بقلم: السيد كاظم الحائري
بعد فراغه من كتابة مؤلّفه القيّم >البنك اللاربوي في الإسلام<، شرع آية الله الشهيد السيد محمد باقر الصدر في تدريس بعض البحوث الفقهية المتعلّقة بالبنوك، وذلك أيام التعطيل في شهر رمضان عام 1389هـ، فشرع بسلسلة دروس من الرابع منه وحتى التاسع والعشرين، وقد قرّر هذه الدروس سماحة آية الله السيد كاظم الحائري>، أحد خلّص طلاب السيد الشهيد، وقد قدّم لمجلّة >الاجتهاد والتجديد< ــ مشكوراً ــ هذه الدراسة التي تُنشر للمرّة الأولى >مركزُ الأبحاث والدراسات التخصّصية للشهيد الصدر< في مدينة قم الإيرانية، وقد قام الشيخ حيدر حبّ الله بتحقيق وتصحيح هذه المحاضرات العلميّة؛ عبر تقويم نصّها، واستخراج مصادرها، وعنونة موضوعاتها، كما يراه القارئ هنا، واعدين القارئ بنشر سلسلةٍٍ من بحوث السيد الصدر لم يسبق نشرها من قبل، آسفين لتأخّر نشرها إلى اليوم، بعد عقدين ونصف على استشهاده ) (التحرير).
المعاملات الربوية والبنكية، تخريجات فقهية
ما هي تخريجات المعاملات الربوية مع البنوك، بحيث نخرجها عن كونها رباً؟ وهل تصحّ هذه التخريجات أم لا؟
نتكلّم هنا في مقامين: الأول في تخريجات المعاملات الربوية بشكل عام، والثاني في المعاملات التي تقع مع البنوك.
1 ــ التخريجات العامة للمعاملات الربوية
ونذكر هنا تخريجين:
التخريج الأول: بيع النقد بأزيد منه مؤجلاً
أن يبيع المائة دينار ــ مثلاً ــ نقداً بمائة وعشرين دينار مؤجل إلى ستة أشهر، بدلاً عن القرض الربوي، والنقود في زماننا ليست ذهباً أو فضة، ولا تحكي عنهما، بحيث تكون المعاملات بالذهب والفضّة، حتى تدخل هذه المعاملة في البيع الربوي.
وبهذا يصل المرابي ــ دائماً ــ إلى مقصوده في القرض الابتدائي، مع الفرار عن الربا، ويبقى هدفه في الانتفاع عند حلول الأجل إذا لم يكن المدين قادراً على الوفاء بالدين، وبإمكانه تحصيل هذا الهدف بأن يشترط في ضمن ذلك البيع أن يكون عليه ــ على كلّ شهر يؤخّر الأداء فيه ــ كذا مقدارٍ من المال، وهذا شرط مشروع؛ فإنّ من يبيع شيئاً بإمكانه أن يشترط أن يكون عليه في كل شهر إعطاء درهم للبائع، وهنا قد جعل نفس الشرط، إلا أنه مقيد بعدم الوفاء بالثمن؛ وبهذا تصبح هذه الحيلة وافيةً بسهولة بكل أهداف المرابي، ولعلّها أدهى حيلة في المقام.
ولا يخفى أنّ هذه الحيلة إنما تتم لو لم نقل بأنّ أدلة حرمة البيع الربوي في المكيل والموزون تشمل مطلق المثليات، أما إذا أثبتنا ذلك بوجهٍ من الوجوه، كما يشهد لذلك التعريف القديم للمثلي والقيمي بالمكيل والموزون، والتعبير بالمثلي والقيمي ما كان موجوداً في زمن الأئمة (، فتبطل هذه الحيلة؛ لأن النقود مهما كان شكلها فهي مثلية، نعم إن لم نقل بذلك كان لهذه الحيلة صورة، إذ النقود التي في زماننا ليست مكيلاً ولا موزوناً، وقد أفتى المشهور من طبقة المتأخرين جداً عن طبقتنا، والطبقة التي قبلنا بصحّة هذه الحيلة، وقد ذهب السيد الأستاذ (مدّ ظله) إلى التفصيل بين ما لو قيّد البدل بقيدٍ مغاير لما أعطي، كأن يعطى مائة أوراق، كل منها ذات دينار واحد، ويحصل ثمن ذلك اثنتي عشرة ورقة، كل منها ذات عشرة دنانير، أو لم يقيّد البدل بقيد من هذا القبيل، كأن يبيع المائة دينار بمائة وعشرين ديناراً، ويتحصّل من بعض عباراته وجهٌ لذلك، ومن بعض عباراته الأخرى وجهٌ آخر.
ولنذكر كلا الوجهين، مع بيان الحال فيهما؛ فنقول:
الوجه الأول: إنّ بيع مائة دينار بمائة وعشرين غير صحيح؛ إذ هذا مبادلة للشيء بنفسه مع زيادة، ومبادلة الشيء بنفسه غير معقولة، ومجرّد الكلّية والجزئية لا توجب المغايرة، وصحّة المبادلة، نعم لو باع مائة دينار ــ مثلاً ــ كلّ واحد منها دينار واحد باثنتي عشرة أوراقاً، كل منهما يمثل بحسب سكّته عشر دنانير، لم يرد عليه هذا الإشكال.
أقول: هذا مضافاً إلى أنه لا يلغي أصل مادة الفساد؛ إذ كما عرفت يمكن فرض أحد العوضين دنانير مثلاً والآخر أوراقاً، كل واحدة منها ذات عشرة دنانير، وما شابه ذلك.
ويرد عليه:
أولاً: إنّ مجرّد عدم كون ذلك بيعاً أو مبادلة لا يوجب بطلانه ما لم نثبت كونه قرضاً ربوياً، وإلا فهو عقدٌ من العقود، لا يدخل تحت عنوان البيع أو أيّ مبادلة أخرى، فليقصد المتعاملان هذا العقد على ما هو عليه، فيدخل في إطلاق: >أوفوا بالعقود<؛ فيكون صحيحاً.
وهذا الإيراد يتوقف وروده على القول بأنّ روايات: لا ربا إلا في المكيل والموزون، تشمل كلّ المعاملات ما عدا القرض، أمّا لو قلنا: إنها ليست كذلك، وإنما هي مختصّة بالبيع مثلاً أو يتعدّى إلى غير البيع بعدم القول بالفصل ــ ومن المعلوم أن هذا الإجماع لا يشمل معاملةً غريبة من هذا القبيل ــ فلا يرد هذا الإشكال؛ إذ تصبح هذه المعاملة الربوية باطلة، وإن لم تكن في المكيل والموزون.
ثانياً: إنّ المغايرة بين النقد الخارجي والذي في الذمة ليست مجرّد مغايرة عقلية واعتبارية، بل هي مغايرة عرفية، كيف والذمّة من مخترعات العرف نفسه في مقابل الخارج، ويشهد لذلك بعض الروايات الواردة في صحّة بيع الثوب ــ وهو قيميّ ــ بثوبين نسيئةً([1])، وقد أفتى الفقهاء أيضاً بصحّة بيع المثل بالمثل مع الزيادة في القيميات، سواء كان بالنقد أو النسيئة.
الوجه الثاني: إنّ هذه المعاملة قرضٌ وليست بيعاً؛ فإنها تمليكٌ للمال من الشخص الآخذ مع دخوله في ذمّته، وهذا هو القرض.
وهذا الكلام غير صحيح، حلاً ونقضاً:
أ ــ أما حلاً: فلأنه إن قصد من كون هذه المعاملة قرضاً أنها تفيد فائدة القرض فهذا صحيح، ولكنّ هذا البيان لا يكفي في إبطال الزيادة؛ فهل كل معاملة أفادت فائدة القرض تبطل فيها الزيادة؟ ولماذا؟! وإن قصد بذلك كونها قرضاً حقيقةً، فإنما يكون كذلك بناءً على التعريف الأول للقرض، من التعريفات الماضية، والذي كان يُرجع القرضَ إلى المبادلة، وأما بناءً على الوجوه الأخرى فليس الأمر كذلك؛ فإنّ هذه المعاملة مبادلة لمائة دينار مثلاً بمائة وعشرين ديناراً، والقرض إما هبة بتمليك العين مع استئمان المالية، كما عليه المحقق الإيرواني )، أو تمليك بضمان، كما عليه السيد الأستاذ نفسه، أو أنه يجعل اليد مؤثّرةً في التملّك والضمان، كما مضى تفصيله منّا، وهذه كلّها غير المبادلة.
ب ــ وأما نقضاً: فلأنه لو كان بيع المثل بالمثل ــ مؤجّلاً ــ قرضاً، لكان بيع القيمي بالقيمة كذلك قرضاً أيضاً؛ فلو باع شخصٌ شيئاً قيمياً مؤجلاً بسعرٍ أعلى من سعر السوق، كان ذلك رباً محرماً، وهذا ما لا يقول به أحد.
ونحن حينما كنّا نورد عليه ــ مد ظلّه ــ هذا الإشكال، كان يجيب بأنّ هناك فرقاً بين باب بيع القمي بقيمةٍ أغلى مؤجلاً وباب القرض، وهو أن القيمي يعيّن نوع ثمنه عند البيع، كأن يقال مثلاً: بعت هذا بدينار، أي الدينار العراقي، وأما في باب القرض فيأتي إلى الذمة مطلق المالية.
وهذا الجواب غير صحيح؛ فإنّ نوع الثمن في باب القرض معيّن أيضاً، وهو نقد البلد؛ فمن يُقرض مائة دينارٍ يطلب حين حلول الأجل ــ بحسب الارتكاز العرفي ــ مائة دينارٍ من نقود ذلك البلد، ولو أعطاه من نقود ملّةٍ أخرى بذاك المقدار من المالية كان له ــ عقلائياً ــ حقّ الرفض.
فقد تحصّل أنّ هذين الوجهين كلاهما غير صحيح.
تحقيق في إبطال التخريجات العامّة
والتحقيق في المقام عدم جواز هذه الحيل، ويتضح ذلك بذكر مقدّمتين:
المقدمة الأولى: يوجد في المعاملات ــ وراء السبب الذي هو العقد ــ ثلاثة أغراض:
1 ــ ما أسمّيه: الغرض العقدي، وهو الغرض الذي يمتاز به كلّ نوع من أنواع العقد عن الآخر، ويشترك فيه تمام العقلاء، كالمبادلة بين المالين في البيع مثلاً.
2 ــ ما أسمّيه: الغرض النوعي الخارجي، وهو ما يشترك فيه نوع العقلاء في كلّ نوع من المعاملات، من التسلّط الخارجي على الثمن والمثمن في البيع، وليس هو المميّز لكلّ نوع من أنواع المعاملات عن الآخر؛ فقد يشترك نوعان منها في الغرض النوعي الخارجي؛ وذلك من قبيل إبراء الدين وهبته على من هو عليه، بناءً على صحّة ذلك، فإنهما عمليّتان تنتجان غرضاً نوعياً خارجياً واحداً، وهو فراغ ذمّة المديون من دون أن يدفع شيئاً.
3 ــ ما أسمّيه: الغرض الشخصي الخارجي، وهو الذي لا يميّز أنواع المعاملات بعضها عن بعض، كما لا يشترك بين نوع العقلاء، فربّ شخص يشتري الكتاب للمطالعة، وآخر للاقتناء في المكتبة، وثالث للإهداء، ورابع للتجارة، وهكذا.
والغرض الشخصي الخارجي خارجٌ عن قوام المعاملة، لكنّ الغرض النوعي الخارجي يشكّل ــ بحسب نظر العرف والعقلاء ــ حيثيّةً تقييدية مأخوذة في قوام المعاملة؛ ولهذا نقول: إنّ تلف المبيع قبل القبض من مال بائعه على القاعدة، بلا حاجة إلى تلك الرواية الضعيفة([2])؛ فإنّ العقلاء يقولون ــ مع فرض عدم التسليط الخارجي وتلفه قبل ذلك ــ : لم تتمّ المعاملة، ولم يتحقّق البيع، وقد قال جماعةٌ من الفقهاء ــ ونِعمَ ما قالوا ــ : إنّ إيقاع العقد المنقطع على طفل إلى مدّة لا يمكن الاستمتاع بها مطلقاً، باطل.
المقدمة الثانية: إنّ النهي الإبطالي المتوجّه إلى العقد والمعاملة، لا يتجه ــ طبعاً ــ إلى الغرض الشخصي الخارجي؛ لخروجه عن العقد والمعاملة بكلّ وجه، وإنما يتوجّه إلى السبب أو الغرض العقدي أو الغرض النوعي الخارجي، حسب اختلاف مناسبات الحكم والموضوع:
أ ــ فقد يكون المناسب رجوعه إلى نفس العقد، كما في: <لا تبع وقت النداء>([3])؛ حيث إنّ هذه العملية تشغل الإنسان ــ في وقت النداء ــ عن العبادة والصلاة.
ب ــ وقد يكون المناسب رجوعه إلى الغرض العقدي، كما لو نهى عن بيع حقّ الشفعة، حيث قيل: إنّ هذا بنكتة أنّ هذا الحق لا يعدّ مالاً، حتى يقابل بالمال، لكن يمكن إسقاطه في ضمن عقد الهبة مثلاً.
ج ــ وقد يكون المناسب رجوعه إلى الغرض النوعي الخارجي، كما في تحريم الربا؛ حيث تترتّب المفاسد على الزيادة الخارجية والتسلّط الخارجي.
وهذا النهي ــ سواء كان متّجهاً إلى السبب أو إلى الغرض العقدي أو الغرض النوعي الخارجي ــ تارةً لا تكون له نكتة عقلائية ارتكازية، فيقتصر على مورده، وأخرى تكون له نكتة عقلائية ارتكازية، لكنّها محتملة الاختصاص بالمورد، بحيث لا يوجد ارتكاز عقلائي على عدم الفرق بين ذلك المورد ومورد آخر، وهنا ــ أيضاً ــ يقتصر على المورد الخاص، وثالثة يوجد ارتكاز عقلائي يحكم بعدم الفرق؛ فيتولّد لكلام الشارع ظهورٌ ثانوي في العموم والإطلاق؛ فيتعدّى، وهذا ليس قياساً؛ إذ في القياس لا يفرض قيام ارتكاز على عدم الفرق بين مورد النصّ والمورد الآخر، وإنما ظنٌّ خارجي بعدم الفرق، غاية ما هناك أن تكون كبرى القياس نفسها وأماريّته ارتكازيةً مثلاً، وهذا لا يولّد للكلام ظهوراً نأخذ به، بخلاف فرض ارتكاز عدم الفرق؛ حيث يولّد الظهور المذكور، فلو سئل عن ماء في حبّ على باب المسجد وقعت فيه ميتة فقال: أهرقه، لم يقتصر ــ طبعاً ــ على قيود المورد من كون الماء في حبّ، وكونه موضوعاً على باب المسجد، والتعميم والتضييق بواسطة الارتكاز هو شغل الفقهاء في موارد لا تحصى، إلا أنه أحياناً ولشدّة وضوح الارتكاز يُغفل عن كون هذا الظهور وليدَه، ويتخيّل أنه ظهور لحاقّ اللفظ ابتداءًً.
وبالجملة، النهي المتوجه إلى معاملةٍ من المعاملات:
أ ــ تارةً لا يوجد فيه ارتكاز عدم الفرق بين مورده ومورد آخر؛ فلا يتعدّى، كما لو قال: لا تبع في يوم السبت، فلا يتعدّى إلى الصلح مثلاً، فإنه لا يوجد هنا نكتة مركوزة، وإنما هو حكم تعبدي صرف يُقتصر على مورده، وكذلك لو قال: لا تبع معلّقاً، أو مع الغرر، أو عدم معلومية العوضين، أو بغير صيغة الماضي مثلاً؛ فإنه وإن كانت هنا نكتةٌ ارتكازية، وهي الرغبة في إحكام البيع، وجعله غير قابل لوقوع شيءٍ من الكلام والشجار والتزلزل فيه مثلاً، إلا أن ارتكاز عدم الفرق بينه وبين الصلح غير موجود؛ فلعلّ الشارع أراد أن يكون في الشريعة عقدٌ محكم وآخر غير محكم، حتى إذا ناسب هدفُ المتعاملين الإحكامَ عَمَدا إلى الأول فاتّبعاه، وإلا كان لهما الأخذ بالثاني مثلاً، وكذلك لو نهى عن هبة الدين على من هو عليه، فلا يتعدّى إلى الإبراء؛ لاحتمال أنّ هبته ــ مثلاً ــ غير معقولة عند الشارع؛ فيكون النهي متعلّقاً بالغرض العقدي الخاص مثلاً، ولو نهى عن بيع حقّ الشفعة فلا يتعدّى إلى إسقاطه في ضمن الهبة؛ إذ لعلّه نهى عن الغرض العقدي الخاصّ باعتبار عدم كونه مالاً في نظره، فلا يقابل بالمال، لكن لا بأس بإسقاطه في ضمن عقد.
ب ــ وأخرى يوجد فيه ارتكاز عدم الفرق، كما لو قال: لا تبع في يوم الجمعة وقت النداء؛ فإنّ مناسبات الحكم والموضوع تقتضي كون هذا النهي باعتبار إشغال ذلك عن العبادة والصلاة، من دون فرق بين ما يجريه بصيغة البيع أو بصيغة الصلح؛ فيتعدّى إلى صيغة الصلح، وكما لو نهى عن بيع مال الغير؛ فإنه يتعدّى إلى هبته أو التصالح عليه ونحو ذلك؛ إذ النكتة في ذلك حرمة مال الغير وسلطنة مالكه عليه، من دون فرق بين معاملة وأخرى.
إذا عرفت هاتين المقدمتين، فنقول: إنّ النهي في باب الربا متعلّق ــ بحسب مناسبات الحكم والموضوع ــ بالغرض النوعي الخارجي، والنهي المتعلق بالغرض النوعي الخارجي تارةً لا يوجد فيه ارتكاز عدم الفرق بين مورده ومورد آخر؛ فلا يتعدّى منه إليه، ومثاله ما لو نهى عن استيجار المرأة للعمل الجنسي؛ فإنّ هذا نهيٌ عن الغرض النوعي الخارجي، بحسب الارتكاز العقلائي، فليس الفساد في مجرّد إيقاع العقد أو الغرض العقدي، وإنما في العمل الخارجي، ولا يتعدّى من الاستيجار إلى الزواج؛ فإنّ هذا النهي كأنّه نهيٌ بلحاظ حرمة المرأة وكرامتها، وأنها أشرف من أن يمتلك بضعها بالاستيجار، وإنما يجب أن يكون الاستمتاع بها في إطارٍ خاص محترم، وهو الزوجية؛ فلا يتعدّى من الاستيجار إلى الزوجية، نعم يتعدّى إلى البيع والهبة ونحو ذلك.
وأخرى يوجد فيه ارتكاز عدم الفرق بين مورده ومورد آخر، كما في النهي عن القرض الربوي؛ فإنه ــ بمناسبات الحكم والموضوع ــ نهيٌ بلحاظ الغرض النوعي؛ لما فيه من المفاسد، ويتعدّى عنه إلى كلّ معاملة يكون الغرض النوعي فيها الإلزام بالزيادة.
وأقصد بقولي: (إنّ الغرض النوعي منها هو الإلزام بالزيادة) أن يكون طبعٍ المعاملة سنخ طبع يبيّن ــ بنفسه ــ أنّ المقصود به الإلزام بالزيادة، وأما إذا لم تكن المعاملة نفسها، وإنما كان الغرض الشخصي منها الزيادة، فلا بأس بذلك، ولو فرض أن تعوّد الناس عليه واشتهر هذا العمل، فهذا لا يخرج عن كونه غرضاً شخصياً مباحاً، نعم للدولة الإسلامية الشرعية ــ حينما ترى المصلحة ــ النهي عن ذلك.
ومثال ما يكون طبع المعاملة فيه يقتضي كون الغرض هو الإلزام بالزيادة، ما كنا نتكلّم فيه، من أنه يبيع مائة دينار نقدي بمائة وعشرين ديناراً مؤجلاً؛ فإنه من الواضح أنّ الغرض من ذلك هو الإلزام بالزيادة، وكذلك لو باع شيئاً رخيصاً بقيمة غالية اشترط في ضمن البيع على البايع إقراض المشتري؛ فإنّ الغرض النوعي من ذلك عين الغرض النوعي من العكس، أي أن يقرض شيئاً ويشترط في ضمن القرض البيع المحاباتي
وهناك رواية قد يستفاد منها جواز هذه الحيلة، أعني البيع المحاباتي مع اشتراط القرض، وهي رواية محمد بن إسحاق بن عمار، قال: قلت لأبي الحسن %: <إن سلسبيل (سلسيل) طلبت مني مائة ألف درهم، على أن تربحني عشرة آلاف، فأقرضتها تسعين ألفاً وأبيعها ثوب وشيء تقوم بألف درهم بعشرة آلاف درهم، قال: لا بأس>([4]).
1 ــ فإن قلنا: إنّ هذه الرواية لا تدلّ على أنّ الإقراض أخذ شرطاً في ضمن عقد البيع المحاباتي، وإنما كان اتفاقاً خارجياً دون أن يصبح البائع ملزماً بالإقراض، فتكون ــ أي الرواية ــ خارجةً عما نحن فيه.
2 ــ وإن قلنا: إنها تدلّ على ذلك:
أ ــ فإن قلنا: إنّ الملازمة بين حرمة الربا وحرمة ذلك تكون بدرجةٍ لا يقبل العرف التفكيك بينهما، فالرواية تصبح معارضةً لآية حرمة الربا؛ فتسقط عن الحجية.
ب ــ وإن قلنا: إنّ الملازمة ليست بأقوى من الظهور الإطلاقي، فيكفينا ضعف سند هذه الرواية حينئذٍ.
ومثال ما تكون الزيادة فيه غرضاً شخصياً، أن يبيع داره بمائة دينار مع خيار الشرط على رأس السنة، والزيادة التي يأخذها المشتري هي منفعة الدار، فإنّ هذا لا بأس به؛ إذ طبع المعاملة ليس سنخ عمل ينحصر غرضه في الزيادة، فقد يفكّر شخص ببيع داره لغرضٍ من الأغراض مع جعل خيار الشرط؛ لاحتمال الندم، دون أن يكون غرضه ــ ولا غرض المشتري ــ مسألة القرض الربوي.
ولو باع كتابه بثمن رخيص على نحو المحاباة مع إرجاعه بثمن أغلى، فإن كان الإرجاع بمحض اختيار المشتري ــ ولو مع الاتفاق عليه خارج المعاملة ــ من دون أن يكون ملزماً بذلك في ضمن العقد الأول، فلا بأس به؛ فإنّ طبع البيع المحاباتي لا يوحي بمسألة الزيادة الربوية، بل قد يكون الشخص محتاجاً ــ واقعاً ــ إلى بيع كتابه، فيبيعه بالمحاباة، وإن اشترط في ضمن العقد الأول الإرجاع بثمن أغلى أصبح هنا الإلزام بالزيادة غرضاً نوعياً للمعاملة؛ فيأتي إشكال الربا.
وقد تحصّل من تمام ما ذكرناه، عدم صحّة بيع مائة دينار نقدي بمائة وعشرين دينار مؤجلاً مثلاً، وإن كان الدينار في زماننا من غير جنس النقدين.
نصوص جواز البيع بالأكثر ونقد مدركيّتها لصحّة التخريج الربويّ الأول
إلا أن هناك إشكالاً، وهو أن روايات جواز البيع بالأكثر في غير المكيل والموزون تدلّ ــ بإطلاقها ــ على جواز ذلك، ولو مع كون الأكثر مؤجلاً، ولو في بيع الدينار، إذاً فتدلّ تلك الروايات بإطلاقها على صحّة هذه المعاملة.
والجواب عن هذا الإشكال: أنه إن قلنا: إن التفكيك بين حرمة الربا القرضي وحرمة هذه المعاملة غير ممكن عقلائياً، بحيث يعدّ دليل حرمة الربا القرضي كالنصّ في حرمة هذه المعاملة، فتلك الإطلاقات تقيّد ــ لا محالة ــ بدليل حرمة الربا القرضي الدالّ على حرمة هذه المعاملة، الأخصّ من تلك المعاملات، وأما إن قلنا: إنّ دلالة دليل حرمة الربا القرضي على حرمة هذه المعاملة تكون بمستوى الإطلاق، فلا أقلّ من أنهما يتعارضان ويتساقطان، وتصل النوبة إلى المطلقات الفوقية الدالة على حرمة الربا، الشاملة للربا القرضي والربا المعاملي، من دون فرق فيه بين المكيل والموزون وغيره، أو بين الحالّ والمؤجل.
التخريج الثاني: وضع الجُعالة على القرض
أن يجعل جُعالةً على القرض، بأن يقول: من أقرضني كذا مقدار من المال فله كذا مقدار؛ فتكون الزيادة مستحقّةً بإزاء العمل، وهو الإقراض، لا بإزاء المال؛ حتى يكون ربا؛ ولذا لو فرض أنّ الجعالة كانت باطلةً ــ بسببٍ من الأسباب ــ والقرض كان صحيحاً، لا يستحقّ حينئذٍ شيئاً من الزيادة.
ويرد على هذا التخريج:
أولاً: إنّ الغرض النوعي الظاهر من نفس المعاملة هو الزيادة، ويُصبح بالاقتراض مُلزماً بأداء الزيادة؛ فيأتي فيه ما مضى من التعدّي عن مورد دليل حرمة الربا إلى هذا المورد؛ بارتكاز عدم الفرق.
ثانياً: إنّ هذه المعاملة باطلة في نفسها، وتوضيح ذلك يكون بتحقيق معنى الجعالة، بنحو ينكشف منه معنى جملة من أبواب المعاملات، من قبيل المضاربة والمزارعة والمساقاة والمغارسة، ونحو ذلك من الأبواب.
حقيقة الجعالة
يتصوّر في الجعالة ــ بدواً ــ ثلاثة احتمالات:
الاحتمال الأول: أن تكون معاوضةً بين العمل والجُعل، وهذا الاحتمال ساقطٌ حتماً فقهياً وعقلائياً؛ بالتسالم فتوى وارتكازاً على أنه لا معاوضة بين العمل والجُعل في باب الجعالة، وإلا كان استحقّ الجاعلُ العملَ في مقابل هذا الجُعل، مع أنه لا يستحقّه في مقابله، وهذا هو الفرق بين باب الجعالة وباب الإجارة؛ ففي إجارة الأعمال يكون المستأجر مستحقاً للعمل على الأجير، بخلاف باب الجعالة.
الاحتمال الثاني: أن يفرض أنّ الجعالة تمليكٌ للمال تمليكاً مشروطاً بالعمل، فبابه باب التمليك المجاني، لكنه معلّق على العمل، ويلتزم بأنّ هذا التعليق قد صحّح على خلاف القواعد الأولية؛ إذ مقتضاها عدم صحّة التمليك المعلّق؛ فلا يمكن أن يقول مثلاً: لك هذا الدرهم إن أمطرت السماء، لكن في خصوص موارد الجعالة صحّ ذلك على خلاف القاعدة.
وهذا الاحتمال وإن كان أقرب من الاحتمال الأول، لكنه ــ أيضاً ــ على خلاف الارتكاز الفقهائي والعقلائي؛ إذ لو حسبنا ما هو المركوز في الأذهان الفقهائية والعقلائية لرأينا أنّه لا يمكن أن يفسّر على أساس هذا الاحتمال، وذلك:
أولاً: لا إشكال في أنّ المركوز في هذه الأذهان أنّ الجعالة ليست تمليكاً مجانياً وهبةً مشروطة ومطلقة؛ لهذا يسمّى الدرهم جُعلاً على العمل، وهذا معناه أنه أخذ في معنى الجعالة التعويض بمعنى من المعاني.
ثانياً: لا إشكال ــ بحسب النصّ والفتوى ــ فقهائياً وطبق الارتكاز العقلائي، أنه إذا تبيّن بطلان الجعالة ــ لسبب من الأسباب ــ يُرجع إلى أجرة المثل، كما صرّح بذلك الفقهاء، ولا موجب لضمان هذه الأجرة لو لم يكن هنا طعم المعاوضة، وإنما كان مجرّد تمليك مجاني تبيّن بطلانه من دون أن يكون العامل قد أقدم على العمل بعنوان المعاوضة، حتى يقال: لو لم يسلم له المسمّى ثبتت له قيمة المثل والبدل الواقعي؛ بقواعد الضمان.
ثالثاً: من المصرّح به والمتسالم عليه فقهائياً، وهو مطابق للارتكاز العقلائي أيضاً، أنه إذا جعل جُعلين مختلفين؛ فقال أولاً: لك عليّ درهم لو وجدت لي ضالّتي، ثم قال ثانياً: لك عليّ دينار لو وجدت لي ضالّتي، كانت الجعالة الثانية ناسخةً للجعالة الأولى، وهذا معناه وجود نوع منافاة ومعارضة ــ بالارتكاز ــ بين الجعالتين؛ فتكون الثانية ناسخةً للأولى، ولو كانت مجرّد هبةٍ مشروطة فأيّ منافاةٍ بين الهبتين؟! ولماذا لا تصحّ كلتاها معاً؟ ومجرّد كونهما معلّقتين على شيء واحد لا يوجب حصول المنافاة بينهما، كما هو واضح.
فعلى أساس هذه القرائن الثلاث ــ وقرائن أخرى يمكن تصيّدها من فقه الجعالة ــ يُعرف أنّ باب الجعالة ليس باب التمليك المجاني الصّرف.
الاحتمال الثالث: وهو الصحيح، وحاصله: إنّ أحد موجبات ضمان العمل المحترم عقلائياً هو التسبيب؛ فلو أمر الحلاّق بأن يحلق رأسه دون أن يتعامل معه أو يجري معه عقد الإجارة، كان ضامناً لقيمة الحلاقة السوقية، وهذا الضمان هو ضمان الغرامة، من قبيل ضمان اليد بالنسبة إلى الأموال، والأصل الأولي في ضمان الغرامة ــ كما قلنا في ضمان الأموال ــ وإن كان الضمانَ بالقيمة، لكن يمكن للضامن والمضمون له أن يتفقا على بدل معيّن يكون به الضمان؛ فيكون قانون ضمان الغرامة نفسه مقتضياً حينئذٍ لهذا البدل؛ فهذا القانون له اقتضاءان طوليان: أحدهما الضمان بالقيمة السوقية، وثانيهما ضمان ما اتفقا أن يكون به الضمان.
وكذلك نقول هنا؛ فإنّ الجعالة في الحقيقة ليس بابها باب المعاوضة، ولا باب المجانية، بل باب التسبيب إلى العمل مع تعيين بدل الغرامة، وتحويله من القيمة السوقية إلى شيء آخر، فالبدلية المطلقة في باب الجعالة هي بدليةُ باب الغرامة، لا باب المعاوضة.
وهذه هي الحال أيضاً في المزارعة والمساقاة والمغارسة والمضاربة ونحو ذلك، وبهذا نحتفظ بالنقاط الثلاث الارتكازية الماضية، وهي: ارتكازية البدلية، وأنه لو بطلت الجعالة يُنتقل إلى القيمة السوقية؛ إذ مع بطلان التحديد الخارجي لما يضمن يُرجع إلى القاعدة الأولية، وأنه إذا جعل جعالتين كانت الثانية ناسخةً؛ إذ ضمان الغرامة يستحيل أن يتحدّد بتحديدين مختلفين؛ وبهذا كانت هذه الأبواب في مقابل الإجارة؛ لأن الإجازة تمليكٌ بعوض، وفي هذه الأبواب يحدّد ضمان الغرامة المفروض ثبوته في المرتبة السابقة.
وبناءً على هذا نقول: إنّ جعل الزيادة على القرض بنحو الجعالة غير معقول؛ لأنّ عملية القرض ليس لها ضمان ولا قيمة وراء قيمة المال المقترض نفسه، وليس هنا ــ مُسبقاً وقبل الجُعل ــ بدلان: أحدهما في مقابل المال، والثاني في مقابل نفس الإقراض؛ فلو جعل جُعلاً في مقابل الإقراض زائداً على ما هو في مقابل نفس المال كان معنى ذلك ثبوت بدلين: أحدهما في مقابل نفس المال، والثاني في مقابل الإقراض، مع أنه لا مالية للإقراض عدا مالية المال المقترض نفسها، فليس له مالية أخرى وراء مالية ذلك المال، كما لا معنى لأن يفرض وجود ضمانين لهذه المالية الواحدة: أحدهما بعقد القرض، والآخر بعقد الضمان، وقد فرضنا أنّ الجعالة تعيينٌ للضمان المفروض مسبقاً؛ إذاً فلو صحّت الجعالة في المقام وصحّ القرض لكان معنى ذلك ثبوت ضمانين لهذه المالية الواحدة.
هذا تمام الكلام في التخريج الثاني ومناقشته، ونقتصر على هذين التخريجين؛ إذ بما ذكرنا فيهما اتّضحت صناعة التخريجات في المقام([5]).
2 ــ التخريجات الخاصّة بالمعاملات البنكية
أمّا الحديث حول المقام الثاني، وهو في معاملات البنوك، فنقول: إنّ البنوك على ثلاثة أقسام:
1 ــ بنك الكفار.
2 ــ بنك الحكومة.
3 ــ بنك المسلمين.
1 ــ 2 ــ بنك الكفّار، أحكام المعاملات
أما القسم الأول، وهو البنك الذي يكون للفرد الكافر، فتارةً يقع الكلام فيه في إقراضه بفائدة، وأخرى في الاقتراض منه بفائدة:
أ ــ الإقراض بفائدة
أما إقراضه بفائدة، فقد يقال بجوازه بمقتضى القواعد، بلا حاجةٍ إلى النص الخاص، إذا لم يكن الكافر ذمّياً؛ إذ إنه يجوز حينئذٍ سرقة ماله مجّاناً؛ فلا يحتمل حرمة أخذ الفائدة منه بالإقراض.
وفيه: إنّ الذي ثبت إنما هو جواز أخذ ماله الخارجي مجاناً وتملّكه، ولم يثبت جواز التسلّط على ذمّته قهراً عليه أيضاً؛ حتى يقال: إذا جاز ذلك جاز أخذ الفائدة الربوية منه.
وتوضيح المقصود: إنّ الكافر تارةً يفرض التسلّط على ماله الخارجي مجاناً وقهراً عليه، وأخرى يفرض التسلّط على ذمته وتملّك شيء في ذمته قهراً عليه ومجاناً، كأن يُنشأ المسلم ثبوت مائة دينار في ذمّة هذا الكافر بلا أيّ سبب خارجي، ويقال بنفوذ هذا الإنشاء.
ويختلف الثاني عن الأول، كما هو واضح، ويترتب عليه آثار شغل الذمّة من قبيل أنه لو مات الكافر انتقل ما في ذمّته إلى تركته، وكان للمسلم أن يأخذ ذلك من تركته، بحيث لو جاء مسلمٌ آخر يريد أن يتملّك التركة مجاناً لكون ورثته كفاراً غير ذميّين، كان حقّ المسلم الأول مقدّماً عليه؛ إذ هو المالك بالفعل لبعض التركة، وهذا الأثر ــ ونحوه من الآثار ــ لا يترتب على الأول، وهو تملّك ماله الخارجي، والذي دلّ الدليل على جوازه هو الأول دون الثاني، ولا ملازمة عقلائية بين جواز تملّك ماله الخارجي عليه وبين جواز السلطنة على ذمته قهراً؛ فإنّ الثاني أشدّ ــ في نظر العرف ــ من الأول، ولا يوجد هنا ارتكاز عدم الفرق.
إذا عرفت هذا؛ نقول: إنّ أخذ الربا وثبوت الفائدة عليه يكون بمعنى إشغال ذمته بالفائدة، وثمّة ملازمة عقلائية بين جواز إشغال ذمته مجاناً وقهراً عليه وجواز إشغالها بالفائدة بواسطة القرض الربوي، بمعنى أنه إذا جاز الأول فالعرف لا يحتمل عدم جواز الثاني، لكنّنا قلنا: إنه لم يثبت جواز إشغال ذمته بالمال مجاناً قهراً عليه، ولا ملازمة أو عينيّة بين جواز أخذ ماله الخارجي قهراً عليه وجواز إثبات الفائدة الربوية عليه؛ فإنّ الثاني ليس مجرّد رخصة في تملّك ماله، وإنما هو إشغالٌ لذمّته يترتب عليه آثار زائدة، من قبيل انتقال الفائدة بعد موته إلى تركته، ويكون من حقّ المسلم أخذه منها، ولا يصحّ لمسلمٍ آخر أن يزاحمه في ذلك، ومن المحتمل عقلائياً جواز الأول دون الثاني.
إذن، فإثبات جواز إقراضه ربوياً ــ تكليفاً ووضعاً ــ يحتاج إلى دليل خاص والروايات الخاصّة في المقام مختلفة.
النصوص الخاصّة في إقراض الكافر ربويّاً
1 ــ مرسلة الصدوق يقول: <ليس بين المسلم وبين الذمي ربا>([6])، وهي تدلّ ــ بالملازمة ــ على جواز أخذ الربا من غير الذمّي؛ إذ لا يحتمل جواز أخذه منه وعدم جواز أخذه من غيره.
2 ــ رواية حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر B، قال: <ليس بين الرجل وولده وبينه وبين عبده ولا بين أهله ربا، إنما الربا فيما بينك وبين ما لا تملك، قلت: فالمشركون بيني وبينهم ربا؟ قال: نعم، قلت: فإنهم مماليك، فقال: إنك لست تملكهم إنما تملكهم مع غيرك، أنت وغيرك فيهم سواء، فالذي بينك وبينهم ليس من ذلك؛ لأنّ عبدك ليس مثل عبدك وعبد غيرك>([7]).
وهاتان الروايتان متعارضتان بنحو التباين.
3 ــ رواية عمرو بن جميع، عن أبي عبداللهB قال: قال أميرالمؤمنين B: قال رسول الله2 : <ليس بيننا وبين أهل حربنا ربا؛ فإنّا نأخذ منهم ألف درهم بدرهم ونأخذ منهم ولا نعطيهم>([8]).
والمقصود بأهل الحرب كلّ من لا يكون ذمياً؛ فهذا الحديث مبتلى بالمعارض، وهو الرواية الثانية التي لا تجوّز الربا بين المسلم والمشرك، وجعلها مختصّةً بالذمي ــ كما صنعه صاحب الوسائل([9]) ــ لا معنى له؛ إذ الذمية إنّما تكون في الكتابي لا في المشرك.
إلا أنّ الصحيح أنه ليس معنى أهل الحرب أن لا يكون ذمياً؛ فإن إطلاق أهل الحرب على مطلق غير الذمي إنما هو اصطلاح خاصّ بالفقهاء، باعتبار أنّ كل من لا يكون ذمياً يكون مهدور الدم والمال مثلاً، فهو وإن لم يكن محارباً بالفعل لكنّه في حكم المحارب، وحمل الرواية على اصطلاحٍ متأخر جاء على لسان الفقهاء لا معنى له، وإنّما المقصود بأهل الحرب الكافرُ الذي يعيش حالة الحرابة مع المسلمين بنفسه أو بمجتمعه.
إذن، فهذه الرواية أخصّ من الرواية الثانية؛ فتكون حجةً بلا ابتلاءٍ بالمعارض، فالرواية الأولى والثانية متساقطتان بالتعارض، ويكون المرجع هو الرواية الثالثة.
هذا بغضّ النظر عن أسانيد هذه الروايات، أما معه، فهي جميعاً ضعيفة السند؛ فنرجع إلى مقتضى القاعدة، وهو عدم جواز إقراض الكافر قرضاً ربوياً، نعم يجوز أن يؤخذ منه مقدار الفائدة ويُتملك بالحيازة فيما يتخيّل هو أنه أعطى ربا القرض المستحقّ عليه، فبذلك يحصل هذا الأثر المطلوب بنحوٍ مشروع.
ب ــ الاقتراض بفائدة
أما الاقتراض من الكافر بفائدة، فلو قلنا بمعقولية الاقتراض من غير الذمي لم يجز الاقتراض منه بفائدة ــ لا تكليفاً ولا وضعاً ــ فإنّ الذي يتوهّم جوازه ــ على أساس مهدورية مال الكافر غير الذمي ــ هو أخذ الفائدة منه، لا الاقتراض منه بفائدة، نعم يجوز أن يتوصّل إلى المقصود بأن يأخذ المسلم المال الذي يسلّمه إليه الكافر باسم القرض، ويتملّكه بالحيازة، ثم بعد ذلك يكون مجبوراً على تسليم ذلك المقدار ــ مع الزيادة ــ إليه قهراً وعدواناً؛ فيعطيه إيّاه لا من باب القرض الربوي، بل من باب التخلّص من شرّه.
هذا إذا كان البنك الكافر بأجمعه وومتلكاته للكفار، كما لو كان المودعون فيه أيضاً كفاراً، أما إذا كان المسلمون قد أودعوا فيه أموالاً بالقرض الربوي الباطل، فهنا يشكل تملك ما يُؤخذ من هذا البنك بالحيازة؛ إذ قد يكون ذلك ملكاً للمسلم، وهذا الإشكال إنما يستفحل إذا كان العلم الإجمالي متعلّقاً بنفس المال الذي أخذناه من البنك، فيكون من الحلال المختلط بالحرام، ويجري عليه حكمه، أما إذا كان العلم الإجمالي متعلّقاً بأموال البنك، دون خصوص ما أخذه المسلم منه، فكل ما أخذ يكون حلالاً؛ بقاعدة اليد، الحاكمة بأنه ملكٌ للكافر.
ثم إنّ لنا كلاماً في أصل معقولية اقتراض المسلم من الكافر غير الذمّي؛ فإنّ هذا إنما يكون معقولاً بناءً على كون القرض تمليكاً من قبل المُقرض، كما هي الحال على التعاريف السابقة للقرض، ما عدا التعريف الأخير؛ فإنّ المفروض أنّ الكافر مالكٌ لهذا المال، وله أن يملّكه، أما بناءً على التعريف الرابع المختار، فلا يتعقّل القرض في المقام؛ لأنّ القرض ــ بناءً عليه ــ ليس إلا إبرازاً لرضاه بتملّك المقترض هذا المال مع الضمان، من باب ضمان اليد، وإنّما يتعقل ذلك فيما كان الإتلاف بالتملك في نفسه موجباً للضمان، وإتلاف مال الكافر غير الذمّي بالتملك في نفسه ليس موجباً له؛ حتى تصل النوبة إلى الحديث عن أنّ الكافر هل يريد هذا الضمان بقاعدة اليد أو يرضى بعدمه؟
2 ــ 2 ــ بنك الدولة، أحكام المعاملات
والقرض من بنك الحكومة موقوفٌ على صحّة مالكية الجهة، وكذلك على ثبوت الذمّة للجهة، كما يكون هذا القرض أو الإقراض موقوفاً على وجود من تصحّ المعاملة معه بعنوانه ممثلاً لتلك الجهة أو ولياً عليها؛ فيقع الكلام ــ أولاً ــ في صحّة مالكية الجهة وثبوت الذمة لها، وثانياً في توضيح شرط صحّة المعاملة مع هذه الجهة، وثبوت هذا الشرط خارجاً وعدمه.
صحّة مالكية الجهة، هل الدولة مالكة بالمعنى الفقهي؟
أما الكلام في مالكية الجهة و.. فينقسم إلى قسمين:
أولاً: نتكلم في ثبوت ملكية الجهة وعدم لزوم كون المالك إنساناً واعياً، فنقول: إنّ الارتكاز العقلائي وشبهه يساعد على ثبوت ملكية الجهة أو الشيء غير الواعي، ويكفي عدم الردع من قبل الشارع في ثبوت إمضاء أصل النكتة المرتكزة، فنسرّي الإمضاء إلى المصاديق المستجدّة غير الموجودة في زمن الشارع، ونوضّح مساعدة الارتكاز العقلائي والفقهي على المقصود بذكر أمثلة:
1 ــ ما ثبت فقهياً من أنّ الزكاة ملكٌ للجامع بين الطوائف الثمانية، وبعض تلك الطوائف حيثية معنوية صرفة، من قبيل: سبيل الخير.
2 ــ إنّ الخمس نصفه للإمام، أي المنصب والمقام، ونصفه للجامع بين الفقراء والمساكين وابن السبيل.
3 ــ الملكية في الأوقاف العامة، كالوقف على العلماء أو الفقراء أو المسلمين، فإن قلنا: إنّ مفاد الوقف تمليك العين، تصبح الجهة ــ بالارتكاز العقلائي ــ مالكة للعين، وإن قلنا: إنه نحو تحبيس للعين ــ وهو غير التمليك ــ فلا أقلّ من تمليك الثمرة وأنّ منفعة الوقف ملكٌ طَلق للموقوف عليه.
4 ــ مالكية المسجد، وهو ليس إنسانا واعياً ــ بحسب الوعي الدنيوي الذي نفهمه ــ وهذه الملكية للمسجد تكون بأحد نحوين:
الأول: أن يوقف شيء على المسجد، فهذا من الأوقاف العامة، ويدخل فيما سبق، فيصير هذا المسجد مالكاً للعين أو الثمرة، على الوجهين الماضيين.
الثاني: مالكية المسجد لحيطانه، بناءً على ما هو المختار ــ تبعاً للسيد الأستاذ مد ظلّه ــ من أنّ المسجد هو المكان لا البناء الموجود فيه، فيكون المسجد مالكاً للبناء الموجود فيه؛ ولذا تصحّ ــ عقلائياً ــ المعاوضة بين الأشياء المبنية في المسجد بعد خرابه وشيء آخر يشترى بتلك الأشياء للمسجد نفسه، ولو كان البناء مسجداً لم تصحّ المعاوضة؛ لأنّ وقف المسجد عبارةٌ عن تحرير الرقبة.
5 ــ الأنفال التي هي ملك للنبي والإمام، بناء على ما هو الصحيح من أنّ المستظهر من أدلة الأنفال أنّ المالك لها هو نفس المقام؛ ولذا لا تورّث، وليس المالك هو الشخص ولو مقيداً بذلك المقام بأن يكون المقام حيثية تعليلية.
6 ــ ملكية الأراضي الخراجية، وفيها بحث، فقد يقال: إنّها من قبيل الوقف الذرّي؛ فلا تدخل في ملكية الجهة، وقد يقال: إنّها من باب ملكية العنوان، كما هو المستظهر من الأدلة، وهذا العنوان إما أن يكون طبيعيَّ المسلم بنحو صرف الوجود، بحيث يكون كلّ فرد في الخارج مصداقاً للمالك لا نفس المالك، أو يقال: إنّ الأمة الإسلامية بمجموعها شخصيةٌ واحدة، نسبتها إلى زيد وعمر كنسبة زيد إلى أذنه وعينه وأنفه، وهذه الشخصية المعنوية الواحدة هي المالكة الحقيقية، وهذان النحوان يرجعان إلى ملكية الجهة، والصحيح من هذه الاحتمالات الثلاثة هو الاحتمال الأخير.
فتحصّل أنّ ملكية الجهة أمرٌ يساعد عليها الارتكاز العقلائي والفقهي، ويكفي في ثبوتها شرعاً عدم الردع، أما الاستشكال بأنّ الجهة ليست أمراً واقعياً والملكية عرضٌ يحتاج إلى محلّ، فلا ينبغي الإصغاء إليه، والبحث في صحّته وبطلانه؛ لوضوح جوابه.
ثانياً: بعد أن كان للجهة ملكيةٌ تثبت لها الذمة أيضاً بالارتكاز العقلائي، نعم لو لم تكن تملك لم تكن لها ذمة أيضاً؛ إذ كيف يتصوّر وفاؤها بما في ذمّتها؟
ونوضح هنا ــ أيضاً ــ ثبوت الذّمة بالارتكاز العقلائي والفقهي عبر ذكر أمثلة:
1 ــ الاستقراض على ذمّة الوقف لو فرض أن متولّيه رأى حاجته إلى بناء، وليس له غلّة وافية بالفعل، وهذا مصرّح به في كلمات الفقهاء، وعلى طبقه عمل العقلاء، ولو أنّ الوقف لم يحصل له بعد ذلك ثمار يؤدّى بها الدين لم يكن للدائن الرجوع على الواقف أو الموقوف عليهم؛ فإنّ المديون ليس هو الواقف ولا الموقوف عليهم، وإنما هو العين الموقوفة التي عجزت عن الأداء.
2 ــ الاستقراض على ذمّة الزكاة إذا توقف حفظها عند الحاكم الشرعي على استيجار بيتٍ لها مثلاً، ولم يكن عنده من الزكاة ما يستأجر به البيت، وهذا مصرّح به عند الفقهاء([10])، والحكومات والدول تعتمد الاقتراض في ذمّة بيت المال، واذا تبدّل الشخص يؤخذ من بيت المال.
3 ــ الاقتراض على ذمّة الفقير إذا رأى الحاكم فقيراً معدماً ليس عنده من الزكاة ما يعطيه، وهذا أمرٌ مركوز عقلائياً، وصرّح بصحّته السيد محمد كاظم اليزدي ) في العروة([11])، واستشكل بعضٌ في ذلك([12])، لا من باب عدم ثبوت الذمّة لكلّي الفقير، بل من باب عدم ولاية المجتهد على ذلك.
4 ــ ضمان خطأ القضاة من بيت المال، باعتبار أنّ القاضي أتلف بما هو أداة للحكومة الإسلامية، لا بما هو معنى اسمي؛ فتضمن الحكومة الإسلامية وبيت المال.
شروط صحّة المعاملة المالية مع الجهة / الدولة
بما أنّ جهة الحكومة ليست إنساناً واعياً يتعامل معه، فيشترط في المعاملة معها ــ إقراضاً واقتراضاً ــ وجود وليّ شرعي عليها نُصب من قبل الشارع، إما بنحو خاص كالأئمة (، أو بنحو عام كالمجتهد العادل، بناء على ثبوت هذه الولاية له، وأما التعامل مع حكومةٍ غير شرعية فيكون من قبيل المعاملة في مال اليتيم مع غير وليّه الشرعي من أبيه أو جدّه أو الحاكم الشرعي، وهذا الشرط وجوده منحصرٌ في الأئمة ( والمجتهد العادل بناء على ثبوت هذه الولاية له، وعليه لا يصحّ إقراض الحكومة غير الشرعية ولا الاقتراض منها:
أ ــ أما إقراضها، فلأنها ليست ولياً على جهة الحكومة، فلا يكون إقراضها إقراضاً لجهة الحكومة المعتبرة، ولا تصبح الجهة ضامنةً، وإنما الضامن خصوص الأفراد المتسلّطين على الحكومة، وذلك بضمان الغرامة، فحينما يريد أن يستوفي قرضه منها يكون ما يأخذه مالاً مأخوذاً من الحكومة غير الشرعية، وكذا ما يأخذه منها باسم الفائدة.
ب ــ وأما الاقتراض منها، فلأمرين: أحدهما الولاية كما عرفت، وثانيهما ما يكون في كثير من الأموال الموجودة عند الحكومة الجائرة التي لا تكون مملوكةً لجهة الحكومة حتى يتكلّم في أنّ هؤلاء الأفراد أولياء على تلك الجهة، ويصحّ إقراضهم لتلك الأموال أو لا؛ فإنّ الأموال التي يجمعونها من الناس ليست كلّها من قبيل الزكاة التي ترجع إلى الحكومة الشرعية، بل كثيراً ما تكون ضرائب وضعت على الناس ظلماً وعدواناً.
وبتعبير آخر: إننا وإن قلنا بقابلية الجهة للتملّك وانشغال ذمتها، إلا أنّ تحقّق التملّك أو اشتغال الذمة بالفعل موقوف على أمرين: الأول وجود ما هو السبب الشرعي للتملّك أو انشغال الذمة، والثاني كون طرف المعاملة بنفسه سبباً شرعياً لذلك، بحيث يكون وليّاً شرعياً على تلك الجهة، وفي المقام انشغال ذمّة الحكومة بالإقراض فاقد للشرط الثاني؛ فإنّ إقراضها وإن كان سبباً شرعياً لانشغال ذمتها، لكنّ الأفراد القائمين عليها ليسوا أولياء شرعيين عليها، وحيث إنّ تملّك الحكومة ــ حتى يصحّ الاقتراض منها ــ فاقد على الأغلب لكلا الشرطين؛ لأن الأفراد القائمين عليها ليسوا أولياء، كما أنّ كثيراً من الأموال التي يأخذونها من الناس ليست بسبب شرعي في نفسه، فلا يصحّ الاقتراض المذكور.
وعليه، فهذا المال الذي يأخذه المقترض بعنوان القرض من الحكومة يلحقه أيضاً حكم الأموال المأخوذة من الحكومة غير الشرعية، وهو أنه إن احتمل أنّ هذا المال الذي أخذه مالٌ مستوردٌ من الكفار، وهو أوّل من أخذ هذا المال من الحكومة؛ حيث إنّ الأوراق النقدية تطبع في زماننا ــ عادةً ــ في بلاد الكفر؛ لاحتياج طبعها بنحو لا يمكن فيها التزوير إلى نوع من الخبرة غير الموجودة لدى كلّ أحد، جرت أصالة عدم تملّك المسلم لهذا المال وعدم حيازته له حيازةً مملكة، ولا يعارضها أصالة عدم تملّك المسلم لباقي الأموال الموجودة عند الحكومة؛ لخروجها عن محل الابتلاء، وأما إن كان له علم إجمالي بأنّ بعض هذا المال للمسلمين، أو على الأقل يعلم إجمالاً بأن بعض ما أخذه أو سوف يأخذه من الحكومة ملكٌ للمسلمين بنحو العلم الإجمالي التدريجي، فأصالة عدم تملّك المسلم تتعارض في الأطراف وتتساقط، ولابد من تطبيق حكم مجهول المالك حينئذٍ.
3 ــ 2 ــ البنك الأهلي الإسلامي/ بنك الأفراد المسلمين
أما القسم الثالث، وهو البنك الذي يكون لفردٍ مسلم أو لأفراد مسلمين، فالإقراض والاقتراض منه صحيح في نفسه، ويكون القرض الربوي باطلاً وحراماً، وهنا تصل النوبة إلى التخريجات الفقهية التي تعالج بها مشكلة الربا بالحيل الشرعية، وقد عرفت فيما سبق الصناعة العامة لتلك التخريجات.
وبعد أن وصل الكلام إلى البحث عن معاملات هذا القسم الثالث من البنوك، والذي تكون معاملاته مشروعةً بتمامها في نفسها، وبغض النظر عن أعمال الربا، نقول: إنّ معاملات البنوك تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1 ــ الخدمات المصرفية، أي ما يقدّمه البنك من خدمات للعميل.
2 ــ التسهيلات المصرفية، أي القروض التي يدفعها البنك للعميل أو غيره من المراجعين له صدفةً واتفاقاً.
3 ــ الاستثمارات المصرفية، أي الأعمال التي يقوم بها المصرف بملاك تجاري، وتدخل تحت عنوان البيع والشراء.
وهذا النشاط الثالث أضيق النشاطات الثلاثة، ففي كثيرٍ من بلادنا لا يؤخذ هذا النشاط في البنوك الموجودة فيها، إلا في نطاق ضيق جدّاً، وإنما الموجود هو النشاطان الأولان.
أ ــ الخدمات المصرفية
أمّا الخدمات المصرفية، فأوّلها وأهمّها قبول الودائع، وهي على قسمين: ودائع ثابتة تبقى عند المصرف مدّة معينة ليس لصاحبها حقّ السحب خلال المدة، فيما يدفع المصرف ــ عادةً ــ فائدةً لصاحب الوديعة، وودائع متحرّكة، وهي ما يسمّى بالحساب الجاري، والتي يودعها صاحب المال عند المصرف؛ تسهيلاً على نفسه في معاملاته؛ لكي يُحيل إلى المصرف متى ما أراد، وله حقّ السحب متى شاء، والمصرف لا يدفع بإزاء ذلك فائدةً عادةً.
وتتركّب أموال المصرف ــ عادةً ــ من الودائع ومن رأس المال الذي يكون لصاحب المصرف أو أصحابه، وتكون نسبته أحياناً إلى مجموع الأموال العُشر، فيما تكون تسعة أعشار المال من الودائع.
ويقع المصرف بين خطرين؛ فإن أفرط في التوظيف، وهو إقراض الأموال من الناس بمُدد مختلفة ــ طولاً وقصراً ــ وكلّما كانت أطول كان النفع أكبر، وقع في خطر أنّه قد يراجعه أصحاب الأموال لسحب أموالهم، فتكثر المراجعات لصدف حربية أو اقتصادية أو سياسية ونحو ذلك، وليس له ما يدفعه إليهم، وإن فرّط في السيولة، أي إبقاء الأموال وعدم توظيفها، وقع في خطر عدم الانتفاع وعدم الفائدة، وفنّ الصيرفة عبارة عن التوفيق بين هذين الجانبين، والاحتراز عن كلا الخطرين.
والكلام في تحقيق هذه الخدمة، أعني قبول الودائع، يقع في أربع جهات:
الجهة الأولى: معنى الوديعة، فهل هذه الودائع التي يقبلها البنك ودائع وأمانات أم أنّها قروض؟
الجهة الثانية: معنى الحساب الجاري، والذي هو أحد أقسام الودائع، فما هو معنى الحساب الجاري؟ وهل يحتاج إلى عقد زائد على معنى القرض كما عليه الفقه الغربي أو لا يحتاج إلى مؤونة زائدة؟
الجهة الثالثة: طرق الإيداع، وأنه كيف يودع التاجر في هذا البنك؟ وهل هذه الطرق صحيحة أو لا؟
الجهة الرابعة: طرق السحب، أي أنّه كيف يسحب التاجر ما أودعه في البنك؟ وما هي طرق السحب؟ وهل هي صحيحة أم لا؟
أ ــ أ ــ معنى الوديعة البنكية
وقع شكّ فقهي في أنها ودائع أو قروض، بينما لم يقع شك فقهي في ذلك في القروض التي يعطيها البنك للتجار، ولا إشكال في أن وضعها الخارجي أنها قروض، غاية الأمر قد يقال: إننا نبدّل عنوانها من القرض إلى البيع أو الجعالة ونحو ذلك من التخريجات كما تقدّم؛ فراراً عن الربا، وإلا فلا إشكال ــ بنحو القضية الخارجية ــ في أنّ الأموال التي يعطيها البنك إلى التجار قروضٌ، ولم يقع شك في ذلك، لا في الفقه الغربي ولا في فقهنا الإسلامي، وإنما وقع الشك في حال الأموال التي يأخذها البنك من أصحاب الودائع، ومنشأ هذا الشك تسميتُها بالودائع بحسب اصطلاح البنك مع أصحابها، وهذا الشك موجودٌ في الفقه الغربي والفقه الإسلامي معاً، وهناك من كان يعبّر عنها بالودائع الناقصة.
وتحقيق الحال في المقام يكون في مقامين:
الأول: في أنّ هذه المعاملة التي تقع خارجاً، هل ينحصر وجهها المعقول ــ بحسب مقام الثبوت ــ في أن يكون مقصود المتعاملين منها هو القرض، أو أنه يمكن أن تكون ــ بحسب المقام عينه ــ معاملةً من العقلاء غير القرض.
الثاني: إن ثبت في المقام الأول تصوّر غير القرض ثبوتاً، فما هو مراد هؤلاء العقلاء إثباتاً؟ إذ إذا اخترنا في المقام الأول عدم تصوّر غير القرض فلا تصل النوبة إلى المقام الثاني.
التحليل الثبوتي للودائع البنكية
أما المقام الأول: فهناك من الفقهاء من ذهب إلى عدم تعقّل غير القرض في المقام، وذكر في وجه ذلك أنه لا إشكال في أنّ البنك له أن يتصرّف في هذه الوديعة، ولو ربح كان الربح له لا للمودع؛ فإنّ المودع ليس له إلا حصّة معينة في ذمة البنك، وهذا لا يمكن تخريجه إلا على القرض؛ فإنه لو لم يكن قرضاً كان وديعةً واستيماناً؛ فالإذن في التصرف وإن كان معقولاً، لكن لا يعقل أن يكون الربح ملكاً للبنك؛ إذ قانون المعاوضة يقتضي انتقال الثمن إلى مالك المثمن وبالعكس، إذاً، فقد خرجت هذه الوديعة من ملك المودع إلى ملك البنك؛ حتى يتعقل كون عوضها المشتمل على الربح قد دخل في ملك البنك، ومن المعلوم أنّه لم تخرج هذه الوديعة إلى ملك البنك مجاناً وبنحو الهبة، إذاً لابد أن تكون قد خرجت من ملك المودع إلى ملك البنك على وجه الضمان، وهذا هو القرض.
والتحقيق في المقام عدم انحصار الأمر ــ ثبوتاً ــ في القرض؛ ذلك أننا نواجه هنا آثاراً أربعة لابد من تفسيرها:
1 ــ إنّ البنك يرى أنّ له أن يتصرّف في هذا المال.
2 ــ إنّ هذه الوديعة مضمونة على البنك.
3 ــ إنّ البنك يملك أرباحها.
4 ــ إنّ المودع له شيء على البنك هو الذي يسمّى بالفائدة.
وهذه الآثار الأربعة لا تختصّ بالقرض، بل يمكن تخريجها على غيره:
أما الأثر الأول: وهو أن البنك له أن يتصرّف في هذه الوديعة، فلا إشكال في أنه لو كان قرضاً كان هذا الأثر تاماً في المقام، لكن يمكن تتميمه أيضاً بناء على أنّ بابه باب الاستئمان، وذلك بأن يقال: إن بابه باب الاستئمان المالكي، لكن مع تجويز تصرّف المستأمَن فيه، ولعلّ هذا هو معنى تعبيرهم بالوديعة الناقصة في مقابل الوديعة التامة، فالوديعة التامّة ما لم يأذن المودع أن يتصرّف المودَع عنه في المال، فيما الوديعة الناقصة ما أذنَ المودع في التصرّف فيه.
أما الأثر الثاني: وهو الضمان، فهو واضحٌ بناءً على القرض، أمّا بناءً على الاستئمان المالكي، فيقع الكلام في أنه من أين جاء الضمان في المقام، مع أنّ الأمين لا يضمن عقلائياً وشرعاً؟
ويمكن تخريج الضمان في المقام بعدة تخريجات:
التخريج الأول: ما أشرنا إليه فيما سبق، من أنه في موارد الاستئمان المالكي إذا لم يكن هناك استنابة، فالمالك تارةً يأذن بالتصرّف بلا ضمان؛ فلا يترتّب ضمان، وأخرى يكون إذنه مقيداً بفرض الضمان؛ فيثبت الضمان بنفس مقتضى اليد، وهو ضمان الغرامة؛ فإن اليد على مال الغير توجب الضمان ما لم يرضَ صاحب اليد بعدمه؛ ولذا يثبت الضمان في باب العارية وينتفي ــ عقلائياً ــ حسب إرادة المعير.
التخريج الثاني: أن يكون هذا المال ــ بالرغم من بقائه على ملك مالكه الأول ــ مضموناً بضمان عقديّ، وفرقه عن الوجه السابق أنّ الضمان في السابق كان ضمان اليد، أما هنا فنثبت الضمان بالعقد، وتوضيح ذلك أنه يوجد عندنا عقدان اسمهما عقد الضمان، بنحو الاشتراك اللفظي:
أحدهما: عقد الضمان الذي يُذكر في الكتب الفقهية بالمعنى الذي يُجعل في مقابل الحوالة والكفالة، وهو ما يعبّر عنه الفقهاء في تفسيرهم له بأنه نقل المال من ذمة إلى ذمة([13])، وهو عقد صحيح عقلائياً وشرعاً، وهذا العقد ــ كما يظهر من نفس حقيقته وتفسيره ــ لا يعقل أن يطرء إلا على الديون ويكون أثره الإبراء ونقل الدَّين من ذمة إلى ذمة.
ثانيهما: جعل الشيء في عهدته، وهذا معنى عقلائي في نفسه، وكثيراً ما يقع بين العقلاء خارجاً، فمثلاً يطلب شخصٌ من شخص آخر عاريةً، وهو لا يستأمنه، فيأتي شخصٌ آخر ويقول: أعره وأنا ضامن لهذا المال إذا تلف، والمجعول في هذا القرض ليس نقل المال من ذمّة إلى ذمة؛ إذ ليس هناك دَين، وإنما كون المال في عهدته، فكون المال على عهدة شخص كما يتحقق بالغصب قبل تلف العين، كذلك يتحقّق بالجعل والإنشاء.
وهذا المعنى لعقد الضمان يختلف عن المعنى الأول ــ مضموناً ومورداً ــ فمن حيث المضمون ليس هو نقل المال من ذمة إلى ذمة، بل هو جعل الشيء في عهدته، ومن حيث المورد كان الأول مختصّاً بباب الديون، فيما يتصوّر هذا في باب الديون، كما لو طلب شخص من آخر القرض وهو لا يستأمنه، فيأتي ثالث ويقول: أقرضه والمال في عهدتي، وهذا ليس معناه أنّني أنا المديون، بل معناه أنه حينما يأتي موعدُ الوفاء ولا يفي ذاك، يأتي الدائن إلى الضامن ويطالبه، كما يتصوّر في الأعيان الخارجية، كما مثلنا بمن يطلب العارية، وليس أثره إبراء الذمة ونقل المال من ذمّة إلى أخرى، كما في المعنى الأول لعقد الضمان، بل أثره جعل المال في العهدة، بحيث لو تلف ــ عقلاً أو عرفاً ــ تشتغل ذمته به، فهذا معنى عقلائي رائج للضمان، ونحن ندّعي أنه صحيح شرعاً أيضاً؛ إما من باب الدخول تحت عمومات أوفوا بالعقود، أو من باب الإمضاء وعدم الردع للسيرة العقلائية، وعليه فنحن نطبّق في المقام الضمان بهذا المعنى، وليس معناه انتقال المال إلى ملك البنك، بل هو باق على ملك صاحبه، ومع ذلك يكون البنك ضامناً بضمان عقدي، وليس هذا عقد الضمان المتعارف الذي يذكر في الفقه، حتى يقال: إنه يختصّ بباب الديون، وليس هنا دين.
التخريج الثالث: أن يبدّل صاحب الوديعة ماله الشخصي الجزئي إلى الكلّي في المعيّن، أي يبدّل ماله ــ وهو مائة دينار مثلاً ــ إلى كلّي مائة دينار، لكن لا في ذمّة البنك، بل في المعيّن، أي في الأموال الخارجية التي هي مجموع أموال البنك وأموال المودعين، والمعيّن هنا بعضه معيّن خارجاً وبعضه معيّن ذمّةً؛ لأن أموال البنك بعضها في ذمم الناس، ولا بأس بذلك، وأثر تبديل ماله الجزئي إلى الكلي في المعيّن أنه لو تلف مقدارٌ من المال مع بقاء مقدار ما يطالبه هذا الشخص يكون ماله محفوظاً من دون ورود نقصان عليه.
وهذا الوجه يثبت ضماناً محدوداً لا مطلقاً؛ إذ ينتج أنه مادام في أموال البنك ما يفي بالوديعة كان ماله محفوظاً، وإلا فالبنك معذور في المقام، وهذا الضمان المحدود هو الذي يسمّى في الفقه الغربي بالمسؤولية المحدودة، وهذا هو الغالب في كثير من الشركات التجارية، حيث مسؤولية الضمان فيها محدودة في حدود أموال الشركة الموجودة خارجاً، بحيث لو لم يبقَ مال لا يطالب ببستانه الذي ورثه من أبيه أو بأمواله الأخرى.
فهذه تخريجات ثلاثة للضمان كلّها مركوزة عقلائياً وشرعاً.
أما الأثر الثالث: وهو أنّ البنك يملك أرباح هذه الودائع، فهذا واضح بناءً على كونها قرضاً، أما بناء على عدم كونها كذلك، فقد مضى من بعض الفقهاء أنه لو لم يكن قرضاً لما كانت الأرباح للبنك، لكون ذلك خلاف قانون المعاوضة.
والتحقيق في المقام أن الربح هنا إما أن يكون ربحاً قرضياً، أي الفوائد الربوية التي يستفيدها البنك بإقراض هذه الودائع وهذا هو الغالب، أو يكون ربحاً بيعياً، أي أن البنك يتاجر بهذه الودائع فيربح، وهذا فرض شاذ، فإن فرض الربح قرضياً فلا يأتي هنا الإشكال الذي ذكره بعضهم، من أن عود الربح إلى البنك مع عدم كون الوديعة قرضاً مملوكاً له خلاف قانون المعاوضة، فإنّ هذا الربح ليس من باب المعاوضة، وإنما هو من باب الاشتراط والتباني، ومن المعقول ــ بحسب ارتكازات العقلاء ــ أن يجعل صاحب المال الذي يقرض مالاً إلى شخص فائدةً على ذلك الشخص لثالث، ويتبانيا على هذا الأمر، كما يصحّ ــ عقلائياً ــ تبانيهما على ثبوت فائدة لصاحب المال، وعلى هذا فنفرض أن صاحب الوديعة كما أذن للبنك إقراض المال كذلك أذن له أن يشترط في ضمن عقد القرض فائدةً لغير صاحب المال، أي للبنك.
تخريج ثالث للقروض الربوية
ويمكن أن يُصاغ عن هذا الطريق تخريج ثالث من تخريجات القروض الربوية، فيصحّح به الاقتراض من البنك مع إعطاء الفائدة، ويضاف إلى التخريجين السابقين، بأن يقال: إنّ صاحب البنك يُقرض ما عنده من الوديعة، وهو ماله، ويشترط الفائدة لا لصاحب المال، حتى يكون رباً، بل لنفسه، وهو شخص أجنبي، والربا إنما هو شرط الزيادة لنفس صاحب المال، فقد عمل صاحب المال بقانون: >لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون<.
والتحقيق ان هذا التخريج ــ أيضاً ــ غير صحيح؛ وذلك لأمرين:
الأمر الأول: إنّ بعض الروايات الدالّة على حرمة الربا القرضي فيها إطلاق يتناول مثل هذا الشرط، من قبيل رواية محمد بن قيس([14])، التي تقول إذا اقرضت ورقاً فلا تشترط الا ارجاع مثلها، فهذه تنفي كلّ شرط آخر غير شرط إرجاع المثل.
الأمر الثاني: إنّ هذه الزيادة، وإن كانت مشترطةً لغير المالك، لكن مالك الشرط إنما هو نفس المُقرض، فلو أقرض ديناراً واشترط أن يُملّك ديناراً آخر لشخص ثالث بنحو شرط الفعل، أو أن يكون عليه دينارٌ له بنحو شرط النتيجة، فالدينار الزائد وإن أعطي للثالث، لكنّ مالك هذا الشرط والذي له المطالبة به كما له حقّ الإسقاط، إنما هو المُقرض، وهو شرطٌ له ماليّة وقيمة؛ إذ بإمكانه حلّ هذا الشرط وإسقاطه، وهذا الإسقاط يقابل بالمال، فالمقرض له أمرٌ زائد على أصل المال، وهو هذا الشرط.
وعلى أيّ حال، فلا ينحصر أمر رجوع الربح القرضي إلى البنك في عدم كون الودائع قروضاً.
وإن فرض الربح بيعياً يأتي إشكال أولئك الذين استشكلوا في عدم فرض هذه الودائع قروضاً من باب أنّ رجوع أحد العوضين إلى غير مالك العوض الآخر خلاف قانون المعاوضة، وهذا بحسب الحقيقة ليس من أرباح البنوك، إذ يشذّ كون ربح البنك بيعياً؛ لأن الغالب في ربحه أن يكون قرضياً.
وعلى أيّة حال، يمكن حلّ الإشكال ــ حتى في الربح البيعي ــ وذلك بأن يفرض في المقام اشتراط تمليك هذا الربح للبنك في طول انتقاله إلى المالك، أي أنّ المودع ينشأ تمليكاً معلقاً ومشروطاً بتملّكه، فيقول: إن تملكتُه فهو لك، وهذا الشرط إما أن يكون ابتدائياً، لو قلنا بأن الشرط الابتدائي المعلّق صحيحٌ عقلائياً، وإلا فليكن شرطاً في ضمن عقدٍ من عقود تخريجات الأثر الثاني، حتى يكون صحيحاً عقلائياً وشرعاً؛ فيشترط ــ مثلاً ــ هذا الشرط في ضمن عقد تحويل المال الخارجي إلى الكلّي في المعيّن أو عقد الضمان، وهذا الشرط وإن كان شرط التملّك المعلق للمنجز، ولكنّ التنجيز إنما قام الدليل على اعتباره في العقود لا في الشروط، تبعاً للمحقّق النائيني ) الذي ذكر ــ على ما في تقريرات بحثه ــ أن القدر المتيقن من دليل اشتراط التنجيز هو العقود لا الشروط.
أما الأثر الرابع: وهو ثبوت منفعةٍ للمودع يأخذها من البنك، فهو واضح بناءً على كون الودائع قرضاً؛ فإنّ هذه المنفعة تكون هي الفائدة الربوية للقرض، وأما إذا لم تكن قرضاً، فيمكن تخريج ذلك بوجوه:
أ ــ فإما أن نفرض أنّ هذا المبلغ استثني ممّا مضى من شرط انتقال الربح من كيس المودع إلى كيس البنك، إذا كان ربح البنك بيعياً، وأمّا إذا كان قرضياً، فيقال: إنّ هذا الربح ربا يأخذه المودع الذي هو المُقرض حقيقةً بواسطة البنك، فقد اشترط مقداراً من الربح لنفسه ومقداراً من الربح للبنك.
ب ــ أو نفرض أنّ هذه الزيادة أخذت قيداً في الإذن في تصرّف البنك في هذا المال الذي مضى في الأثر الأول، فإذا لم يدفع هذا المال لم يكن له إذن، ويكون تصرّف البنك محرماً وفضولياً ــ عقلائياً ــ نعم هذا التقريب لا ينتج كون البنك مديناً بهذه الزيادة، وإنما ينتج أنّ عليه ــ أي البنك ــ أن يملّك.
ج ــ أو نفرض أنّ هذه الزيادة أخذت بنحو الشرط في ضمن أحد العقود المصحّحة للأثر الثاني، من عقد الضمان أو عقد التحويل، فهذا شرطٌ في مقابل شرط، فكما اشترط البنك على المودع شيئاً كذلك اشترط المودع عليه شيئاً.
ثم إنّ هذه التخريجات العقلائية صحيحةٌ شرعاً أيضاً بناءً على الاقتصار في حرمة القرض الربوي على نفس القرض الربوي، وعدم التعدّي إلى ما يكون أثره النوعي نفس أثر القرض الربوي، حيث تصحّ ــ حينئذٍ ــ هذه التخريجات على تدقيقات في بعضها لا يسعها المجال، وأما بناء على ما هو المختار من التعدّي، فهذه التخريجات بعضها لا يخرج المعاملة عن كونها ذات غرض نوعي مقصود من نفس القرض الربوي، وبعضها يخرجها عن ذلك، فمثلاً التخريج بعقد الضمان بأن يعقد الضمان بدلاً عن القرض، ويشترط في ضمن العقد ثبوت فائدة على المضمون له يكون غرضه النوعي مطابقاً للغرض النوعي من القرض الربوي، بخلاف ما إذا أوقع عقد تحويل المال من الجزئي إلى الكلّي في المعين واشترط في ضمنه تلك الزيادة، فإنّ هذا ليس غرضه النوعي نفس الغرض النوعي لعقد القرض الربوي، فيكون جائزاً أو صحيحاً شرعاً إن لم نقل: إنّ المقصود من المكيل والموزون في روايات: لا ربا إلا في المكيل والموزون، هو مطلق المثلي؛ فيشمل نقودنا.
التحليل الإثباتي للودائع البنكية
وأما المقام الثاني: فلا ينبغي الإشكال في أنّ مقصود المتعاملين هو القرض، لا هذه التخريجات، ومنشأ الشبهة لم يكن إلا إطلاق اسم الودائع عليها، والواقع أن إطلاق اسم الودائع عليها إطلاق تاريخي، لا إطلاق لنكتة فقهية؛ فهذا الإطلاق نشأ ممّا ذكرناه في ما مضى، من أن شغل الصرّاف كان قبول الودائع، ثم تطوّر الشغل وبقي اسم الودائع على هذه الأموال، والآن لم يبق ــ في حدود ما أعلم ــ قانون على وجه الأرض لا يعترف بأنّ هذا قرض، ولا يرتّب عليه ما يشرّعه من أحكام على القرض، هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.
ونحذف ما تبقى من البحث في المقام([15])، وقد وفينا بما وعدناه في أول البحث، وهو عنوان التخريجات الفقهية لقروض البنك وإقراضاته، فقد ظهرت تخريجات ما يأخذه البنك في هذه الأبحاث الأخيرة، وظهرت ثلاثة تخريجات لإقراض البنك، اثنان منها تقدّم سابقاً، وهما تحويل القرض إلى البيع، وتحويله إلى الجعالة، والثالث ظهر أخيراً.
* * *
الهوامش
([1]) الحر العاملي، وسائل الشيعة 18: 153 ـ 155.
([2]) النوري، مستدرك الوسائل 13: 303.
([3]) هذا مضمون روايات، فانظر: وسائل الشيعة 7: 407 ـ 408.
([4]) وسائل الشيعة 18: 54، أبواب أحكام العقود، باب 9، ح1.
([5]) سيأتي منه ) تخريج ثالث فيما بعد، فليلحظ ذلك (المصحّح).
([6]) الصدوق، من لا يحضره الفقيه 3: 278؛ والحرّ العاملي، وسائل الشيعة 18: 136.
([7]) الحر العاملي، وسائل الشيعة 18: 135 ـ 136.
([8]) الطوسي، تهذيب الأحكام 7: 18، ط. دار الكتاب الإسلامي.
([9]) الحر العاملي، وسائل الشيعة 18: 136.
([10]) انظر ـ كمثال ـ اليزدي، العروة الوثقى 4: 179 ـ 181، وانظر آراء الفقهاء في الهوامش.
([11]) المصدر نفسه.
([12]) المصدر نفسه، الهوامش.
([13]) انظر: فخر المحققين، إيضاح الفوائد 2: 85؛ ورسائل الكركي 1: 191؛ والخوئي، مصباح الفقاهة 2: 229، و..
([14]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 18: 307.
([15]) أي الجهات الثلاث الأخرى من جهات البحث في الخدمات المصرفية، وهي: معنى الحساب الجاري، وطرق الإيداع، وطرق السحب، كما حذف السيد الشهيد سائر نشاطات البنك وهي: التسهيلات المصرفية، والاستثمارات المصرفية؛ والظاهر أنّ سبب ذلك انتهاء شهر رمضان المبارك، والمفروض أنّ الدرس كان في العطلة الرمضانية، والله العالم (المصحّح).