نظرية جديدة في الملاك والمعيار
السيد هداية الله الطالقاني(*)
مقدمة
أحد أحكام المسافر قصر الصلاة الرباعية. وهذا الحكم له ثمانية شروط، ومنها: مقدار مسافة السفر، التي تكون الصلاة في أقل منها كاملة، وفي أكثر منها قصراً. والمصدر الأصلي لهذا الحكم هو الروايات. وهناك نقطتان تجعلان من الضرورة تكرار البحث في هذه الروايات.
الأولى: تغيُّر وسائل النقل والحالة التي كانت عليها الطريق في السنوات السبعين الأخيرة([1])، مما أنتج اختلافاً بين السفر الحالي والماضي.
الثانية: إن الإنسان يتحفَّز لبحث ملاك السفر الشرعي، الذي هو عنوان الباب الأول لصلاة المسافر في وسائل الشيعة([2])، أي باب وجوب القصر في بريدين؛ ثمانية فراسخ، فصاعداً، أو مسيرة يوم معتدل السير .
وفي هذا العنوان ـ مسيرة يوم معتدل السير ـ يلفت الانتباه الحرف (أو)، الذي جاء إلى جانب ثمانية فراسخ. وبما أن صاحب «وسائل الشيعة» فقيه، وعالم في الحديث، فقد قام بطرح ملاكين في عنوان الباب:
1ـ البعد المكاني، أو ثمانية فراسخ؛ 2ـ البعد الزماني، أو مسير يوم.
وهنا يرد في الذهن السؤال التالي: لماذا قام ببيانهما على أنهما ملاكان، لا ملاك واحد؟ وهل هما في الأساس عبارة عن ملاك واحد أم أنهما مختلفان مفهوماً وماهية؟ وإذا كانا كما طرحهما صاحب الوسائل فأيُّها يمثِّل الأصل؟ وأيُّهما يكون الفرع والتابع؟
للإجابة عن هذه الأسئلة يكون من الضروري أن تُبحَث الروايات بنظرة معاصرة؛ كي يتّضح الأمر.
النصوص الشرعية
الروايات المتعلقة بمقدار السفر الشرعي عبارة عن مجموعتين:
الأولى: الروايات التي بينت مقدار السفر طبق الزمان (البعد الزماني)، أو مسير يوم.
الثانية: الروايات التي بينت مقدار السفر طبق المسافة (البعد المكاني)، أو ثمانية فراسخ، وأمثالها مما ذكر([3]).
ومن الضروري في كل بحث أن تُجمع جميع الروايات المتعلقة به، لا بصورة ناقصة وبُعدٍ واحد، بل بصورة كاملة ومبسوطة، ومن جميع الجهات. ومن هنا من الضروري بحث روايات القسمين. ومن جهة أخرى فإن موضوع بحثنا هو تعيين الملاكين الأصلي والفرعي. وعليه من الضروري البحث في الروايات المتعلقة بهذا الموضوع. ولأن روايات المجموعة الثانية (البعد المكاني) ليس لها أيُّ دور في هذا الموضوع([4]) فليس من حاجة إلى البحث فيها. وبعبارة أخرى: إن المجموعتين من الروايات كان لهما موضوع قد بين الحكم الواقعي، وكلا الملاكين كان لهما خطاب واحد، ولا يوجد بينهما أي اختلاف، أي إن ثمانية فراسخ تساوي يوماً واحداً، أما في الوقت الحاضر فيوجد بين هذين الملاكين اختلاف كبير، وهذا الاختلاف يفرض الرجوع إلى الروايات، من أجل تمييز الأصل من الفرع.
وسنبحث أولاً في الروايات، وبعد ذلك نبحث في المواضيع الأربعة (موضوع واحد أصلي، وثلاثة مواضيع متعلِّقة به)، ومن ثم نستخلص النتيجة.
دراسة تحليلية أوّلية في النصوص الشرعية في السفر
لقد تم بيان مقدار السفر الشرعي حسب الزمان فقط بلفظ (مسيرة يوم). والروايات المتعلقة([5]) به عبارة عن:
1ـ صحيحة الفضل بن شاذان([6])، عن الإمام الرضا×: فَلِمَ وجب التقصير في (ثمانية) فراسخ، لا أقل من ذلك ولا أكثر؟ قال الرضا×: لأن ثمانية فراسخ مسيرة يوم([7]) للعامّة والقوافل والأثقال، فوجب التقصير في مسيرة يوم.
تتحصل من هذه الفقرة من الحديث ثلاثة مطالب أساسية:
أـ تعيين الملاك، فقد ذكر تركيب (مسيرة يوم) على أنه أحد ملاكات السفر الشرعي.
ب ـ قد بيَّن صراحة في هذا الحديث أن تعيين المسافة المكانية (ثمانية فراسخ) على أنه نفس (مسيرة يوم). وبعبارة أخرى: إن الملاك الأصلي (مسيرة يوم)، والناحية المكانية تعرف على أنها من مصاديقها. وسوف نقوم بتوضيح ذلك أكثر لاحقاً.
ج ـ شروط وسيلة النقل: السفر يجب أن يكون بوسيلة مشاعة لدى الجميع، مثل: قافلة الإبل، أو قوافل المسافرين، أو الأحمال، إذا لم يوضع في الاعتبار مسير خاص. وبناء على هذا فإن مسير الخيالة في الماضي، وكذلك السفر بالطائرة والسيارات السريعة في هذا الوقت، لا يشملها هذا الحكم.
ثم سأل الفضل: فَلِمَ وجب التقصير في مسيرة يوم؟ قال الرضا×: لأنه لو لم يجب في مسيرة يوم لما وجب في مسيرة ألف سنة؛ وذلك لأن كل يوم يكون بعد هذا اليوم فإنما هو نظير هذا اليوم، فلو لم يجب في هذا اليوم لم يجب في نظيره، إذا كان نظيره مثله لا فرق بينهما.
ثم سأل الفضل: فَلِمَ قصرت الصلاة؟ قال الرضا×: لأن الصلاة المفروضة أولاً إنما هي عشر ركعات، والسبع إنما زيدت فيها بعد، فخفَّف الله عز وجل تلك الزيادة؛ لموضع سفره، وتعبه، ونصبه، واشتغاله بأمر نفسه، وظعنه، وإقامته، لئلا يشتغل عمّا لا بد له من معيشته، رحمةً من الله، وتعطُّفاً عليه.
ثم قال الفضل: وقد يختلف المسير، وذلك أن سير البقر إنما هو أربعة فراسخ، وسير الفرس عشرون فرسخاً، فَلِمَ جعلت أنت مسيرة يوم ثمانية فراسخ؟ قال الرضا×: لأن ثمانية فراسخ هو سير الجمال والقوافل، وهو الغالب على المسير، وهو أعظم المسير الذي يسيره الجمّالون والمكّارون.
ولهذا الحديث نفس المطالب الأولى، عدا كلمة (العامة). وبالإضافة إلى هذا فقد أوضح سبب كون ثمانية فراسخ هو مصداق مسيرة يوم.
وفي ترجمة وشرح من لا يحضره الفقيه([8]) ذكر شرح هذا الحديث في ذيله بهذا الشكل: إن مراده من ثمانية فراسخ ليس بحساب البغل السريع، ولا بحساب ذوات الأربع السريعة، بل بحساب قافلة من الإبل المعتدلة الماضية، التي تقطع في عرض يوم كامل ثمانية فراسخ. فبناءً على ذلك يكون ملاك السفر ثمانية فراسخ فقط. ولو قطعها في أقلّ من يوم فلا يتمّ الملاك، بل إن الإنسان يجب أن يمضي ـ على أقلّ تقدير ـ يوماً كاملاً في السفر.
2ـ صحيحة الكاهلي([9])، أنه سمع الصادق× يقول في تقصير الصلاة: بريد في بريد، أربعة.
يظن البعض ـ بعد نظرة أولية ـ أن هذا الحديث مرتبط بالناحية المكانية، ولكن يجب أن يُسأل: لماذا قال الإمام الباقر×: هذه المسافة والبعد المكاني (بريد)؟ ألم يكن من أجل بغل سريع أو حيوان سريع السير؟ وهل يختلف الأمر إذا كانت ثمانية فراسخ يسرع فيها أو يسير ببطء؟ ومن هنا يتضح أن الملاك الأصلي للمسير هو يوم. ولأن السرعة تؤثر في مقدار مسافة اليوم([10]). يقول الإمام: هذا المقدار الذي هو ثمانية فراسخ لقافلة الإبل، لا للبغال السريعة.
فإذا كان المقياس الأصلي للسفر الشرعي من الناحية المكانية فليس هناك فرق بين أن يكون السفر بقافلة الإبل، أو البغال السريعة، أو حتى بالسيارة والطائرة في وقتنا الحاضر. فالبريد نفس البريد، والثمانية فراسخ هي نفسها، ووسيلة النقل ليس لها أي تأثير. إذاً المقياس الأصلي للسفر الشرعي هو البعد الزماني، وهو يوم واحد. ولأن قوافل الإبل تسير في النهار ثمانية فراسخ فقد بيَّنت بعض الروايات هذه الفراسخ الثمانية على أنّها مصداق ملموس.
3ـ في صحيحة زرارة يقول الإمام الباقر×: قد سافر رسول الله‘ إلى ذي خُشُب، وهو مسيرة يوم من المدينة، يكون إليها بريدان: أربعة وعشرون ميلاً، فقصَّر، وأفطر، فصارت سنّة([11]).
4ـ في صحيحة زكريا بن آدم أنه سأل أبا الحسن الرضا× عن التقصير: في كم يقصِّر الرجل إذا كان في ضياع أهل بيته، وأمره جائز فيها، يسير في الضياع يومين وليلتين، وثلاثة أيام ولياليهن، فكتب: التقصير في مسيرة يوم وليلة([12])([13]).
والمسألة المهمة هي: إذا كان الملاك ثمانية فراسخ فلماذا تم السؤال عن السير البطيء أو السريع؟ ولماذا لم يبيِّن الإمام في جوابه بثمانية فراسخ، بل قال بمسير يوم واحد؟!
5ـ في صحيحة أبي أيوب، عن الإمام الصادق×: سألته عن التقصير؟ فقال: في بريدين، أو بياض يوم([14]).
6ـ في موثقة سماعة([15])، قال: سألته عن المسافر، في كم يقصِّر الصلاة؟ فقال: في مسيرة يوم، وذلك بريدان، وهي ثمانية فراسخ([16]).
وفي هذين الحديثين أولاً: بَيَّن ملاك المسير على أنه يوم واحد، وبعد ذلك جاءت (واو) تفسيرية، ومن ثم بَيَّن الملاك ثمانية فراسخ، أي إن مسير يوم واحد هو نفسه ثمانية فراسخ. وبعبارة أخرى: إن الملاك الأصلي هو مسير يوم واحد، والملاك الفرعي، أو المصداق لهذا الأصل، هو ثمانية فراسخ.
7ـ صحيحة أبي بصير([17])، عن الإمام الصادق×، قال: لا بأس([18]) للمسافر أن يتمّ (الصلاة) في السفر مسيرة يومين([19]).
إن كلمة (الصلاة) موجودة في الوسائل، ولكنها غير موجودة في المصدر الأصلي، أي في التهذيب 3: 209، والاستبصار 1: 225. بالإضافة إلى أن كلمة (السفر) توجد في الوسائل على هيئة (السفرة)، ولكنْ في التهذيب جاءت بهيئة (السفر)، وفي الاستبصار بهيئة (في السفر).
ثم إن لهذا الحديث إفادتين:
الأولى: دلالة على مسير يوم واحد.
الثانية: دلالة على يومين، الذي سوف يتضح أنه مقدار المسير الزماني.
8ـ صحيحة أبي بصير، عن الإمام الصادق× قال: قلت لأبي عبد الله×: في كم يقصِّر الرجل؟ قال: في بياض يوم، أو بريدين([20]).
وفي هذا الحديث ذكر مقدار السفر الشرعي على أنه «بياض يوم»، أو «بريدين». ففي «بياض يوم» يبيِّن البعد الزماني، وفي «البريدين» يبيِّن البعد المكاني.
ومن الملاحظ أنّه في الأحاديث (3، 5، 6، 8) تم استعمال الملاكين، وبدأ بمسير اليوم، ثم بعد ذلك جاء البريد.
9ـ صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج، عن الإمام الصادق×، قال: قلت له: كم أدنى ما يُقصّر في الصلاة؟ قال: جرت السنة ببياض يوم. فقلتُ له: إن بياض يوم يختلف، يسير الرجل خمسة عشر فرسخاً في يوم، ويسير الآخر أربعة فراسخ وخمسة فراسخ في يوم، قال: فقال: إنه ليس إلى ذلك يُنْظَر، أما رأيت سير هذه الأثقال (الأميال) بين مكّة والمدينة، ثم أومأ بيده أربعة وعشرين ميلاً، يكون ثمانية فراسخ([21]).
ومن الملاحظ أن في هذا الحديث ذكر مقدار السفر الشرعي على أنه «بياض يوم»، الذي هو مساوٍ لثمانية فراسخ. وبالإضافة إلى هذا هناك ملاحظتان:
الأولى: في هذا الحديث جاءت عبارة «جرت السنة ببياض يوم»، فلماذا لم يقُلْ «جرت السنة ببريدين»؟!
الثانية: من أجل منع بعض الأوهام يطرح السؤال التالي: إن سرعة وسائل النقل مختلفة؟ فأجاب الإمام: في هذه الأمور لا يُعار الاهتمام لاختلاف السرعة بوسيلة النقل غير الشائعة بين الناس، وإنما الملاك هي قوافل الإبل، التي هي الوسيلة الشائعة عند جميع الناس.
10ـ صحيحة علي بن يقطين: سألت أبا الحسن الأول× عن الرجل يخرج في سفره، وهو في مسيرة يوم؟ قال: يجب عليه التقصير في مسيرة يوم، وإنْ كان يدور عمله([22])([23]).
وفي هذا الحديث تم بيان مسير يوم واحد فقط. وفي هذه الحالة يمكن القول: إن مسير يوم واحد ليس له أية موضوعية؟. وإذا لم يكن له موضوعية فلماذا بيَّن الإمام أن مسير يوم شرط في التقصير؟!
11ـ موثَّقة([24]) محمد بن مسلم، عن أبي جعفر×، قال: سألته عن التقصير؟ قال: في بريد، قال: قلتُ: بريد؟ قال: إنه إذا ذهب بريداً ورجع بريداً فقد شغل يومه([25]).
وفي هذا الحديث عرف أن مجموع مقدار السفر بريدين. والأهم من ذلك أنه يقول: هذه المسافة تكون سبباً في انشغاله بالسفر طول يومه. وبعبارة أخرى: إنّ هذا السفر يستغرق كلّ يومه.
لماذا قايس البريدين بـ «يوم عمل»؟ ألا يوجد طريق آخر لقياس الفرع بالأصل، كي يُرفع الإبهام؟! فمن أجل صحة أيّ حديث نعرضه على آيات القرآن الكريم، بحيث يكون القرآن أصل، والحديث فرعٌ له. وفي هذا الحديث أيضاً «مسير يوم» هو أصل، وثمانية فراسخ هي الفرع؛ إذ لو كانت الثمانية فراسخ هي الأصل لوجب أن يقول: مسير يوم ذهاباً، ولأنه ثمانية فراسخ يجب أن يقصر في الصلاة. ولكنّ كلام الإمام جاء عكس هذا. إذاً ثمانية فراسخ فرعٌ، والناحية الزمانية أو مسير يوم هي الأصل.
12ـ صحيحة معاوية بن عمار أنه قال لأبي عبد الله×: إن أهل مكة يتمون الصلاة بعرفات، فقال×: ويلهم، أو ويحهم، وأيُّ سفرٍ أشدُّ منه؟ لا، لا تتمّ([26]).
قال المقدس الأردبيلي: إن مقتضى جملة «كان عليهم التقصير» و«ويلهم»، الوجوب العيني([27]).
وقال المحقق البحراني في الحدائق الناضرة([28]) في تقريب الاستدلال: جملة منها قد تضمَّنت النهي عن الإتمام، الذي هو حقيقة في التحريم، وجملة تضمَّنت الأمر بالتقصير، الذي هو حقيقة في الوجوب، مؤكِّدا ذلك بقوله: «وأيُّ سفرٍّ أشدّ منه»، والدعاء بـ «ويلهم، أو ويحهم»، والتوبيخ لهم بأنهم كأنّهم لم يحجّوا مع رسول الله‘، المشعِر بأنه‘ كان يقصِّر في مكة إذا حجّ، الموجب لوجوب التأسّي. فأية دلالة أظهر من هذه الدلالات، وأية مبالغة وتأكيد أبلغ من هذه التأكيدات، مع أنهم يكتفون في سائر الأحكام في الحكم بالوجوب والتحريم بمجرد خبر واحد يدلّ على ذلك([29]).
13ـ صحيحة معاوية بن عمار المشابهة للحديث السابق، وقد جاءت عبارة «لا تتم» مكان «لا تتموا»([30]).
14ـ مرسلة المفيد([31]): قال×: ويلٌ لهؤلاء الذين يتمّون الصلاة بعرفات، أما يخافون الله؟ فقيل له: فهو سفر؟ فقال×: وأيُّ سفر أشدّ منه؟
15ـ أحد أصحاب الإمام الصادق× سأله: الرجل يخرج إلى الصيد مسيرة يوم أو يومين، يقصِّر أو يتمّ؟ فقال: إن خرج لقوته وقوت عياله فليفطر، وليقصر…([32]).
وهذه الرواية مرسلةٌ، ولكنّ الفقهاء قد أفتوا على طبقها([33]).
16ـ صحيحة محمد بن مسلم([34]): سئل الإمام الصادق× عن الرجل يخرج يشيِّع أخاه مسيرة يومين أو ثلاثة؟ فقال: إنْ كان في شهر رمضان فليفطر.
17ـ صحيحة([35]) زرارة، عن أبي جعفر×: سألته عن الرجل يشيِّع أخاه اليوم واليومين في شهر رمضان؟ قال: يفطر، ويقصِّر، فإنّ ذلك حقٌّ عليه([36]).
18ـ رواية سعيد بن يسار([37])، قال: سألت أبا عبد الله× عن الرجل يشيِّع أخاه في شهر رمضان، فيبلغ مسيرة يوم، أو مع رجل من إخوانه، أيفطر أو يصوم؟ قال×: يفطر([38]).
ومع أن سند هذا الحديث ضعيف، ولكنّه يجبر بروايات هذا البحث الصحيحة.
19ـ موثقة زرارة([39])، عن الإمام الباقر×، قال: قلت: الرجل يشيِّع أخاه في شهر رمضان اليوم واليومين؟ قال×: يفطر، ويقضي([40]).
وهذا الحديث، مثل الأحاديث 15 و16، قد بيّن مقدار السفر حسب «اليوم».
- التقصير في الصلاة بريد في بريد، أربعة وعشرون ميلاً، ولأنه رخصة للمشقة، ولا مشقة مع القلة([41]).
التقصير في الصلاة بريدين، أو 24 ميلاً. وهذا التقصير في الصلاة لتسهيل التكليف، ولوجود المشقّة. وبالسفر القصير لا توجد مشقة.
21ـ لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلاّ مع ذي محرم([42]).
وقد بيَّن المحقِّق في «المعتبر» أنّ هذه الرواية دليل على مسيرة يوم.
معيار الحكم في السفر
وبعد أن نقلنا 21 حديثاً نتناول بنظرة عميقة الموضوعات المطروحة على طاولة البحث، والتي تشتمل على موضوع أصلي، وثلاثة مواضيع فرعية.
1ـ نظرية البعد الزماني
شخَّص واحد وعشرون حديثاً ملاك السفر الشرعي بناء على البعد الزماني، وعلى أساس تسعة أدلة للملاك الأصلي الذي هو «مسيرة يوم»، وبيان مقدار المسافة بقصد تطبيق الملاك في الظروف التي كانت في ذلك الزمان.
الدليل الأول: من استعمال لام التعليل يصبح واضحاً أن علة إعطاء البعد المكاني (ثمانية فراسخ) في الحديث الأول كانت هي نفسها «مسيرة يوم». وبعبارة أخرى: إن ثمانية فراسخ هي تطبيق (للبعد الزماني): «لأن ثمانية فراسخ مسيرة يوم». وقد ورد في الفقرة الثانية من الحديث الأول: في مسيرة يوم التقصير واجب؟ فأجاب الإمام الرضا×: لأنه لو لم يجب في مسيرة يوم لما وجب في مسيرة ألف سنة؛ وذلك لأن كل يوم يكون بعد هذا اليوم فإنما هو نظير هذا اليوم، فلو لم يجب في هذا اليوم لم يجب في نظيره إذا كان نظيره مثله لا فرق بينهما.
وهذا دليل وتعليل من المعصوم نفسه. وعلى ضوء هذا البيان من الإمام كيف يمكن الادعاء أن تكون للثمانية فراسخ موضوعية؟
الدليل الثاني: لقد استُعملت واو التفسير في صحيحة سماعة: «في مسيرة يوم، وهي ثمانية فراسخ»، وفي صحيحة سماعة: «في مسيرة يوم، وذلك بريدان، وهي ثمانية فراسخ». فالملاك الأصلي هنا هو «مسيرة يوم»، وبعد ذلك وضَّح بواو التفسير أن المصداق الأصلي لهذا الملاك هو ثمانية فراسخ. وبعبارة أخرى: إن ثمانية فراسخ وأمثالها تطبيقٌ لمصداق البعد المكاني مع البعد الزماني، ومن أجل إفهام الناس. وقد تم بيان هذا التفسير من دون ذكر واو التفسير في الحديث 9، من الباب 2: «بريدين، تشغل اليوم بأكمله».
الدليل الثالث: تحكي كلمة «أو» في روايات الباب 1، ح 7 و11، عن ذلك، وهي أن مسيرة يوم واحد في ذلك الزمان هي ثمانية فراسخ، وعلى الخصوص تلك التي جاءت في الحديث 8 من الباب 1: «في مسيرة يوم، وذلك بريدان، وهي ثمانية فراسخ». وفي السابق كان هناك تعبيران منطبقان «مسيرة يوم، وثمانية فراسخ»؛ وأمثالهما، ولكن في وقتنا الحاضر يوجد هناك اختلاف كبير بينها. فالبعض، كالسيد الخوئي([43])، يقول: إن الروايات المرتبطة بمسير يوم ليس لها موضوع. فهل بالإمكان القول: إنه بملاحظة كلمة «أو» في الحديثين 4 و8 نستنتج أن الكلمتين «مسيرة يوم» و«بريدين» متساويتان، غير أن واحدة لها موضوع، والأخرى ليس لها موضوع؟
الدليل الرابع: جاء في الحديثين 2 و9 أنّ ملاك السفر قطار من الإبل. ومن البديهي أن مسير الوقت مرتبط بنوع وسيلة النقل المتَّخذة في ذلك الزمان. فإذا كان الملاك ثمانية فراسخ فقط، وليس لمسير يوم أية فائدة تذكر، فلا معنى لطرح مسألة وسيلة السفر.
الدليل الخامس: جاء في الأحاديث 3 و4 و7 و10 و15 إلى 19 و22، التي يكون مجموعها عشرة أحاديث، أن ملاك القصر السفر مسيرة يوم. وإذا تمّ التوضيح في بعضها بثمانية فراسخ فقد جاء فيها أيضاً مسيرة يوم، إما مفرداً؛ أو مصاحباً لثمانية فراسخ. وعلى أية حال تبيِّن هذه الأحاديث مسيرة يوم.
الدليل السادس: وردت في الحديث 11 عبارة «فقد شغل يومه»، وهي تثبت أن الملاك الأصلي هو مسير يوم.
هذه الأدلة الستة نقلية. وكل واحد منها يثبت أن نوعية المسير هي مسير يوم واحد.
الدليل السابع: نلاحظ في هذا الدليل نفس المشقة وتعب السفر التي قد جاء ذكرها في بيان سبب القصر في الصلاة؛ لأنه ثمانية فراسخ في الماضي كانت تعادل يوماً واحداً من السفر الشاق والمتعب، ولهذا كانوا بحاجة إلى تسهيل وتخفيف.
وقد جاء هذا التعليل (المشقّة والتعب) في الآية 185 من سورة البقرة، وفي روايات وكلمات الفقهاء المختلفة.
أما في القرآن الكريم فقد ذُكرت علّة رفع الصيام في السفر، وهي وجود عسر. ولذلك فإن الله يقول: ﴿وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ (البقرة: 185).
وقد بيَّن الله أن التعب والعسر هما العلة في رفع تكليف الصيام عن المريض والمسافر. والعسر والحرج من المسلَّمات الفقهية، وهما السبب في إلغاء حكم التمام.
ويوجد بين الصلاة والصيام تلازمٌ، يعني حيثما تكون الصلاة قصراً يكون الصيام قضاءً، وبالعكس حيثما يكون الصيام قضاءً تكون الصلاة قصراً([44]). وعليه فإن بيان السبب في الآية الشريفة يشمل الصلاة، مع أنه قد جاء في موضوع الصيام.
وهنا يطرح السؤال التالي: هل أن ثمانية فراسخ ذهاباً بالوسائل المستعملة في يومنا الحاضر للتنقُّل يصدق عليها «السفر بمشقة»، كي يريد الله الحكيم اللطيف أن يُسقط هذه المشقة عن كاهل الناس؟ وهل أن هذه الثمانية فراسخ بواسطة وسائل النقل المستخدمة حالياً ليست خالية من العسر فحسب، بل على العكس من ذلك، فهي تسبِّب النشاط، ومن عوامل إزالة التعب عن النفس، كما في حالة السفر إلى خارج المدينة للنزهة في المروج الخضراء؟
والملاحظة الجديرة بالاهتمام هي أن الفهم العرفي في موضوع عسر وحرج المريض هو العسر والحرج الشخصي، أي إن الشخص الذي يصاب بالمرض، بحيث لا يستطيع أن يصوم، لا يجب عليه الصوم، ولكن في مسألة المسافر يكون العسر والحرج نوعياً، أي إذا كان في السفر مشقة لنوع الأفراد فحينئذٍ يصبح واجباً على جميع المكلَّفين أن يقصروا في صلاتهم، حتى عندما لا توجد مشقة لبعض الأشخاص.
وبناءً على ذلك فإنه في الذهاب ثمانية فراسخ في أسفار وقتنا الحاضر، التي ليس فيها مشقة لأنواع الأفراد، يجب على جميع المكلَّفين طبق الآية الشريفة أن يصوموا، ويتمّوا صلاتهم.
ومن الروايات المرتبطة بهذا الدليل نشير إلى ثلاث نقاط:
أـ جاء في صحيحة معاوية بن عمار (الحديث 13) أنه قال لأبي عبد الله×: إن أهل مكة يتمون الصلاة بعرفات، فقال×: ويلهم، أو ويحهم، وأيُّ سفر أشدّ منه؟ لا تتمّ.
ب ـ جاء في صحيحة معاوية بن عمار الثانية (الحديث 14) ما هو مشابه لهذا الأمر.
ج ـ في الفقرة الثالثة من الحديث الأول أجاب الإمام الرضا× عن سؤال حول سبب القصر في الصلاة: الصلاة الواجبة كانت عشر ركعات، وبعد ذلك أضيف إليها سبع ركعات. ومن ثم خفَّف الله سبحانه هذه الإضافة في السفر؛ من أجل الصعوبة التي يلاقيها المصلي، والتعب، واشتغال الإنسان بالأمور المرتبطة بالسفر، مثل: الترحال، والإقامة. وقد أعطي هذا التخفيف كي يصبح المسافر فارغ البال.
دـ قال الإمام الصادق× في الحديث رقم 20 ما معناه: التقصير في الصلاة بريدين، أو 24 ميلاً، وهذا التقصير في الصلاة من أجل تسهيل التكليف، وحينما تكون هناك مشقة، أما في السفر القصير فلن يكون هناك أية مشقة.
وتؤيِّد كلمات الفقهاء نفس الموضوع.
يقول العلامة الحلي عن السفر لمسافة ثمانية فراسخ: فحصلت المشقة المبيحة للقصر([45]) .
إذاً تحصل المشقة بالسفر مسافة ثمانية فراسخ، ممّا يبيح القصر.
ويقول كذلك: المسافة شرط في القصر. فعلى حسب الإجماع لا يجوز التقصير في السفر القصير([46]).
فهل أن السير نصف ساعة بالحافلة في زماننا الحاضر يعتبر سفراً، وهناك مَنْ يشعر بالتعب منه؟ في قديم الزمان كانوا يقطعون في اليوم ثمانية فراسخ، أما الآن فإنهم يقطعون في نصف ساعة نفس المسافة، فهل بالإمكان القول: إنهم عندما يسافرون سيصلون إلى أسفار مدتها أقلّ من ذلك؟
الدليل الثامن: في الماضي كانت تحتسب مسيرة يوم بما يعادل ثمانية فراسخ، ولكن ليس الأمر في زماننا هذا كذلك. فأيٌّ من هذين الملاكين ـ المسافة؛ ومسير يوم ـ هو الأصل؟ وأيُّهما هو الفرع؟
من الجائز أن يُقال: إن الثمانية فراسخ لها مقدار معين، ولكن مسيرة اليوم غير معروفة؛ لأن مقدار اليوم يختلف من منطقة إلى أخرى. كما أن مقدار اليوم يختلف بحسب أيام السنة. بالإضافة إلى سرعة الوسيلة المتخذة في التنقُّل، فإنّ لها تأثيراً في ذلك المقدار.
لكنْ يجب ملاحظة ما يلي:
أولاً: أصبح الأُنْس بمفهوم الثمانية فراسخ طوال القرون الماضية سبباً في أن يكون معروفاً وواضحاً جدّاً لدينا. ولكن ذلك الشعور بالأُنْس يختلف عن الحقيقة.
ثانياً: المهم هو أن المعصوم نفسه قد عرّف الملاك. وقد تمّ ـ وبشكل صريح ـ ضمن عشرين رواية بيان أن ملاك السفر هو مسيرة يوم. ومن هنا فإن مسيرة يوم بوسائل النقل تختلف من مكان لآخر. وتقول الفقرة الرابعة من الحديث الأول: الملاك هو مسير القافلة؛ لأنها الوسيلة العامة والشائعة في ذلك الوقت. ويقول الحديث الثاني: يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار مسير قافلة الإبل، لا الحيوانات السريعة. وفي الحديث 9 يشابه قوله× الكلام في الحديث السابق.
فعندما يعلن الأئمة^ أن الملاك الأصلي هو «مسيرة يوم»، وأن مصداقها الملموس ثمانية فراسخ، فأيّ سؤال يبقى بعد ذلك؟ وإذا اتّضح أن ثمانية فراسخ هي الملاك الأصلي فلماذا بينوا في هذه الروايات يوماً واحداً؟
كانت حركة القافلة في الماضي معروفة، بالشكل الذي يقطع الجمّالون بإبلهم في كل يوم مسيرة منزلين، وكل منزل يسمّى بريداً. وهذا في الحالة العادية، سواء كانت الأيام طويلة أو قصيرة، فإنهم لا يقطعون أكثر ولا أقلّ من ذلك. أما إذا كنا نطبِّق نفس هذا الأسلوب في زماننا الحاضر فإن مسيرة اليوم تصبح معروفة، ويتضح مصداقها الملموس حسب الكيلومتر وبأرقام جديدة، وسوف ينطبق كلا الملاكين مع بعضهما.
لكن يمكن القول: لم يُكتفَ في أيٍّ من الروايات بالبعد الزماني. ولم يُقِرَّ الإمام× ابتداءً، ومن دون أيّ سؤال، البعد الزماني كملاك. إذاً البعد الزماني ليس ملاكاً أصلياً.
والجواب: ليست الروايات 2 و3 و7 و8 و9 و11 و12 و13 و21 كما قيل، وخصوصاً الحديث 8، الذي ذكر مسيرة يوم فقط، بدون أن يبيِّن البعد المكاني. وفي الروايات 5، 6، 8، 9، لم يسأل السائل عن اليوم، ولكن سؤاله كان عامّاً، وقد بيَّن الإمام× كلا الملاكين (اليوم والبريد). وفي الحديث 11 كان السؤال عامّاً، ولهذا أوضح الإمام× بقوله: «فقد شغل يومه».
وقد قال جميع الفقهاء الذين اتفقوا على أن ثمانية فراسخ شرط في التقصير: الثمانية فراسخ في مسيرة يوم ذهاباً.
وكثيراً ما استخدم مقدار «مسيرة يوم» في متون التاريخ أيضاً بعنوان وحدة قياس المسافة بين المدن. ومن جملتها:
1ـ ذهب رسول الله‘ في هجرته إلى المدينة عن طريق الساحل، حيث كانت أكثر من المسافات العادية واستغرقت هجرته تسعة أيام. وقد بيَّن عماد زاده في ذلك الزمان المسافة من مكّة إلى المدينة بـ 85 فرسخاً([47]).
2ـ وقطع الإمام الحسين× المسافة من المدينة إلى مكة في ستّة أيام([48])؛ أي إنه في اليوم يقطع 5،12 فرسخاً. وهذا أسرع من السرعة العادية. إضافةً إلى أنّه كان يسير في الليل أيضاً.
3ـ كانت المسافة ما بين ذو خشب والمدينة مسيرة يوم، أي ما يعادل بريدين، أو ثمانية فراسخ([49]).
4ـ عرّف معجم البلدان كثيراً من الطرق، وخصوصاً الطرق الطويلة بمسيرة يوم، ومسيرة أيام، مثل: البحرين إلى اليمامة: يومين، البحرين إلى البصرة: خمسة عشر يوماً، أربيل إلى بغداد: سبعة أيام.
5ـ كانوا يقولون قديماً لكل منزلين «مرحلة واحدة»، وهوالذي يشكِّل مسير يوم واحد([50]). وقد استخدمت في كتب مختلفة، من جملتها: معجم البلدان([51])؛ مثل: من مكة إلى المدينة مرحلتان، من الكوفة إلى المدينة عشرون مراحل، من البحرين إلى المدينة خمس عشرة مرحلة، من البصرة إلى المدينة ثماني عشرة مرحلة، من دمشق إلى المدينة عشرون مرحلة، من فلسطين إلى المدينة عن طريق الساحل عشرون مرحلة، ومن الكوفة إلى مكة سبعٌ وعشرون مرحلة([52]).
ملاحظة
لم يكن اختيار المنازل والمراحل على حسب ثمانية فراسخ دقيقاً، بل هناك شروط أخرى أيضاً تؤخذ بعين الاعتبار. مثلاً: الفاصلة التي بين المدينة والكوفة ضعف الفاصلة التي بين المدينة والبصرة، بمقدار أربعمائة ميل([53])، والمسافة من المدينة إلى الكوفة عشرون مرحلة، ومن المدينة إلى البصرة ثمانية مراحل([54]). وكذلك الفاصلة من المدينة إلى مكة 255 ميلاً في عشر مراحل([55])، بينما عند مقايستها مع الكوفة يجب أن تكون 75, 12 ميلاً. ولذا قال الإمام الصادق× في الحديث 12: «لاحظ مسير القوافل بين مكة إلى المدينة».
2ـ مقدار المسير الزماني
من الأحاديث الـ 21 المذكورة هناك خمسة أحاديث (الفقرة الثالثة من الحديث 1 والأحاديث 2 و12 و13 و20) لا يوجد فيها خطاب عن مسألة مقدار الزمان، وهناك عشرون حديثاً أخرى تكوِّن أربع مجموعات على أساس التعيين الدقيق للبعد الزماني:
المجموعة الأولى: ما عُبِّر فيها بـ (يوم وليلة)، وهي صحيحة زكريا بن آدم، حيث جاء مقدار المسير «يوم وليلة»، لا نهار بدون ليل. ومن البديهي أن المراد من اليوم النهار، ولا يمكن أن يكون بمعنى يوم وليلة.
المجموعة الثانية: ما عُبِّر فيها بـ (اليوم)، وهي الفقرات الأولى والثانية والرابعة من الحديث الأول، والأحاديث 3 و5 و6 و10 و11 و15 و18 و21، ومجموعها 11 حديثاً. وقد ذُكرت في هذه الأحاديث كلمة «يوم» بمفردها، ولم يأتِ في مثل الحديث 6 «ليلة» معها.
وهذه الروايات توضح المعنى العملي لليوم والليلة، وتبين أنه وإن كان الأصل اليوم والليلة إلا أنه في الماضي كانت القوافل تسير نهاراً فقط، وتستريح ليلاً، ويعبَّر عنها بـ «اليوم» فقط.
المجموعة الثالثة: ما عُبِّر فيها بـ (بياض يوم)، وهذه المجموعة تشتمل على الأحاديث 4 و8 و10.
هذه الأحاديث الثلاثة هي ملاك «البياض ووضوح النهار». ومسير عموم الناس والوسائل الشائعة في ذلك الزمان ـ والتي تؤخذ بعين الاعتبار ـ هي (قافلة الإبل). وعلى هذا الأساس هم يقولون: إما 24 ميلاً؛ أو ثمانية فراسخ.
ونقول حول جمع هذه الروايات: إنّ روايات المجموعة الثالثة توضِّح روايات المجموعة الثانية، وكلا المجموعتين تبيِّن المقدار العملي للسفر خلال يوم واحد. ومن البديهي أن هذا المقدار المستغرق لذوات الأربع هو نفسه الذي يستغرقه الناس جميعاً في السفر بالحافلة (اليوم والليلة) في وقتنا الحاضر. ولكي يتَّضح أن الأصل اليوم والليلة لاحظ الفقرة الثانية من الحديث الأول، حيث يقول الإمام الرضا× حول سبب التقصير في مسيرة يوم: «لأنه لو لم يجب في مسيرة يوم لما وجب في مسيرة ألف سنة؛ وذلك لأن كل يوم يكون بعد هذا اليوم فإنما هو نظير هذا اليوم. وبناءً على هذا إذا لم يكن التقصير واجباً ففي اليوم الذي هو مثله لن يكون واجباً، ومع كون الأيام مثل بعضها، ولا يوجد أي فرق بينها».
فهل هذا اليوم يكون ثابتاً دائماً، وليس له مجال لفصل الارتباط، أم أن له مثل هذه الحالة في اليوم والليلة؟
من البديهي أنه في اليوم والليلة هكذا. فقد كانت العادة قديما جارية على أن حركة القوافل تكون نهاراً، ويستريحون ليلاً. ولذا في كل يوم وليلة تكون حركتهم عادةً في النهار، ومن هذه الجهة بياض اليوم كان سنّة، ولكن في يومنا الحاضر يقود السائقون سياراتهم طوال النهار وطوال الليل دون انقطاع.
المجموعة الرابعة: ما عبِّر فيه بـ (يومين أو ثلاثة أيام)، وهي تشتمل على الأحاديث 7 و16 و17 و19. وهذه الأحاديث الأربعة، بالإضافة إلى أنها تدل على ملاك السفر الشرعي (اليوم)، لها دلالة على تعداد الأيام. في هذا المورد ليس للحديث الأول حجّيّة؛ وذلك أولاً: قد ذكر فيه يومان على خلاف الروايات. ثانياً: إن الأمر بأداء الصلاة تامة في الوقت الذي يجب أن يصلّي قصراً موافقٌ للفقه الحنفي، الذي يرى أن مسير ثلاثة أيام يوجب القصر. ولذا فإن مَنْ سافر يومين يجب أن يتمّ الصلاة.
وفي الأحاديث الثلاثة الأخرى سئل الإمام في مسير يوم أو يومين أو ثلاثة أيام أفطر؟ فأجاب الإمام× بالإيجاب. ومن البديهي أن تقصِّر في جميع هذه الأسفار، ويجب أن تفطر.
وهذه الأحاديث الثلاثة ـ كبقية أحاديث الباب 11 من صلاة المسافر في الوسائل ـ حول تشييع الأخ في الدين وتفضيله على الإفطار، وترى أن لا مانع من الإفطار حتى ثلاثة أيام مشايعة.
وبناءً على هذا فإن هذه الأحاديث الأربعة جميعاً خارجة عن البحث من ناحية تعيين مقدار السفر الشرعي، ولا تتغير المجموعات الثلاث السابقة.
وحاصل هذه المجموعات الثلاث (تجمع على حسب قواعد الأصول) أن الأصل يوم وليلة، وطبق شروط السفر قديماً كان اليوم (بياض اليوم).
3ـ نوع الوسائل النقلية
من الجائز الظن أنّه لا يوجد فرق بين وسائل السفر، ولكنْ على أساس الروايات فإن هذا غير صحيح، بل كان الملاك أكثر الوسائل شيوعاً قديماً وهو قافلة الإبل. وهذا ما نستفيده من خلال مجموعة النقاط القادمة.
أـ في الفقرتين الأولى والرابعة من الحديث 1 و9 ذكرت الكلمات: القوافل، الأثقال، الجمال، والمكاري.
ب ـ في الفقرة الرابعة من الحديث 1 تم توضيح أن مقدار سير الحيوان مختلف من واحد لآخر. مثلاً: سير البقر أربعة فراسخ، سير الفرس عشرون فرسخاً، وقافلة الجمال ثمانية فراسخ في اليوم. والملاك هو فقط قافلة الجمال؛ لأنه «هو الغالب على المسير».
ج ـ في الحديث 2 قال الإمام الصادق×: ليس التقصير من أجل بغل سريع أو حيوان سريع السير، بل ملاك السير قافلة الجمال.
دـ في الحديث 10 يقول ابن الحجّاج للإمام الصادق×: الإنسان يسير في يوم خمسة عشر فرسخاً، وفي اليوم الآخر أربعة فراسخ، وفي يوم آخر خمسة فراسخ، فيقول الإمام×: إنه ليس إلى ذلك ينظر، انظر إلى مسير القوافل بين مكة والمدينة.
كما جاء في الفقرة الأولى من الحديث 1: «للعامة»، يعني سير جميع الناس. وقد كان مسير جميع الناس قديماً بواسطة الجمال، وفي بعض الأحيان بصورة انفرادية، بالبغل، أو الفرس، أو يسير على الأقدام.
نقطة مهمة
في الملاك الزماني السفر بوسيلة النقل المستعملة والمتعارف عليها لدى الناس أجمع (المسير بقافلة الجمال قديماً؛ وفي زماننا الحاضر تستخدم الحافلة في السفر)، والناس الذين يسافرون بوسائل خاصة (بواسطة الفرس قديماً، وفي زماننا الحاضر بالسيارة الخاصة أو الطائرة) يجب أن يتَّبعوا المقدار الزماني بحسب تلك الوسائل.
4ـ مقدار المسير الزماني في عصرنا الحاضر
كانت جميع أسفارهم قديماً تنجز في النهار؛ لأنّ نفس وسيلة النقل (الإبل) كانت تحتاج للراحة. وبالإضافة إلى هذا لم تكن الطرق في ذلك الوقت آمنة. ومن هنا فقد تم توضيح الملاك في الروايات على أنه «يوم»، و«بياض اليوم»، المرتبط بذلك التاريخ القديم. فما هو مقدار هذا الملاك في عصرنا الحاضر؟
وفي هذه الأيام تعتبر الحافلة الوسيلة العمومية الرائجة أكثر من غيرها في السفر، ومن أجل «عامة الناس»، ويتناوب على قيادتها سائقين أو ثلاثة، وتسير بطريقة مستمرة طيلة 24 ساعة، ومتوسط سرعتها 73 كيلومتراً في الساعة([56]). إذاً في وقتنا الحاضر متوسط السير في أربع وعشرين ساعة 1750 كيلومتراً، الذي هو حاصل ضرب 73 في 24 ساعة.
مثال المسافات الطويلة ووقت سير الحافلات
ومن أجل توضيح النتيجة تمّ سؤال سائقي الحافلات عن مقدار المسافة ومدة السفر خلال أربعة عشر شهراً، فتمّ الحصول على النتائج التالية:
متوسط السرعة في الأربعة عشر شهراً بما يعادل 72, 82 كيلومتراً، التي بالإمكان جعلها 73 كيلومتراً دائرياً. إذاً مقدار السفر الشرعي في عصرنا نحن في «أربع وعشرون ساعة» (ليس يوماً) هو 1750 كيلومتراً، وليس ثمانية فراسخ، أو 44 كيلومتراً. و1750 كيلومتراً يساوي أربعين مرّة ضعف 44 كيلومتراً تقريباً.
ملاحظة
طبق التوضيحات المذكورة إذا كانت وسيلة التنقل تختلف في مدينة أو بلد عن أخرى، أو هناك مَنْ يسافر بوسيلة غير وسيلة التنقل المتعارف عليها في ذلك البلد، يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار المسافة التي يقطعها المسافرون بوسيلة التنقل العامة.
نتيجة عملية
كانت مسيرة السفر حسب البعد المكاني في الماضي ثمانية فراسخ؛ وذلك لضرورتها في ذلك الوقت، والتي نصفها في الذهاب (أربع فراسخ = 22 كيلومتراً). إذاً مجموع الذهاب والإياب في الماضي ثمانية فراسخ أو 44 كيلومتراً، أما اليوم فإن مجموع الذهاب والإياب 1750 كيلومتراً، ويصبح مسير الذهاب فقط 875 كيلومتراً.
إن عدم المساواة بين المقياسين للسفر الشرعي: البعد الزماني؛ والبعد المكاني، في زماننا قطعيٌّ، وفيه اختلاف كبير. فعلى أساس أيّ منطق يتساوي 1750 كيلومتراً مع 44 كيلومتراً. فلا محالة يجب أن يكون أحدهما أصلاً، ودائماً يجب أن يكون هكذا، والآخر فرعٌ ومؤقَّت، ويكون مناسباً للشروط التي عليها الطرق ووسائل النقل. وقد رأينا في الروايات أن البعد الزماني (يوم) هو الأصل، والبعد المكاني هو مصداقه الملموس، والذي كان في الماضي ـ بواسطة قافلة الإبل ـ عبارة عن ثمانية فراسخ شرعية، أو 44 كيلومتراً تقريباً، وفي زماننا الحاضر ـ بواسطة الحافلة ـ هو عبارة 1750 كيلومتراً. وفي النتيجة الملاك الأصلي للسفر الشرعي هو مسير أربع وعشرين ساعة بوسائل النقل الرائجة لعموم الناس. وقد كان مصداقها في الماضي أربعاً وعشرين ساعة (ضياء النهار)، أما بلحاظ المسافة فهو ما يعادل ثمانية فراسخ، أو 44 كيلومتراً تقريباً، وفي زماننا الحاضر أربعاً وعشرين ساعة، بما يعادل 1750 كيلومتراً.
إلقاء نظرة على كلمات الفقهاء
1ـ قال الشيخ الصدوق في «المقنعة»: «والحدّ الذي يجب فيه التقصير مسيرة بريدين ذاهباً وجائياً، وهو مسيرة يوم»([57]).
2ـ قال المحقق الحلّي في «المعتبر: الشروط (في صلاة المسافر) خمسة: الأول: المسافة، وهي أربعة وعشرون ميلاً، مسيرة يوم تام، وهو مذهب علمائنا أجمع… لنا: إن مسيرة يوم يسمّى سفراً، فيثبت معه القصر([58]). أما أن مسير اليوم سفر فلقوله×: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسير يوم إلاّ مع ذي محرم »([59])، ولأنّ القصر لو لم يثبت مسير يوم لما ثبت مع ما زاد؛ لأن مشقته تزول براحة الليل.
وقال أيضاً: «المسألة: الفرسخ ثلاثة أميال اتفاقاً. لنا: إنا بيَّنّا أن المسافة تعتبر بمسير اليوم، وللإبل بالسير العام، وذلك يشهد لما قلناه»([60]).
وقال أيضاً: اعتبار المسافة، وهي مسير يوم، بريدان، أربعة وعشرون ميلاً… ولو كانت المسافة أربعة فراسخ، وأراد العود ليومه، فقد كمل مسير يوم، ووجب التقصير([61]).
3ـ قال العلامة الحلي في «تذكرة الفقهاء»: إنما يجب التقصير في ثمانية فراسخ… ولا خلاف عندنا في وجوب التقصير في الثمانية؛ لأن سماعة سأله عن المسافر في كم يقصر الصلاة؟ فقال: في مسيرة يوم، وذلك بريدان، وهما ثمانية فراسخ..؛ لأنه حينئذ قد شغل يومه بالسفر، فحصلت المشقة المبيحة للقصر، وكذا غيرها من الروايات([62]).
وقد بيَّن العلامة في «تذكرة الفقهاء»([63]) المطالب نفسها في صفحة 467 في كتاب المعتبر([64]). وكذلك جاء في «نهاية الأحكام»: والمسافة شرط في القصر، فلا يجوز في قليل السفر إجماعاً([65])؛ لقوله×: «يا أهل مكة، لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان»([66])، وقال الصادق×: «القصر في الصلاة بريد في بريد، أربعة وعشرون ميلاً»([67])؛ ولأن سبب الرخصة المشقة، ولا مشقة مع القلة… وسئل الصادق× عن القصر؟ قال: في بياض يوم، أو بريدين([68]).
و قد ذكر المحقِّق هذا المطلب في «منتهى المطلب»([69]).
4ـ قال الشهيد الأول في «البيان»: (الشرط) الثاني (في السفر) كون المقصود مسافة، وهي مسيرة يوم، بريدان، كلُّ بريد أربعة فراسخ، كل فرسخ ثلاثة أميال… ([70]).
و يقول في «ذكرى الشيعة»: يقدر المسافة بثمانية فراسخ، أو مسيرة يوم…. وأخبار شتى يتضمن أن أهل مكة يقصرون في سفرهم إلى عرفات، وفي بعضها: ويلهم، وويحهم، وأيُّ سفر أشدّ منه؟! لا يتمّ. وإسناد هذه الأخبار كلها معتبرة. فجمع الشيخان بينهما بالتخيير. قال الفاضل: في بعض هذه الأخبار تصريح يحتِّم القصر، كخبر معاوية بن عمار الصحيح، عن الصادق، الذي فيه: ويلهم، إلى آخره…. ولو لم يتيقَّن ذلك فإنّ مسير يوم كافٍ في الأرض المعتدلة([71]).
وجاء في «الدروس»: ويكفي مسير يوم مع الشك في النهار والسير المعتدلين، ولو لم يتّفق وشك فلا قصر، ولو تعارضت البينتان قصَّر([72]).
5ـ ذكر المحقِّق الكركي في «الرسائل» أنه يكفي مع الشك مسير يوم في النهار والسير المعتدلين([73]).
6ـ يقول أحمد بن فهد الحلي في «المهذَّب البارع»: «أقول: لا قصر في ما دون المسافة. ويُعلم بتقديرين: أـ بالزمان، فيكفي مسير يوم للقفول والحمول سيراً معتدلاً في النهار المعتدل؛ لأنه لو لم يجب في مسيرة يوم لم يجب في مسيرة سنة؛ لزوال المشقة براحة الليل؛ ولصحيحة أبي بصير، قال:…([74])؛ ب ـ بالتقدير، وهو ثمانية فراسخ([75]).
7ـ قال الشهيد الثاني في «روضة الجنان»: إنما يجب التقصير بستة شروط: (الأول): السفر إلى المسافة، وهي ثمانية فراسخ… وقد ورد تقدير المسافة بثمانية فراسخ معلَّلاً في خبر الفضل بن شاذان… وقد علم من ذلك أن المسافة مسير يوم بسير الأثقال. ولما كان ذلك يختلف باختلاف الأرض والأزمنة والسير حُمل على الوسط في الثلاثة، فيعتبر من (في) الحيوان مسير الإبل؛ لأنها الغالب في القوافل([76]).
وجاء في «الروضة البهية»: ويجمعها مسير يوم معتدل الوقت والمكان والسير لأثقال الإبل([77]).
8ـ قال السيد محمد العاملي في «مدارك الأحكام»: أما الشروط فستة: الأول: اعتبار المسافة، وهي مسيرة يوم، بريدان… أجمع العلماء كافّة على أن المسافة شرط في القصر، وإنما اختلفوا في تقديرها؛ فذهب علماؤنا أجمع إلى أن القصر إنما يجب في مسيرة يوم تامّ، بريدين، أربعة وعشرين ميلاً. وقد حكى ذلك جماعة منهم المصنِّف في «المعتبر»، وتدل عليه روايات كثيرة… ([78]).
واستدل عليه في «المعتبر»([79]) بأن المسافة تعتبر بمسير اليوم، وهو مناسب لذلك…. وينبغي التنبيه لأمور: الأول: تُعلم المسافة بأمرين: الاعتبار بالأذرع؛ ومسير اليوم…. واعتبر المصنِّف في «المعتبر»، والعلامة في جملة من كتبه (المنتهى والتذكرة)، مسير الإبل السير العام. وهو جيِّد؛ لأن ذلك هو الغالب، فيحمل عليه الإطلاق؛ ولقول الصادق× في حسنة الكاهلي، و…. واعتبر الشهيدان اعتدال الوقت والمكان والسير([80]). وهو جيّد بالنسبة إلى الوقت والسير، أما المكان فيحتمل قويّاً عدم اعتبار ذلك فيه؛ لإطلاق النص، وإن اختلفت كمية المسافة في السهولة والحزونة.
الثاني: لا ريب في الاكتفاء بالسير عن التقدير. ولو اعتبرت المسافة بهما، واختلفا، فالأظهر الاكتفاء في لزوم القصر ببلوغ المسافة بأحدهما. واحتمل جدِّي في بعض كتبه تقديم السير؛ لأنه أضبط؛ ولأن الأصل الذي اعتمد عليه المصنِّف في تقدير الميل ـ وهو مناسبته لمسير اليوم ـ يرجع إليه([81]). وربما لاح من كلام الشهيد في «الذكرى» تقديم التقدير([82]). ولعله لأنه تحقيق، والآخر تقريب.
أما أن القصر في السفر عزيمة إذا كان مسيرة يوم، أو ثمانية فراسخ، فهو إجماعيٌّ منصوصٌ في عدّة روايات .
9ـ بيَّن المحقق السبزواري في «ذخيرة المعاد»([83]) كلام مدارك الأحكام نفسه.
10ـ قال المحقِّق البحراني في «الحدائق الناضرة»: اعتبار المسافة والكلام هنا يقع في مقامين: الأول: أجمع العلماء من الخاصّة والعامّة على أن المسافة شرط في التقصير، وإنما الخلاف في قدرها؛ فذهب علماؤنا أجمع إلى أن القصر إنما يجب في مسيرة يوم تامّ، بريدين، ثمانية فراسخ…؛ وثانيها: المستفاد من الأخبار المتقدِّمة أن المسافة تعلم بأمرين: أحدهما: مسير يوم؛ وثانيهما: الأذرع. ما قدمنا الإشارة إليه من دلالة جملة من تلك الأخبار على أن مسافة الثمانية وبياض يوم… وهذه الأخبار كلُّها كما ترى صريحة في أنّ أقلّ مسافة التقصير ثمانية فراسخ، وهو بياض يوم([84]).
النتيجة ومجموع كلمات الفقهاء
من كلمات الفقهاء يتّضح أنهم:
1ـ يرون أن مسافة ثمانية فراسخ تعادل مسير يوم واحد كامل.
وقد كان هذان الملاكان قديماً يبيِّنان واقعية واحدة، وهي: ثمانية فراسخ تعادل يوم سفر واحد، ولكن المسافة التي تقطع في هذا الزمن في يوم واحد تعادل أربعين مرّة ضعف ثمانية فراسخ تقريباً.
فإذا لم يكن للثمانية فراسخ أيُّ ارتباط مع الزمان فلماذا تعتبر ثمانية فراسخ يوماً واحداً في كلام المعصومين والفقهاء، حتى أنهم بيَّنوا ذلك مجمعين عليه؟
2ـ يعتبر المطلب المذكور مورد إجماع فقهاء الإمامية، ومطابقاً لكثير من الروايات.
3ـ قد ذكروا للمطلب الأول عدة أدلة عقلية ونقلية، وهي:
الأول: «قيل: يجب القصر بمسير يوم واحد، وبه يثبت القصر». إذاً ففي السفر الذي لا يستغرق يوماً واحداً لا يثبت القصر. وفي السفر القصير لا تقصر الصلاة. وهذه الفتوى إجماعية.
وقد اعتمد المحقِّق في «المعتبر» على رواية رسول الله‘.
وعليه ففي يومنا هذا حيث إن السفر ثمانية فراسخ لا يستغرق يوماً واحداً، بل يستغرق نصف ساعة فقط، فلا يجب أن تقصر الصلاة.
الثاني: الأدلة النقلية، وهي خمسة روايات أخرى. وقد استند المحقِّق في «المعتبر» على رواية واحدة، والعلامة في «نهاية الأحكام» على رواية أخرى، وأفتيا على ذلك؛ حيث إن هذين الحديثين أخذا من أهل السنة. وقد أفتى العلامة في «التذكرة» برواية سماعة (الحديثين 5 و6)، وفي «نهاية الأحكام» بحديث آخر (الحديث 8).
الأدلة العقلية
الأول: إذا كانت الصلاة في مسير يوم واحد لا تقصر فإنها سوف لن تكون كذلك في أكثر منه.
وهذا التوضيح مستند إلى الفقرة الثانية من الحديث 1. وهناك سبب آخر في هذا الأمر تمَّ بيانه بهذه الصورة: «المشقة وتعب السفر تذهب عند الراحة في المساء».
الثاني: السفر يوماً واحداً يجلب التعب، ويوجب قصر الصلاة، وهذه المشقة والتعب تزول براحة الليل.
الثالث: لا توجد مشقة في السفر القصير، ولا تقصر الصلاة.
الرابع: يُعرف مقدار المسافة على أساس المسير في يوم واحد، وبواسطة قافلة الإبل المستخدمة لدى عامة الناس. وبعبارة أخرى: كانت الثمانية فراسخ منوطة بيوم واحد في طريق السفر. والحال أن هذه الشروط قد انتفت حالياً، وأصبح قطع ثمانية فراسخ يتمّ في نصف ساعة من السفر في الحافلة، إذاً لم يَعُدْ للثمانية فراسخ أية قيمة، ولم يعُدْ قطعها يوجب قصر الصلاة.
الخامس: هناك أسلوبان لمعرفة المسافة: القياس بالذراع؛ ومسيرة يوم. وعندما يختلف الأسلوبان هناك حالات مختلفة من التوضيح يتم ذكرها. فهل بالإمكان القول: إن الأصل ثمانية فراسخ، وليس لليوم أي تناسب وارتباط بالمسافة؟
السادس: بيَّن صاحب الحدائق الناضرة في تقريب الاستدلال دليلاً واضحاً من أجل وجوب القصر مع وجود المشقة، وإتمام الصلاة مع عدم وجودها.
السابع: في المقدار الزماني يكون الملاك في ثلاث أمور: أ ـ مسير يوم واحد معتدل؛ ب ـ قافلة الإبل؛ ج ـ السرعة المتعارف عليها.
الثامن: إنّ ملاك وسيلة النقل قافلة الإبل؛ لأنها الوسيلة الرائجة لعموم الناس.
التاسع: إذا كانت حركة وسيلة النقل مختلفة؛ بحسب المنطقة، والزمان، والسرعة، فإنه يؤخذ بعين الاعتبار المتوسط في كلٍّ من العوامل الثلاث.
العاشر: مع الشك في أننا وصلنا إلى حدّ القصر أم لا فسوف يكون الملاك مسير يوم معتدل، مع الحركة المتعارف عليها.
لماذا ذكر هؤلاء الفقهاء مسيرة يوم على أنها ثمانية فراسخ؟ وهل أن هذين الملاكين مرتبطان ببعضهما؟ ولماذا عرّفوا المسافة بيوم واحد؟ ولماذا قالوا: ثمانية فراسخ هي نفسها بياض يوم؟ فإذا أخذنا المسافة المكانية على أنها هي الأصل تكون في الماضي ثمانية فراسخ عن يوم واحد، أما اليوم فيختلف الأمر. وفي هذه الحالة ماذا نفعل؟
عندما لم يكن هناك اختلاف بين الثمانية فراسخ واليوم الواحد بيَّن صاحب مدارك الأحكام احتمالات مختلفة، ووجَّه مورد قبولها. بينما هناك ـ في هذا الزمن ـ اختلاف فاحش وقطعي بين ثمانية فراسخ ويوم واحد، ومع وجود كل هذه الأدلة المختلفة المتعلِّقة بمسير يوم واحد كيف يمكن الإصرار على كون المسافة الشرعية ثمانية فراسخ فقط، دون أيّ تقبل لملاك يوم واحد؟
الهوامش
(*) باحث وأستاذ في الحوزة والجامعة.
([1]) حتى أوائل القرن الماضي كانت الحيوانات، مثل: الجمل وشبهه، تستخدم في السفر في إيران، ثم بعد ذلك حلَّت محلّها الحافلات.
([3]) وقد طرحت روايات أخرى الملاكين الزماني والمكاني. وعلى هذا الأساس يمكن تقسيم روايات هذا البحث، والتي هي 58، إلى مجموعتين: 33 حديثاً فقط على القسم المكاني؛ و15حديثاً فقط على القسم الزماني؛ و10 أحاديث تقسَّم على القسمين. ومن هنا نقوم ببحث المجموعتين الأخيرتين المتعلِّقتين بالقسم الزماني.
([4]) طرحت بعض الروايات البعدين التي تبين أنّ أصلها البعد الزماني.
([5]) كما قد بين في ذيل الصفحة السابقة أن جميع الروايات جاءت في وسائل الشيعة (الأبواب 1 و2 و9 و10 من أحكام صلاة المسافر)، وهناك ثلاث روايات من (3 و21 و22) ليست في وسائل الشيعة، وسوف نذكر مكانها لاحقاً.
([6]) وسائل الشيعة، الباب الأول من أبواب صلاة المسافر، ح1، نقل عن علل الشرائع 1: 318. في آخر الحديث ـ في علل الشرائع: 318، جاء ما يلي: حدثنا عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري العطار، قال: حدثنا علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري، قال: قلتُ للفضل بن شاذان: هذا الحديث سمعته من المعصوم؟ فقال الفضل: لا أعلِّل ذلك من ذات نفسي، بل من مولاي أبي الحسن علي بن موسى الرضا×، المرة بعد المرة، والشيء بعد الشيء، فجمعتها، فقلت للفضل: وتنقل هذا الحديث عن الإمام الرضا×؟ قال: نعم.
([7]) «مسيرة» مصدر بمعنى السير والحركة. مسيرة يوم يعني السير بمقدار يوم.
([8]) من لا يحضره الفقيه: 113، ترجمة: صدر بلاغي ومحمد جواد غفاري، طهران، نشر صدوق، ط1.
([9]) وسائل الشيعة، الباب الأول من أبواب صلاة المسافر، ح 3. عبد الله بن يحيى الكاهلي، وهو الناقل الأصلي، كان من الوجوه المعروفة لدى الإمام الكاظم أبي الحسن× (رجال النجاشي: 221؛ بهجة المآل 5: 299؛ وقد حكم العلامة بتوثيقه، كما في بهجة المآل 5: 301). بالإضافة إلى أنه من رجال البزنطي وصفوان وابن أبي عمير (معجم الثقات: 180). ويرى المقدس الأردبيلي أنّ هذا الحديث صحيح (مجمع الفوائد 3: 358).
([10]) إذا كانت وسيلة النقل تسير بسرعة فإنها تقطع مسافة أكثر من يوم.
([11]) وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر، ح4.
([13]) في إدامة البحث سوف يكون البحث على يوم وليلة وأمثالها.
([14]) وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر، ح7.
([15]) الحديثان متشابهان، وبعض الرواة فقط بسندين مختلفين. زرعة وسماعة واقفيان (رجال الطوسي ورجال الكشي). إذاً الحديث موثَّق.
([16]) وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر، ح 8 و13.
([17]) أبو جميلة هو المفضَّل بن صالح (رجال الكشي: 288، تحقيق: حسن مصطفوي؛ معجم الثقات: 203). كان في توثيقه أحاديث، وكلامه مقبول في هذا المجال (تهذيب المقال 5: 88 ـ 89). وعلى هذا الأساس فإن أبو جميلة موثَّق، وحديثه الذي نبحث فيه صحيح.
([18]) جملة «لا بأس» مثل «لا جناح»، و«ليس عليه جناح»، التي هي بالإضافة إلى معنى «لا يوجد» في بعض المواضع، تأتي بمعنى الوجوب، مثل: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ} (النساء: 100)، أي من الواجب عليكم عند سفركم أن تقصروا الصلاة الرباعية إلى صلاة ثنائية.
([19]) وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر، ح9.
([20]) وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب صلاة المسافر، ح11.
([23]) هذه الرواية تبحث من ناحية تكرار السفر. والجمع بين هذه الرواية والأحاديث الأخرى التي تبين أن تكرار السفر يوجب عدم التقصير سوف يُتطرَّق إليه في محلِّها.
([24]) في سند الحديث علي بن الحسن بن فضّال. ومن الثابت أنه فطحي (فهرست الطوسي: 92). وبناء على هذا فالحديث موثَّق.
([25]) وسائل الشيعة، الباب 2 من أبواب صلاة المسافر، ح9.
([26]) نفس المصدر، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، ح1.
([27]) مجمع الفائدة والبرهان 3: 363.
([28]) الحدائق الناضرة 11: 323.
([29]) تم اقتباس كلام المحقق البحراني ليكون أصدق في النقل (المترجم).
([30]) وسائل الشيعة، الباب 3 من أبواب صلاة المسافر، ح2.
([32]) نفس المصدر، الباب 9 من أبواب صلاة المسافر، ح5.
([33]) الشيخ الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه 1: 452، ح1310؛ الحلّي، نهاية الأحكام 2: 182، قالا: «وجب القصر في الصلاة والصوم إجماعاً لقول الصادق×: إن خرج لقوته وقوت عياله فليفطر وليقصر» (مجمع الفائدة والبرهان 3: 382).
([34]) وسائل الشيعة، الباب 10 من أبواب صلاة المسافر، ح3؛ من لا يحضره الفقيه 2: 140. رواة الحديث في الفقيه غير معروفين، ومع ذلك فهو حديث صحيح، والشيخ الصدوق قد أفتى على ضوئه. ونفس هذا الحديث نقل في الكافي، للكليني، ورواته معروفون وثقات. إذاً السند صحيح.
([35]) «وكذلك نقلوا أصحاب الإجماع على تصحيح ما يصح من أبان بن عثمان مع كونه فطحياً» (بهجة الآمال 1: 440).
([36]) وسائل الشيعة، الباب 10 من أبواب صلاة المسافر، ح4.
([37]) في سند الحديث عمر بن حفص، الذي لم يوثَّق (معجم رجال الحديث 13: 26). بالإضافة إلى أنه مشترك بين أربعة أشخاص (راجع: نفس المصدر: 30).
([38]) وسائل الشيعة، الباب 10 من أبواب صلاة المسافر، ح7.
([39]) حميد بن زياد ثقة، مع أنه واقفي (رجال النجاشي: 339). إذاً الحديث موثَّق. «عدة من أصحابنا» في إسناد الكليني معتبر أيضاً.
([40]) وسائل الشيعة، الباب 10 من أبواب صلاة المسافر، ح8.
([41]) الحلي، تذكرة الفقهاء 1: 188، الطبعة القديمة، و4: 368 ـ 369، الطبعة الجديدة. وقد أفتى العلامة على ضوء إسناد هذا الحديث، وبناءً على هذا فالحديث يعدّ معتبراً.
([42]) المعتبر في شرح المختصر 2: 465، منقول عن سنن البيهقي 3: 139.
([43]) مستند العروة الوثقى، كتاب الصلاة، 8: 19: «فليس مسيرة اليوم أو بياض النهار أو شغل اليوم بعناوينها موضوعاً للحكم، حتى يطبِّقه الإمام× على المسافة التلفيقية، ولو بنحو الحكومة، بل المراد السفر الذي يكون شاغلاً لليوم، ولو شأناً، المنطبق على ثمانية فراسخ…».
([44]) ويوجد هناك موارد استثناء، مثل: السفر بعد الظهر، حيث إن الصلاة في هذه الحالة تقصر، ولكن الصيام يجب أن يتم.
([45]) تذكرة الفقهاء 4: 370 الطبعة الجديدة.
([47]) عماد زاده، التاريخ الجغرافي لمكة المعظمة: 339.
([49]) محمد هادي اليوسفي، موسوعة التاريخ الإسلامي 2: 116، بحيث إن المطالب العلمية نفسها في الحديث 4 الباب 1: «وهو مسيرة يوم من المدينة يكون إليها بريدان».
([50]) جواهر الكلام 18: 8: كون المراد بالمرحلة مسيرة يوم.
([51]) معجم البلدان 5: 87 ـ 88.
([53]) تاريخ مكة المعظمة الجغرافي: 339.
([56]) الحد الأكثر للسرعة المسموح بها للحافلة هي مائة كيلومتر في الساعة، مأخوذاً بعين الاعتبار التوقُّف وغيره من المسائل، والمتعارف أنها تسير بصورة متوسط 73 كيلومتراً في الساعة. أما الحد الأكثر للسرعة المسموح بها في الطرق السريعة فليس لها تأثير في تلك الحسابات. ولذلك فإن جميع الطرق عادية وغير سريعة. وكذلك فإن السرعة في الليل على الطرق العادية تقل عشرين كيلومتراً عن السرعة المأخوذة في مقدار المتوسط.
([57]) المقنعة: 125؛ الينابيع الفقهية 3: 62.
([59]) سنن البيهقي 3: 139. جاء في المصدر: «مسيرة يوم وليلة».
([61]) شرائع الإسلام 1: 101؛ الينابيع الفقهية 4: 825 ـ 826.
([62]) تذكرة الفقهاء 4: 369 ـ 370.
([65]) نهاية الأحكام 2: 168 ـ 169.
([66]) نفس المصدر 3: 137، الحديث عن النبي. جاء في المصدر: «لا تقصروا الصلاة». وعسفان بين مكة والمدينة، والمسافة بينها إلى مكة ثلاث مراحل (يوم)؛ الجامع للشرائع: 171.
([67]) وسائل الشيعة 5: 491، ح3.
([69]) منتهى المطلب (الطبعة القديمة) 1: 389 ـ 390.
([70]) البيان (الطبعة القديمة): 154.
([71]) ذكرى الشيعة: 257 ـ 259.
([73]) الرسائل 1: 122 و3: 249.
([75]) المهذَّب البارع 1: 480.
([76]) روضة الجنان (الطبعة القديمة): 383.
([78]) مدارك الأحكام 4: 428 و466.
([80]) الشهيد الأول، الذكرى: 257، والدروس: 50، كما نقل في حاشية المدارك، ولكن لم أجدها؛ الشهيد الثاني، الروضة البهية 1: 369؛ روضة الجنان: 373.
([82]) ذكرى الشيعة: 257، كما نقل في حاشية المدارك، ولكن لم أجده.