إنَّ في رحاب الاجتهاد أُفقاً لم يُستوفَ على تمامه، ولا استُجلي بكماله؛ فثمّة طاقاتٌ ما تزالُ على شاطئ الإمكان، لم تُحصَد حصاداً تامّاً، ولم تُقطَف قِطافاً كاملاً.
وحقٌّ علينا أن نُدرك أنّنا بإزاء نصوص الإسلام الأولى ومصادر التشريع العظمى ذوو فُسحةٍ زمنيةٍ وبُعْدٍ تاريخيٍّ يَحول دون الاتّصال المباشر والفهم العفويّ.
فما الدواء؟ إنّما الدواءُ في أن نُضيف إلى النصوص، مُطالعةَ السُّلوكيات الجَمعيّة في تلك العصور؛ فإنّها مرآةٌ قد تنعكسُ فيها أشعّةُ الشريعة، وتَجلو لنا أنوارَها المكنونة.
وهاهُنا تُصبِحُ المقاربة السوسيولوجيّة أمراً لا غِنى عنه؛ إذ السلوك الاجتماعي تارةً تجلٍّ لحكمٍ شرعيّ، وتارةً صدىً لذهنيّاتٍ غائرة، ولسلسلةٍ من المعايير، ولشبكةٍ من العلاقات التي نَسَجها المجتمع في سياقه التاريخيّ.
ومن بين هذه السلوكيّات، تلوحُ السِّيرة المتشرِّعَة بمقامٍ رفيعٍ ومَرتبةٍ مُمتازة. فلو عُدنا إلى تحليلها وصقلها، لأطلَّت علينا من خلالها منافذُ جديدة، ومفاتيح نافعة، ومخارج كاشفة لِعُقَدِ الاستنباط؛ إذ السِّيرةُ ليست دوماً شاهدةً على العادات، بل ناقلةٌ لإشارات الشريعة وإيماءاتها، إشاراتٌ إن حسن تحليلُها، غدت جسراً بين النصّ الصريح والواقع المَعيش في تلك الحقبة.
ولأجل ذلك، فإنّ البحث الاجتهاديّ في السيرة المتشرِّعة يفتقر إلى بُعدٍ اجتماعيٍّ مُؤسِّس؛ فإنّ فهمها بغير سياقها التاريخيّ والثقافيّ والاجتماعيّ فهمٌ مُبتور، قد يُضلّ ويُحرّف عن المقصود.
وإنْ كانت السيرة المتشرِّعة، بما فيها من فروعٍ وتشعّبات، من أعمدة علم الأصول ومباحثه العميقة، ورجاؤُنا أن تُكتَب فيها
مصنَّفاتٌ وافية، وتُساق حولها بحوثٌ كافية؛ فإنّ هذا المقال إنّما يُسَلِّطُ النظرَ على زاويةٍ مخصوصة:
ألا وهي فقدان السيرة ودَور هذا الفقدان في عمليّة الاستنباط.
ولعلَّ قائلاً يقول: إنّ وجود السيرة أمرٌ بيّن، إذ بين أيدينا نهجٌ ملموس وسلوكٌ محسوس، غير أنّ موضع السؤال والبحث هو: كيف يكون غيابُها أداةً في الاستدلال، ورمزاً في الكشف والاجتهاد؟
فالسؤال هو ما معنى عدم السيرة؟ وكيف يكون للعدم حظٌّ في الدلالة، أو للغائب نصيبٌ في الاستناد؟ أليس المعدومُ لا يُتعلَّق به، ولا يُحتجّ بفراغه؟
فهاهُنا يلوحُ ميدان بحثنا، وتنكشف غايته وثمرته:
تحديدُ معنى فقدان السِّيرة المتشرِّعة الصالحة للاعتماد في الاستنباط، وبيانُ دورِها في مسار الكشف عن الحكم الشرعي وإماطة اللثام عن مراد الشريعة.
تعريف السيرة غير الموجودة ذات القابليّة الاستنباطيّة
المقصود بها ليس السيرة بما هي موضوعٌ مستقلّ، بل ما يلحَظ من غيابها في ظرفٍ مخصوص. وذلك حين يكون هناك مجالٌ اجتماعيّ متكرِّر، تتوفّر فيه جميع دواعي انعكاس الحكم الشرعيّ في سلوك المتشرِّعة لو كان الحكم ثابتاً من قِبَل الشارع.
فإذا تخلّى التاريخ والواقع عن أيّ أثرٍ لتلك السيرة، ولم نجد لها تحقّقاً في حياة المتديّنين، كان هذا «العدم» هو محلَّ العناية، وهو الذي يقوم مقام القرينة، ليشهد بأنّ الحكم لم يصدر من الشريعة، وأنّ ما فُرض له وجود، لا أصل له في ميزان التشريع.
توضيح التعريف
إذا تردّد الأمر بين فرضين متقابلين، وحار النظر في أيّهما هو حكم الشارع، وكان أحدهما بطبيعته بحيث لو شُرِّع لانسكب أثرُه في السلوك العامّ، وتبدى في صورة سيرةٍ عمليّةٍ واضحة، ثم لم نجد لذلك أثراً في واقع المتشرّعة، كان هذا الغيابُ بذاته شاهداً على العدم، ودليلاً على سقوط ذلك الفرض، وقرينةً على صحّة الفرض الآخر. فيغدو السكوتُ بياناً، والفقدانُ برهاناً، والحجّةُ ناطقةً من صمت التاريخ.
فلسفة ودلالة فقدان السيرة
في ميدان الفكر، كثيراً ما يكون العدمُ أبلغَ من الوجود، والفراغُ أصرحَ من النقش، والصمتُ أفصحَ من النطق. فليس كلُّ حضورٍ حجّة، ولا كلُّ وجودٍ دلالة؛ بل أحياناً يكون الغيابُ أصدقَ شهادة، والفراغُ أرسخَ برهاناً. ومن هذا الباب كان فقدان السيرة دليلاً قاطعاً، إذ لو كان الحكم مشروعاً لكان له صدىً في الواقع، وصورةٌ في المجتمع، وظلٌّ على السلوك. فإذا لم يظهر أثرُه، علمنا أن لا أصل له. فالعقل ببداهته يقول: لو كان هناك نورٌ لكان له انعكاس، فإذا لم نرَ انعكاساً، فالأنوار معدومة. هكذا تتحوّل الغيبةُ حجّةً بليغة، ويغدو الفقدانُ برهاناً صريحاً في منطق الاستنباط.
نماذج تطبيقيّة
1ـ عدم وجود سيرة بين أتباع أهل البيت (ع) على الانفصال عن الجماعة الإسلاميّة
بهذا الدليل يُثبت شرعيّة الوحدة الإسلاميّة؛ إذ لو كان أئمّة الهدى قد أمروا شيعتَهم بالانعزال الاجتماعيّ وبناء الأسوار بينهم وبين سائر المسلمين، لكان لهذا الأمر أثرٌ ظاهرٌ في الحياة اليوميّة، ولسجّل التاريخُ سيرةً ناطقةً بالانفصال.
لكنّ الواقع أنّ الشيعة عاشوا في متن المجتمع الإسلامي، وشاركوا الآخرين في الحياة العامّة، فكان غيابُ سيرة العزلة شاهداً على أنّ الحكم هو الانسجام لا الانفصال، والالتحام لا الانفصام.
2ـ عدم وجود سيرة على نجاسة أهل الكتاب
وقد استدلّ بهذا الشهيدُ محمد باقر الصدر(رض)، إذ قرّر أنّه لو كان أهل الكتاب أنجاساً، لظهر أثرُ ذلك في العلاقات الكثيرة والمتواصلة معهم، ولاشتهرت سيرةٌ عمليّة على الاجتناب والمباعدة. فلمّا لم يُرَ مثل ذلك، كان هذا الغيابُ برهاناً على بطلان القول بالنجاسة، وثبوت القول بالطهارة.
3ـ عدم وجود سيرة على استعمال الحِيَل الشرعيّة
فما يُعرف بـ “الحِيَل الشرعيّة” لو كانت مشروعةً عند الشريعة، لبرزت سيرةٌ متشرعة واضحةٌ عليها، لأنّها تتعلّق بموضوعات متداولة في الحياة اليوميّة، لا بما هو نادرٌ أو استثنائي. فلمّا لم نرَ أثراً لها في سلوك المتشرّعة آنذاك ، كان غيابها دليلاً على بطلانها، وقرينةً على أنّ الشريعة لم تُقِرّها.
فإذن، إنَّ غيابَ مثل هذه السِّيرة في سلوك المتشرِّعة دلالةٌ واضحة، وإشارةٌ صريحة، على أنّ نظرة الشريعة إلى هذه الحِيَل ليست نظرةَ إذن ولا ترخيصٍ، ولا موقفَ إقرارٍ ولا تجويز؛ إذ لو كان الأمر على خلاف ذلك، لكان المجتمع قد تَلقّاها بالقبول، وتعامل معها بالاعتياد، ثم تَشكّلت منها سيرةٌ راسخة، ونهجٌ مستقرّ، ومسلكٌ متداول.
لكنّ التاريخ خالٍ من هذا الأثر، والواقع بريءٌ من تلك العلامة؛ فدلّ الفراغُ على الامتناع، وأشهد العدمُ على البطلان، ليُفصح الصمتُ أنَّ الشرع منزَّه عن تقنين ما يُسمّى بالحِيَل، وأنّ ما لا سيرة عليه لا حُجّة فيه، وما لم يرسُخ في فعل المتشرّعة لا يُمكن أن يُنسَب إلى شريعة الله الحكيمة.