إعداد: مكتبة الروضة الحيدرية، النجف الأشرف
يحتوي هذا البحث على مطلبين:
يبيّن أهمية السعي لطلب العلم في النجف بالنسبة لجبل عامل أثناء هذه الحقبة المقصودة وانعكاسات هذه النظرة على الدراسات الدينية في هذه المنطقة وترسخ هذه الصلات التي تنامت في النجف بين العلماء العامليين والعراقيين.
يهدف اظهار الدور الّذي لعبه علماء جبل عامل في تجديد الدراسات الدينية العليا في النجف منذ سنوات العشرين.
جبل عامل يقع في جنوب لبنان الحالي، وهو عبارة عن منطقة ريفية تتكون من تلال محاذية للبحر المتوسط، وتقطنها أكثرية شيعية إمامية. في بداية الفترة التي ندرسها هنا لم يكن من الغريب أن يفتخر "جبل عامل" بتقاليد طويلة شيّدها في مضمار التدريس والتبحر، ابتدأت في الواقع في القرن الثاني عشر الميلادي وبلغت ذروتها في القرن السابع عشر. هذه المنطقة قدّمت إلى الشيعة الإمامية بعض أكبر العلماء الّذين تركوا بصماتهم على تاريخها مثل: شمس الدين محمّد ابن مكي والملقّب بـ "الشهيد الأول"، ونور الدين الكركي، وزين الدين العاملي الملقّب بـ "الشهيد الثاني"، وبهاء الدين العاملي، والحرّ العاملي. وهناك أيضاً علماء آخرون أقل شهرة خارج جبل عامل لم يتركوا أسماءهم كهؤلاء في سجلّ التاريخ لكنّم ساهموا في تألق مدارس هذه المنطقة.
غير انّ هذا الازدهار في مجال العلوم الدينية بدأ يضمحل مع حدوث الاضطرابات التي هزّت جبل عامل في منتصف القرن الثامن عشر، فلقد تعرّض السكان إلى طغيان "أحمد الجزار" وتجاوزاته (عام 1804م)، هذا الوالي العثماني الّذي استقرّ في عكا، بعد أن قضى على استقلالها وحكم المنطقة حكماً تعسفياً مباشراً. وقد بدأ حكمه بشن حملة ضد العلماء العامليين الّذين أحرق كتبهم، وأدى هذا البطش إلى هرب بعض العلماء واضطهاد الكثيرين منهم، وقد جابهت هذه المنطقة صعوبات في تجاوز هذه الحقبة المأساوية من تاريخها التي غذّت الحوليات التاريخية. وكانت المدارس الدينية في مقدمة ضحايا هذه الهجمة حيث تسببت في انهيارها.
وما أن عاد الهدوء بعد قرن حتّى عادت الحياة العلمية إلى حيويتها وازدهارها بفضل تأثرها وقتئذ بالأفكار النظرية التي أنضجها علماء النجف في رفد نشاطها العلمي و(نهضتها العلمية). في نهاية القرن التاسع عشر، كانت قد ابتدأت في واقع الحال فترة جديدة، فقد استأنف طلبة العلوم الدينية التوجه نحو النجف لاكمال تحصيلهم الدراسي وتكونهم تحت اشراف تلامذة "مرتضى الأنصاري". وعند عودة هؤلاء الطلبة إلى جبل عامل كانوا يشرعون بفتح مدارس لنشر هذه العقيدة.
لقد تابعتُ مسيرة ما يقارب العشرين من مجتهدي جبل عامل، ما بين نهاية القرن التاسع عشر واستقلال الدولة اللبنانية سنة 1943م، ولاحظتُ أنهم جميعاً درسوا في النجف حيث أقاموا من خمس إلى عشرين سنة، حاملين معهم عند عودتهم شهاداتهم المسماة بالاجازة الممنوحة لهم من خيرة أساتذة العالم الشيعي سواء من العرب أو الفرس، أو من الترك، والتي تشهد على سعة معرفة هؤلاء العائدين وامكاناتهم في ممارسة الاجتهاد. غير انّ واحداً فقط من بين هذه المجموعة لم ينل اجازته في الاجتهاد من أساتذة النجف الكبار وهو محمّد علي عزّ الدين (1823 ـ 1884) فيما تمّ الاعتراف به كمجتهد من قبل أستاذ عاملي هو الشيخ عبد اللّه نعمة.
ومن بين العلماء العامليين الدارسين في النجف، بالامكان أن نذكر أولاً: عبد اللّه نعمة (1804 ـ 1886م) الّذي فتح عند عودته مدرسة في "جُبَع" وهي القرية التي كان الشهيد الأول قد بنى فيها مدرسته. ولاشكّ في أنّ "عبد اللّه نعمة" كان يطمح بعمله هذا إحياء تقاليد المعرفة الواسعة العاملية. وقد أشرف على ادارة هذه المدرسة خلال أربعين عاماً. وهذه حالة نادرة في جبل عامل حيث تعيش المدارس وقتاً قصيراً لا يتعدى في الأغلب بضع سنوات، وتُغلق مع موت مؤسسها، كان (النعمة) عامل استقرار للتدريس وسبباً في تجدّد نشاطه. وقد أضحى الشيخ عبد اللّه نعمة الإمام الروحي لشيعة بلاد الشام.
بعده جاء "موسى شرارة" (1851 ـ 1886)، الّذي كان بدوره ذهب عام 1871م إلى النجف للدراسة متابعاً دروسه مع محمّد كاظم الخرساني ومحمّد طه نجف وغيرهما. وقد اختلط مع علماء عراقيين وأقام أواصر متينة وخصوصاً مع السيّد حسن الصدر. ولما كان مصاباً بالسل فقد اضطر إلى ترك المدينة المقدسة إلى جبل عامل. وفتح مدرسة دينية في بنت جُبيل ساهمت في تكوين عدد مهم من العلماء العامليين المشهورين، من بينهم السيّد محسن الأمين، وكان موسى شرارة قد تعرّض أثناء إقامته في النجف لأفكار جديدة، وكنتيجة لذلك فقد قام بتجديد المجالس الشعرية والأدبية مستلهماً هذه التجربة من المجالس والحلقات العراقية. كما كان هذا التأثير وراء تقوية إحياء مجالس عزاء الإمام الشهيد الحسين مستفيداً من كتاب شارك في تأليفه مجموعة خطباء في هذه المجالس من العراقيين كان قد عاد به من المدينة المشرّفة. وهو نفسه الّذي أدخل إلى موطنه عادة شرب الشاي باستعمال (قوريين) وفقاً لتقنية السماور التي كان قد أخذها من أوساط رجال الدين في النجف…ثم انتشرت في جبل عامل. ولعلّ موسى شرارة أراد في كل ذلك الاتيان ببعض الطقوس الخاصة من أجواء المدن المقدسة العراقية، وهو الّذي كان غالباً ما يقول حين يلحظ شيئاً جيداً ومفيداً "هذا سبك العراق"(1). هذا وقد استوحى إلى حد بعيد تجديداته في جبل عامل من الطرق والممارسات النجفية، بما يشبه قليلاً حالة تقليد أبناء المحافظات لما يجري في العاصمة. وقد كان الهدف هنا تنظيم الحياة الدينية العاملية على صورة ما كان يقوم به كبار المجتهدين في المدن المقدسة. في نهاية المطاف فإنّ أهم اسهام لموسى شرارة هو تمكنه من خلق تصوّر شامل للاصلاح الديني، فقد كن ينوي في نفس الوقت تحسين الحياة الأدبية إلى جانب الممارسات الطقسية والتربية الدينية.
أما حسن يوسف مكي (1844 ـ 1906م) فقد تميّز فيما بعد من بين العلماء العامليين. وبعد أن أمضى عشرين عاماً في النجف فتح في النبطية مدرسة ضمت نحو مائتي طالب.
وقد جاء بعده دور علي محمود الأمين (1860 ـ 1906م) الّذي كان هو الآخر قد أقام عشرين عاماً في النجف وبنى مدرسة في سنة 1893م. منذ ذلك العهد وفي مدينة النجف نفسها فانّ علماء عامليين اشتهروا بسعة المعرفة، من بينهم نجيب فضل اللّه (1874 ـ 1917م) الّذي قضى هناك تسع سنوات ودرس فيها.
وفي جيل تلامذة هؤلاء الأساتذة ثمة ثلاثة شخصيات بارزة من جبل عامل حسين مُغنية (1863 ـ 1940م)، ومحسن الأمين (1867 ـ 1952م)، وعبد الحسين شرف الدين (1873 ـ 1957م). ولم يكن حسين مُغنية معروفاً في الخارج مثل الاثنين الآخرين اللّذين لهما مؤلفات عديدة، وحتّى في جنوب لبنان اليوم فانّ قلة قليلة من الناس تعرف وجوده، إذ انّه لم يترك مؤلفات فيما كان بين الحربين العالميتين الرئيس الديني في جبل عامل، وتولى أيضاً رئاسة جمعية العلماء العامليين التي تأسّست عام 1928م.
كان حسين مغنية ومحسن الأمين قد شدّا الرحال سوية إلى النجف في عام 1891م. وما على المرء سوى أن يقرأ سيرة الأمين حتّى يدرك ما كانت تعني رحلة من هذا القبيل لطالب شاب في الدراسات الدينية منحدر من قرية صغيرة من جبل عامل، إذ كان ينبغي الذهاب إلى بيروت والركوب هناك في باخرة تذهب إلى الاسكندرونة، ثم التوجه من هناك إلى مدينة حلب ثم سلك الطريق المحاذي لنهر الفرات جنوباً إلى مدينة الرمادي قبل بلوغ المدن المقدسة. ثمة الكثير من المخاطر كانت تُحيق بالطلبة وعوائلهم بدءاً بالحمّى إلى غارات البدو. وقد مكث حسين مغنية ومحسن الأمين قرابة عشر سنوات في النجف وتتلمذا على يد شيخ الشريعة ومحمّد كاظم الخراساني ومحمّد طه نجف وغيرهم.
أما عبد الحسين شرف الدين فتتلمذ هو الآخر على يد نفس الأساتذة اضافة إلى خاله السيّد اسماعيل الصدر. ونذكّر هنا انّ عائلتي شرف الدين والصدر كانتا مرتبطتين بوشائج متينة للغاية، وكانتا تمثلان فرعين من نفس الاسرة، فكان صالح بن ابراهيم الملقّب بـ (شرف الدين) قد هرب من قريته شُحور في 1785م للتخلص من تجاوزات أحمد باشا ليستقر في النجف. هذه الشخصية تمثل الأصل لعائلة الصدر التي لها فرع في العراق وآخر في ايران. ووالد عبد الحسين شرف الدين، يوسف، تصاهر مع عائلة الصدر من خلال زواجه من بنت الهادي. وظل عبد الحسين شرف الدين قريباً من عائلة الصدر التي تربى فيها.
وهناك أيضاً علماء آخرون تصاهروا مع عوائل عراقية أثناء فترة دراستهم كيوسف شرف الدين الّذي تزوج من امرأة في النجف، وكمثال من بين الأمثلة، فإنّ والد موسى عزّ الدين تزوج امرأة من عائلة محبوبة. وانّ عائلة شرارة كان لها فرع في جبل عامل وأخر في العراق علماً بان زقاقاً في النجف كان يطلق عليه "درب بيت شرارة". وان عائلة ابراهيم كانت تملك بيتاً في ا لنجف لايواء طلبة العلوم الدينية. وثمة علاقات متنوعة تجمع العامليين بالنجفيين، بدءاً بتلك التي يقيمها الطالب مع أستاذه، ثم تلك التي يقيمها الطلبة فيما بينهم. إلى جانب ذلك فانّ ندوات رجال الدين كانت عبارة عن وشائج من التحالف أو التصاهر بين الأفراد والعوائل اضافة إلى الأمور المتعلقة بالتوافق الفكري بين الأشخاص أو الصراعات الشخصية.
في سنوات العشرين عبّر بعض رجال الدين الشبان المنحدرين من زبدة العوائل العلمية العاملية الّذين درسوا في النجف عن مواقف القطيعة مع التقاليد إلى درجة انّ قسماً منهم كهاشم الأمين بن محسن، أو حسين مروة خلعوا العمامة وانتسبوا إلى الحزب الشيوعي بينما حرص القسم الآخر من هؤلاء على بقائهم في المؤسسة الدينية، لقد كانوا منجذبين للأفكار العصرية. وفي عام 1925م أنشأ هؤلاء الشبّان جمعية أطلقوا عليها اسم "الشبيبة العاملية ـ النجفية" تهدف إلى رقي العلوم وتجديد الأدب ومحاربة التقليد الأعمى. وقد ابتعدوا بعض الشيء عن نظام التدريس وشرعوا بنقد مَن درّسهم، والبحث عن قيم ومقاييس أدبية جديدة. وقد كانوا متأثرين للغاية بالمؤلفين المصريين: طه حسين، محمّد حسين هيكل، أحمد أمين، العقاد، وأحمد شوقي بالنسبة للشعر.
في سنة 1928م كان علي الزين وجهاً مهماً في هذه الحركة، وقد اضطّر إلى ترك النجف لأسباب صحية، أما من بين مَن بقوا فنذكر حسين مروّة وهاشم الأمين، ومحمّد شرارة وابن عمه محسن شرارة (1901 ـ 1946م) وهذا الأخير هو الوحيد الّذي احتفظ بعمامته وشغل بدوره مناصب دينية في ضاحيته ومسقط رأسه بنت جُبيل. وقد نشر أعضاء جمعية الشبيبة مقالات وقصائد في الصحف والمجلات العراقية كـ "الهاتف" لجعفر الخليلي، اضافة إلى "العرفان". وكان في هذه الجمعية ثلاثة من الشعراء العراقيين هم: عبد الرزاق محيي الدين وصالح الجعفري آل كاشف الغطاء ومحمّد صالح بحر العلوم.
لقد كان أحد الشبان العامليين وهو محسن شرارة السبب في اثارة فضيحة حين نادى باصلاح الدراسات الدينية في النجف عبر سلسلة من ثلاث مقالات نُشرت في مجلة العرفان خلال صيف 1928م وبعنوان "بين الفوضى والتعليم الصحيح". وقبل القيام بعرض الأفكار التي دافع عنها محسن شرارة في هذه المقالات وردود الأفعال التي تسببتها في الأوساط الدينية، فلنختبر بعض نداءات الاصلاح التي سبقت ذلك.
في بداية القرن، كانت الدوائر الدينية الشيعية منفتحة نوعاً ما ازاء فكر التجديد والّذي كان يلقى تشجيعاً من المرجع محمّد كاظم الخراساني الّذي كان هو نفسه قد سار خطوة واسعة باتجاه تجديد تدريس اصول الفقه في العلوم الحديثة، واقترح أحد طلاّبه وهو أسد اللّه المامقاني في مؤلف نُشر سنة 1910م في اسطنبول، نقل مراكز المعرفة الشيعية إلى مدينة قم المقدسة في ايران، وتجديد نظام التدريس على شاكلة ما قام به محمّد عبده في الأزهر.
في جبل عامل، نشرت مجلة العرفان مقالة بعنوان "نظرة في المدارس الدينية" وموقعة من ص. ن من كربلاء والّذي نعتقد جازمين انّه صدر الدين الصدر (1882 ـ 1953م) الّذي بعد دراسته في سامراء والنجف أقام في كربلاء التي كان يبعث منها مقالاته إلى مجلة العرفان ثمّ ذهب إلى قم للقاء عبد الكريم اليزدي. وقد احتوت هذه المقالة على نقد التقصير في التنظيم وغياب المنهج في التدريس الديني والمطالبة بتقليل نسبة الطلبة وذلك من خلال اختبارات انتقائية عند الدخول وبناء صفوف حسب الفروع. ويعني هذا انّه كان متجهاً باتجاه العقلية وبقرطة المؤسسة التي كانت تحوي بذور مختلف النقاشات التي ستجري فيما بعد.
محسن الأمين هو أيضاً انتقد نظام الدراسات الدينية العليا منادياً بالتجديد في سلسلة من الملاحظات التي جمعها تحت عنوان "اصلاح المدارس" والتي أدخلها ضمن المجلد الأول من مؤلفه "معادن الجواهر" الصادر في 1929م، وانّ هذه الملاحظات كان قد كتبها، دون أدنى شك، قبل ذلك بمدة. ويتناول خلال تدريس اصول الفقه الّذي يعتبره متطوراً بافراط ـ علماً بانّ محمّد كاظم الخراساني قد ساهم في تحسينه ـ أو على العكس في غاية الاهمال، (وهذا ما يذكره الأمين في كتابه أخباري) موضحاً بأن مستوى الطلاّب غير كاف في العربية ويلقي باللائمة على المناهج والكتب المدرسية التي يجب حسب رأيه أن تُستبدل بكتب أكثر تلاؤماً في كل اختصاص، وبالتالي لوضع حد للفوضى فإنّه يؤكد على وضع جملة قواعد لادارة وتثبيت نظام التدريس. وقد أعاد محسن الأمين طرح هذه الأفكار في كتابه عن حياته صدر سنة 1952م قبيل رحيله.
ولم تحصل أصداء حول انتقادات واقتراحات محسن الأمين إبان صدور كتابه، مع العلم انه كان مدار الحديث حين عرض اصلاح تقاليد احياء مناسبات المحرّم. بالمقابل فانّ أوساط المؤسسة الدينية النجفية كانت معبأة ضد محسن شرارة بسبب فحوى المقالات المنشورة في العرفان، وكان عمره حينئذ سبعة وعشرين عاماً، وكانت داره ملتقى الكثير من الأدباء والعلماء الطليعيين وهم يحيون نقاشاتهم فيه. وكان قد خلق لنفسه خصوماً في الأوساط المحافظة بتعلمه للانگليزية والرياضيات بموازاة تحصيله في العلوم الدينية.
ويُجري محسن شرارة في المقالة الأولى مقارنة بين مؤسستي الأزهر والنجف مبيناً كيف تم اصلاح الأزهر بفضل نشاط محمّد عبده حتّى صار مثلاً يتحذى به. والمقالة الثانية تصف وضعية النجف من ناحية الظروف المناخية والصحية السيئة من جهة والحياة الدينية والثقافية فيها من جهة أخرى. بالتأكيد ضمّت النجف ـ ومازالت ـ تضم مفكرين كبار مثل علي الشرقي، ومحمّد رضا الشبيبي الّذين تبنوا تفكير الاصلاح غير انهم يظلّون قلائل، والأكثرية لا تجرؤ على تغيير أي شيء خشية أن تتهم (بالعصرية) وحتّى أحياناً (بالكفر). كما ويتناول الكاتب طريقة عمل المدارس الدينية ويلقي باللوم على سوء الادارة العامة والادارة المالية وانعدام التنظيم الكافي. واضافة إلى ذلك، فإنه يأسف لترك "العلوم المساعدة" التي كانت تدرس فيما مضى كعلم الفلك، والطب والجغرافية الخ…. وازدراء العلوم الحديثة مثل علم الاجتماع وعلم النفس، ودراسة الأديان المقارنة، واللغات الاجنبية. والمقالة الثالثة تتعلق بطرق التعليم فيعتبر محسن شرارة انّ كلاً من الأساليب وكتب التدريس المستعملة قد أمست بالية، فيما هناك بعض الطلبة الّذين يباشرون بالتدريس وهم ليسوا بالمستوى المطلوب لذلك. والأساتذة يضيّعون على الطلاّب وقتهم، وبالذات في مادة الفقه والأصول عبر موضوعات عديمة الجدوى، بينما اللغة العربية مهملة. وأخيراً فانّ الكاتب يطالب بتنظيم الحصص والدروس واجراء الامتحانات قبل أن يختم المقالة بملاحظة باعثة للأمل، فهو يتكلم عن مدرستين من شأنهما أن تشكلا نموذجاً للاصلاح: أولاهما تلك التي أسسها في قم عبد الكريم اليزدي والثانية مدرسة الواعظين التي فتحت أبوابها سنة 1919م في لكناو في الهند. وفي النجف يعلن محسن شرارة عن مشروع جامعة تدار وفقاً للقواعد الحديثة. وهو في ذلك يشير دون شك إلى جمعية "منتدى النشر".
ان توجيه النقد للدوائر الدينية في النجف ولوم المراجع العليا والتشكيك بالتعليم الجاري فيها وتوجيه نقد دقيق حول مناهج ومضامين التدريس وبالتالي المناداة بصياغة جديدة للنظام ومجيء محمّد عبده شيعي، كل ذلك كان تجاوزاً للحدود بنظر هذه الدوائر، واعتبر المحافظون هذا الأمر بمثابة هجوم على قدسية النجف وعلمائها، اضافة إلى تشكيله تثبيطاً لزيادة الزوار وبالتالي نضوب المورد الأساسي للتجار الممولين للدوائر الدينية.
وأثارت مقالة محسن شرارة ضجة انقسمت إثرها إثرها الدوائر الدينية إلى معسكرين، فالبعض اعتبر رجل الدين الشاب هذا شنيعاً ويتوجب تحطيمه، والبعض الآخر اعتبره نموذجاً للشجاعة الفكرية ومثالاً يتحذى به.
وقد أدى غضب بعض العلماء إلى تكفيرهم محسن شرارة واستباحة دمه، حيث جرت محاولة قتله، ولكنه كان مختفياً. ومع ذلك فإنّ هذه الضجة زادت من شهرته وشعبيته في الدوائر الإصلاحية التي كانت تمتدحه على شجاعته، فيما صار يجذب المزيد من رجال الدين الشباب الذين شاركوه وجهة نظره.
وعلى الرغم من ذلك فقد توجب انتظار بداية سنوات الثلاثين حتّى يتحقّق فعلاً النقاش وأن تفرض ارادة الاصلاح نفسها. وظهرت مقالات في مجلة الهاتف موقعة من صاحبها جعفر الخليلي أو من حسين مروة، أو محمّد شرارة، أو محمّد حسن الصوري، وغيرهم. وفي عام 1937م نادى علي الزين بدوره بالاصلاح في النجف والّذي كان في اعتقاده سيفضي إلى انهاء الفوضى في الدراسة سواء من ناحية المدارس وكتب التدريس أو من ناحية الأساتذة والطلبة والاجتهاد والتقليد. فكان من الضروري لتحقيق كل ذلك اعادة تنظيم المدارس باسلوب منهجي وصياغة جديدة للبرامج وكتب التدريس والتعاون مع الأزهر بهدف تحقيق الانسجام بين المؤسستين.
وكان محسن شرارة في طليعة حركة اتسعت وبدأت خصوصاً تعطي ثمارها فلم يعد المطلوب الاكتفاء بمطالبة التجديد بل السعي من أجل العمل به. وهكذا فانّ منتدى النشر الّذي أسّسه في عام 1935م محمّد رضا المظفر (المتوفى في 1963م) قام بفتح مدرسة في 1939م. وكان هدفه هو خلق بديل بين نظام المدرسة الدينية التقليدية والمدرسة الحكومية من خلال جمع اختصاصات المدرستين ـ وتمتع المبادرون بهذا المشروع، وكذلك الادباء ورجال الدين العرب العراقيون المسنودون من العامليين ـ بدعم مجتهدين كبيرين وهما أبو الحسن الاصفهاني ومحمّد حسين آل كاشف الغطاء. هذا بالاضافة إلى انّ منتدى النشر قام بطبع كتب تدريس جديدة، وأخذ على عاتقه اصدار مؤلفات قديمة بهدف انعاش التراث وجعله في متناول اليد. وبعد عدة محاولات ن كتلك التي قام بها محمّد حسين آل كاشف الغطاء أو عزّ الدين الجزائري فيما بعد، أنشأ المنتدى كلية فقه في 1958م. وهنا مرة أخرى نرى علماء من جبل عامل أمثال محمّد مهدي وجعفر شمس الدين يلتحقون بالعراقيين من اجل انجاز المشروع.