في الحبشة وأقام فيها، وأمّا الأربعة الآخرون فهم الذين أهدر الرسول’ دماءهم أثناء فتح مكّة، وهؤلاء الأربعة هم الذين يتعيّن علينا دراسة حالهم، فالباقون إمّا لم يكونوا من المرتدين أو أنهم قتلوا في الحرب، وأمّا الأربعة فهم: عبدالله بن أبي سرح، وعبدالله بن خطل، ومِقْيَس بن صبابة وسارة.
1 ـ عبدالله بن سعد، أسلم وأصبح كاتباً للوحي، ثمّ ارتد إلى الشرك، وعاد إلى مكّة، وقال للمشركين: «دينكم خيرٌ من دينه، وقد كنت أكتب أحرف محمد في قرآنهِ حيث شئت، كان يقول لي: أكتب «عزيزٌ حكيمٌ» فأقول: أو «عليمٌ حكيمٌ»» فأمر النبي’ بقتله في فتح مكّة مع عبدالله بن خطل ومقيس بن صبابة وسارة، وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة، ففرّ عبدالله بن سعد إلى عثمان بن عفان وكان أخاه من الرضاعة، فغيّبه عثمان حتى اطمأن الناس، ثمّ أحضره عند رسول الله’ وطلب له الأمان، فصمت رسول الله طويلاً ثمّ آمنه، فلما انصرف قال الرسول’ لأصحابه: «لقد صمتّ ليقتله أحدكم، فقال رجل من الأنصار: هلاّ أومأت إلينا؟ فقال: ما كان للنبي أن يقتل بالإشارة، إنّ الأنبياء لا يكون لهم خائنة الأعين»([18]).
فلو كان حكم المرتد هو القتل، فلماذا لم يأمر رسول اللهِ بقتله في تلك الساعة؟ ولماذا لم يبادر إلى إقامة الحدّ بنفسه؟ ولماذا لم يؤمئ بيده أو عينه إلى قتله؟ وهل يكفي الاعتذار بأن الأنبياء لا يكون لهم خائنة الأعين، لتعطيل حكم الله؟! وهل يعد الإيماء بالعين في هذا المورد خيانة؟ وعلى فرض الخيانة، ألا يكون ارتكابها أهم في معرض التزاحم مع إقامة الحدود الإلهية؟! هل كانت جناية عبدالله هي الارتداد فقط؟! وهي خيانة الوحي، أو الكذب على رسول الله أو إضعاف الإسلام وتفضيل دين المشركين؟ والخلاصة: هل يمكن تعطيل الحكم الصادر في بعض الظروف، ولو كان من قبيل الشفاعة الشخصية؟
2 ـ عبدالله بن خطل، أسلم، فأرسله رسول الله’ ومعه رجل من الأنصار لجمع الزكاة، وكان له غلام رومي قد أسلم، فقال لغلامه في أحد المنازل: اذبح شاة واصنع لنا طعاماً، ثم ذهب إلى النوم، ولما أفاق من نومه، وجد الغلام لم يصنع الطعام، فقتله وارتد، وكان له قينتان تغنيان بهجاء الرسول’، فاشترك في قتله رجلان هما: سعيد بن حريث المخزومي، وأبو برزة الأسلمي أثناء فتح مكّة([19]).
واضح أنّ هذا الرجل قد قتل مسلماً عامداً، وقد أمر قينتيه بسبّ الرسول’ والتغني بذلك، ولهذا حكمه الخاص، إضافة إلى ارتداده، فإثبات إهدار دمهِ لأيّ واحد من هذه الأمور مشكل، فإذا كان غلامه حرّاً كما يلوح من السيرة النبوية، ولم يكن له ولي في البلاد الإسلامية، كان للنبي’ المطالبة بالقصاص بوصفه وليّ من لا ولي له، كما أنّ حكم ساب النبي هو القتل أيضاً، وعليه فكل واحدٍ من هذين الأمرين يعدّ علّة تامّة لقتله.
3 ـ مقيس بن صبابة أو ضبابة أو حبابة، وله قصّة مشابهة لقصة عبدالله بن خطل، فقد كان له أخٌ يدعى هشام قتله رجل من الأنصار عن طريق الخطأ، فعمد مقيس هذا إلى قتل الأنصاري، وارتد والتجأ إلى قريش وهو مشرك، ومن الواضح أنه يمكن قتل مقيس من باب القصاص([20]).
4 ـ سارة، وهي مولاة لبني عبدالمطلب، قيل: إنها قدمت إلى المدينة وأسلمت، وهي التي حملت كتاب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش لغرض التجسّس، فأخبر الله تعالى نبيه’ بشأنها، فأمر النبي الإمام علياً× باقتفاء أثرها وأخذ الكتاب منها كي لا ينكشف سرّ فتح مكّة. وقال بعض: إنها كانت تؤذي النبي’ في مكّة المكرمة، ولم يذكر البعض إسلامها، ولم يذكر البعض: ارتدادها، وقال بعض: إنها قتلت في أحداث فتح مكّة، وهناك من ذهب إلى حياتها حتى خلافة عمر.
وعليه هناك شكّ في أصل إسلامها وارتدادها وقتلها وسائر أعمالها، فلا يمكن عدّ هذا المورد من مصاديق قتل المرتد في عصر النبي’.
فلم يثبت القتل للارتداد في أي واحدٍ من هذه الموارد الأربعة([21]).
وهناك أيضاً موارد أُخرى يشكّ في أصل وجودها، فمثلاً جاء في «السيرة النبوية» أن رسول الله’ أمر بقتل قينتي عبدالله بن خطل، فقتلت إحداهما، وفرّت الأُخرى ثمّ أسلمت، وعلى فرض القتل، لم يكن ذنبها الارتداد، وإنّما هو هجو النبي.
وهناك كلام في «السيرة النبوية» أيضاً حول إهدار دم عكرمة بن أبي جهل، حيث هرب إلى اليمن ثم أسلم، ولم يقتل، كما أهدر النبي’ دم حويرث، وقد كان يؤذي النبي بمكّة، وعندما حمل العباس عم النبي ابنتي رسول الله’ لإرسالهما إلى المدينة عمد حويرث هذا إلى إفزاع ناقتهما فأسقطهما من المحمل أرضاً ([22])، ولكن لم يرد كلام حول ارتداد هؤلاء النفر، ولم يتضح لنا جرمهم، مضافاً إلى الشك في أصل إهدار دمائهم وتنفيذ ذلك.
وبعد عصر النبي’ وفي عصر الخلفاء الثلاثة، وخاصّة في عهد أبي بكر قتل الكثير من الناس تحت طائلة الارتداد، وقامت حروب كثيرة ضدّ المرتدين، ولكن الخلفاء الثلاثة غير معصومين عن الخطأ عند الشيعة، بل يحتمل أنّ الكثير من حالات القتل تلك كانت لتصفية الحسابات السياسية والشخصية ودعماً لمنصب الخلافة، لذلك سنتجاوز تلك المرحلة لنصل إلى عهد خلافة إمام المتقين علي بن أبي طالب×.
قتل المرتدّ في زمان خلافة الإمام علي×
وردت تقارير كثيرة حول قتل المرتدين على يد الإمام×، إلاّ أن في بعضها إشكالاً سندياً، وبعضها يثبت أنّ المقتول قد ارتكب الكثير من المظالم، وعليه لا يكون لقتلهم علاقة بالارتداد، ولأنّ أهل السنّة كانوا يرون وجوب قتل المرتد، فقد استعملوا هذا العنوان لتبرير قتلهم.
وجاء في كنز العمال أنّ الإمام علياً× استتاب رجلاً كفر بعد إسلامه شهراً كاملاً، فامتنع فقتله. ونقل في كنز العمال أيضاً قتل بني ناجية([23])، ولكن بما أنه نقلها مبتورة فلم يتحدّد جُرم بني ناجية، لذا سننقل أصل القصّة من كتاب شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، كيما يتضح أن بني ناجية قد اقترفوا جنايات كثيرة ليس للارتداد علاقة بها، وينسب بنو ناجية أنفسهم إلى أسامة بن غالب بن فهر بن مالك، إلاّ أن قريشاً تدفعهم عن هذا النسب ويسمونهم إلى أمهم ناجية امرأة أسامة بن لؤي([24]).
عرض ابن أبي الحديد الحادثة في الجزء الثالث من شرح نهج البلاغة في ذيل الخطبة الرابعة والأربعين من ص120 إلى 146 بصيغتين، وخلاصتهما كالآتي:
الصيغة الأولى:
لما بايع أهل البصرة عليّاً× بعد الهزيمة، دخلوا في الطاعة غير بني ناجية، فإنهم عسكروا، فبعث إليهم عليٌّ× رجلاً من أصحابه في خيل ليقاتلهم، فأتاهم فقال: ما بالكم عسكرتم، وقد دخل الناس في الطاعة غيركم؟! فافترقوا ثلاث فرق، فرقة قالوا: كنّا نصارى فأسلمنا، ودخلنا فيما دخل الناس فيه من الفتنة، ونحن نبايع كما بايع الناس، فأمرهم فاعتزلوا، وفرقة قالوا: كنّا نصارى فلم نسلم، فخرجنا مع القوم الذين كانوا خرجوا، قهرونا فأخرجونا كرهاً، فخرجنا معهم فهزموا، فنحن ندخل فيما دخل الناس فيه، ونعطيكم الجزية كما أعطيناهم، فقال: اعتزلوا، فاعتزلوا، وفرقة قالوا: كنّا نصارى فأسلمنا فلم يعجبنا الإسلام، فرجعنا إلى النصرانية، فنحن نعطيكم الجزية كما أعطاكم النصارى، فقال لهم: توبوا وارجعوا إلى الإسلام، فأبوا فقتل مقاتليهم وسبى ذراريهم، وقدم بهم على عليّ×([25]).
لا ربط لهذه الواقعة بقضية مصقلة وشراء الأسرى وتحريرهم، وذلك لأنّ مصقلة قد اشترى الأسرى من بني ناجية وحررهم في أردشير، في حين وقعت هذه الحادثة في ضواحي البصرة، وهي بعيدة جداً عن أردشير، فلا يمكن أن تكون صحيحة([26]). وإنما الحقيقة هي أن عدد الذين التحقوا بمعاوية قد ازداد بعد صفين، فمن البعيد أن يكون مصقلة وهو عامل الإمام قد التحق بمعاوية بعد حرب الجمل.
الصيغة الثانية:
كان الخرِّيت بن راشد الناجي أحد بني ناجية ساءه ما كان من أمر الحكمين من طاعة علي × ولم ينزل لمناظرة أمير المؤمنين، وخرج مع جماعة من المدينة، وقتلوا رجلاً من شيعة الإمام يقال له (زاذان فروخ) وأخذوا معه رجلاً يهودياً من أهل الذمّة فأضلوا سبيله، فأقبل ذلك الذمي وأخبر قرة بن كعب، وهو من عمال الإمام علي× في ذلك، فكتب الإمام إلى زياد بن خصفة الذي أمره مع قومه بمحاورة بني ناجية أو قتالهم، بما حدث، فانطلق زياد وأدرك بني ناجية في المدائن، ولم ينفع الكلام والنصيحة حتى احتدم قتال شديد، فرّ في أثره بنو ناجية في جنح الليل وسلكوا ناحية الأهواز، وبقي زياد وأصحابه في البصرة لمداواة الجرحى، وحتى يأتيهم أمرٌ من الإمام×، فجهّز الإمام جيشاً كبيراً من البصرة والكوفة بقيادة معقل للقضاء على بني ناجية، ونزل بنو ناجية جانباً من الأهواز، واجتمع إليه علوج كثر من أهلها ممن أراد كسر الخراج ومن اللصوص، وأقبل الخريت على من يرى رأي الخوارج فأسّر إليهم: إني أرى رأيكم، وقال لمن يرى رأي عثمان وأصحابه: أنا على رأيكم، وقال لمن منع الصدقة: شدّوا أيديكم على صدقاتكم، ثم صلوا بها أرحامكم، ثم قال لقومه من بني ناجية الذين كانوا نصارى قبل إسلامهم: ويحكم، أتدرون ما حكم علي فيمن أسلم من النصارى ثم رجع إلى النصرانية؟ إنّ حكمه أن يضرب عنقه ساعة يتمكن منه، فواجه معقلاً بمثل هذه الجماعة. فأخرج معقل راية أمانٍ فنصبها وقرأ عليهم كتاب أمانٍ من أمير المؤمنين× وقال: من أتى هذه الراية من الناس فهو آمن إلاّ الخريت وأصحابه الذين نابذوا أول مرّة، فتفرّق عن الخريت كل من كان معه من غير قومه، وقد حضر مع الخريت جميع قومه مسلمهم ونصرانيهم ومانعوا الصدقة منهم ووقفوا بوجه معقل، وثارت حرب شديدة قتل فيها الخريت وسبعون ومئة من قومه، وذهب الباقون في الأرض يميناً وشمالاً، وبعث معقل الخيل إلى رجالهم فسبى من أدرك فيها رجالاً ونساءً وصبياناً، ثم نظر فيهم فمن كان مسلماً خلاه وأخذ بيعته، وخلّى سبيل عياله، ومن كان ارتد عن الإسلام عرض عليه الرجوع إلى الإسلام وإلاّ قتل، فأسلموا، فخلّى سبيلهم، وسبيل عيالاتهم إلاّ شيخاً نصرانياً يقال له (الرماح بن منصور) فإنه قال: والله ما زلت مصيباً من دين الصدق، إلى دينكم دين السوء، لا والله لا أدع ديني ولا أقرب دينكم ما حييت، فقدمه معقل فضرب عنقه، وأخذ من المسلمين صدقاتهم، وعهد إلى النصارى وعيالاتهم فاحتملهم معه وتوجّه بهم نحو الكوفة؛ إذ كان عليهم الحفاظ على شروط الذمّة وعدم محاربة الحكومة الإسلامية، وفي الطريق رقّ مصقلة بن هبيرة عامل أمير المؤمنين× على أردشير لحال الأسرى وبكائهم واشتراهم بخمس مئة ألف درهم يدفعها لعلي ولم يسأل الأسارى أن يعينوه في فكاك أنفسهم بشيء، فأعتق الجميع ولم يدفع لأمير المؤمنين مالاً، فكتب إليه الإمام× كتاباً يطالبه بالأموال، فجاء بمئتي ألف وعجز عن الباقي، فلما علم أن أمير المؤمنين لا يتسامح معه ولا يترك له الباقي هرب حتى لحق بمعاوية، فقال الإمام× جملته المشهورة: «قبح الله مصقلة، فَعلَ فِعْل السادة، وفرّ فرار العبيد» .
وهذه الصيغة لها علاقة بمصقلة، ولكن في هذه القصّة لم يقتل القائد إلاّ مرتداً واحداً، وكان جرمه مضافاً إلى الحروب الكثيرة ونقض البيعة أنه كان يرى الدين الإسلامي طالحاً والدين المسيحي صالحاً، وكان يقول: بأنه إن بقي حياً فلن يعتنق الإسلام، فكان كفره عن عناد، مضافاً إلى أنه قد اقترف الكثير مما يوجب القتل، فلا تثبت هذه القصّة وجوب قتل المرتد بما هو مرتد.
وقفات في النقد السندي والمتني لروايات عقوبة المرتدّ
وأما الحديث الوارد في الكافي الدالّ على وطء المرتد بأمر الإمام علي× فليس له سند صحيح ولم يلتزم به أحد من الفقهاء، وهو كالآتي:
محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن موسى بن بكر، عن الفضيل بن يسار، عن أبي عبدالله× أنّ رجلاً في المسلمين تنصّر، فأتي به أمير المؤمنين× فاستتابه فأبى عليه، فقبض على شعره ثم قال: طأوا يا عباد الله، فوطئ حتى مات([27]).
لا شكّ أنّ هذا النوع من القتل المصحوب بأسوأ أنواع التعذيب لا يصدر عن الإمام المعصوم، خصوصاً الإمام علياً الذي طلب أن لا يقتصّ من قاتله وهو أشقى الأشقياء إلاّ ضربة بضربة وأن لا يمثلنّ به.
هذا وفي سند الحديث موسى بن بكر، وهو وإن كان كثير الرواية إلاّ أن الشيخ الطوسي قال: إنه واقفي، وسكت الكشّي والنجاشي ولم يقولا فيه شيئاً، فلم يوثّقه أحد منهم([28]).
وعليه لم نعثر في سيرة الإمام علي× على موردٍ قاطع على قتل المرتد، نعم، يتضح إجمالاً قتل رجلٍ واحد في قصّة بني ناجية، وقد كان لهذا الرجل جرائم أُخرى، ويتضح في الخبر الوارد في كنز العمال أنّ الإمام استتاب رجلاً لمدّة شهر، فلما لم يتب قتله، وواضح أنّ استتابة الإمام× له كانت مصحوبة بعرض الأدلّة الواضحة عليه، وعندها يكون عدم اقتناعه عن عناد مطلق تجاه الحق الواضح، وقتل مثل هذا الشخص في الوقت الراهن لا يعدّ قبيحاً عقلاً؛ لأنّ أهل هذا العصر يرون أنفسهم أتباع حقّ وليسوا معاندين، ومع ما نعرفه عن الإمام علي من قوة الحجة والبيان، وكون المقتول شخصاً مغموراً، يتضح أنّ الإمام قد أقنعه ولكنه أصر على عناده.
وأما الروايتان السادسة والخامسة عشرة في الكافي الدالتان على ضرب الإمام× عنق زنديق([29]) فهما في غاية الضعف سنداً، إذ فيهما مضافاً إلى سهل بن زياد([30])، محمد بن الحسن بن شمون وعبدالله بن عبدالرحمن الأصم، والجميع متفق على تضعيفهما([31]).
وأما الرواية الثامنة عشرة في الكافي الدالة على أن جماعةً ألّهت علياً× فاستتابهم فلم يتوبوا، فحفر لهم حفرتين وأفضى ما بينهما، وألقاهم في إحدى الحفرتين، وأوقد النار الأُخرى حتى اختنقوا بالدخان([32]).
فسنداهما صحيحان، ولكن لا علاقة لهما ببحث المرتد، وإنّما ترتبطان بالغلاة، مضافاً إلى أنهما توضحان مدى حمق الغلاة، فالذي لا يستطيع الخروج من حفرة لينجو بنفسه، كيف يمكنه معرفة ربه؟! وربما لم يكن أمير المؤمنين× لينوي قتلهم، وإنّما أرادهم أن ينتبهوا ويكفوا، إلاّ أنهم بقوا على غيّهم وماتوا.
والحديث الثالث والعشرون وإن كان ضعيف السند بالإرسال، إلاّ أن مضمونه كمضمون الحديثين السابقين.
وهناك إشكالات أخرى ترد على روايات باب حدّ المرتد من الكافي، وخلاصتها كالآتي:
الراوية الخامسة عشرة تكرار للرواية السادسة، فسندهما ومتنهما واحد، وكذلك الرواية الثامنة عشرة، هذا وإن الروايات السادسة والخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة لها سند واحد ضعيف.
إذ مضافاً إلى ورود سهل بن زياد فيها، وقد تضاربت أقوال العلماء فيه، وأكثرهم على تضعيفه، فإنّ فيها محمد بن الحسن بن شمون وعبدالله بن عبدالرحمن، وكلاهما في غاية الضعف، فقد قال النجاشي بشأن محمد بن الحسن بن شمون: واقف، ثم غلا وكان ضعيفاً جدّاً، فاسد المذهب، وأُضيف إليه أحاديث في الوقف وعاش مئة وأربع عشرة سنة([33]).
وقال النجاشي بشأن عبدالله بن عبدالرحمن: ضعيف غالٍ، ليس بشيء([34]).
والحديث التاسع في الباب ضعيف أيضاً، إذ في سنده عمرو بن شمر، وضعفه واضح للجميع، والحديثان الثالث عشر والثاني والعشرون حول مدعي النبوة، والحديث الحادي والعشرون حول من يشتم النبي’، والحديثان الثامن عشر والثالث والعشرون حول الغلاة، وقد تقدّم ذكرهما.
والحديث الرابع عشر مخالف للقرآن الكريم قطعاً، ولا يمكن التمسك بمضمونه، وفي سنده عبدالرحمن الأبزاري الكناسي، وهو مجهول، ولم ينقل له في الكتب الأربعة سوى هذا الحديث([35])، وهو كالآتي:
«قلت لأبي عبدالله× : أرأيت لو أنّ رجلاً أتى النبي’ فقال: والله ما أدري أنبيٌّ أنت أم لا، كان يقبل منه؟ قال: لا، ولكن كان يقتله، أنه لو قبل ذلك منه ما أسلم منافق أبداً».
هذا المضمون لا ينسجم مع سيرة النبي’ ويخالف سنّة الله تعالى، حيث بعث أنبياءه بالأدلّة الواضحة، وكذلك يخالف الآية السادسة من سورة التوبة وهي قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ}، كما أن ذيل الحديث يظهر أنه لم يصدر عن الإمام إذ ليس كل المنافقين آمنوا عن خوف، بل هناك من آمن برغبته، ثمّ عرضت له الدنيا وفتنته.
ومهما كان فإن نظرة إجمالية في روايات الكافي تثبت أن تسع روايات من مجموع ثلاثة وعشرين منها تخصّ فعل الإمام علي×، حيث ثلاثٌ منها تخصّ الغلاة وواحدة في وطء المرتد، واثنتان تخصّان الزنادقة، وواحدة تتعلّق برجل من بني ثعلبة شهدوا عليه بالارتداد عند أمير المؤمنين× فقال له: «ما يقول هؤلاء الشهود؟ قال: صدقوا، وأنا أرجع إلى الإسلام، فقال× : أما أنك لو كذبت الشهود لضربت عنقك»([36])، وفي سندها عمرو بن شمر، وهو ضعيف، والأخرى تتعلق بقبول الشهادة على ثبوت الجرم وعدم قبولها في إثبات البراءة ([37])، وسندها ضعيف أيضاً، وعليه يكون أكثر من نصف الروايات ليس فيه شيءٌ يذكر، ومن هنا لا ينبغي أن نأخذ بكثرة روايات بحث المرتد ونذهب إلى تواترها الإجمالي والمعنوي.
والذي يدعو إلى العجب هو أنّ الكليني برغم كونه أضبط من غيره من مؤلفي الكتب الأربعة وأدقّ تبويباً، له في هذا الباب ثلاثة أحاديث متكررة بمتنها وسندها، وله عدّة أحاديث في شتم النبي’ ومن يدّعي النبوة، وهي عناوين مستقلة وأجنبية عن الارتداد، وهناك أيضاً ثلاثة أحاديث حول الغلاة، وهي إشكالات قلما وجدناها في كتاب الكافي!
ومن هذا يثبت أنّ روايات الارتداد منذ البداية لم يتم تمحيصها، وأنّ قتل المرتد إنّما كان يتم على يد الحكومات، ولم يتمكن الأئمة^ من تولي زمام الحكم، هذا وقد استغلت الحكومات آنذاك هذا الحكم بأبشع الصور، وكانت بذلك تقضي على المعارضين، مع أنّ هذا الحكم يتنافى وروح العدالة، وذلك لتساوي المنافق والمرتد في المعصية، ومع ذلك يعاقب المرتد دنيوياً لوحده، ومن جهة أخرى فإنّ توبة المرتد ظاهرياً تؤدي إلى انتشار السطحية في الدين.
وعليه لابد من تنقيح موضوع المرتد، وعندها سينحصر المرتد فيمن يعرف الحقّ بشكل كامل ومع ذلك يخرج من الدين وينكر الحق عناداً بغية الوصول إلى الأموال وحطام الدنيا، ويقوم بالدعوة إلى الكفر وبثّ سمومه، وبذلك يخرج الجهال وذوو المعرفة المحدودة عن موضوع الارتداد، وكذلك يخرج العالم إذا أوصلته ابحاثه ـ بسبب سلوك بعض المقدمات الخاطئة ـ إلى أفضلية دينٍ ومذهب آخر. ويبدو أن روايات الباب تثبت ذلك.
نعم، هناك تفصيل في رواياتنا بين المرتد الفطري والملّي، وهي بحاجة إلى شرحٍ مستقل.
الروايات النبوية في المرتدّ، وقفات تحليل
1 ـ عن ابن عباس: ارتدّ رجل من الأنصار فلحق بالمشركين، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ … إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا}([38])، فكتب بها قومه إليه، فلما قرئت عليه، قال: «والله ما كذبني قومي على رسول الله’، ولا كذب رسول الله على الله، والله أصدق الثلاثة، فرجع تائباً إلى رسول الله، فقبل ذلك منه وخلّى سبيله»([39]).
2 ـ ارتدَّ نبهان عن الإسلام، فاستتابه رسول الله’، فتاب وخلّى سبيله، فارتدّ ثانية، فاستتابه فتاب وخلّى سبيله، وفي الثالثة أو الرابعة دعا عليه أنْ: اللهم مكنّا من نبهان والحبل في عنقه، فحمل إلى رسول الله على تلك الحالة، فأمر النبي بقتله، وعندما اقتيد للقتل مال برأسه إلى من يقوده وهمس له بشيءٍ، فقال رسول الله’: «ماذا قال؟» فقال الرجل: أنه يقول أني مسلم وأقول أشهد أن لا إله الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فأمر رسول الله’ بإخلاء سبيله.
وهذا يدلّ على أن المرتد مهما تكرر الارتداد منه عن الإسلام، ثم يتوب لا يقتل.
3 ـ ارتدت امرأة يقال لها أُمُّ مروان، فأمر النبي’ أن يعرض عليها الإسلام، فإن رجعت وإلا قتلت، فعرضوا عليها، فأبت فقتلت ([40]).
إنّ تصحيح أحاديث أهل السنّة سنداً يستلزم منهجاً خاصّاً، ولكن لابد من التذكير بأن مضمون هذه الأحاديث لا ينسجم مع فقه الشيعة ورواياتهم، فالشيعة لا يحكمون بقتل المرتدة أبداً، وهناك من فقهاء أهل السنة من لا يجيز قتل المرتدة أيضاً، وعليه فإن هذا الحديث مشكوك في أمره([41]).
وقفات مع روايات أخر في عقوبة المرتدّ
1 ـ علي بن إبراهيم، عن أبيه؛ وعدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد جميعاً، عن ابن محبوب، عن العلاء بن رَزين، عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر× عن المرتد فقال: «من رغبَ عن الإسلام وكفر بما أنزل الله على محمد’ بعد إسلامه فلا توبة له، وقد وجبَ قتله وبانت منه امرأته ويقسّم ما ترك على وُلْدِه»([42]).
سند الحديث معتبر حتى مع ورود سهل بن زياد فيه، وقد ضعّفه أكثر الرجاليين، إلاّ أنّ رواية عددٍ من الأصحاب الثقات يقوّي حديثه، ومن جهة أُخرى ففي طبقته إبراهيم بن هاشم، والد علي بن إبراهيم، وقد نقلا هذا الحديث عن ابن محبوب.
وأما دلالة الحديث فأولاً: لا ينبغي الوقوف عند ألفاظ هذا الحديث، فعدم الدقّة في التعبير ووضع الغالب فيه موضع التام ملحوظ، إذ إنّ عبارة «ويقسّم ما ترك على ولده» غير دقيقة، والصحيح «يقسّم ما ترك على ورثته» ليشمل الزوجة والوالدين، ولو عدموا فالإخوة والأخوات وهكذا، ولكن بما أن الرجل في العادة يكون له أولاد، وعند موته لا يكون أبواه على قيد الحياة، يتسامح في التعبير، فيعبّر بولده بدلاً من ورثته.
وعلى هذا المنوال يمكن النظر إلى تعريف المرتد وسائر الأحكام الواردة في هذه الرواية، وعليه يمكن أن يكون المراد: إنّ هذه الأحكام إنّما تجري بعد تنفيذ حكم الإعدام، لا في صورة فراره أو العفو عنه وما إلى ذلك.
ثانياً: لفظ «رغب عن» يعني الإعراض والكراهية التي إنّما تحصل عندما يتعرّف الفرد على الشيء ولا يراه موافقاً ومنسجماً مع عقله وعاطفته، وعليه يكون الجاهلون بالإسلام خارجين عن موضوع الارتداد.
ثالثاً: قيد «بعد إسلامه» وكذلك «الكفر» يعطينا معنىً دقيقاً، فالكفر يعني التغطية، فلابد أن يكون هناك شيء حتى يمكن للكافر تغطيته، وبديهي أن المرتد لم يغطِّ ظاهر القرآن الخارجي، فلابد من القول: إنه قد ارتكزت في ذاته حقيقة وحقانية القرآن، وقام الكافر بتغطية تلك الحقيقة، وفي الواقع إنّ الكفر بما نزل على النبي’ يعني تغطية تلك الحقيقة، وما دامت المسألة خافية على الفرد لا تتخذ شكل الحقيقة. وإنّ «بعد إسلامه» تعني بعد الاعتقاد به، وعليه عندما يثبت لشخص أن ما أنزل الله على نبيه حقّ، واعتقد بذلك، ثم كفر بما ثبت لديه واعتقده يكون ذلك منه عناداً محضاً للحق الواضح.
من هنا فإنّ هذا الحديث كالآية الخامسة والعشرين من سورة محمد، وبعض ما تقدم من الآيات الأخرى تشترط التبيّن للارتداد، فيخرج ذوو الشبهات الكثيرة، مثل أكثر الناس في العصر الحاضر، ولم يتضح لهم الإسلام بعد، يخرجون من موضع الارتداد.
رابعاً: عبارة «فلا توبة له» يبدو أنه أُسيء فهمها، إذ قالوا: «لا توبة له عند الحاكم» أو أنه عند الله أيضاً؟ في حين أنها لنفي الجنس، أي أنه لا وجود للتوبة لمثل هذا الشخص، فالتوبة تعني الرجوع والعودة، وهي إنّما تصدق على من يضل الطريق ثم يدرك ضلالته فيعود، وأما حينما تتضح حقانية الدين الإسلامي له، واعتقد بذلك ثم يأتي ويكفر بما اعتقده عناداً واستكباراً فلا توبة له، إذ لم يكن ما قام به عن جهالة، بل تعمد أن يسلك طريق الضلالة بعد اتضاح الحق له ولم تكن لديه أي شبهة.
وعليه توضح عبارة «لا توبة له» موضوع المرتد، فهو الذي لا تُتصور له توبة ، ويبدو أن مثل هذا الفرد المعاند المناهض للحق، يعدّ فاسداً عند جميع العقلاء، ويتفق قولهم على وجوب قتله، إذن وجوب قتله ليس حكماً تعبدياً شرعياً يثبت قسوة الإسلام، بل هو حكم يوافق رأي العقلاء وبناءهم.
2 ـ محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن موسى بن بكر، عن الفضيل بن يسار، عن أبي عبدالله× أنّ رجلاً من المسلمين تنصّر، فأتي به أمير المؤمنين× ، فاستتابه فأبى عليه، فقبض على شعره ثم قال: طأوا يا عباد الله، فوطئ حتى مات([43]).
تقدّم أن ذكرنا عدم تمامية سند هذا الحديث؛ لعدم توثيق موسى بن بكر عند الرجاليين، مضافاً إلى أن مضمونه يتنافى وأحكام الشريعة، وما نعلمه من الإمام علي×، فلا وجود للقتل بالوطء في الشرع، ولم يفتِ أحدٌ من فقهاء الشيعة والسنة بقتل المرتد بهذه الطريقة.
إشكال: إنّ حدّ الزانية المحصنة الرجم، وحدّ اللواط هو القتل بالرمي من شاهق أو هدم جدار عليه ونحو ذلك، فما الضير في أن يكون قتل المرتد بالوطء من هذا القبيل؟
جوابه: أولاً: إنّ هذا الحديث ضعيف السند، وثانياً: إنّ رجم المحصنة قد تبيّن من الشرع بخلاف وطء المرتد، وعليه لا يمكن لهذا المورد أن يشكّل صغرى أو مصداقاً للموارد الموجودة في الشرع.
وبعبارة أخرى: إنّ الموارد الموجودة في الشرع من هذا القبيل نادرة جدّاً، فهي خلاف القاعدة والقانون الأولي، وكلما كان هناك دليل حمل على مورده، وما لم يكن هناك دليل قطعي لا يصار إليه.
وبعبارة أوضح: إنّ الأُمور المنافية للطبع والعاطفة إنّما تنسب إلى الشرع إذا ثبتت بالسند المتواتر أو المقارب للتواتر.
3 ـ علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن محبوب، عن غير واحدٍ من أصحابنا، عن أبي جعفر وأبي عبدالله× في المرتد يستتاب، فإن تاب وإلاّ قتل، والمرأة إذا ارتدت عن الإسلام استتيبت، فإن تابت ورجعت وإلاّ خلّدت في السجن وضيّق عليها في حبسها([44]).
سند الحديث جيد، ومضمونه يفرّق بين المرتد والمرتدة، إلا أنه كالأحاديث السابقة يشتمل على كلمات لا يمكن استنباط حكم قتل المرتد منها بسهولة، فمن البعيد أن يكون معنى كلمة «يستتاب» أو «استُتيب» أمراً للمرتد بالتوبة. إذ في هذه الحالة لا نحتاج إلى استتابة المرتد من قبل إمام المسلمين أو الحاكم الشرعي، بل يكفي أن يستتيبهُ جندي بسيط، فإن لم يتب نال جزاءه.
فيبدو أن استتابة المرتد يجب أن تكون من قبل شخص عالم بجميع الأحكام الإسلامية، كإمام المسلمين، بأن يجيب عن شبهات المرتد ثم يطلب منه الرجوع إلى الإسلام، فإن امتنع قتل، وأمّا إذا كان ذهنه مفعماً بالشبهات في أصول الدين وفروعه وتطبيقاتهما، ولديه إشكالات حول سلوكيات المسلمين وما إلى ذلك، تغدو استتابته فاقدة للمعنى.
وببيان آخر: إنّ الآية السادسة من سورة التوبة تقول: {وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ} فهذه آية عامة تثبت عدم الحكم بالقتل ما دام هناك جهل، فلابد من إزالة الجهل، وما دامت هناك شبهة لم يُجب عنها لا يمكن عدّ المرتدّ عالماً. وبعبارة ثالثة: إنّ المرتد إذا لم تكن لديه أيّة شبهة وكانت أحقّية الإسلام واضحة عنده، ومع ذلك يخرج عن الإسلام، فهو معاند، ويجوز قتله عند جميع العقلاء، وأما إذا كانت لديه شبهة فإن البيان الوارد في ذيل الآية السادسة في سورة التوبة يحول دون قتله، مضافاً إلى أنّ كلمة «يُستتاب» إنّما تصدق يقيناً إذا طلبت التوبة منه بعد الإجابة عن شبهاته.
سؤال: ما هو سبب التفريق بين المرتد المرتدة؟
جوابه: ربما لكون المرأة أضعف عنصرٍ في المجتمع، فقد منحت شيئاً من التخفيف، أو ربما لقوّة عاطفتها، لا تعود إلى الإسلام بعد حلّ شبهاتها بسبب الضغائن الشخصية، لذا تحبس ليمضي وقتٌ تخفّ معه حدّة عاطفتها وتعود إلى الإسلام ويخلّى سبيلها.
سؤال: لماذا اختير للمرأة الخلود في الحبس؟
جوابه: يبدو أن تخليدها في الحبس منوط بإصرارها على الكفر، وإلاّ فمجرد رجوعها إلى الإسلام يلغي حبسها.
4 ـ عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسين بن سعيد، عن النضر بن سويد، عن القاسم بن سليمان، عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبدالله× في الصبي يختار الشرك وهو بين أبويه؟ قال: «لا يترك، وذلك إذا كان أحد أبويه نصرانياً»([45]).
فيما يتعلق بسند الحديث لم يرد مدح أو ذم في القاسم بن سليمان، برغم وجوده في تسعة عشر ومئة سندٍ، وقد ورد في إسناد تفسير علي بن إبراهيم القمي([46]).
وكذلك يبدو أنّ مراد الرواية أنّ والدَي الطفل إذا لم يكونا مسلمين، وكذلك الطفل لم يكن مسلماً، كسائر الأطفال في البلدان غير الإسلامية امتيازاً للولد، وعليه لا ينبغي أن يترك، بل لابد من محاورته ونصحه وبيان الإسلام له، وبطريق أولى إذا كان كلا والديه مسلماً، وأمّا عبارات الحديث ففيها إشكالات تحول دون التمسّك بعين ألفاظه، فمثلاً: إذا كان أحد الوالدين نصرانياً والآخر مسلماً، فكيف يكون الولد مشركاً؟ فهل لفظ (مشرك) ورد سهواً أو لفظ (نصراني)؟ أو هناك توجيه آخر؟
وقريب منه الرواية الآتية، وهي السابعة في الباب ومضمونها كالآتي:
5 ـ حُميد بن زياد، عن الحسن بن محمد بن سماعة، عن غير واحد من أصحابه، عن أبان بن عثمان، عن بعض أصحابه، عن أبي عبدالله× في الصبي إذا شبّ فاختار النصرانية وأحد أبويه نصراني أو مسلمين؟ قال: «لا يترك ولكن يضرب على الإسلام»([47]).
وهو حديث مرسل، ولكن هل يضرب حقيقة، أي يجبر على الإسلام بالقوّة؟! فلدى الشباب حمية وعنفوانٌ، وغالباً ما يكون الضرب دافعاً له نحو التمرّد، والإسلام لا يروم دفع الناس إلى التمرّد.
6 ـ محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن حديد، عن جميل بن دراج وغيره عن أحدهما‘ في رجل رجع عن الإسلام؟ قال: «يستتاب فإن تاب وإلاّ قتل»، قيل لجميل: فما تقول إن تاب ثم رجع عن الإسلام؟ قال: «يستتاب»، قيل: فما تقول إن تاب ثم رجع؟ قال: «لم أسمع في هذا شيئاً»، ولكنه عندي بمنزلة الزاني الذي يقام عليه الحدّ مرتين، ثم يقتل بعد ذلك، وقال: روى أصحابنا أنّ الزاني يقتل في المرّة الثالثة([48]).
سند الحديث صحيح، وصدره كالحديث الثالث، إلاّ أنّ تصوّر تكرار الارتداد والتوبة منه وفقاً للمبنى الذي شرحناه مشكل، إذ لو بُيِّنَ له الإسلام جيداً، فإمّا أن يقتنع وإمّا أنّ يرفض، إلاّ إذا كان مرهف المشاعر شديد العاطفة، فيقبل الإسلام متأثراً بأحاسيسه، وكذلك يخرج من الإسلام لتأثير نفس الأحاسيس، وعندها لا يكون اجتهاد جميل بن دراج صحيحاً، ولا يقتل في المرّة الثالثة أو الرابعة، وفي الحقيقة نظر جميل إلى المسألة من زاوية الجرح والمجرح، وقاس مسألتنا على الزاني، في حين نرى أن الفرد إذا كان عاقلاً ومالكاً لزمام عواطفه، لا يكون هناك معنىً لارتداده المتكرر، فإذا تكرر منه الارتداد اتضح أنه مريض، وليس مجرماً، وعليه يستحق التخفيف كما في المرأة.
فلسفة اختلاف الحكم بين المرتد والمرتدة
يتضح من هذه الرواية وغيرها أنّ المرتدة لا تُقتل مطلقاً سواءٌ أكانت فطرية أم مليّة، والأحناف من أهل السنّة يوافقون الشيعة في هذه المسألة([49]).
ويبدو أنّ فلسفة ذلك تكمن في مشاعر المرأة المرهفة الغالبة على عقلها والتي تحول دون القيام بأمورها عقلائياً، وربما أدّت هذه الأحاسيس المرهفة إلى الشك في حكم من الأحكام أو في مجموع الدين، بل وحتى إنكاره، فمثلاً: لو فقدت أمّ وحيدها فقد تنكر وجود الله تحت وطأة مشاعرها أو تنكر قدرته أو عدله، إلا أنها بعد مضي عدّة أيام وبعد محادثتها ومحاورتها والتخفيف عنها تؤوب إلى رشدها وصوابها.
7 ـ وقد تكررت في الرواية الخامسة عشرة، ومضمونها: إنّ الإمام علياً× ضرب عنق زنديق، وفي سندها ثلاثة في الضعاف، مما يغنينا عن البحث في محتواها، ومن جهة أخرى هناك اختلاف في معنى الزنديق، فقد ذكرت له الكثير من المعاني، وكلها لا ينسجم مع الارتداد.
8 ـ وهي الرواية السادسة المتكررة في الرواية الثامنة عشرة وتدور حول الغلو، وهو يختلف عن الارتداد من الأساس، وذلك أنّ المرتد بعد معرفة الحق والاعتقاد به ينكره عناداً، في حين أنّ الغالي هو الذي يعتقد جهلاً بربوبية بعض الأولياء بسبب رؤية بعض الكرامات منهم، ومثاله الرواية الآتية:
محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن أبي عُمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبدالله× قال: أتى قوم أمير المؤمنين× فقالوا: السلام عليك يا رّبنا، فاستتابهم فلم يتوبوا فحفر لهم حفيرة وأوقد فيها ناراً وحفر حفيرة أخرى إلى جانبها وأفضى بينهما، فلما لم يتوبوا ألقاهم في الحفيرة وأوقد في الحفيرة الأُخرى حتى ماتوا([50]).
وسندها صحيح إلاّ أنها لا تتعلق بالمرتد، ولذلك لم يعمد الإمام إلى قتلهم بعد امتناعهم من التوبة، بل قام بإيذائهم بشيء من الدخان ليعودوا إلى رشدهم ويكفّوا عن جهالتهم، إلاّ أن جهالتهم كانت من القوّة بحيث رجّحوا البقاء في غمرة الدخان والنار والاحتراق فيها على كل شيء، فمن عدم قتلهم بأجمعهم، وحفر حفيرتين لهم بدلاً من رميهم في حفيرة أعدت مسبقاً، وكذلك من إلقاء الحطب في حفيرة وإضرام النار فيها، وإدخال الغلاة في الحفيرة، وليفهموا أنّ علياً× ليس ربّاً؛ لأنّ الرب لا يحفر الحفيرة، وإنما يقول لها: (كوني) فتكون، ولكنهم برغم هذا كلّه لم يفهموا ولم تتغلب عقولهم على أحاسيسهم ومشاعرهم، فماتوا بجهالتهم.
9 ـ أبو علي الأشعري، عن محمد بن سالم، عن أحمد بن النضر، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي عبد الله، قال: أتى أمير المؤمنين× برجل من بني ثعلبة قد تنصّر بعد إسلامه، فشهدوا عليه، فقال له أمير المؤمنين×: «ما يقول هؤلاء الشهود؟» قال: صدقوا وأنا أرجع إلى الإسلام، فقال×: «أما إنك لو كذبت الشهود لضربت عنقك، وقد قبلت منك ولا تعد، فإنك إن رجعت لم أقبل منك رجوعاً بعده»([51]).
سندها ضعيف، فعمرو بن شمر من مشاهير الضعاف، فلا حاجة فيها إلى كثير من البحث، ولكن من المناسب أن نعرف أنّ مضمونها مخالف للقرآن الكريم، إذ ورد فيها أن شهوداً يشهدون على واقعة، وتكون شهادتهم مخالفة للواقع إمّا عمداً أو سهواً، ويشهد شهود آخرون على خلاف شهادتهم([52])، فكيف تتواطأ جماعة على الشهادة كذباً ضد شخصٍ ليقتل؟! ومن جهة أخرى نقول: ما علاقة تكذيب الشهود بضرب العنق؟! فأي دليل يقوم على أنّ حكم تكذيب الشهود هو القتل؟! يبدو أنّ هذا الحكم موافق للحنابلة، وقد نسبه عمرو بن شمر كذباً إلى الإمام علي×([53])، ولطالما نسب أهل السنّة هذا الكلام الباطل إلى الإمام علي، هذا مضافاً إلى أن عبارة الرواية توحي بأنّ قبول الإسلام والارتداد كان لنزوة، وليس له ربط بالمنطق والاستدلال، في حين ينبغي أن يكون اعتناق الدين على أساس الدليل والبرهان. الأمر الآخر أنه طبقاً للرواية فقد صرّح الإمام× بأنه سوف لا يقبل له بعد ذلك رجوعاً من دون أن يتبيّن ما إذا كان حكمه عندها هو القتل أو بقاؤه على الدين الذي اختاره؟ ولم يتضح أنّ الإمام إذا لم يقبل إسلامه فكيف سيكون تعامل الله معه؟ هذا مع أنّ النبي قد قبل إسلام رجل بعد تكرر الارتداد منه مراراً([54])، إلاّ أنّ الإمام علياً× طبقاً لهذه الرواية يرفض ذلك!
10 ـ محمد بن يحيى، عن العمركي بن علي النيسابوري، عن علي بن جعفر، عن أخيه أبي الحسن× قال: سألته عن مسلم تنصّر؟ قال×: «يقتل ولا يستتاب»، قلت: فنصراني أسلم ثم ارتدّ عن الإسلام؟ قال×: «يستتاب، فإن رجع وإلاّ قتل»([55]).
سندها صحيح وتدلّ على اختلاف حكم المرتد الفطري والملّي.
11 ـ عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد؛ وعلي بن إبراهيم، عن أبيه؛ ومحمد بن يحيى عن أحمد بن محمد جميعاً، عن ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن عمار الساباطي قال: سمعت أبا عبدالله× يقول: «كل مسلم بين مسلمين ارتدّ عن الإسلام وجحدّ محمداً’ نبوته وكذبه فإنّ دمه مباح،… وامرأته بائنة منه يوم ارتد فلا تقربه ويقسّم ماله على ورثته وتعتد امرأته [بعدُ] عدّة المتوفى عنها زوجها وعلى الإمام أن يقتله ولا يستتبه»([56]).
سندها جيد، وتدلّ على تفصيل الشيعة بين المرتد الفطري والملي، كما أنها تبيّن معنى المرتد كالرواية الأولى من الباب، بل وأوضح، وتعرفه على أنه من ينكر النبي أو يكذبه.
وأما ما ورد في بعض الرسائل العملية من أنّ المرتد يشمل من أنكر ضرورياً من ضرويات الدين، بحيث يؤدي إلى إنكار النبي فلم يتضح من الروايات، ولابد من إثباته بدليل خاص، وما قيل من (أن الالتزام بشيءٍ التزام بلوازمه) لا يكفي لإثبات مثل الارتداد وعقوبته القاسية، إذ قد تكون لدى الفرد شبهات تؤدي به إلى إنكار الضروري دون الذهاب إلى إنكار النبي كأن يرى أنّ أحاديث النبي كانت لفترة محدودة، أو يشكك في جميع الأقوال المنقولة عن النبي’، أو يفهم من الألفاظ معاني أخرى بالنظر إلى تطوّر اللغة.
فلسفة اختلاف الحكم بين المرتد الفطري والملي
من الأمور التي ينفرد الشيعة بها هي التفريق في الحكم بين المرتد الفطري الذي يقتل بعد ثبوت ارتداده لدى الحاكم، وبين المرتد الملي الذي يستتاب فإن امتنع قُتل.
ولم تبيّن الروايات سبب الاختلاف في الحكم بينهما، ولكن يبدو أنّ الوجه فيه أنّ المسلم الفطري المولود من أبوين مسلمين قد عاش وترعرع في مناخٍ إسلامي، ولم يسمع بما هو أفضل من الإسلام، ولم يعرف سواه، وهو دينٌ كامل منسجم مع العقل ويتناغم مع الفطرة وله معجزة خالدة وما إلى ذلك، وعليه لا يكون ارتداد مثل هذا الفرد عن شبهة، بل عناداً واستكباراً، وليس للمعاند موضع في الدين ويكون حكمه القتل.
وأمّا المرتد الملي فبالالتفات إلى أنه كان يعتنق ديناً وطريقة أخرى فقد يحدث أحياناً أن يقارن بين بعض التعاليم الإسلامية وتعاليم الدين السابق، فيذهب إلى أفضلية الدين السابق فيها، فعندها يستتاب، بأن يناقشه الحاكم الإسلامي أو المتخصّص في الإسلام ويجيب عن شبهته ويبيّن له أفضلية الإسلام على ذلك الدين بالدليل الواضح، وبعد إزالة شبهته فإن رجع إلى الإسلام خلّي سبيله، وإلاّ عدّ معانداً وقُتل.
إشكال: جاء في الروايات والفتاوى لفظ «يستتاب» من دون التطرّق إلى الإجابة عن شبهاته العلمية وما إلى ذلك، وعليه يكون الاختلاف بين المرتد الفطري والملي تعبديّاً صرفاً لا يحتاج إلى بيان سببه وحكمته وعلّته.
جوابه: جاء في الروايات والفتاوى بشأن النزاعات والدعاوى القضائية أنّ البيّنة على من ادّعى، فإن لم تكن له بيّنة، كان اليمين على من أنكر، فإذا كانت القضية كذلك لم نعد بحاجة إلى القاضي والمجتهد، بل يمكن لأي شخص أن يحكم بين المتخاصمين!!، أجل، لابد للقاضي أن يكون مجتهداً ليتمكّن من تشخيص الحق من خلال التدقيق في التفاصيل قدر المستطاع.
وكذلك فيما نحن فيه، فإذا تمّ الاكتفاء بمجرد طلب التوبة، فإنها تتأتى من كل ناطق، ولو كان طائر الببغاء، في حين أننا نجد في الروايات أنّ الإمام علياً× هو الذي يتصدّى إلى استتابة المرتد، وليس غلامه قنبر، فيتضح أنّ الاستتابة يقوم بها القاضي أو العالم بعد الإجابة عن جميع شبهاته، لا أنها كلام القاضي الأول والأخير.
وما قيل من أن الاختلاف بين المرتد الفطري والملي في الحكم تعبدي، فيمكن مناقشته بأنّ بعض الأمور الدينية تعبدية محضة لا يُسأل عن حكمها، ويلتزم محله، ولا تجب سجدة السهو للذكر في غير محله؟ لأنه تعبّد محض، في حين يستفهم عن سبب الاختلاف بين المرأة والرجل في الميراث، وذلك لأنّ العقل يراه خلاف العدل، فلابد من دليل شرعي لإقناع العقل، كأن يقال: إنّ نفقات الزوجة والأولاد، وتوفير السكن والملبس والمأكل ومهر المرأة يقع على عاتق الرجل، لذلك يضاعف له الإرث، وهكذا الأمر فيما نحن فيه، حيث لا يرى العقل فرقاً بين مرتدين أحدهما من أبوين مسلمين، والآخر من أبوين غير مسلمين، فيتساءل عن سبب منح أحدهما فرصة التوبة بينما يحرم الآخر منها، وعندها لابدّ من العثور عن حكمة هذا الاختلاف بين الفطري والملّي إلى عصرنا الحاضر.
لو قبل البيان المتقدّم في جعل العناد معياراً للقتل، وكان اختلاف الحكم بين المرتد الفطري والملي في أن المرتد الملي يحتمل وجود شبهة قادته إلى الارتداد وليس العناد، بخلاف الفطري، نقول بسحب هذا ا لبيان إلى عصرنا الحاضر، حيث تتغلغل الشبهات في أذهان الشباب من جميع الجهات، وأهم شبهة تتلخص في أن الدين الذي نزل قبل خمسة عشر قرناً في بقعة نائية، كيف يمكنه أن يعمل على إسعاد الشباب المعاصر؟ وكيف يمكن رفع انعدام التجانس بين العلم والدين؟
ومن خلال تعامل هؤلاء الشباب مع الأمور والحقائق، نجد أن أغلبهم ليسوا من المعاندين سواء منهم من ينحدر من خلفيات إسلامية أو غيرها، وعليه يكون حكم القتل بحقهم منتفياً، كما أنّ حكم القتل بعد ذلك لا يمكن تحقّقه في العالم الخارجي، وذلك لأن حلّ بعض الشبهات المطروحة ليست من السهولة التي يصدق عليها التبيّن والتي يمكن معها إقناع الطرف المقابل.
إشكال: إنّ حقانية الدين في عصرنا واضحةٌ جدّاً، وإنّ قوله تعالى: {من بعد ما تبين لهم الهدى}([57]) تصدق في حقّ أبناء عصرنا، إذ نقول لهم: لا يمكنكم الإتيان بمثل هذا القرآن فيتضح أن الدين الذي يمتلك هذا الكتاب السماوي حقّ ويصلح لجميع العصور.
جوابه: بل إنّ أكثر الذين لديهم شبهات لا تدور شبهاتهم حول القرآن ومضامينه، فلو تمّ تعريف الدين من خلال القرآن لارتفعت أكثر الشبهات، فمثلاً: لديهم إشكال حول تعلّق الزكاة بالأُمور التسعة المعروفة في الرسائل العملية، إذ إنّ الذين يمتلكون في العصر الحاضر سبعة منها يعدّون من الفقراء، ولكن ليس عندهم إشكال في آيات القرآن التي أوجبت الزكاة بقول مطلق، ولا إشكال عندهم في ضرورة معاقبة المعاند، وإنما يشكلون على نوعية هذه العقوبة، فهم يذعنون بكون القرآن معجزة خالدة، إلاّ أنّ الذي يتم طرحه حالياً بوصفه إسلاماً غير موجود بأجمعه في القرآن الكريم، وأكثر النزاعات تدور حول التي لا وجود لها في القرآن الكريم ومنها الحكم بقتل المرتد.
إشكال: كيف يصحّ هذا، وقد جعل القرآن الحجية لكلام النبي’ والمعصومين من أهل بيته^، وأمرنا؛ بقوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى}([58])، وقوله تعالى {فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون}([59])، باتباعهم، وفي حديث متواتر جعل النبي’ العترة عدلاً للقرآن الكريم.
جوابه: هل أنزل الله تعالى قرآناً ناقصاً فأراد إكماله بواسطة النبي’ والمعصومين^؟ هذا ما لايدّعيه مسلم، فالقرآن كتاب كامل، وما دور النبي’ إلاّ تبيين القرآن وتحديد المصداق وتطبيقه على العصر، وهكذا الأمر بالنسبة إلى المعصومين^، وعليه ما في القرآن ثابت لا يتغيّر، إلاّ أن تطبيقات المعصومين^ متغيرة بتغيّر العصور، وإذا تمّ إدراك هذه الحقيقة بشكل جيد، فسوف تُحلّ الكثير من الشبهات والمشاكل([60]).
ينقل أنّ آية الله جوادي الآملي قال للسيد الإمام الخميني+ بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران: «لقد نهضتم في ثورتكم بالقرآن ونهج البلاغة، وليس بالإمكان الحفاظ على هذا الانتصار بحاشية العروة الوثقى، والعلّة المحدثة تحتاج إلى علّة مبقية»، وهو كلام جميل ومتين.
12 ـ علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن أبي بصير ،عن أبي عبدالله× قال: «من أُخذ في شهر رمضان وقد أفطر فرفع إلى الإمام يقتل في الثالثة»([61]).
سند الحديث جيد، وهناك رواية أخرى بهذا المضمون.
13 ـ ابن محبوب، عن هشام بن سالم، عن بريد العجلي، قال: سُئل أبو جعفر× عن رجل شهد عليه شهود أنه أفطر من شهر رمضان ثلاثة أيام، فقال×: يُسأل هل عليك في إفطارك إثمٌ؟ فإن قال: لا، فإنّ على الإمام أن يقتله، وإن هو قال: نعم، فإنّ على الإمام أن ينهكه ضرباً([62]).
سندها جيد، ويحتمل قوياً أنّ الذين ذهبوا إلى ارتداد منكر الضروري استندوا إلى هذه الرواية، ولكن يبدو أنه لا علاقة لها بالمرتد، بل تقول: لا ينبغي هتك القوانين الإسلامية ونقضها في المجتمع الإسلامي عمداً وعلناً، وكل من يقوم بمثل ذلك يجب قتله، ولا ربط لها بالارتداد بمعنى إنكار النبي’ وتكذيبه، فهناك لكل ذنب عقوبة في المجتمع الإسلامي، وقد كان حكم المتعمد في الإفطار آنذاك القتل، ولكن هل كان حكماً إلهياً أو حكومياً؟ هل كان ثابتاً أو متغيّراً؟ هل هو ذو جنبةٍ وقائية أو أنه يطبّق على نحو الحقيقة؟ من الحدود الإلهية التي لا تصل بمرتكبها حدّ الارتداد، وعليه لا يتضح وجه إدراج هاتين الروايتين في هذا الباب.
14 ـ محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضال، عن حمّاد بن عثمان، عن ابن أبي يعفور قال: قلت لأبي عبدالله×: إنّ بزيعاً يزعم أنه نبي، فقال×: إن سمعته يقول ذلك فاقتله، قال: فجلست له غير مرّة فلم يمكني ذلك([63]).
سندها حسنٌ، وقد تكررت بمتنها في الرواية الثانية والعشرين، إلاّ أنّ دلالتها على حكم المرتد غير واضحة، إذ قد ينكر شخص خاتمية النبي’ دون أصل النبوة، بأن يرى استمرار النبوّة باستمرار العصور، أو يرى النبي’ إنساناً عبقريّاً، ويرى لنفسه شيئاً من العبقرية أو أنه عبقري كامل، وهذه الأفكار وإن كانت باطلة، إلاّ أنها لا تدلّ بوضوح على ارتداد القائل والمعتقد بها.
ومن جهة أُخرى فإنّ الحكم بقتله على فرض صدوره من الإمام×، فهو مؤقت بزمنٍ لم تستطع فيه الحكومة من القبض على ابن أبي يعفور، إذ لو قتل ابن أبي يعفور وألقت الحكومة القبض على قاتله وطالب أولاد المقتول بالقصاص، فكيف سيكتب له الخلاص؟ وكيف يثبت للحكومة أنه كان يدّعي النبوة وأنّ حكمه هو القتل؟ وعندها سيتمّ قتل مؤمنٍ بفاسق.
ومهما كان فإن هذا الحديث يدلّ بمجموعه على كون الحكم مؤقتاً بزمان معيّن، وإذا ذهب شخص إلى إطلاقه، فعليه أن يفكر بحلٍّ لمطالبة أولياء الدم بالقصاص، وحدوث الفوضى في المجتمع، إذ سيغدو بإمكان كلِّ شخص أن يقتل آخر بادعاء النبوّة، وأنه قام بواجبه الشرعي، ويشكل تحديد الصادق من الكاذب، هذا مضافاً إلى أنه لماذا لم يبادر الإمام نفسه إلى رفع أمره إلى الحكومة؟ فإنّ الحكومات تعاقب المرتد ومدّعي النبوّة.
15 ـ الرواية الرابعة عشرة وقد تقدّمت، وضعف سندها ومخالفتها للقرآن الكريم واضحان.
16 ـ الرواية السادسة عشرة وسندها هو سند الرواية الخامسة عشرة والسادسة، وفيها ثلاثة من الضعاف، ودلالتها أضعف من رواية عمرو بن سُمر المتقدّمة، وهي كالآتي: إن أمير المؤمنين× كان يحكم في زنديق إذا شهد عليه رجلان عدلان مرضيان، وشهد له ألف بالبراءة، جازت شهادة الرجلين وأبطل شهادة الألف؛ لأنه دين مكتوم([64]).
وفي هذا المورد لابدّ من إسقاط شهادة الجميع، وسؤال الشخص نفسه إذ لا يمكن الوصول إلى حقيقته ذلك إلاّ من ناحيته.
17 ـ الرواية السابعة عشرة، وسندها هو سند الروايات الخامسة عشرة والسادسة عشرة، وهو سند ضعيف، وفي متنها إشكال، وهو فريد من نوعه: (وبهذا الإسناد قال: قال أمير المؤمنين×: «المرتد تعزل عنه امرأته، ولا تؤكل ذبيحته، ويستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب وإلاّ قتل يوم الرابع»([65]).
لم ترد استتابة المرتد ثلاثة أيام وقتله في اليوم الرابع في أيّة رواية أخرى، فالمرتد إمّا فطري فيقتل من دون استتابة، أو ملّي فيستتاب، وأما كيفية ذلك، وكم مرّة، وكم يوماً؟ هذا ما لم تبيّنه الروايات، إذن نتجاوز هذه الرواية أيضاً.
الهوامش
([16]) هكذا ورد في النصّ، ويبدو أن الصواب هو العقاب الدنيوي، إذ البحث يدور حوله (المترجم).
([18]) أسد الغابة 3: 206؛ الكامل لابن الأثير 1: 616؛ السيرة النبوية: 45، 3، 409؛ أحكام المرتد في الإسلام وحقوق الإنسان: 126.
([19]) الكامل في التاريخ 1: 616، السيرة النبوية 3: 410، أحكام المرتد: 127.
([21]) أحكام المرتد في الإسلام وحقوق الإنسان: 127.
([22]) السيرة النبوية 3: 410، 411.
([24]) شرح ابن أبي الحديد 3: 127.
([26]) المصدر المتقدّم: 150 ـ 151.
([28]) معجم رجال الحديث 22: 19 ـ 31.
([29]) الكافي 6: 257/7 و 258/15.
([30]) معجم رجال الحديث 337 ـ 352.
([31]) المصدر المتقدم 220 إلى 225.
([32]) الكافي 8: 257/7 و8: 258.
([33]) معجم رجال الحديث 15: 220 ـ 225.
([37]) البيقهي، السنن الصغرى 3 : 28؛ سنن النسائي 7: 10 نقلاً عن كتاب أحكام المرتد في الإسلام وحقوق الإنسان: 144.
([39]) السنن الصغرى 3: 281؛ سنن الترمذي 7/10 نقلاً عن كتاب أحكام المرتد في الإسلام وحقوق الإنسان: 144.
([41]) حكم المرتد في الإسلام وحقوق الإنسان: 180؛ رؤية الأصناف: 195، ح رؤية الشوافع.
([46]) معجم رجال الحديث 20: 5114/22.
([48]) المصدر المتقدم 5: 256/7.
([49]) المبسوط 10: 98 نقلاً عن كتاب حكم المرتد: 6.
([51]) المصدر المتقدم 9: 257/7.
([52]) راجع سورة المائدة: 106 ـ 107.
([53]) المغني لابن قدامة 10: 99.
([54]) العسقلاني، الإصابة 3: 55، نقلاً عن كتاب حكم المرتد: 144.
([56]) المصدر المتقدم 11: 257/7.
([60]) المجلة الفقهية، العدد 31 ـ 34، مقال الثابت والمتغيّر لأحمد عابدين.
([62]) المصدر المتقدّم 20: 259/7.