عندما يصبح إعجاز القرآن مصدراً للكسب
الكاتب: للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي
أستاذ بجامعة دمشق
ليس في الناس الذين عرفوا القرآن، فقرؤوه أو قرؤوا شيئاً منه، من لا يعلم أنه معجز، وليس فيهم من يجهل أن لإعجازه وجوهاً كثيرة، وأن إخباره ببعض الحقائق العلمية الثابتة التي لم تكن معروفة للناس من قبل، واحد من هذه الوجوه. وذلك مثل إخباره بأن ضياء الشمس منبثق من ذاتها، وأن نور القمر منعكس إليه من غيره، في مثل قوله تعالى: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً)[يونس:5]. إذ المضيء في اللغة هو الشيء الذي ينبثق الضياء من داخله، والمنير هو الذي يتجه إليه الضياء من جرم آخر، فأنت تقول – فيما تقرره اللغة – غرفة منيرة ولا تقول غرفة مضيئة.
ولكن الشيء الذي لا يقبله عقل العقلاء أياً كانوا، مؤمنين أو جاحدين، أن يعمد أحدنا إلى آية من القرآن فيفرغها من دلالتها الظاهرة التي تنزلت بها، ثم يجعلها وعاء (قبلت اللغة العربية أم لم تقبل) لظنون علمية ربما ظهر فيما بعدُ بطلانها!..
لقد غدت هذه الطريقة في إثبات الإعجاز العلمي للقرآن ذائعة شائعة، يتسابق إليها ذوو الأحلام التوسعية المتنوعة، وأُنشِئت لهؤلاء المتسابقين مؤسَّساتٌ، ورُسِمت لها ميزانيات، ورُتب لها مديرون وإدارات، وأحيط ذلك كلُّه بهالة من الدعايات.
فهل دعت هذه الطريقةُ الناس التائهين عن القرآن إلى الالتفات إليه والإقبال عليه؟.. أم هل أورثت المجادلين بشأنه، المستخفّين بحقائقه انعطافاً إليه وإيماناً بربانيته ويقينياً بالوجوه الإعجازية (العلمية) التي تتوازع المتسابقين إدعاءآتُ السبقِ والاكتشافِ لها؟..
إنني على علم بأن هذه الطريقة لم تزد التائهين عنه إلا تيهاً وإعراضاً، ولم تزد المرتابين فيه إلا شكاً، بل إنها لم تنقلهم من الشك فيه إلا إلى الجحود به. بل إني لأخشى أن أقول: إن في المقبلين إلى كتاب الله هذا، والمستأنسين بخطابه وتعاليمه، من زجّتهم هذه الطريقة (الاحترافية)، إذ وثقوا بها فتابعوها، في حالة من الارتياب فيما كانوا مؤمنين به، وفي الإعراض عما كانوا مقبلين إليه!..
ماذا تتوقع من حال إنسان له حظٌّ، قلَّ أو كثر، من الثقافة العامة والمحاكمة العقلانية للأمور، يسمع أو يقرأ ما يقوله أحد هؤلاء المسرعين إلى الفوز بالأسبقية، في اكتشاف المزيد من مظاهر (الإعجاز العلمي) في القرآن، عن إعجاز علمي باهر جديد اكتشفه في سورة يوسف، في قوله تعالى على لسان يوسف: (اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً)[يوسف: 93]. إنه الإعجاز الذي يقرره العلم متمثلاً في الأثر الذي يتركه العَرَقُ المتصبّب من جسم الإنسان، في العين التي غاض عنها نورها فأصيبت بنوع من العمى، ونظراً إلى أن القرآن قد سبق علم العلماء بذلك، وقرر ذلك في هذا الذي قاله يوسف لإخوته، إذن فهو مظهر فريد من مظاهر الإعجاز العلمي في القرآن، إذ إن القميص ليس هو الذي أعاد الرؤية إلى عيني يعقوب، عندما ألقي على وجهه، وإنما هو العرق الذي كان قد تشربه القميص من جسم يوسف!..
إن الإنسان الذي سمع أو قرأ هذا الكلام لا بدّ أن يتساءل: في أي موسوعة علمية أو على لسان أي طبيب أو باحث علمي أو فيما يقرره أي عطار يتعامل مع فنون العطارة ومزايا الأعشاب، ثبت أن عرق الإنسان يحمل هذه الفائدة النموذجية المتميزة للعين العمياء؟.. إنك مهما بحثت، لن تجد ما يؤيد هذه الأكذوبة الصلعاء.. ثم هب أن العرق له هذا التأثير السحري العجيب، فأي أثر منه يبقى على الثوب بعد اجتياز المسافات الطويلة بين مصر والبادية التي كان يقيم فيها يعقوب عليه الصلاة والسلام؟ على أن هذا الوهم الذي نسجه خيال أحد المتسابقين في هذا المضمار، إن افترضنا جَدَلاً صحته، فإنما هو عندئذ إعجاز ليوسف عليه الصلاة والسلام وليس إعجازاً للقرآن.
وقرأت لأحدهم كشفاً عظيماً، يُبرز فيما يزعم أنه الإعجاز الباهر في قوله تعالى: (اقتربت الساعة وانشق القمر)[القمر:1]، وأتى مؤيداً على قوله، بصُوَرٍ التُقِطت لجوانب من القمر، إبَّان رحلة بعض العلماء إليه، تُبرز شقوقاً على وجهه، مؤكداً أن أحد هذه الشقوق هو مصداق قوله تعالى: (اقتربت الساعة وانشق القمر)، إنك لا تدري أيُّ تلك الشقوق هو المعنيُّ بخبر الله عن انشقاق القمر، وما الدليل على أنه هو لا غيره المعنيّ بذلك. ثم إن الإنشقاق الذي تم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم القمر، فيما رآه الناس، بنصفين، ثم عادا فالتأما.
فما وجه الشبه بين ذلك الانشطار الكلي الذي تم آنذاك، وواقع شقوق ذات أعماق محدودة رُئيت كظاهرة مستمرة على وجه القمر؟ وكيف يمكن لإنسان العلم والبحث عن الحقيقة في العصر الحديث أن يصدق أن ما رُئي على وجه القمر من شقوق كالتي ترى في أماكن على وجه الأرض، هو المعنيّ بالانشقاق الذي أعلن عنه بيان الله في القرآن، معجزةً دالة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء الناس به من عند الله؟
ألا ترى أن هؤلاء المتسابقين يزرعون بتخبطاتهم المتكلفة الشكوك والريب في صدور البسطاء المؤمنين من الناس بأن القرآن كلام الله، من حيث يوهمون أنهم يزيدون المؤمنين بكتاب الله إيماناً. وأنهم يزيدون المرتابين بذلك ريبة ويزيدونهم اطمئناناًُ إلى كفرهم وضلالهم، بدلاً من أن يصعدوا بهم من اضطراب الرأي إلى صعيد الإيمان واليقين؟
وأغرب من هذا وذاك أن متسابقاً آخر يصر على أن الحديد إنما أُهبط، كالمطر والبَرَد من السماء، ولم يُستخرج فلذات ومناجم من الأرض. وأن هذه الحقيقة أنبأ عنها القرآن في قوله تعالى: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس)[الحديث: 25] وأن العلم الحديث أيقن اليوم ذلك، فهو إذن من مظاهر الإعجاز العملي في القرآن.
فمن أين سرت هذه اللُّوثة إلى ذهن هذا الباحث الذي تغلبت لديه حوافز المسابقة في هذا المضمار على حوافز البحث في معنى كلمة (النزول) لغة؟ إنها سرت إليه من العجلة التي أفقدته فرصة البحث في معنى النزول ثم أفقدته فرصة الإصغاء إلى ما يقوله علماء الجيولوجيا وعلماء الطبيعة عموماً عن الحديد ومصدر تكوينه.
إن كلمة النزول تعني في أصلها اللغوي (الحلول). تقول نزلت ضيفاً عند فلان أي حللت في داره. ويقول الله تعالى: (هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين)[الفتح: 4]. أي أحلَّها في قلوبهم. ويقول عز وجل: (لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك)[هود: 12] أي هلّا حلّ لديه وفي ملكه كنز .. ومثله قوله تعالى: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً يواري سوأتكم وريشاً)[الأعراف 26].
وإنما تأتي بمعنى الهبوط من علُ، عند وجود قرينة دالة على ذلك. كقوله تعالى: (نزل به الروح الأمين على قلبك..)[الشعراء: 193]. وكقوله: (هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقاً)[غافر: 13].
إذن فمعنى قوله تعالى: (وأنزلنا الحديد) أحللناه في الأرض ويسّرنا لكم استخراجه.
إن الذي غيّب هذه الحقيقة اللغوية المبثوثة في القواميس العربية، عن ذهن هذا الذي يركض منافساً أقرانه في اكتشاف المزيد من (الإعجاز العلمي) في القرآن، أنه فهم كلمة (النزول) كما يفهمها عوام الناس الذين يتعاملون مع ظواهر اللغة، فألجأه ذلك إلى أن يستنطق علماء هذا الشأن بما يتفق مع الفهم الذي عاد به لكلمة (أنزلنا) في الآية المذكورة، وهو أن الحديد إنما نزل قطراتٍ متفرقةً من السماء، ولم يُستخرج فلذات ومناجم وعروقاً من باطن الأرض.
فهل استجاب علماء هذا الشأن لهذا الاستجرار الذي جاء نتيجة لجهل باللغة وتصور باطل لمعنى النزول؟
لم أجد في علماء طبقات الأرض، ولا الخبراء بالمعادن، ولا علماء الطبيعة عموماً من قال: إن الحديد، دون غيره من المعادن المستقرة في طوايا الأرض، هابط، منفصلاً عن تماسكه وثقله، من أجواء السماء، ثم إنه اتخذ مكانه منتشراً في أعماق الأرض، وإن إنطاقهم بما لم ينطقوا به ولا يؤمنون به، أمر غريب وعجيب!..
ألا فليتق الله أناس جرهم الطمع إلى أن يتخذوا من القرآن مِنجَماً لاستخراج كنوز المال. فمنهم من طاب له أن يستخرجها عن طريق التفنن في طباعته وإخراجه، ومنهم من فكر ملياً ثم رأى أن يستخرج المزيد منها عن طريق ابتداع إشارات لأحكام التجويد في ثنايا جمله وكلماته .. ومنهم من سلك إلى الغاية ذاتها ما ابتدعه من تلوين المعاني المتنوعة فيه بألوان متنوعة فاستخرج من ذلك قرآناً فيه سائر ألوان الطيف مع ضميمة أخرى.. ومنهم من آثر الوصول إلى المبتغى ذاته عن طريق الفتق والتشقيق لآيات القرآن لتحميلها ما لا تحمله من دعاوي السبق العلمي الوهمي، والكل مرتزق محترف .. على أننا لا نرتاب في أن القرآن معجز بهر الناس قديماً وحديثاً بإعجازه، ولإعجازه جوانب شتى، وما قراراته العملية المعلنة بنصوص عربية قاطعة الدلالة، إلا واحدٌ منها