يحتاج الفقه الإسلامي، كسائر العلوم البشرية، إلى إعادة هيكلة وتبويب كل فترة؛ لأنّ تبويب الفقه وتقسيم مباحثه ليس أمراً جزافياً أو اتفاقياً عادةً، وإنما يلعب دوراً في مسيرة العلم، أو يكشف عن تصوّر له، فقد يعيق حركته، وقد يدفعه إلى الأمام، كما قد يجعله مواكباً للواقع، وقد يصيّره أعجز عن أن يؤثر فيه أو يصاحبه، من هنا تحتاج العلوم ـ عادةً ـ إلى إعادة هيكلة تستجيب لطبيعة التطوّرات من جهة، كما تدفع العلم نفسه نحو مزيد من الإنتاج، من جهة أخرى.
وفي هذا الإطار سنأخذ مباحث الجهاد من الفقه الإسلامي ــ سيما الشيعي ــ كي نحاول رصد الهيكلة والأهمية فيها.
1ــ النقطة الأولى التي تواجهنا في موضوع فقه الجهاد، ظاهرة عدم الاهتمام الفقهي الشيعي الجادّ بهذا الملف الهام، حيث نجد أن بعض الفقهاء حذف ــ كلياً ــ من دوراته الفقهية هذا البحث؛ فالمحقق النراقي (1254هـ) الذي لم يستعرض في كتابه القيّم «مستند الشيعة» مباحث الجهاد، نجده في حاشيته على كتاب الروضة البهية للشهيد الثاني (965هـ)، يُتمّ التعليق على كتاب الحج من الروضة، ثم يقفز لكتاب القضاء، دون أن يستعرض شيئاً من كتاب الجهاد الذي يقع في الروضة ما بين الحج والقضاء، فإذا كان باب الجهاد موجوداً في الروضة، وكان الكتاب في الأصل حاشيةً على الروضة، فلم تمّ القفز فوقه دون أي تعليقةٍ عليه؟!
وعلى المنوال عينه، السيد أحمد الخوانساري (1405هـ) صاحب كتاب «جامع المدارك»، فإنّ هذا الكتاب يمثل دورةً فقهيةً يعدّ كتاب «المختصر النافع» للمحقق الحلّي (676هـ) متناً لها، وفي المختصر النافع يوجد كتاب الجهاد، لكننا نرى أن السيد الخوانساري، عندما يصل إلى فقه الجهاد من المختصر، يقفز عنه، ولا يكتب حوله شيئاً، الأمر الذي لا يمكن تفسيره إلا على أساس التعمّد، لعدم احتمال السهو هنا.
والأمر عينه نجده مع الشيخ الصدوق (381هـ)، حيث حذف بشكل تام كتاب الجهاد من «المقنع»، فيما تعرّض له باختصار شديد في كتاب «الهداية»، وهما الكتابان الفقهيان الرئيسان له، تماماً كما حصل مع الشيخ المفيد (413هـ) في «المقنعة»، حيث دمج عنوان الجهاد والأمر بالمعروف مع بعضهما لكنه لم يتحدث عن الجهاد إطلاقاً رغم وضعه عنوانه في الأعلى.
ولست هنا بصدد استقصاء هذه الظاهرة، لكنني أعتقد أنها ذات دلالة، كما لا أقصد أن هناك تجاهلاً تاماً في الفقه الشيعي لمباحث الجهاد، فكتاب الجهاد في الفقه واضح موجود، إلاّ أنه لا يمكن مقارنة مباحث الطهارة به ولا مباحث البيع، فالاهتمام به كان من الدرجة الثالثة إن لم نقل: أقلّ.
وتؤكد هذه الظاهرة تجاهل فريق من الفقهاء لهذا الموضوع، ولعلّ السبب في ذلك يرجع إلى أن الفقه الإمامي لم يشعر أنه بحاجة إلى دراسة موضوع الجهاد، لقلّة بلواه به، سواء على مستوى الفرد الشيعي أو على مستوى الدولة أو الجماعة الشيعية، وما يعزّز ذلك أننا لاحظنا تدوين العديد من الرسائل الجهادية في الحقبة القاجارية، كالرسالة الجهادية للملا رضا الهمداني، كما نجد في الحقبة نفسها توسّع بحوث الجهاد، وأبرز أنموذجين على ذلك ما نلاحظه في كتاب «كشف الغطاء» للشيخ جعفر كاشف الغطاء (1227هـ)، وكتاب «رياض المسائل» للسيد علي الطباطبائي (1231هـ)، وهما من أبرز أعلام تلك الحقبة، حيث أفاضا في مباحث الجهاد؛ نظراً لابتلاء الدولة القاجارية آنذاك، وعلى مرحلتين، بحرب ضروس مع الروس، وهذا ما يؤكّد أن مسألة الابتلاء الشيعي بموضوع الجهاد وعدمه لعبت دوراً كبيراً في ضمور بحوث الجهاد أو توسّعها، ولهذا شاهدنا تراجعاً لمباحث الجهاد نهايات العصر القاجاري، كما أن السبب عينه هو ما يجعلنا نرى تطوّراً في دراسة موضوع الجهاد في الفقه السنّي، عندما نقارن ما كتبه السنّة بما كتبه الشيعة.
ومما يشير إلى مسألة الابتلاء ودورها ــ ولو إشارة فيها بعض الضعف ــ حذف السيد المرتضى (436هــ) كتاب الجهاد من «جمل العلم والعمل»، مع تعهّده بذكر ما عمّت به البلوى واحتاجه كلّ مكّلف، مما قد يوحي بعدم كون موضوع الجهاد موضوعاً ابتلائياً آنذاك.
2 ــ وعلى هذا الأساس، يُفترض إعادة تحريك ظاهرة الاهتمام بفقه الجهاد في الوسط العلمي؛ إذ الأمّة ــ من جهة ــ تعيش مفردات كثيرة لهذا الجهاد، وعلى صُعد مختلفة، داخلية وخارجية، كما أن المجتمع الشيعي مند بداية انطلاقة الثورة الإسلامية في إيران، والعراق، ولبنان.. شهد تجربةً جديدة، مليئة بالوقائع والابتلاءات والمستجدات والنوازل، فكيف يمكن بعد ذلك أن يتجاهل الفقهاء هذا البحث الهام، بعد كثرة الابتلاء به وعظيم الحاجة إليه؟! من هنا دعوتنا لمشاريع عمل فقهية فيما يخصّ «فقه الجهاد»، لا سيما على المستوى الشيعي.
3 ــ وهناك ما يفرض أحياناً إعادة قراءة باب الجهاد في الإسلام غير ظاهرة الابتلاء العام، وهو دخول موضوع الجهاد مجال السجال الفكري بين الغرب والإسلام، فمسألة الجهاد الابتدائي وحرية الرأي والمعتقد، وكذا موضوع الجزية والذميّة و.. ملفات ثقافية شائكة تحتاج إلى دراسة على ضوء آخر الأوضاع النقدية الموجودة، تماماً كمقولة انتشار الإسلام بالسيف، وأن العلاقات الدولية في الإسلام تؤسّس على الحرب، أو ما يسمّى بأصالة الحرب دون السلم، وفي هذا السياق يأتي دخول موضوع إهدار دماء الحربيين، بعد تعميم تعريفهم لكلّ من هو غير ذمّي ولا معاهد، مع دراسة مسألة المعاهدة على ضوء التعميم الذي مال إليه بعض الفقهاء المتأخرين من شمولها لمعاهدات الشعوب، أو لمعاهدة الأمم المتحدة، بحيث يؤدي ذلك إلى تغييرات جذرية تماماً في الموقف الفقهي على صعيد العلاقات مع غير المسلمين في العالم.
ولا نقصد بإعادة النظر تطويع الفقه الإسلامي للواقع، أو للآراء الجديدة الغربية وغيرها، وإنما التعامل معها على أساس الاحترام الفكري والجدية، ومن ثم فغياب مباحث الجهاد فترةً طويلة في ظلّ التطوّر المعرفي في العالم يستدعي حاجةً لقراءة جديدة غير انهزامية ولا تطويعية.
4 ــ وفي هذا السياق، نلاحظ دخول ظواهر مستجدة قد تفرض إعادة النظر في مباحث سابقة، وكمثال على ذلك موضوع تقسيم الغنائم بين المقاتلين، فإن هذا الأمر، قد يقال: إنه لم يعد له اليوم معنى؛ إذ لا معنى لتقسيم الدبابات والطائرات بين المقاتلين على رأي بعضهم، أو مسألة أحكام المبارزة التي لم يعُد لها معنى اليوم، أو إعطاء الأمان من أيّ مسلم لأيّ كافر على بعض المعاني على الأقلّ، أو مسألة القتال في الأشهر الحرم مع حرمة النسيء مما بات يفسّره بعضهم على أنه حكم خاصّ بوضع الجزيرة العربية اقتصادياً آنذاك، أو تعميم مفهوم المرابطة لمطلق قوى الأمن المتواجدة على الحدود وفي الموانئ والمطارات و…
ولا نقصد تصحيح هذه الآراء فعلاً، إلا أنّ طبيعة مباحث الجهاد تتحمّل الكثير منها؛ باعتبار حراكية هذا الموضوع الذي تتحوّل ظروفه بتغيّر الزمان والمكان؛ مما يستدعي إعادة قراءته بشكل جديد، شرط عدم تملّك الروح الانهزامية للباحث نفسه؛ فيحافظ ــ بذلك ــ على أصالة الفقه وحراكيّته في آن.
5 ــ على صعيد آخر، اختلفت منهجة البحث في الجهاد بين الفقهاء اختلافاً كبيراً، ويمكن القول: إن أكثر بحوث الجهاد لم تقع منظّمةً على أساس خارطة واضحة ومنتظمة مسبقاً، وإنما جاءت على شكل مسائل متتالية، ونلاحظ على هذا الصعيد أنّ بعض المصنفات الفقهية أدرجت بحث المحارب في كتاب الجهاد، والمفروض إدراجه في الحدود كما هو المتعارف، وكذا الحال في بحث الارتداد، أو سبّ النبي، وبحث الأمر بالمعروف، والإشكالية التي تظهر هنا أنه ليس كلّ استخدام للقوّة جهاداً، حتى تقحم موضوعات تتعلّق بالأمن الداخلي للدولة أو بالجهاز القضائي في دائرة موضوع الجهاد.
كما أدرجت بعض المصنّفات ــ مثل جواهر الكلام للنجفي (1266هـ) ــ بعض أحكام باب النكاح والمعاملات الواقعة مع أهل الذمّة في باب الجهاد، فيما المفروض أن يكون بحث الذمة المتعلّق بالجهاد مقتصراً على مبدأ الذمام وشروطه وما يوجب سقوطه، دون التفاصيل اللاحقة ــ عملياً ــ عليه، من أحكام مناكحتهم أو قضائهم أو.. مما غدا ينتمي إلى قضايا الدولة الداخلية لا إلى جهازها الدفاعي، ويتصل بباب فقهي جديد في تبويبه هو فقه الأقليات، سواء الدينية أو العرقية أو اللغوية أو.. وهو ما ينفتح على مفهوم المواطنة في الدولة الإسلامية.
وهكذا نجد أنّ بعض الكتب الفقهية تعرّضت بشيء من التفصيل لأحكام الأراضي في باب الجهاد، بل تعرّضت لإحياء الأرض الموات، كما تعرّضت لمبحث الأنفال وتفاصيله، وبعض مسائل الخمس، والمفروض في ذلك كلّه أن يُدرج في النظام المالي والاقتصادي للدولة، وأن يُقتصر في مباحث الجهاد على أولياته، وموجبات دخول الأموال في ملكية المسلمين أو الدولة الإسلامية، بسبب نزاع عسكري أو نحوه.
والملاحظة المستجدة حول الموضوع أن المباحث الفقهية ينبغي إعادة تنظيمها تبعاً لتطوّر الدرس القانوني وانشعاباته، فمباحث قد تكون اليوم في كتاب الجهاد تغدو غداً في كتابٍ آخر والعكس صحيح؛ إذ لا توجد صيغة توقيفيّة لتقسيم الأبواب والبحوث في الفقه الإسلامي؛ حيث نلاحظ أن ترتيب الفقه ــ مثلاً ــ قبل صاحب الشرائع في القرن السابع الهجري كان مختلفاً عن ترتيبه بعده وهكذا.
من هنا، يفترض في التقسيم المقترح أن يرعى هذا الجانب، لذا نلاحظ أن المقصود بالجهاد هو فقه الحرب والسلم بما يشمل العلاقات العسكرية بين الدولة الإسلامية وما هو خارج جغرافيتها، إلى جانب الحرب التي تشنّها الدولة مستخدمةً القوّة العسكرية ضدّ حركات التمرّد، أو تستخدمها الحركة الإسلامية ضدّ النظام الحاكم بصورةٍ مسلّحة.
ومعنى ذلك أن البحث عن تأسيس نظام إسلامي في عصر الغيبة وشرعية هذا النظام وشكله خارجٌ عن دائرة بحث الجهاد، والداخل فيه خصوص النشاط المسلّح لإسقاط نظامٍ ما دون الحديث عن البديل ونوعه.
6 ـ ويبقى ــ في نهاية المطاف ــ موضوع ثقافة الجهاد في الوعي المجتمعي عند المسلمين، فهناك أزمة حقيقيّة على هذا الصعيد؛ حيث نجد تضارباً في وجهات النظر حاداً، بقدر حدّة المنعطفات التي تعيشها الأمة الإسلامية، ففريق يصرّ على جعل الأولوية القصوى لنوعٍ واحد من الجهاد، هو الكفاح المسلّح، متناسياً أن القرآن الكريم في بعض نصوصه المكية ــ أي قبل تشريع الجهاد ــ كان قد عبّر عن الجهود الدعوية و.. بالجهاد، فلا يصحّ الاستهتار بالجهود غير العسكرية في هذه الأمة، ووصمها دوماً بالتخاذل والعمالة، لصالح ــ أحياناً ــ أسلوب عنيف في الجهاد، لم يجرّ على الأمة سوى الموت والدمار وتشويه صورة الإسلام في العالم، بقتل الأبرياء، وذبح المدنيين، فهذا ليس جهاداً، بقدر ما هو انفجار احتقان الإحباط في هذه الأمة، تضفى عليه عناوين دينية.
وفي المقابل، ثمة من يطوي صفحة الجهاد بالمرّة، وكأن الجهاد الدفاعي حكم تاريخي، لم يعد له موضوع اليوم في ظلّ هجمات الاستكبار العالمي على الإسلام والمسلمين! وكأن الأساليب السلمية كانت ناجعةً دوماً في تحقيق المطلوب.
إذن، هناك حاجة لنشر ثقافة الجهاد الصحيح المتوازن في الأمة، الذي يقدّر حساب الأمور دوماً، ويزن المصالح والمفاسد بوعي، فلا يتهوّر في اندفاعه، ولا يجبن في انكفائه، وبهذا تتمكّن الأمّة من النهوض ــ بمختلف الأشكال ــ للدفاع عن نفسها من ظلم وجور الجائرين الفاسدين، بحولٍ من الله سبحانه.
<أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ الله عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ>
[ الحج: 39 ].