جولة استعراضية في كتاب «فقه الإمام علي×»
الشيخ صفاء الدين الخزرجي(*)
مقدمة
يقع الجزء الأوّل من كتاب «فقه الإمام علي×» في (476) صفحة، وهو من تأليف الشيخ خالد الغفوري، وتصدّى لطباعته مركز الدراسات العلمية التابع للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وقد حاز على المرتبة الأولى في مهرجان الشيخ الطوسي لعام 2008م، مضافاً إلى فوزه في مهرجان نهج البلاغة عام 2010م. وقد اختصّ ببحث الإرث. وهو يُمثّل باكورة مشروع تدويني كبير لدراسة فقه أئمّة أهل البيت^ ـ وفي مقدّمتهم الإمام علي× ـ في مختلف الأبواب ضمن عدّة أجزاء.
أهمية هذا الكتاب وأبعاده
تمثل هذه الدراسة محاولة جادّة للإفادة من المصادر التراثية الأولى، قدّم فيها الكاتب أنموذجاً مفصّلاً لكيفية التعامل معها بموضوعية، بعيداً عن الميول القبلية.
وعلى الرغم من أنّ تراثنا الاسلامي بشكل عامّ ـــ والفقهي خاصة ـــ يحفل طوال قرون بإنجازات كثيرة ومتنوّعة، إلا أنّه تبقى للمصادر الأولى قيمتها الفذّة؛ لما لها من دور مؤثّر على حركة الفقه ومساره.
ولقد ترك لنا السابقون من سلفنا الصالح كنوزاً من المعارف والعلوم الشرعية، ويأتي في مقدّمة ذلك ما خلّفه لنا الأئمّة من أهل البيت^ عموماً، والإمام علي× خصوصاً، من تراث فقهي ثرّ، سواء على صعيد الكمّ والسعة أم على صعيد الكيف، ولكن هذا التراث ظلّ قابعاً في قالبه التراثي والتقليدي الذي لم يطَّلع عليه إلاّ المتخصّص الخاص، ممّا أدّى إلى انحسار تأثيره ومحدوديته.
ولا ريب في أنّ أحد أهم المصادر التراثية التراث المأثور عن الإمام علي بن أبي طالب×؛ لما كان يتمتّع به من موقع علمي ممتاز فاق فيه سائر الصحابة، ولما له من مكانة رسالية مرموقة تفرّد بها.
بيد أنّه لم يحظَ تراث الإمام علي× في الدراسات الفقهية التحليلية باهتمام يتناسب معه من قبل الباحثين بصورة عامة، والفقهاء بصورة خاصة، ولم يركز عليه في البحوث الاجتهادية بالمستوى اللائق به من قِبل علماء المذاهب الإسلامية المختلفة.
ومن أجل تيسير الوصول إلى هذا الفقه، وجعله بين يدي الباحث، مهما كان مشربه ومذهبه ومستواه العلمي، كان ينبغي القيام بمحاولة لعرض هذا التراث في قالب فنّي معاصر سهل وجذّاب، ألا وهو الأسلوب المنهجي الحديث.
محاولة اكتشاف المنهج الفقهي للإمام علي×
يتجلّى للقارئ من عنوان هذا الكتاب أنّ موضوعه ومحوره هو بحث ما ورد في تراث الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب× الفقهي من نصوصٍ ونقولٍ في خصوص دائرة أحكام الارث؛ من أجل تقديم منظومة وافية تعكس مواقف الإمام علي× الفقهية في باب الارث؛ فإنّ أحكام الإرث من الأمور التي اختلفت فيها الرؤى والأنظار منذ الصدر الإسلامي الأول.
ومن هنا لم يكن مناصٌ من الخوض في البحث التفصيلي في المسائل المهمّة التي تقاطعت فيها الآراء، نظير: مسألة العول، والتعصيب، والردّ، وإرث أولي الأرحام، وسهم الجدّ والجدّة.
وهذا ما يثبت لنا حقيقة علمية في منتهي الأهمية، ألا وهي أنّ الإمام علياً× كان يمتلك رؤية متينة ومتكاملة ومنسجمة ومبتنية على منهج خاصّ، وهو المنهج النصوصي اليقيني، ولم يكن يعتمد الطرق الظنّية للوصول إلى الأحكام، مضافاً إلى ما كان يتفرّد به× من نظريات في بعض المسائل، كمسألة توريث الخنثى، وتوريث مَن لا يُعرف اتحاده أو تعدّده من الورّاث، كمَنْ كان له رأسان على حقو واحد.
إذاً فهذه الدراسة استهدفت بيان الآراء والمنهج الفقهي الذي كان ينتهجه الإمام علي×.
كيفية العرض وتبويب البحوث
على الرغم من عدم طراوة أبحاث الإرث ومسائله إلا أنّ الكاتب كان موفّقاً في كيفية عرضها وتبويبها تبويباً فنّياً منظّماً. وهذا العرض المنهجيّ للنصوص المروية عن الإمام علي× في باب الإرث قد شمل المحاور الرئيسة، وكذا البحوث الفرعية:
أـ أمّا المحاور الرئيسة فقد اتَّسقت ضمن هيكلية محكمة جديدة تتفاوت مع النسق التقليدي المتعارف، الذي جرت عليه المصنّفات الحديثية والمدوّنات الفقهية، وإنْ كانت بالضرورة لا تتقاطع معها روحاً ولبّاً. وقد ترتّبت كما يلي:
الفصل الأول الذي حمل عنوان: (بحوث تمهيدية)، التي توفّرت على عرض تصورات مقدّمية أوّلية للورود في المحاور المركزية في هذه الدراسة، نظير: بيان المراد بالفروض، ومقاديرها، ومَنْ هم أصحاب الفروض. وأيضاً تسليط الضوء على ما يُعرف بكتاب الإمام علي×، وصحيفة الفرائض، وبيان خصائص الصحيفة، وبيان اتّحاد الكتاب والصحيفة.
وأمّا الفصل الثاني فقد حمل عنواناً جديداً وهو: (أركان الإرث وشروطه). وشروط الإرث ثلاثة، هي: الموروث (التركة)، والمورّث [الميت]، والوارث.
وقد تعرّض الكاتب لدراسة دائرة التركة وما يدخل فيها، وبحث بشكل مسهب ومفصّل شروط كلٍّ من المورّث والوارث، وكذلك طرح التطبيقات المتعلّقة بهذه الشروط حسب ما توفّر من نصوص ونقول عن الإمام علي بن أبي طالب×.
وأمّا الفصل الثالث فقد حمل عنوان: (طبقات الإرث النسبية)، وهو ليس عنواناً غريباً عن العرف الفقهي والروائي؛ حيث بحثنا فيه: الطبقة الأولى، التي تشتمل على صنفين، وهما: الأبوان؛ والأولاد؛ والطبقة الثانية، وتشتمل على صنفين: الإخوة؛ والأجداد؛ والطبقة الثالثة، وهي: الأعمام؛ والأخوال.
وأمّا الفصل الرابع فقد حمل عنواناً جديداً وهو: (قسمة الإرث)، وأدرج فيه المؤلّف خمسة بحوث: النسبة بين التركة والسهام، وبيّن صور هذه النسبة؛ الردّ وحالاته وتحليل الضابطة فيه؛ التعصيب؛ العول وتحليل الموقف في عدم العول؛ أحكام القسمة.
ب ـ وأمّا البحوث الفرعية فهي الأخرى قد انتظمت بدورها وفق تسلسل طريف، نظير: بحث شروط الوارث، حيث فصّلناها كالتالي:
الشرط الأول: الحياة.
الشرط الثاني: تحقّق موجب الإرث.
الشرط الثالث: انتفاء المانع.
الشرط الرابع: عدم الحاجب.
الشرط الخامس: تعيين الوارث.
وسعى الكاتب أن يضع كلّ فرع في مكانه المناسب، ولم يرتضِ حالة التناثر والتبعثر للأحكام، أساسية كانت أم فرعية، ولم يختَرْ أسلوب السرد وطريقة الاسترسال في بيان النصوص والإلحاقات. ومن الواضح أنّ طريقة العرض ومنهاجيته لهما بالغ الأثر في تجلية القيمة العلمية للتراث النصوصي الفقهي.
وبذلك يكون الكاتب قد قدّم نموذجاً مقترحاً لكيفية عرض التراث الفقهي للإمام علي× يمكن أن يعمّم على سائر الأبواب الفقهية الأخرى.
منهاجية البحث المعتمدة في هذا الكتاب
من أجل بيان المنهاجية المعتمدة في البحث لابدّ أوّلاً من لحاظ الأسس البنيوية لهذه الدراسة، والمنطلقات التي حدّدت دائرة الحركة البحثية فيه. إنّ منهجية البحث التي اعتُمدت في تدوين هذه الدراسة قد وُضعت في ضوء حزمة من الأسس واللحاظات، وهي:
1ـ لحاظ المنهج الفقهي الإسلامي ـ بجناحيه السنّي والإمامي ـ التقليدي، الذي درجت عليه المدوّنات والبحوث الفقهية السائدة.
2ـ لحاظ التراث النصوصي المأثور عن علي× في نفسه، ومع قطع النظر عن طريقة تعامل الآخرين معه.
3ـ لحاظ ما انتهى إليه الكاتب من نتائج في ضوء فهمه وقراءته لهذا التراث.
وقد خرج الكتاب بمنهجية جديدة، ربما تلتقي في بعض مفاصلها مع المنهج الحديث أو مع التقليدي، وربما لا تلتقي معهما في شيء من مفاصلها، ولهذا لا يصح أن نعتبرها منهجية تلفيقية بالمعنى الشائع عن التلفيق، ففرقٌ بين اللمّ والتجميع لما هو موجود وبين الموازنة والإفادة منه، ولحاظه وتطويره، والإضافة عليه وتكميله.
إذاً يمكن القول: إنّ هذه الدراسة الفقهية التراثية موسومة بأنّها دراسة تراثية، فقهية، مستوعبة، تحليلية، مقارنة، دلالية، نقدية، منهاجية.
وهذه الخصائص المذكورة تحدّد لنا المدى البحثي الذي تحرّكت فيه هذه الدراسة، وتعيّن طبيعته؛ فإنّه بحث أخباري تقريري، لكنْ لا بما يطابق المسلك الأخباري المقيّد، بل هو ذو طابع حرّ يتحرّك في فضاء الأدلّة طرّاً، من كتاب وسنّة وعقل وإجماع، وإنْ كان التركيز فيها على الدليلين الأوّلين، دون الأخيرين.
المعالم والخصائص
الخاصّة الأولى: استقصاء كلّ ما هو منقول عن الإمام علي بن أبي طالب× في مجال الإرث في التراث الفقهي الإسلامي، الشامل للمصادر الشيعية والسنّية، والسعي للإفادة من كلّ النصوص التي جمعها الكاتب، وتوظيف أقصى ما فيها من طاقة دلالية، سواء كانت مبيّنة لحكم أم موضّحة لنصٍّ قرآني أم شارحة لحديث نبوي. وبهذا استطاع أن يُقدّم مجموعة وافية في هذا الشأن، تصلح أن تكون منظومة كاملة حول الإرث.
ثمّ إنّ الاستقصاء الذي توفّرت عليه هذه الدراسة امتدّ في بُعدين:
الأول: الأحكام الفقهية والمسائل الأساسية، وكذلك الأحكام الفرعية، والأقضية، والتطبيقات، المرويّة عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب×. ونظراً لحصول المؤلّف على كمٍّ وفير نسبياً انفتحت أمامه فرصة التوفيق لتقديم منظومة فقهية مفصّلة في باب الإرث، تقوم على أساس بيانات الإمام علي× وسيرته وقضائه.
الثاني: تعدّد النقول والنصوص حتى في الحكم الواحد، لكن على اختلاف في الحالات:
1ـ فأحياناً تتّحد أو تتقارب النصوص المروية عن علي× في ألفاظها وتراكيبها الصياغية.
2ـ وأخرى تكون متفاوتة في اللفظ، إلا أنّها متحدة أو متقاربة معنى ومضموناً.
3ـ وربما تكون متفاوتة في المضمون، لكنْ لا يصل هذا التفاوت إلى حدّ التنافي والتكاذب الدلالي؛ وذلك لإمكان الجمع والتوفيق بين مداليلها بدواً أو بعد التأمّل والتدقيق.
4ـ بل قد يبلغ التفاوت المضموني بين تلك النقولات والمرويات عن الإمام علي× في بعض الحالات إلى حدٍّ لا يمكن الجمع والتوفيق بينها؛ بسبب استحكام التنافي والتعارض الدلالي، وحينئذٍ ينبغي إمعان النظر في سبيل الوصول إلى طريقٍ لحلّ هذه المعضلة، والبحث عن مخرج علمي ومنطقي.
الخاصّة الثانية: تحليل تلك المنقولات، والتصدّي لتقييمها، وعدم الاكتفاء بالعرض السريع أو المجمل، وعدم الاقتصار على التجميع التراكمي للنصوص، بل تصدّى الكاتب لتشريحها وتفصيل عناصرها.
وعملية التحليل تتمثّل بما يلي:
1ـ تفسير الألفاظ والمفردات الواردة في النصوص المنقولة على أساس المعنى اللغوي والمتعارف حين صدور النص، وعدم جعل الأساس ما اعتُبر لها من معانٍ اصطلاحية مستحدثة بعد زمان النص؛ فإنّ عدم الالتفات سبّب عدم الدقّة في فهم آراء الإمام علي×، وأوقع الكثير في الاشتباه في نسبة بعض الآراء إليه.
2ـ الإفادة من بعض القرائن الداخلية والخارجية المساعدة في فهم النص، والتي تُلقي ضوءاً على المفاد النهائي للنص.
3ـ عدم الانخداع بظاهرة تقطيع النص الواحد ضمن سياقات متعدّدة، أو تجميع النصوص المتعدّدة ضمن سياق واحد، والتي قد تُفوّت فرص الفهم الصحيح للنص.
4ـ التمييز في طريقة التعامل بين الأحاديث المنقولة حرفياً وبالنص وبين الأحاديث المنقولة بالمضمون والمعنى، التي غالباً ما تعبّر عن ذهنية الناقل، لا المنقول عنه.
5ـ إكمالاً للعمل التحقيقي والبياني قام المؤلّف بإضافة بعض التوضيحات؛ رفعاً للإبهامات التي تكتنف قسماً من النصوص الواردة في البحث، وذلك من خلال فتح بعض الضمائر، أو بيان معاني المفردات الغامضة، أو ذكر تعليقات وإفادات مناسبة. وقد أدرج ذلك في الهامش.
الخاصّة الثالثة: الموضوعية في التعامل مع هذه النصوص، وعدم الدخول في بحثها بقناعات قبلية مسبقة، بل حاول المؤلّف استنطاق هذه النصوص والنقول في نفسها، وتحليلها، ودراستها، بمعزل عن الرؤى الخاصة، وبعيداً عن المرتكزات المذهبية الضيّقة.
وقد رفض الكاتب بعض التفسيرات المذهبية، وقبل بعضها، واحتمل بعضها الآخر، وكذلك توخّى تقديمها وعرضها في ضوء المعايير الأصولية العامة المقبولة لدى مختلف المذاهب الإسلامية، وأيضاً في ضوء المعايير المختصّة بطبيعة البحث، ومنها:
1ـ تقويمها من خلال عرضها على الكتاب العزيز.
2ـ تقويمها من خلال عرضها على الثابت من السنّة النبوية الشريفة.
3ـ تقويمها في ضوء القضايا المسلّمة فقهياً والتي لا نقاش فيها. ولم يُعوّل كثيراً على دعاوى الإجماع لعدّة أسباب، منها: صعوبة إثبات صحة ودقّة مثل هذه الدعاوى في كثير من الأحيان.
ومنها: انعقاد بعض هذه الإجماعات في زمان متأخّر عن زمان صدور النصوص المبحوث عنها.
ومنها: وجود تعارض في بعضها، فلكلّ مذهب منطلقاته، ووسائل إثبات يعتمدها هو دون المذاهب الأخرى.
4ـ تقويمها في ضوء المباني القطعية والمسلّمة في منهج الإمام علي× الفقهي، ولا سيما في باب الإرث، من قبيل: بعض القواعد الثابتة كتاباً وسنّة، والثابتة عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب×، نحو: قاعدة الأقربية وتقديم الأقرب من الورثة علي الأبعد؛ فقد جعلت هذه القاعدة أحد المعايير في تحديد الموقف تجاه النصوص المروية عن علي×، ردّاً أو ترجيحاً أو تفسيراً.
5ـ ومن جملة المعايير التي اعتمدها المؤلّف في تقويم بعض النصوص هو ورود المضمون ذاته عن أبناء علي×، حيث إنهم أدرى من غيرهم برؤى أبيهم، وأشدّ تمسّكاً بمنهجه.
الخاصّة الرابعة: لقد حاول المؤلّف المقارنة بين النقول عند تعارضها، والانتهاء في أغلب الأحيان إلى ترجيح بعضها على بعض. وتستند عمليات المقارنة على الضوابط العامّة والمختصّة:
أمّا الضوابط العامّة فهي: المرجّحات الأصولية التي يبتني على أساسها تقديم بعض النقول على غيرها، نظير: تقديم الخاصّ على العامّ، والمقيّد على المطلق، والمبيِّن على المجمل.
وربما يتعذّر الترجيح في بعض الحالات، فيُحكم بتساقطها، والرجوع إلى غيرها من الأدلّة والقواعد العامة، كما هو مفصّل في بحث التعارض من علم أصول الفقه.
وأمّا الضوابط الخاصّة فهي:
1ـ مدى انسجام تلك النقول مع المباني القطعية والمسلّمة في منهج الإمام علي× الفقهي، نحو: قاعدة الأقربية وتقديم الأقرب من الورثة على الأبعد؛ فإنّنا قد جعلنا هذه القاعدة أحد المرجّحات عند تعارض النصوص المروية عن علي×.
2ـ وفي حالة ورود المضمون ذاته عن أبناء علي× فإنّنا نعتمد ذلك مرجّحاً للنقل المتضمّن له.
3ـ لحاظ ورود النص في صحيفة أو كتاب علي×؛ فإنّ ذلك يعدّ امتيازاً للنص يمتاز به عن النص الوارد في غيرهما.
4ـ لحاظ جهة الصدور في الرواية المنقولة، فإنّ بعض الروايات قد نُقل لنا في ظروف غير اعتيادية، نظير: ما نُقل عن الشعبي عندما أتي به موثوقاً بين يدي الحجّاج بن يوسف، وهنا نقدّم من النصوص ما كان منقولاً في الظروف الاعتيادية.
5ـ وثمّة حالات ـ وإن كانت قليلة ونادرة ـ استحكم التنافي فيها بين النقول، إلا أنّ الكاتب اكتفى بعرض تلك النصوص المتعارضة دون أن يُقدّم بعضاً على بعض؛ بسبب مقبوليتها ومعقوليتها فتوائياً بحسب المباني التي عرفناها عن علي× ومنهجه الفقهي، باعتبار أنّ مسؤولية البحث لا تُملي علينا أكثر من ذلك، فليس دورنا في هذه الدراسة التصدّي للإفتاء واستنباط الأحكام، بل هو محاولة تحصيل مجموعة نصوصية فقهية عَلَوية في باب الإرث.
وهذا الغرض يؤمّنه الجزم والاطمئنان بصحة نسبة تلك النصوص إليه×، أو على الأقلّ إمكان النسبة واحتمالها ومقبوليتها في ضوء الاتجاهات العامّة لمنهج علي× الفقهي.
ومن ذلك يتجلّى المسلك البحثي للمؤلّف؛ فإنّه مسلك أخباري نقلي وتقريري تحليلي، وليس بحثاً وصفياً صِرفاً، ولا تجميعياً محضاً، وليس بحثاً أخبارياً بالمعنى المصطلح أيضاً، بل ولا اجتهادياً إفتائياً.
الخاصّة الخامسة: لم يُركّز الباحث في البحث المقارن على البحث السندي إلا في موارد نادرة، وألقى بكلّ ثقله على البحث الدلالي؛ لا بسبب ترجيح مسلك أهل الحديث وأهل الأخبار، بل كان ذلك لأسباب دعته إلى عدم التركيز على البحث السندي، وهي:
1ـ اختلاف المصادر المأخوذ منها النصّ المنقول من ناحية الاعتبار والقيمة المصادرية لها، فإنّ بعض المصادر تعدّ في منتهى الاعتبار لدى طائفة في حين لا تكون كذلك لدى أخرى، وهذا ما يسبّب إحراجات في كيفية انتخاب المصادر.
2ـ اختلاف الجرح والتعديل من مذهب إلى آخر إلى حدّ التناقض، ممّا يؤدّي إلى اضطراب البحث وفوضويته؛ لندرة ـــ أو انعدام ـــ موارد الاتفاق على تقييم أسانيد النصوص المنقولة صحّةً وضعفاً؛ بسبب الاختلاف في توثيق الرواة وتضعيفهم؛ إمّا لاختلاف القواعد العامّة في الجرح والتعديل والتوثيق والتضعيف؛ وإمّا لاختلاف المستندات الخاصّة.
3ـ إنّ الخوض في البحوث السندية لا يكون مقنعاً ما لم يدخل الباحث في التفاصيل، والتي تنتهي عادةً إلى تضخّم هذه البحوث من ناحية الحجم، ممّا يؤدّي إلى الملل وتشعّب محاور البحث. والشاهد على ذلك هو ما ورد في ثنايا هذه الدراسة من نماذج للبحوث السندية، حيث اضطُرّ إلى الولوج في التفاصيل؛ من أجل الوصول إلى نتيجة جزمية ومقنعة ومتناسبة مع مسؤولية هذه الدراسة.
والحقّ أنّ هذا المنهج لا يختصّ برسم كيفية التعامل مع تراث علي× النصوصي فحسب، بل يمكن إسراؤه في الجملة إلى مختلف مساحات التراث الحديثي بعامّة.
وفي خاتمة البحث عرض الكاتب مجموعة من المقترحات الحريّة بالتأمّل، والتي تستحقّ أن يُتوقّف عندها الباحثون، وهي:
أوّلاً: انطلاقاً من أهمية دراسة التراث الفقهي لسلفنا الصالح لابدّ من الإفادة من كافّة المصادر التراثية، ولاسيما تراث أهل البيت^، وبالأخصّ التراث الفقهي للإمام علي بن أبي طالب×، والتعامل الجادّ معه بما يتناسب مع أهميته.
وممّا لا يخفى على الخبير أنّ تهميش هذا التراث سيفقد المكتبة الإسلامية عموماً، والفقهية خصوصاً، ثروةً لا تعوّض، بل ينبغي أن نعطيه الأولوية، ونجعله في الصدارة؛ نظراً إلى عوامل عديدة، منها: المرجعية العلمية لأهل البيت×، ونبوغهم من بين الأقران وتفوّقهم العلمي، وغنى التراث المأثور عنهم.
ثانياً: ضرورة الانفتاح في البحث التراثي على جميع المصادر الحديثية والفقهية، الحاملة لهذا التراث، والمساعدة في دراسته وفهمه، والحذر من الانكفاء على الذات؛ فإنّ مسؤولية البحث تقتضي التتبّع الدقيق لكافّة المعلومات، وفي مختلف المصادر، فإنّ المعلومة هي ضالّة الباحث، يتقصّاها ويطلبها أينما كانت، فلا يصحّ له أن يطوي عن بعض المصادر كشحاً.
ثالثاً: حين يتصدّي الباحث لدراسة التراث الفقهي ينبغي استحضار كلّ الوسائل المؤثّرة في فهمه فهماً صحيحاً، ولا يسوغ له أن يفكر بذهنية الآخرين، مهما بلغوا من البراعة في صناعة الاجتهاد، ومهما أجادوا مهارة الاستنباط الفقهي، بل يتوجّب على الباحث أن يحاول استنطاق تلك النصوص التراثية في ضوء المعطى اللغوي والعرفي المقارن لزمان النصّ، وليس على الارتكازات اللاحقة بعد زمانه.
رابعاً: كما أنّ المنطق الأخلاقي يملي علينا الوفاء لتراثنا الفقهي على صعيد التحقيق والبحث والتمحيص كذلك يملي علينا السعي في سبيل إحيائه بكلّ ما أوتينا من مهارة على صعيد العرض، فلا بدّ من صبّه ضمن قوالب منهاجية حيّة جاذبة للأجيال.
ما حقّقه هذا الكتاب من منجزات بحثية
يستطيع القارئ أن يلمس في هذا الكتاب كيفية التعامل مع التراث العلمي بكلّ جدّية وموضوعية، بعيداً عن الحالات الشعارية والعاطفية، وذلك من خلال بعض المؤشّرات:
أوّلها: الاستقصاء الواسع والتتبّع الدقيق لكلّ أنواع النصوص الفقهية المأثورة عن الإمام علي× في جميع المصادر الحديثية والفقهية عند مختلف المذاهب الإسلامية، وقد استهدفنا ذلك بسبب تناثر هذه النصوص في عدّة مصادر، وفي أبواب متفرّقة.
ومن الواضح أنّ هذا النمط من الدراسات يتطلّب التتبّع للمصادر الناقلة لهذه النصوص، ثم تحليلها، ثم تبويبها.
وقد يبدو لأوّل وهلة أنّ ذلك من البحوث السهلة التي لا تتطلّب من الباحث أكثر من عملية تتبّع المصادر التراثية الناقلة لفقه الإمام علي× ليس إلا، بل واستقصاء ذلك على أقصى التقادير، بيد أنّ هذا الأمر يُواجه عدّة مشاكل وعقبات، منها:
1ـ إنّ بعض المصادر مبتلاة بالرؤية المذهبية الضيّقة التي تحدّد كمية النصوص المنقولة عن الإمام علي×، وكيفيتها، ومساحتها.
2ـ إنّ بعض مَنْ تعامل مع هذه النصوص انطلق من فهم وتفسير شخصيّ أو مذهبيّ خاص، وهذا يحول دون إمكانية الفهم الصحيح والموضوعي لها.
3ـ إنّ هذا التراث ـ بالرغم من غزارته وعمقه ـ موجود مبثوثاً ومبعثراً في المصادر الحديثية والفقهية الأولى، بل إن ما كان منها مبوّباً فإنّه مبوّبٌ طبقاً للأسلوب القديم الشائع آنذاك، ممّا يعرقل عملية التتبّع واستقصاء مفردات التراث.
ثانيها: تقديم منهج جديد لكيفية دراسة التراث الفقهي للإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب×، وكذلك تنظيم هذا التراث وترتيبه وعرضه في قالب جديد، من خلال تقديم نموذج في باب الإرث.
ثالثها: معالجة نقاط الخلل التي تورّط بها بعض الكتّاب، كالأستاذ الدكتور محمّد رواس قلعه جي، مؤلّف موسوعة «فقه علي بن أبي طالب»، ومَنْ سبقه، ومن ذلك: عدم الدّقة في نسبة بعض الآراء إلى الإمام علي×. وبما أنّ هذا مشروع ضخم وكبير، ويتطلّب جهوداً علمية هائلة، فقد اكتفينا بتقديم نموذج في هذا السبيل، وهو بحث الإرث.
رابعها: السعي لإحياء التراث الفقهي المغيّب لأهل البيت^، وبالأخصّ الإمام علي×، والدفاع عنه، فقد أحيط الكثير من آراء ونظريات هذه المدرسة الفقهية بضبابية قاتمة، ونُسبت إليها بعض الآراء والنظريات الفقهية غير الدقيقة.
خامسها: محاولة تقديم منهج إسلامي عامّ في كيفية فهم النص التراثي، ولاسيما الفقهي. وهذا المنهج مكوّن من عدد من العناصر، وهي إجمالاً:
1ـ الموضوعية في التعامل مع هذه النصوص، وعدم الدخول في بحثها بقناعات قبلية، بل لابدّ من استنطاق هذه النصوص في نفسها، ودراستها بمعزل عن الرؤى الخاصة أو المذهبية.
2ـ اعتماد الضوابط المتعارفة فقهياً وأصولياً، ودراسة النص على ضوء المعايير العامة والمقبولة لدى مختلف المذاهب الإسلامية، كعرض النصّ على كتاب الله العزيز، وعلى ما هو الثابت من السنّة النبوية الشريفة.
3ـ اعتماد جملة من الضوابط المستنبطة في ضوء المعايير والمبادئ المعتمدة في المنهج البحثي، ومنها: التعامل مع النصوص والنقول على ضوء المباني القطعية والمسلّمة في منهج الشخصية المبحوث عنها، والتي يُراد جمع وعرض تراثها الفقهي.
____________________
(*) باحث وأستاذ في الحوزة العلمية، وعضو هيئة تحرير مجلّة فقه أهل البيت^.